د. أحمد الحطاب - النجاحُ في الانتخابات، استثمارٌ وتجارة مُربِحان

مما لا شك فيه أن النجاحَ في الانتخابات لم يعد ذلك العمل الذي يفتخر به المناضلون السياسيون ويعتبرونه تتويجاً لكفاح ينطلق من مبادئ وقيم كانت تتميَّز بها الأحزابُ السياسيةُ.

النجاح في الانتخابات أصبح اليوم تتويجاً لشعارات منفوخٌ فيها ولم يتم تجسيدُها على أرض الواقع. بل قد يكون النجاحُ في الانتخابات حليفاً لمَن له القدرة على الشَّتم والقذف وتلفيق التُّهَم الواهية.

في الماضي، كان النجاحُ في الانتخابات نتبجةً لصراعٍ ومواجهةٍ بين الأفكار والأطروحات والإديولوجيات والتيارات الفكرية. أما اليوم، فكل هذه المزايا أصبحت، عند غالبية السياسيين، مُختزلةً في أمر (شعار) واحد ألا وهو : "النجاحُ في الانتخابات، استثمارٌ وتجارة مُربحان". لماذا؟

لأنه من النادر اليوم أن ينخرطَ شخصٌ ما في عالم السياسة من أجل سواد عيون المواطنين، أي من أجل خدمة مصالحهم ومصالح البلاد. جل السياسيين، إلا مَن رحم ربي، يعتبرون النجاحَ في الانتخابات إما استثماراً وإما تجارةً مربحين.

وهذا يعني أن هؤلاء السياسيين لهم نوايا سيئة مسبقة يريدون تطبيقَها على أرض الواقع بعد نجاحهم في الانتخابات.

فإذا اعتبروا النجاح في الانتخابات استثماراً مربِحا، فإنه استثمارٌ مثل ذلك الذي يقوم به أربابُ الأعمال أو أصحابُ الرساميل، أي استثمار مربح أو يُدرُّ على مَن يستثمر ارباحا مالية هامة. غير أن هناك فرقا كبيرا بين الاستثمار في المشاريع والاستثمار الذي يكون وراءه الناجِحُ في الانتخابات. الأول له قوانين تنظِّمه وتُؤطِّره بينما الثاني هو ناتج عن نوايا سيئة مسبقة تتمثل في استغلال النفوذ وخرق القانون والتلاعب بمقتضياتِه. وحتى إن لم يصرف الناجِح في الانتخابات ولو درهماً واحدا لشراء الأصوات، فإنه، بحكم نواياه السيئة المسبقة، يكون قد فكَّر في كيفية استغلال النفوذ والتلاعب بالقانون والمال العام.

وإذا اعتبروا النجاحَ في الانتخابات تجارةً مُربِحةً، فإن الناجحَ في الانتخابات يصبح وجودُه في موقع القرار مبنيا على شعار واحدٍ و وحيد يقالُ له بالدارجة "هاكْ وأرَا". بمعنى أن الناجحَ في الانتخابات لا يرخِّص لأي شيء ولا يصدر عنه قرار ولا يتَّخذ إجراءً… إلا بالمقابل. وهذا يعني أن الناجِحَ في الانتخابات يصبح متاجِرا في الحقوق التي لا تُمنَح لأصحابها إلا بالمقابل. وما أكثرَ الحقوق التي يمكن أن يبيعَها للمواطنين!

وهذا النوعُ من السياسيين موجودٌ بكثرة في الجماعات التُّرابية وخصوصا منها الجماعات المحلية ذات الحجم المتوسِّط والصغير.

فلا غرابةَ أن يعُمَّ الغشُّ والفساد في مثل هذه الجماعات. ولا غرابةَ أن يصبح، بين عشية وضحاها، رؤساء هذه الجماعات من كبار الأغنياء. ولا غرابةَ أن يصبحَ المقرَّبون من هؤلاء الرؤساء من أصحاب المقاولات. ولا غرابة أن يصبحَ "مَّالين اشكارة" أسياداً. ولا غرابة أن يصبحَ الأميون أعيانا. ولا غرابةَ أن يصبحَ الفاسدُ مصلحاً والمُصلحُ أحمقَ… ولاعرابةَ أن تنقلِبَ الموازين!

