د. أحمد الحطاب - الواقع بين الحقيقة وزخرفته من طرف السياسيين

من الناحية النظرية، الواقع هو كل ما هو موجودٌ أو كل ما يُدركُه العقل البشري من خلال الحواس الخمس من بصرٍ و لمسٍ و شمٍّ و سمعٍ و ذوقٍ. والمقصود هنا ب"كل"، الأشياء التي يتواصل معها العقلُ البشري بواسطة هذه الحواس. غير أن هذه الأشياء فيها ما هو ملموسٌ وما هو غير ملموس.

ما هو ملموس يتكوَّن من جميع الأشياء التي لها وجود مادي. ومحيطُ الإنسان مليء بالأشياء الملموسة كالكائنات الحية، بما فيها الإنسان، من حيوان ونبات والصخور والتُّربة والماء والسحاب والرمل والهواء ولو أنه غير مرئي، لكنه ماديُّ التَّكوين، والجبال والبحر والوديان… وما أنتجه أو صنعه الإنسانُ من أدوات وآليات وأجهزة و وسائل نقل وإنتاج… والأشياء المادية (الطبيعية) فيها ماهو مرئي وفيها ما هو غير مرئي. ما هو غير مرئي لا تُدرك وجودَه مباشرةً الحواس الخمس. لكن الإنسانَ، بذكائه و تفكيره، استطاعَ أن يٌعطيَ القدرةَ، من خلال ابتكار تقنيات معينة، لبعض حواسه لتُدركَ مثلا وجودَ الجراثيم والفيروسات وأنواع كثيرة من الفطريات والحشرات وعَلَقِ البحر plancton…

أما ما هو غير ملموس، لا يمكن أن تُدركَه الحواس الخمس لأنها وحدها، بدون تدخُّل الدماغ، لا يمكنها أن تُدركَ أي شيء ولو كان ماديا. وما هو غير مرئي يُدركه العقلُ البشري من خلال التَّفكير. وهذا يعني أن الواقعَ غير الملموس لا وجودَ له قبل أن يُدركَه العقلُ البشري. وبعبارة أخرى، إن العقلَ البشري هو الذي يبني الواقع غير الملموس من خلال عمليات فكرية. أو، بإمكاننا أن نقولَ إن الإنسانَ، بفضل فكره وتفكيره، هو الذي يبني الواقعَ غير الملموس.

ومن هذا المُنطلق، يمكننا أن نصنِّفَ الواقعَ غير الملموسَ، مثلا، إلى واقع اجتماعي و واقع اقتصادي و واقع ثقافي و واقع سياسي… كل هذه الوُقوع (جمع واقع) هي، في الحقيقة أولا و قبل كل شيء، ظواهر فكرية يُدرك الإنسانُ وجودَها من خلال سلوكاتِه وأعماله وأفعاله وتصرُّفاته. فمثلا، غلاء المعيشة واقع غير ملموس (لا يمكن إدراكُه بواسطة حاسة من الحواس). لكن المواطنَ (الإنسان) يدركُه عندما يذهب إلى محطات البنزين أو عند التَّسوُّق.

وما دُمنا نتحدَّثُ عن الواقع غير الملموس كمجموعة من الظواهر الفكرية، تجدر الإشارةُ إلى أن الواقعَ السياسي هو الذي يكون وراء (أو هو الذي يبني) الوقوع الأخرى اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا، صناعيا، زراعيا… وهذا يعني أن نجاعةَ هذه الوقوع الأخيرة رهينةٌ بنجاعة الواقع السياسي. ومتى يكون الواقع السياسي ناجعا؟
الواقع السياسي يكون ناجعا عندما تُكرَّسُ، من خلاله، الجهود لخدمة الصالح العام. وخدمة الصالح العام تقتضي أن يكونَ الواقع (المشهد) السياسي متَّصِفا بالمصداقية، بالنزاهة، بالاستقامة، بالشفافية، بالإخلاص في العمل، بالعدل، وفوق هذا و ذاك، بروح عالية من المواطنة و حب الوطن. و هنا، بيتُ القصيد. لماذا؟

لأن الواقعَ الذي يعيشُه المواطنون ليس هو الواقعُ الذي يبنيه الواقع السياسي من خلال تصريحاتِه وخُطبه… الواقع الذي يقدِّمه الواقع السياسي للمواطنين جنَّة وفردوس ونعيم… والواقع الذي يعيشه المواطنون جحيم. فماذا يعني هذا التَّفاوتُ الصارخ؟

بكل بساطة، هناك واقعان : واقع يُزخرفُه السياسيون لتبرير استمرار جلوسِهم على كراسي السلطة و واقع يتحمَّل مصائبَه وإكراهاتِه المواطنون غصباً عنهم. والمنابر التي تتمُّ فيها زخرفةُ الواقع أو تشويهُه كثيرة أكتفي، في هذه المقالة، بذِكر البرلمان والاحتماعات الوزارية.

في البرلمان وفي هذه الاجتماعات، كل مَن له درايةٌ بالأمور، يكتشف بسرعة المحنةَ التي يُلحقُها السياسيون بالواقع المعاش لتحويله من جحيم إلى جنة. بينما كل مَن لا درايةَ لهم بالأمور، يظنون أن السياسيين يسعون إلى إسعادهم أو إلى جعلهم يعيشون في عالم مثالي لا تشوبُه شائية. أو، بعبارة أخرى، يصنعون للمواطنين واقعا لن يروه في محيطهم ولو استعملوا أقوى المجاهر. وبكل غرابة واستغراب، الوقوعُ الحقيقية والمعاشة لا يتحدَّثون عنها ولو في الخيال. مثلاً : احتلال الفضاءات العمومية على حساب راحة المواطنين، احتلالُ الشواطئ من طرف بعض الانتهازيين مستغلين صمتَ السلطات أو تواطؤها، فوضى السير على الطرق داخلَ وخارجَ المُدن، فوضى ممارسة الحِرف، تفشِّي ظاهرة السترات الصفراء، تفشي ظاهرة التَّسوُّل، غياب الإنصاف في توزيع الثروة، انتشار الأمية، تفاقم الهدر المدرسي… والائحة طويلة.

وباختصار شديد، إن بلادَنا بلادُ المفارقات العجيبة والغريبة! مفارقاتٌ صانعُها هو الواقع السياسي. لكن، يصنعها ليس لخدمة المصلحة العامة ولكن لضمان استمرار احتلاله لكراسي السلطة. وإذا كان الواقع السياسي هو صانعُ المفارقات العجيبة والغريبة، فمَن هو صانع الواقع السياسي؟

صانع الواقع السياسي هم الأحزاب السياسية. والأحزاب السياسية هي التي تزخرف الواقعَ وتُنمِّقه، في نفس الوقت، على مستوى البرلمان والحكومة. وإذا تمَّ تنميقُ الواقع من طرف الأحزاب السياسية فقط لإرضاء رغبتِها للبقاء على كراسي السلطة وتجاهلاً لواقع المواطنين، فهذا يعني أن الواقعَ السياسي فاسدٌ، وبدوره، يُفسِد كلَّ ما له علاقة بالصالح العام. وهذا يعني أنه، إذا صلُح الواقع السياسي، صلُحت سلوكاتُه وأفعالُه وأعمالُه وتصرُّفاتُه. غير أن واقعَنا السياسي اليوم لا تخرج من رحِمِه إلا المصائب.

فشتان ما بين أحزاب الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات وأحزاب ما بعد هذه الفترات. أتحدى أيا كان أن يذكر اسم حزب واحد له مواصفات المواطنة وحب الوطن والصالح العام وتكوين المواطن سياسيا واجتماعيا وثقافيا. أتحدى أيا كان أن يذكرَ اسم حزب واحد له من الرجالات شخصيات مثل بوعبيد، بن بركة، علال الفاسي، بوستة، علي يعتة، بن جلون، المهدي المنجرة، الخ.

إن الأحزاب السياسية لها دور كبير في فساد الواقع السياسي بتهافُتِها على الكراسي والمناصب وضرب عرض الحائط كل القيم التي هي فعلا مناهضة لهذا الفساد. فكيف لا تحدو فئةٌ من الناس حدوَهم للوصول إلى مآربهم ولو كانت غير مشروعة، بحكم أن الأحزاب نفسَها لا تحترم المشروعية؟ فكيف للمواطن أن يحترمَها؟

وهنا، أتذكر، وبكل اعتزاز، الوضعَ السياسي الذي كان سائدا في أواسط الستينيات، و الذي كان وراءه أحزابُ اليسار السياسية والاتحاد الوطني لطلبة المغرب UNEM المنتمي آنذاك للاتحاد الوطني للقوات الشعبية إذ كانت هذه الأحزاب وهذا الاتحاد، حقا وحقيقةً، مدرسةً في المواطنة والسياسة الهادفة والنبيلة وفي تكوين المواطن فيما يخص حقوقَه و واجباتِه. أما اليوم، إن الأحزاب السياسيةَ أصبحتْ مدارس للنفاق والتملق والتحريف والطغيان والدسائس، الخ.

إذا لم تَغِرْ الأحزابُ السياسيةُ على وطنها، فمن سيغير عليه؟ مَن الذي يملك خيوط التغيير؟ السياسيون أم المواطنون؟ وأختم وأقول : الفرد ابن بيئته. إذا فسدت مؤسساته السياسية، فسد الفرد. وإذا فسد سواد الأفراد، فسد المجتمع. وهذا هو الوضع الذي نعيشه حاليا. أن ينتشر الفساد، فلا غرابة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى