لا أؤمن بالمصادفة.. فمنذ اللحظة الأولى التي وقعت عيناي فيها على عنوان الرواية (عباءة غنيمة) صاحبني فضولٌ غريب لا يعتريني على الدوام، شعرت معه بأنني سأتحد مع هذا العمل بشكلٍ شخصي بعيداً عن رأيي فيه ككاتب، والذي تزامن مع بحثي في بعض المواد الأرشيفية والمقالات المرتبطة بدولة الكويت، حيث ازداد يقيني بأن الأرواح تحلق في سماواتها بشكلٍ لا تدركه الحواس ولا تحيط به النظريات المادية التي تماهى معها الإنسان فأغرقته وغرقت معه..
وتأكد لي أن الكلمات لا تستدر بل تنساب طواعيةً كشلالٍ متدفق بعد أن يمس القلب قبسٌ من نور يحمله على البوح والتجلي بين الأحرف، أعترف أنني لا أعرف من أين سأبدأ بعد أن قرأتها بنهم ولكنني سأحاول.. إذ أن المشكلة في هذا العمل للكاتبة الكويتية عائشة المحمود هي سر تميزه وجماله الذي يحيرني حيث يتداخل الوجع الخاص مع الوجع العام ليصل حد الإشتباك الذي لا ينتهي إلا بالرحيل..
فمنذ التاريخ الأول الذي افتتحت به فصول الرواية أيقنت أنها ستستعرض مراحل مفصلية من التاريخ العربي الحديث، وشعرت أن البحر هو أحد أبطالها الرئيسيين الذين يمتلكون حضوراً مميزاً ورمزيةً هامة جمعت المدن التي احتضنت أحداثها بشكلٍ مباشر أو شرفي بين الكويت وبيروت واللاذقية ويافا، ذلك البحر المرتبط بالشرفات والنوافذ والحداثة والحرية والذي ظل في حالةٍ من المقارنة الدائمة والمواجهة أحياناً (وإن كانت بشكلٍ خفي) مع البيوت الطينية القديمة والعادات والتقاليد والبيئة الأم، تلك المقارنة التي تبرز صراع الأجيال والأفكار والمعتقدات ضمن سردٍ ممتع ومشوق وتصويرٍ مميز لتفاصيل الحياة بتناقضاتها، والتي تخلق بدورها مجموعةً من المشاعر المتضاربة الذي يجسدها بطل الرواية (فيصل) منذ يوم ولادته الذي تزامن مع النكبة الفلسطينية عام ١٩٤٨، والذي جعله حتى في لا وعيه توأماً لهذه القضية وكأنه قدره الذي رسم له قبل أن يولد، فعاش مراحل صراعها بنفسه متلمساً لها في معظم خطواته، بدءاً من أساتذته الفلسطينيين في مدرسته وتماهيه معهم وقدرته على التفريق بين مختلف الثقافات التي تميز كل مدينة في فلسطين، مروراً باختياره لبيروت كمدينةٍ لدراسته الجامعية لقربها الجغرافي منها، والتي عرف فيها خيبته الشخصية مع حبٍ مستحيل يجسد لب الإختلاف الذي لم نستطع أن نتعلم منه حتى اللحظة، وانتهاءاً بتوريث حبه لقضيتها لأخته الصغرى وإصراره على استحضار ذكراها في ذروة الفجيعة بعد غزو الرئيس العراقي السابق صدام حسين للكويت بكل أسف وما حمله هذا الحدث من ألم وتبعات نعيشها في العالم العربي حتى اللحظة..
كما تتسم هذه الرواية الهامة بالجرأة والقدرة على نقد الذات والمجتمع وحثه على إعادة النظر في الأفكار النمطية السائدة وأبرزها عن ما ينبغي أن تكون عليه الأنوثة والذكورة دون أخذ المشاعر ومتغيرات العصر بعين الإعتبار، حيث حكم الخوف بشكلٍ أو بآخر عدداً من الشخصيات الرئيسية في العمل وساهم في طمس سماتها الأساسية وخلق بداخلها شرخاً عميقاً واهتزازاً لم يفلح الزمن في تغييره، ولم يفلح انتقال بطل العمل (فيصل) إلى العديد من المدن وخوضه الكثير من التجارب والإنفتاح على ثقافاتٍ شتى في تبديده، فظل راسخاً في داخله وبات بمثابة صورة أو خيال أو شبح يتبعه أينما ذهب تختصره (غنيمة) بهيئتها المخيفة وعبائتها التي تترائى له بين حينٍ وآخر لتجسد الشيء واللاشيء، تجسد الوهم والقهر والعجز والخوف من الحب والتغيير المرتبط بالمجهول، تجسد التشتت بين الإرتباط بالمكان والجذور وبين الإحساس بالغربة عنه، بين اختياراته الشاعرية ورقته وأمله في وجود فضاءٍ مثالي يحتوي الجميع دون صراعٍ أو تصادم، وبين خيباته المتتالية التي تعدت حياته الخاصة لتصل إلى المبادىء التي اعتنقها وتحدى الكثيرين لأجلها.. وهو الذي كان يواري ضعفه خلف أشخاصٍ أو مبادىء أو أحلام يستمد منها قوته وشجاعته ليثبت أنه له صوتاً لا بد من الإستماع إليه..
.
فنجحت الكاتبة في هذه الرواية في تقديم عمل متكامل بلغة عربية سليمة مطعمة بكلمات عامية تزيد من جمالية الطرح، بعيد عن التطويل أو التكلف أو الإبتذال أو المتاجرة بأي قضية، عمل يدعو إلى التفكير والتأمل والمقارنة من خلال أسلوب يمتاز بالسلاسة، يحترم الإختلاف ويبتعد عن التصادم، استطاع الحديث عن المراحل التي مر بها المجتمع الكويتي واستطاعت كاتبته أن تستحضر بحرفية تفاصيل الحياة البسيطة وتجعل منها صوراً فنية حقيقية تبنى من خلالها الأحداث، ويعيش من خلالها القارىء ذلك التدرج وصولاً إلى الطفرة التي شهدتها الكويت على أكثر من صعيد، كما نجحت الكاتبة في عرض الوجه الحقيقي للكويت ذلك الوجه المنتمي لمحيطه وقضاياه، والذي يبادلهم الحب والوفاء الذي لمسته بشكلٍ شخصي من لقائي ببعض أبنائه ومن متابعتي لإهتمامات الكثير من وجوهه البارزة ومواقفهم المشرفة والتي امتدت لتشمل الجيل الجديد من الأطفال الذين تشربوا هذه القناعات وباتت جزءًا من هويتهم، وأتت هذه الرواية لتوثق حقيقة العلاقة بين الكويت وفلسطين بشكلٍ خاص وبين مختلف الدول العربية بشكلٍ عام رغم الأهوال التي عاشتها، فأنا لا زلت أذكر من طفولتي صوت صافرات الإنذار المفزع ولحظات الرعب المرتبطة بها، لا زلت أذكر أنفاسنا المحتبسة واختبائنا وسكوننا وحديثنا الهامس على ضوء الشموع حتى يتم إعلان زوال الخطر، ولا زلت أذكر زجاج نوافذنا الذي ظلله والدي بألوانٍ داكنة خوفاً من أي غارةٍ محتملة..
عباءة غنيمة.. هي مخاوفنا، مشاعرنا المهتزة والمتناقضة، خيباتنا في أحب الناس إلينا وانكسار أحلامنا على صخرة الواقع الأليم، هي الصفعة الأولى التي لا ننساها والرحيل الذي نخاف منه تماماً كما بتنا نخاف من الفرحة، هي الحب المبتور والمبادئ الهشة، هي قمع المجتمع واقصائه وأحكامه المسبقة، هي التطرف والتعصب والغربة والتغريب، هي الشماعة التي نعلق عليها أخطائنا.. وكم من (غنيمة) في حياتنا لازالت تقض مضاجعنا وتخفينا رغماً عنا داخل عبائتها..
خالد جهاد..
وتأكد لي أن الكلمات لا تستدر بل تنساب طواعيةً كشلالٍ متدفق بعد أن يمس القلب قبسٌ من نور يحمله على البوح والتجلي بين الأحرف، أعترف أنني لا أعرف من أين سأبدأ بعد أن قرأتها بنهم ولكنني سأحاول.. إذ أن المشكلة في هذا العمل للكاتبة الكويتية عائشة المحمود هي سر تميزه وجماله الذي يحيرني حيث يتداخل الوجع الخاص مع الوجع العام ليصل حد الإشتباك الذي لا ينتهي إلا بالرحيل..
فمنذ التاريخ الأول الذي افتتحت به فصول الرواية أيقنت أنها ستستعرض مراحل مفصلية من التاريخ العربي الحديث، وشعرت أن البحر هو أحد أبطالها الرئيسيين الذين يمتلكون حضوراً مميزاً ورمزيةً هامة جمعت المدن التي احتضنت أحداثها بشكلٍ مباشر أو شرفي بين الكويت وبيروت واللاذقية ويافا، ذلك البحر المرتبط بالشرفات والنوافذ والحداثة والحرية والذي ظل في حالةٍ من المقارنة الدائمة والمواجهة أحياناً (وإن كانت بشكلٍ خفي) مع البيوت الطينية القديمة والعادات والتقاليد والبيئة الأم، تلك المقارنة التي تبرز صراع الأجيال والأفكار والمعتقدات ضمن سردٍ ممتع ومشوق وتصويرٍ مميز لتفاصيل الحياة بتناقضاتها، والتي تخلق بدورها مجموعةً من المشاعر المتضاربة الذي يجسدها بطل الرواية (فيصل) منذ يوم ولادته الذي تزامن مع النكبة الفلسطينية عام ١٩٤٨، والذي جعله حتى في لا وعيه توأماً لهذه القضية وكأنه قدره الذي رسم له قبل أن يولد، فعاش مراحل صراعها بنفسه متلمساً لها في معظم خطواته، بدءاً من أساتذته الفلسطينيين في مدرسته وتماهيه معهم وقدرته على التفريق بين مختلف الثقافات التي تميز كل مدينة في فلسطين، مروراً باختياره لبيروت كمدينةٍ لدراسته الجامعية لقربها الجغرافي منها، والتي عرف فيها خيبته الشخصية مع حبٍ مستحيل يجسد لب الإختلاف الذي لم نستطع أن نتعلم منه حتى اللحظة، وانتهاءاً بتوريث حبه لقضيتها لأخته الصغرى وإصراره على استحضار ذكراها في ذروة الفجيعة بعد غزو الرئيس العراقي السابق صدام حسين للكويت بكل أسف وما حمله هذا الحدث من ألم وتبعات نعيشها في العالم العربي حتى اللحظة..
كما تتسم هذه الرواية الهامة بالجرأة والقدرة على نقد الذات والمجتمع وحثه على إعادة النظر في الأفكار النمطية السائدة وأبرزها عن ما ينبغي أن تكون عليه الأنوثة والذكورة دون أخذ المشاعر ومتغيرات العصر بعين الإعتبار، حيث حكم الخوف بشكلٍ أو بآخر عدداً من الشخصيات الرئيسية في العمل وساهم في طمس سماتها الأساسية وخلق بداخلها شرخاً عميقاً واهتزازاً لم يفلح الزمن في تغييره، ولم يفلح انتقال بطل العمل (فيصل) إلى العديد من المدن وخوضه الكثير من التجارب والإنفتاح على ثقافاتٍ شتى في تبديده، فظل راسخاً في داخله وبات بمثابة صورة أو خيال أو شبح يتبعه أينما ذهب تختصره (غنيمة) بهيئتها المخيفة وعبائتها التي تترائى له بين حينٍ وآخر لتجسد الشيء واللاشيء، تجسد الوهم والقهر والعجز والخوف من الحب والتغيير المرتبط بالمجهول، تجسد التشتت بين الإرتباط بالمكان والجذور وبين الإحساس بالغربة عنه، بين اختياراته الشاعرية ورقته وأمله في وجود فضاءٍ مثالي يحتوي الجميع دون صراعٍ أو تصادم، وبين خيباته المتتالية التي تعدت حياته الخاصة لتصل إلى المبادىء التي اعتنقها وتحدى الكثيرين لأجلها.. وهو الذي كان يواري ضعفه خلف أشخاصٍ أو مبادىء أو أحلام يستمد منها قوته وشجاعته ليثبت أنه له صوتاً لا بد من الإستماع إليه..
.
فنجحت الكاتبة في هذه الرواية في تقديم عمل متكامل بلغة عربية سليمة مطعمة بكلمات عامية تزيد من جمالية الطرح، بعيد عن التطويل أو التكلف أو الإبتذال أو المتاجرة بأي قضية، عمل يدعو إلى التفكير والتأمل والمقارنة من خلال أسلوب يمتاز بالسلاسة، يحترم الإختلاف ويبتعد عن التصادم، استطاع الحديث عن المراحل التي مر بها المجتمع الكويتي واستطاعت كاتبته أن تستحضر بحرفية تفاصيل الحياة البسيطة وتجعل منها صوراً فنية حقيقية تبنى من خلالها الأحداث، ويعيش من خلالها القارىء ذلك التدرج وصولاً إلى الطفرة التي شهدتها الكويت على أكثر من صعيد، كما نجحت الكاتبة في عرض الوجه الحقيقي للكويت ذلك الوجه المنتمي لمحيطه وقضاياه، والذي يبادلهم الحب والوفاء الذي لمسته بشكلٍ شخصي من لقائي ببعض أبنائه ومن متابعتي لإهتمامات الكثير من وجوهه البارزة ومواقفهم المشرفة والتي امتدت لتشمل الجيل الجديد من الأطفال الذين تشربوا هذه القناعات وباتت جزءًا من هويتهم، وأتت هذه الرواية لتوثق حقيقة العلاقة بين الكويت وفلسطين بشكلٍ خاص وبين مختلف الدول العربية بشكلٍ عام رغم الأهوال التي عاشتها، فأنا لا زلت أذكر من طفولتي صوت صافرات الإنذار المفزع ولحظات الرعب المرتبطة بها، لا زلت أذكر أنفاسنا المحتبسة واختبائنا وسكوننا وحديثنا الهامس على ضوء الشموع حتى يتم إعلان زوال الخطر، ولا زلت أذكر زجاج نوافذنا الذي ظلله والدي بألوانٍ داكنة خوفاً من أي غارةٍ محتملة..
عباءة غنيمة.. هي مخاوفنا، مشاعرنا المهتزة والمتناقضة، خيباتنا في أحب الناس إلينا وانكسار أحلامنا على صخرة الواقع الأليم، هي الصفعة الأولى التي لا ننساها والرحيل الذي نخاف منه تماماً كما بتنا نخاف من الفرحة، هي الحب المبتور والمبادئ الهشة، هي قمع المجتمع واقصائه وأحكامه المسبقة، هي التطرف والتعصب والغربة والتغريب، هي الشماعة التي نعلق عليها أخطائنا.. وكم من (غنيمة) في حياتنا لازالت تقض مضاجعنا وتخفينا رغماً عنا داخل عبائتها..
خالد جهاد..