أنا متيقِّن أنه لو خضعت مثل هذه الجماعات لفحوصات دقيقة ومدقَّقة، سيُدان رؤساءها، وربما بعضُ مستشارِيها، بتُهمٍ عديدة مثل الفساد والتزوير والتَّواطؤ والمحسوبية والزبونية وهدر وتبدير المال العام وخرق القانون…

هذا هو حال مشهدنا السياسي الذي حوَّل فيه السياسيون الفاسدون والمفسدون السياسةَ من فكر وعمل تسمو فيهما المبادئ والقِيمُ إلى صراعٍ بين الأحزاب السياسية أساسّه "التْبْزْنيس" الذي لا يعترف إلا بلغة الربح المادي والمعنوي.

وعلى ذكرِ الربح المعنوي، فإن السياسيَ الفاسدَ يصبح، عند شريحة عريضة من المجتمع، شخصا يحظى بالاحترام والتَّقدير. بل ويُفرَش له البساطُ الأحمرّ في المناسبات وكلمتُه هي العليا ويسعى الناسُ للتَّقرُّب منه. هذا إن لم يصبح موضعَ تقديس عند عَبَدَةِ الريع والجشع.

ما أخشاه، أنا شخصيا، هو أن تندثِرَ المبادئ والقيم والأخلاق من مجال السياسة ويصبح محرِّكُ هذه السياسة هو الفساد. والدليل على ذلك، أن نسبةً لا يُستهان بها من المواطنين، طبَّعوا، طوعا أو كُرها، مع هذا الفساد. طبَّعوا طوعاً لأنهم وجدوا في هذا الأخير ضالَّتَهم. وطبَّعوا كُرهاً لأنهم لم يستطيعوا نيلَ حقوقهم باتِّباع الطُّرق المشروعة. وقد لا أبالغ إذا قلتُ إن بوادرَ اندثار المبادئ والقيم والأخلاق من مجال السياسة بدأت تُطلُّ علينا في حياتِنا اليومية.
ولا داعيَ للقول أن أهمُّ هذه البوادر تتمثَّل في وصول السياسيين الفاسدين والمُفسدين إلى مراكز القرار في مؤسسات البلاد. إنهم كانوا موجودين ولا يزالوا موجودين في هذه المؤسسات يصولون ويجولون بلا حسيب ولا رقيب. بل إنهم لا يعيرون أيَّ اهتمام وأهمِّية لمختلف خُطَب صاحب الجلالة محمد السادس الموجَّهة للشعب المغربي والتي ألحَّ فيها على محاربة الفساد وعلى إعطاء الأهمِّية الكافية لمبدأ "ربط المسئولية بالمحاسبة".

بل إن ملكَ البلاد وضع المسئولين الذين لا يقدِّرون مسئوليتَهم في حالة إحراجٍ حين قال، في خطاب العرش لسنة 2017 :

"أنا لا أفهم كيف يستطيع أي مسؤول، لا يقوم بواجبه، أن يخرجَ من بيتِه، ويستقلَّ سيارتَه، ويقف في الضوء الأحمر، وينظر إلى الناس، دون خجل ولا حياء، وهو يعلم بأنهم يعرفون بانه ليس له ضمير. ألا يخجل هؤلاء من أنفسِهم، رغم أنهم يؤدون القسمَ أمام الله، والوطن، والملك، ولا يقومون بواجبهم؟ ألا يجدرُ أن تتم محاسبة أو إقالة أي مسؤول، إذا ثبت في حقه تقصيرٌ أو إخلالٌ في النهوض بمهامه؟ وهنا أشدِّد على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية، من الفصل الأول من الدستور التي تنصُّ على ربط المسؤولية بالمحاسبة. لقد حان الوقت للتَّفعيل الكامل لهذا المبدأ. فكما يُطَّبق القانون على جميع المغاربة، يجب ان يُطبَّقَ أولا على كل المسؤولين بدون استثناء أو تمييز، وبكافة مناطق المملكة. إننا في مرحلة جديدة لا فرقَ فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق و واجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتَّهرُّب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى