د. أحمد الحطاب - من أوجاعِ السياسة عندنا

من حكومة إلى أخرى، لم يَجنِ المواطنون من ممارسة السياسة من طرف الأحزاب السياسية إلا الأوجاعَ تلوَ الأوجاعِ. علما أنه، في هذا البلد السعيد، السواد الأعظمُ ممَّن يمارسون السياسة، لا يفقهون شيئا من معناها النبيل. ما يفقهونه جيدا، هو أنها تفتح لهم الطريق واسعا ليصلوا إلى السلطة، وبالتالي، ليعيثوا في البلاد فسادا وإفسادا. بل إن فئةً من السياسيين لم يسبق لأقدامهم أن وطأت عتبةَ المدرسة.

وأكثر من هذا وذاك، إن هذا النوعَ من السياسيين الفاسدين والمُفسدين يعرفون حق المعرفة أن مشهدَنا السياسي فاسدٌ حتى النُّخاع، فتراهم يغتنمونها فرصةً لينالوا حقَّهم من ما يوفِّره هذا المشهدُ من ريعٍ وغنائم.

وحتى نُدركَ عُمقَ وألمَ ما تُفرزه السياسة من أوجاع، دعونا نوضِّح ماذا يعنيه، لغويا و اصطلاحيا، مفهومُ السياسة.

أولا، السياسة لها علاقة بالسلطة وممارسة هذه السلطة. والأحزاب السياسية هي التي تُمارس السلطة من خلال الانتخابات. والانتخابات هي التي تُفرز السلطة التَّشريعية أو مجلسَ النُّواب بأغلبية ومعارضة. عن هذه الأغلبية، تنبثق السلطة التَّنفيذية أو الحكومة التي تسوسُ (من سياسة) أو تُدبِّر أو تُديرُ شؤونَ المواطنين، أو كما هو متعارفٌ عليه، تُدبِّر الشأن العام للمواطنين. وعندما نقول "تُذبِّر الشأنَ العام"، فهذا يعني أن الناخبين (أو الشعب) هم الذين، بمحض اختيارهم، كلَّفوا الحكومةَ، نيابةً عنهم، بتدبير شأنهم العام. وعندما نتحدَّثُ عن الشأن العام، فالأمرُ يتعلَّقُ بتدبير شؤون المواطنين بما فيه صالحُهم أجمعين أو بما يستجيب لتطلُّعاتِهم أو حسبَ ما وَرَدَ من وعود في الحملات الانتخابية للأحزاب السياسة. وحتى يكونَ تَّدبير الشأن العام مستجِيباً لتطلُّعات المواطنين، يجب أن يُمارسَ هذا التَّدبيرُ بعدلٍ وإخلاصٍ واستقامةٍ ونزاهةٍ وإنضافٍ…

وهذا يقودنا للقول بأن ممارسةَ السلطة، التَّنفيذية على الخصوص، لها ما يميِّزها من أُسُسٍ، أذكر من بينها ما يلي :

-الإلمامَ بفنِّ و أبجديات التَّدبير
-تنظيم السُّلَطِ والحِرص على استقلالياتها
-القدرة على تحويل تطلُّعات المواطنين إلى سياسات عمومية تستجيب لهذه التَّطلُّعات
-الحِرصُ على إرساء انسجام بين القطاعات الوزارية وعلى تكامل ما تُعِذُّه من سياسات عمومية
-الحِرص على أن يكونََ الاهتمامُ بالعنصر البشري هو محور السياسات العمومية…

وما يجب أن لا يغيبَ عن ذهن كل مَن يمارس السياسةَ أن هذه الأخيرة فرعٌ من فروعِ العلوم الاجتماعية وعلمٌ قائم الذات يهتمُّ بدراسة الظواهر السياسية من عدَّة زوايا منها ما هو نظري théorique ومنها ما هو اجتماعي sociologique ومنها ما هو إداري administratif ومنها ما له علاقة بالشؤون الدولية…

بعد هذه التَّوضيحات الهامة، سأتناول واحدا تلوَ الآخر الأوجاعَ التي تكون ممارسةُ السياسة في بلادنا هي السبب في إصابة المواطنين بألمها :

الوجَعُ الأول. إنه وجَعٌ ناتجٌ مباشرةً عن التَّوضيح المبيَّن أعلاه. ويتعلَّق الأمرُ بفئة عريضة مِن مَن يمارسون السساسةَ، سواءً عبرَ شقٍّها التَّشريعي أو التَّنفيذي، وهم لا يفقهون شيئا في السياسة كعلمٍ قائم الذات. ولعل أخطرَ هؤلاء المتهجِّمين على السياسة، هم نواب الأمة الذين، دستوريا، يشرِّعون باسم الشعب ومن أجله. بل إنهم يصوِّتون على ميزانية البلاد التي، من خلالها، تُمرٍّرُ السلطة التنفيذية أو الحكومة سياساتِها العمومية التي، من المفروض، أن تستجيبَ لتطلُّعات المواطنين. أما خطورة الخطورات، فإنها تتعلَّق بفئة السياسيين الأميين الذين لا يفقهون في السياسة إلا ما تُحقٍّقُه لهم من مصالح شخصية.

الوجع الثاني. السياسة، كما هي ممارسةٌ في بلادنا، لا علاقةَ لها، على الإطلاق، بالسياسة كعلمٍ. إنها سياسةٌ تستمدُّ وجودَها من الأهواء ومن الجشع. إنها سياسةٌ تقول ما لا تفعل، أي سياسة كلها نفاق وكذب وافتراء ومصالح شخصية ودسائس وإخفاء الحقائق… سياسةٌ انتهازيةٌ بامتياز! سياسة هي أم الخبائث وإذا ظهرت بوجه حسن، فاعلم أن محركَها هو النفاق. وفي هذا الصدد، فكلُّ مَن أراد أن يكونَ سياسيا ناجحا، فعليه أن لا يقولَ الحقيقة. وإذا قالها، عليه أن يعرف كيف يُزخرفَها وكيف يجعلَها تخدم مصالحَه. السياسي هو ذلك الشخصُ الذي ظاهرُه يوحي بالاستقامة والنزاهة وباطنُه لا يستوي إلا إذا تغذى بالتدليس والكذب والتزوير والتلفيق والتحريف والالتواء والإملاق والتملق و... وباختصار، السياسي له عدة و جوه. وكل وجه عبارة عن عملة تُسْتَعْمَلُ في المكان والمقام المناسبين.

الوجع الثالث. سياسةٌ قاسمها المشترك ومبدأها الوحيد هو التَّسابق لغَنمِ كراسي السلطة. والطامة الكبرى، هو أن هذه السياسة جاهدت واجتهدت لتسهيلِ القِرانِ أو الزواج بين المال والسلطة. حينها، خلقت قوَّةً جديدةً ساعدتها على الاستحواد على السلطة في جوٍّ تتشابه فيه الأحزابُ السياسية من حيث سيلان لُعابها رغبةً في وصولها إلى السلطة. والزواج بين المال والسلطة لا يعترف لا بالديمقراطية ولا بتطلُّعات المواطنين. وإن اعترف بالديمقراطية، فإنها فقط ديمقراطية الواجهة التي هي عبارة عن ذرِّ الرماد على العيون.

الوجع الرابع. من إفرازات السياسة، في هذا البلد السعيد، هو أن جلَّ السياسيين، عندما يصلون إلى كراسي السطة، سواءً على المستوى التَّشريعي أو التَّنفيذي، ينسون صفةَ التَّواضع ويتبنَّون صفاتِ الاستعلاء والكبرياء ليجعلوا من أنفسِهم بشراً فوق الآخرين من حيث القيمة والموقع. حينها، لا يرضون بالاختلاط مع عامة المواطنين، بل يريدون أن ينحنيَ لهم هؤلاء المواطنون وكأن وصولَهم إلى السلطة تشريفٌ بينما هو مجرد تكليف.

الوجع الخامس. بيَّنت التَّجربة أن السياسةَ، في هذا البلد السعيد، لا دينَ لها. فكثير من أحزابنا السياسية ينطبق عليها هذا القولُ. فعندما تتموقع هذه الأحزاب السياسية في المعارضة، نراها تتشبَّثُ بالمبادئ وتميل، على الأقل في تصريحاتِها، لخدمة المواطنين. وعندما تصل نفسُ الأحزاب إلى السلطة، تشريعيةً كانت أو تنفيذية، نراها، بقدرة قادرٍ، تتنكَّر لهذه المباذئ ولخدمة المواطنين. أو كما نقول باللغة العامية : "كَتْقْلْبْ الفِيستَة" وبكل سهولة وبدون تردُّد وبدون أدنى توبيخ ضميرٍ! إنه ضربٌ صارخٌ عرضَ الحائط بأخلاقيات السياسة éthique politique. وهذا ما حصل بالنسبة لحزبي الاستقلال و"البام" اللذان انتقلا، إثرَ الانتخابات الأخيرة من المعارضة إلى الأغلبيةَ الحاكمة. وخير مثالٍ يمكن سياقُه في هذا الصدد، هو أن هذين الحزبين، لما كانا متموقعين في المعارضة، كانا من أشرس المدافعين عن تسقيف أسعار المحروقات ومن المطالبين باسترجاع ملايير الدراهم الناتجة عن الأرباح غير المشروعة بعد انخفاض أسعار النفط في الأسواق الدولية. أما ا اليوم، فنفس الحزبين يلتزمان صمتا مطبقا حول ما كانا متشبِّثين به. أليس تغييرُ الوجوه هذا دليلٌ قاطعٌ على أن أحزابنا السياسية لا مباذئَ لها وأن ما يهمها، من ممارسة السياسة هو الوصول إلى السلطة؟ أليس هذا كذلك دليلُ قاطع على أن الوصولَ إلى السلطة هو الرابط الوحيد الذي يجمع بين أحزابنا السياسية، كحُلفاء، في الحكومة الواحدة؟

الوجع السادس. من انتخابات إلى أخرى ومن برلمانٍ إلى آخر ومن حكومة إلى أخرى، تبيَّنَ للمواطنين أن السياسةَ، كما هي مُمارسة في هذا البلد، عبارة عن مسرحية يقوم بإخراجها السلطة والمال. وممثلوها هم الحكومة والبرلمان والجماعات الترابية. والمتفرجون هم الناخِبون أو الشعب برمَّتِه. ممثلون يقومون بأدوارهم تمشِّيا مع ما أعدَّه المالُ والسلطة من سيناريوهات خيطُها الناظم هو الليبرالية المتوحٍّشة التي لا تؤمن إلا بما يُذرُّه عليها الاقتصادُ من أرباح رضِيَ أو كرِه المتفرٍّجون. متفرٍّجون لا حولَ و لا قوَّةَ لهم لأنهم لا يدخلون في معادلة السلطة والمال التي ليست في حاجةٍ إليهم لبلوغ أهدافها. بل إن شريحةً عريضةً من المتفرِّجين تجد ضالَّتَها في هذه المعادلة باستفادتِها منها بطريقة أو أخرى. وخيرُ خَشَبَةٍ تجري فوقها هذه المسرحية هي البرلمان بغرفتيه. تُطرحُ الأسئلة من طرف البرلمانيين الذين، على ما يبدو، يطرحونها نيابةً عن الشعب. يُجيبُ الوزراء ثم يُعقِّبُ البرلمانيون ثم يعقِّب الوزراء. وينتهي الأمرُ! يذهب الوزراء والبرلمانيون إلى حال سبيلهم. ولا شيءَ يتغيَّر! أما المتفرِّجون، فإنهم يشترون التَّذاكر من خلال الضرائب ولا شيءَ يتغيَّر! أما نوع المسرحية، فهو درَامِي والمنفرِّجون مجبَرونُ بشراء التَّذاكر كل خمس سنوات قابلة للتَّجديد.٠

الوجَع السابع. السياسة، كما هي مُمارشةٌ في هذا البلد السعيد، مرادفةٌ للإفلات من العقاب. فكم هي القضايا التي لها علاقة باختلاس المال العام وبقي مَن هم وراء هذا الاختلاس بدون عقاب. وكم هي كثيرة القضايا التي بيَّنت تقاريرُ المجلس الأعلى للحسابات أنها مشوبة باختلالات لكنها لم يتم البثُّ فيها قضائيا. وكم هي الجماعات الترابية التي لم تقٌم بمهامها كما يفرض عليها ذلك القانون ولم تخضع للمحاسبة. وكأن الإفلاتَ من العقاب مَزِيةٌ من مزايا السياسة وليس خللاً يعاقب عليه القانون. وكأن السياسةَ تسمح لمَن يمارسُها أن لا يحترمَ دولةَ الحق والقانون.

الوجع الثامن. إنه وجَع الأوجاع. سببُه الرئيسي هو عدم تطبيق القانون. تحدثُ الكوارثُ الاجتماعية من حينٍ لآخر، كان من الممكن تفاديها لو قامت السلطات العمومية بواجبها طبقا لما يسمح به القانون. مثلا : مراقبة ظروف العمل في المعامل، في المقاولات، في أوراش البناء… مراقبة السير على الطرق وتطبيق القانون على الشاحنات والحافلات وسيارات الأجرة التي لا تتوفَّر فيها شروط نقل المسافرين والبضائع… تطبيق القانون لتفاذي احتلال الملك العمومي وتفادي تسلُّط أصحاب السترات الصفراء على المواطنين… إنه وضعٌ يعيشُه المواطنون باستمرار في حياتهم اليومية على مرأى ومسمع السلطات العمومية والأحزاب السياسية ولا أحدَ يحرِّك ساكنا. فما هو السببُ؟

السببُ، بكل بساطة، هو تخلِّي مَن بيدهم الأمرُ عن مسئولياتهم عملاُ بالمقولة المتداولة tout le monde est responsable et et personne ne l'est، أي الكُلُّ مسئولٌ و لا أحدَ يقوم بمسئوليتِه. وهذا شيءٌ جاري به العملُ في مجال ممارسة السياسة.

إن ممارسةَ السياسةَ، في هذا البلد السعيد، كلها أوجاعٌ عانى ويعاني منها المواطنون منذ عقود. والسببُ في هذه المعاناة هو أن هذه السياسة أفسدت كل شيء. وبسببِ هذا الإفساد، غابت المواطنة وغاب حب الوطن وتلاشت القيم السامية. وغابت السياسة النبيلة التي كانت سائدة في ربوع الوطن قبل الحماية وأثناءها ومباشرةً بعد الاستقلال. وكان الناس يعبرون عنها بتلقائية وعفوية دون عناء لسبب واحد هو أنها سكنت فيهم وأصبحت جزأ من سلوكهم. ومما يؤسف له أن السياسة النبيلة بدأت في التقهقر في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات مع ظهور نوع جديد من البشر ينتمي لفصيلة الإنسان المفترس الذي يفقد وعيَه و شعورَه و يسيل لعابُه أمام الغنائم والفرائس الدسمة والكراسي والجشع ضاربا عرض الحائط كل القيم وكل المبادئ حيث يصبح كالثور المسعور هدفه الأول والأخير تحقيق أهدافه الشنيعة ولو على حساب بلده أو بلدته أو قريته أو حيِّه أو أنداده…

لكن السياسة، كما هي ممارسةٌ حاليا، مهما عظُمت ومهما تفشت ومهما طغت، لن تستطيع أن تستقطب الشرفاء المتشبثين حتى النخاع بمبادئهم السامية التي لا تُباع ولا تُشترى. ولا غرابةَ أن جل هؤلاء الشرفاء لا ينتمون للأحزاب السياسية لأنهم مقتنعون أن هذه الأحزاب عبارة عن لوبيات مصالح تتنكَّر لوطنها ولوطنيتها. هؤلاء الشرفاء موجودون في كل مكان شعارُهم الحديث النبوي الشريف : "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيمَان".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى