سعيد أوعبو - مناظرة بين سعيد يقطين وعبدالله إبراهيم: السرد، والسردية، والسرديّات

يَتَحَتَّمُ علينا في سياق الاشتغال على السّرد العربي تعيِين الإسهامات التي اضطلع بها المثقف العربي في رسم التّجاذبات والمسارات التي سلكتها الكتابة وفهم معماريّتها، ولاسيما أنّ الباحث المثقّف يحمل قلقًا معرفيّا وهمّاً أكاديميّا لتأصيل السّرد العربي المقترن أساسا بالحكي، بما يشهده من تحولات مبنية على السّياقات التّاريخيّة والأشكال البنيويّة للكتابة، عبر الحفر في أشكالِ المسايرة والمغايرة التي لحِقت المرويّات، وبالتالي، محاولة فهم المعطيات المتّصلة بالإنتاج الأدبي الإنسانيّ القائم دائما على النّسبية والتّغيّر المطّرد، نَظِير العوامل المؤثّرة في الذّات الكاتبة والمتحكّمة في سمات الكتابة وخصوصيّة التّلقي، ومن هنا، تَتبدّى الحاجة الدّائمة للمثقف في تجديد السّؤال في الإنتاج السّردي وطبيعة تشكّلاته في ضوء هاته العلاقات المتشابكة.

لعلّ أهم الإسهامات المتميّزة من منظور المشروع النّقدي ووفق منطق المتابعة السّردية للحكي العربي بأجناس وأنواعه قُدِّمت من قبل مثقّفين بارزيْن هما: عبد الله إبراهيم[1]، وكذا سعيد يقطين[2]. بما يطْبع انشغالهما من جدّةٍ وأصالة بحثيّة في المشهد الثقافي العربي في سياق تخصّصهما، وهما يوظفان إبستيمولوجيّات تستمدّ قاعدتها من نظريّات علميّة واعية، ومن مواقع ومرجعيات متباينة ترتبط أساسا بتكوّنهما الفكري والنقدي، وفق رؤى منهجية مختلفة، ويتحدّد المشترك في التفكير بينهما في المقصد الواحد الذي يتّصل أساسا بفهم الظاهرة السّردية العربيّة؛ ولعلّ رهاننا في الاختيار مبنيّ على دوافع موضوعيّة مقترنة بوحدة المادة؛ أي، المحكي العربي، لكن بأسئلةٍ جوهرية تؤسّس للاختلاف المرجعيّ، ومن هنا تحديدا، نُنَصّص على أهمّية المناظرة النّقدية بين النّقد الأدبي البنيوي والنقد الثقافي المشيّد بالتأويل والوصف، بغية رسم حدود استيعاب المثقّفيْن للمفاهيم النّقدية، وطبيعة وعيهما النظري بتحوّلات الإنتاج السردي، وفق أسئلة موجهة لهما بشكلٍ موحّدة نسجّلها كالآتي:

سعيد أوعبو: بدايةً، يتّضح في سياق الاشتغال على خطابكم النّقدي أنّ هناك فهما خاصا بالنّسبة إلى مفهوم السّرديات، هل يمكنك أن تقربنا من ذلك؟ وما علاقة السّرديات بالسّردية؟

د. سعيد يقطين: منذ بداية الثمانينيات استعملت مصطلح "السرديات" ترجمة لـ"Narratology". تعددت الترجمات العربية لهذا المصطلح. فهناك من استعمل: القصصيات، أو السردية، أو علم السرد، أو السردولوجيا، أو السردانية، إلخ. لقد اخترت هذا المصطلح من كلمة "السرد"؛ لأني رأيتها محايدة بالمقارنة مع المصطلحات القريبة منها. فالحكي، والقص، مرتبطان بنوعين سرديين هما الحكاية، والقصة. واستعمالها في العربية أعم من الدلالة على النوع، ولذلك اعتبرتها جنسا يتسع لأنواع سردية متعددة؛ فنحن نقول: سرد لائحة من الأسماء، وقائمة من الأدوات، وسرد قصة، وما شابه ذلك. هذا علاوة على اتصال الكلمة بصيغة السرد التي يضطلع بها الراوي لتقديم القصة (telling/Narration)، والتي بها يتميز السرد عن غيره من الخطابات. ولقد استعملت هذه الصيغة في الدراسات السردية كمقابل لصيغة العرض (Showing/ Représentation)، وهي الصيغة التي تتحاور فيها الشخصيات. وفي تعريفي لها أعتبرها العلم الذي يدرس الأعمال السردية، وموضوعها التي تبحث فيه، ليس السرد، وإنما "السردية" Narrativity))؛ أي الخاصية التي يتميز به الخطاب السردي عن غيره من الخطابات، وهي على وزن "الأدبية"، بناء على أن أي علم لا بد له من موضوع محدد. لم تكن الترجمة بالنسبة إلي هي فقط وضع مقابل عربي للفظة أجنبية. كان وراء هذا الاختيار، التشديد على البعد العلمي من جهة الذي أجده في لاحقة الاستعمال الأجنبي (Logy)؛ لأنني أومن بالعلم ضد الإيديولوجيا أيا كانت توظيفاتها. ومن جهة أخرى، لاقتناعي بأن الاستعمال العربي لما صار يعرف بالمصدر الصناعي (ية)، لا يدل على البعد العلمي؛ لأن العرب استعملوه لنقل الكلمة من الوصفية إلى الاسمية. وكل الكلمات الرائجة في العربية حاليا، والتي تنتهي باللاحقة "ية"، لا تدل على العلم، ولكن على المذهب أو النزعة، وهي ما يقابلها في الفرنسية والإنجليزية اللاحقة (isme)، فنقول الوجودية، والمثالية، والتفكيكية، وما شابه. أما ما يتصل بالعلم، فقد استعمل له العرب الكلمة متصلة بجمع المؤنث، فبرز ذلك من خلال الطبيعيات، والرياضيات، والخلقيات، والإنسانيات، والإسلاميات، وسواها. وهو ما يقابل في اللغة الأجنبية (Logy/Logie)، أو(tique/tics)، فنجدهم يستعملون مثلا، (Sémiologie)، أو (Sémiotique/ Semiotics). إن الفرق بين اللاحقتين (ism)، و(Logy/Logie) هو ما يحدد طبيعة الاختصاص المراد تشكيله: أهو نزعة، أو مذهب أو علم؟ فلماذا لم يقترح تودوروف، مثلا، مصطلح (Narratism، أو Narratique) في تسمية العلم الذي يبحث في "السردية (Narrativité)، وسماها (Narratologie)، ولقي ذلك استحسانا وانتشارا؟ إنّ الفروق بين اللّاواحق في اللغة الأجنبية له معنى، ودال على اختيار معرفي. لقد كان المراد أن تكون السرديات علما خاصا، وهذا ما اشتغل به رواد السرديات. قد يقول قائل: لماذا لم يقترح اللاحقة (tique/tics)، فنقول(Narratique/ Narratics)؟ ولمن يدرك جيدا الفروقات بين الأشياء، سيكون جوابه هو: إن السرديات فرع من البويطيقا (Poétique/ Poetics)، وهي علم كلي يهتم بالخطاب الأدبي. ولا يمكن لعلم فرعي له خصوصية، ويريد أن يكون شاملا ويرمي إلى تأكيد خصوصيته عن غيره من فروع البويطيقا التي لم تتشكل، ضمنها علوم، كما تشكلت السرديات، إلا أن يشدد على هذا البعد العلمي في التسمية. هذه هي الخلفيات التي كنت أنطلق منها في التمييز بين المصطلحات الأجنبية، وفي اقتراح ما يتصل بها عربيا. ولقد قر قراري على هذا منذ بداية الثمانينيات، وبرز مصطلح السرديات علما، والسردية موضوعا، منذ كتابي "القراءة والتجربة" (1985)، وهو ما أستعمله دائما، وإلى الآن في مختلف كتاباتي. ولعلك ترى الآن مصطلح السرديات شائعا عربياً، ولكنه لا يخلو من التباسات متعددة. بعض الباحثين العرب، للأسف الشديد، يستعملها للدلالة على "النصوص" السردية؟ ترجمة لـ (Grands Récits/ Great Narratives) المصطلح الذي اقترحه ليوطار للدلالة على ما أقترح تسميته بـ"المرويات الكبرى"، للدلالة الخاصة التي يحملها. وفي السياق نفسه أستعمل مصطلح "السارد" من اسم الجنس نفسه (السرد) للدلالة على منتج الخطاب السردي، تماما كما نقول الشعر والشاعر. واستعملت مصطلح "الراوي" كمقابل لـ(Narrator). إني أرى أن مصطلح الراوي في العربية أدق في التعبير من "السارد" التي هي ترجمة حرفية، للمصطلح الأجنبي، والتي يستعملها الباحثون العرب؟

د. عبدالله إبراهيم: يلزم التفريق بين السرد بوصفه وسيلة تركيب الأخبار، والمرويات، والنصوص، شفوية أم كتابية، والسردية التي هي استخلاص الأعراف العامة للقول السردي، ثم الوعي بها، والتفكير فيها، وإذ يقتصر السرد على مراعاة الأعراف العامة في تركيب الأخبار، والمرويات، والنصوص، وسبكها في بنيات سردية ودلالية؛ فالسردية هي الإدراك بمجمل ذلك في إطار ثقافة قومية كبرى. إذًن، يرتبط السرد بكيفيات الأقوال الحكائية المروية أو المدوّنة. أما السردية، فهي الوعي بها من حيث كونها ظاهرة لها هوية مخصوصة في إطار ثقافة راسخة، وإذ لم تتطور "معرفة" وافية بأحوال السرد العربي لعدم ثبات أعرافه الموروثة، فقد ظهر "وعي" بمجمل تلك الأعراف دفع بظهور الأنواع المعروفة كالحكايات الخرافية بصورها المتعدّدة، والسير بأشكالها من ذاتية وموضوعية وشعبية، والمقامات بتنوّعاتها، وعلى ذلك، فالسردية هي إدراك سيرورة الأفعال السردية كما تجلّت في الخطاب السردي، وفي تقديري، لن يتخذ ذلك الإدراك شكل معرفة علمية بأحوال السرد كونه في حال تغيير دائم، ولا يعرف الاستقرار، فدأب المادة السردية التحوّل في أنواعها، وأشكالها، ووظائفها.

وفيما تنتهي المعرفة العلمية، وحتى النظرية، بالسرد إلى تقنينه في قواعد ثابتة تخالف تحولاته المستمرة، فإن السردية تطوّر وعيا به يستبطن تحوّلاته، وتنفتح عليها، فلا تحبسه بغاية الوصف، ولا تقيّده بقيود مسبقة الصنع كيلا يشذّ عن قواعدها، إنما تتفاعل معه، وتواكب تحولاته، وإذ أنفي عن السرد وظيفة حمل المعارف، أيّا كانت أشكالها، وإشاعتها بين الناس بغرض الانتفاع المباشر منها، فأخصّه بوظيفة مجازية تتولّى حفزهم على التفكير في أحوال العالم الذي يعيشون فيه، وبذلك أفرّق بين معرفة نظرية بأحوال السرد، وبين وعي بممارساته. نتج عن سيرورة الوعي بأحوال السرد عبر التاريخ أن تولّدت أنواع استوعبت تنوعات المادة السردية في سائر الأمم، وخلعت عليه هوياته في حقبة من الحقب الثقافية والتاريخية عند هذه الأمة أو تلك، ومنها ذلك السرد العربي، فتكون السردية العربية هي الوعي بأعراف السرد العربي كما تجلّى في سائر الأنواع القائمة، إمّا بفعل الحفاظ على أعراف النوع، وإمّا تلك التي تلاشتْ بتفكّك أعرافها.

إذًا، فقد أردتُ بـ"السردية" المدخل الذي يستعين به الباحث لاستخلاص الطبيعة السردية للنصوص الأدبية، وفيه تتولّى الممارسة النقدية استخلاص مجمل صفات السرد، وتعرّف بهويته الثقافية، في آن واحد، والغاية من ذلك هي سبك مفهوم لا ينفصل عن المادة السردية، فيخضعها لقواعد تجريدية جاهزة، ومن ثمّ يتعالى عليها، إنما يصدر عنها، ويتكيّف معها، فتحولاته مقيّدة بتحولاتها، فلا يجوز تجريد نموذج افتراضي عابر للزمان والمكان، واللغات والثقافات، والأجناس والأنواع، وإرغام المادة السردية الامتثال له؛ فذلك لاهوت سردي تأبى المادة السردية قبوله، وعلى ذلك، فالتماسك بين وظيفة "السردية" وهوية المادة التي تتولّى تحليلها ضروري كيلا تنفصم العُرى الرابطة في ما بينهما بذريعة الوظيفة العلمية للمفهوم؛ فالتراكب بين الوصف والتسمية ينشّط التحليل النقدي من جهة، ويراعي أعراف المادة السردية من جهة أخرى، ولا ينبع ثراء "السردية" من كمالها المزعوم، بل من نقصها المؤكّد، كون الظاهرة السرديّة في ترحال دائم، ولا سبيل لأسرها في حقبة تاريخيّة، أو لغة معيّنة.

ولم يكن الأمر هيّنا علي للوصول إلى ذلك التصوّر، فقد تبلور تصوري لمفهوم "السردية" بملامحه الأولى، إبان سيطرة ما أمسى يعرف بـ"السرديات الكلاسيكية" على المشهد النقدي في العالم، وبالأخص في الثقافة العربية، خلال الربع الأخير من القرن العشرين، ومعلوم بأن السرديات الكلاسيكية اقترنت بالدراسات البنيوية واللسانية في تظافر صريح لا يقبل الانفكاك، إلى أن أزاحتهما الدراسات الثقافيّة إلى الخلف؛ ونتج عن ذلك ظهور مداخل سرديّة جديدة حلّت محلّها كونها أغفلت جماليات النصوص، ووظائفها التمثيليّة، وشغلت باستخراج الأبنية المعياريّة فيها على غرار الدراسات اللغوية. أمّا المداخل الجديدة، فقد شملت طيفًا واسعًا من الموضوعات بدأت بالأدب، ومرّت بالتاريخ، وتجاوزت ذلك إلى الأديان، والأخلاق، والعمارة، والفنون البصريّة؛ وبذلك الإبدال انتقلت دراسة السرد من الحقبة الشكليّة إلى الحقبة التداوليّة. ولمّا كان الثبات قرين الأولى، فالتحوّل أضحى ركيزة الثانية. ولا إجحاف في القول إنّ هيكل السرديات الكلاسيكية قد أفرغ من محتواه الأدبيّ؛ لأنّ النصوص أبت قبول شروطه المعياريّة، فإذا به يُمسي طللًا باليًا، فيما أخذت السردية سيرورتها من هوية الظاهرة السرديّة.

وإلى ذلك، فقد أخذت في الحسبان في معظم مؤلّفاتي، مرونة تشكّل المادة السردية، وعدم ثبات النوع السردي على أشكال ثابتة، والتحول الدائم في الأشكال الكتابية، ورأيت أنه من المستبعد وجود قواعد لابثة في أعماق النصوص، وأنّ الكتابة تشغيل لها، كما افترضت السرديات الكلاسيكية، فذلك إفراط في المطابقة بين نموذج لغوي افتراضيّ، ونموذج سرديّ متخيّل. ومع ذلك، فتعميم النموذج الأول على أنشطة التعبير السردي، لا فائدة منه؛ لأنّه يُضيِّق واسعًا؛ فالهوية المجازيّة للقول السرديّ في حال مستمرّة من التغيير، وبإخضاعها لقواعد معياريّة تنحبس في إطار مغلق، ولا يتوافق السرد مع أيّ يقين.

وأجد أنه من شبه المتعذّر اقتراح منطق يضبط أفعال الشخصيات في سائر الأنواع السردية بفعل التغيير المتواصل في أنماط تلك الأفعال، ومن المحال ترويض الحبكات الناظمة لأحداثها بحكم التكاثر الذي لا نهاية له، زيادة على التنوّع المطّرد لصيغ السرد، وأساليبه، ووظائفه، مع الأخذ في الحسبان بأن الظاهرة السرديّة ليست مجرّد مجموعة من الأفعال يلزم تقنينها، إنما نسيج متلاحم من آلاف النصوص المتباينة في معانيها، ومبانيها، وأنواعها. السرد ظاهرة أدبية تاريخية اجتماعية، ولا يصح نزع سيرورة التاريخ عنه بأية ذريعة، أو نزعه عن تلك السيرورة. باصطناع لاهوت خاص به.

ولعلّي أكون قد استجمعت بعض أدواتي التحليليّة من مزيج من المؤثِّرات المنهجيّة الحديثة بعد أن أخضعتها لتفكير نقدي أعاد توظيف المفيد فيها في تحليل السرد العربي، ولكن رؤيتي للظاهرة السردية هي التي صاغت ملامح المنهج الذي انتهيت إليه في تحليل تلك الظاهرة؛ وعلى ذلك، يصحّ قول القائلين إنّني لم ألتزم إطارا نظريًّا قارًّا لأيّ من المناهج النقديّة الحديثة المستعارة من ثقافات أخرى، فليس من أهدافي استجلاب نظرية جاهزة، وإثبات فرضياتها على الأدب القومي، ولا الادعاء بصوغ نظرية عربية تقطّع أوصال النصوص، وتخفق في إعادة ربطها، بل اجتهدت في اقتراح ما رأيته نافعًا للسردية العربية في الوصف والتحليل والتأويل. واجتمعت تلك المحدّدات في معالجتي للسرد العربي القديم والحديث. ولم يخف عنّي أنّ "النزعة العلموية" في تحليل السرد العربي- هذا إن كانت موجودة فعلا- ضرب من إنكار لهوية المادة السردية التفاعلية، ومعاندة صريحة للسياق الثقافي المرن الحامل لها، والذي يغذّيها بكثير من سماتها وخصائصها.

سعيد أوعبو: تتعدّد زوايا النّظر إلى نشأة السّرد العربي والرّواية بشكل خاص، هل يكفي الانطلاق من البنية وتحليلها بشكل دقيق من أجل التّأصيل للرّواية العربيّة، أم إنّ هناك سياقات ثقافيّة أسهمت في بلورة السرد، وينبغي النّظر إليها بعمقٍ وإمعان؟

د. سعيد يقطين: إذا فهمنا السرد بالمعنى العام الذي يحمله، والذي يجمع كل الباحثين عليه، سنجد أن السرد حين نتعامل معه باعتباره جنسا، موجود دائما، وفي أي زمان ومكان، وهو يتضمن أنواعا متعددة، تختلف باختلاف اللغات والثقافات. كما أنها تظهر وتختفي حسب الشروط التي تحيط بها. عرف العرب الخبر، والحكاية، والقصة، والمقامة والسيرة وغيرها. لكن المقامة اختفت، وظهرت في العصر الحديث القصة القصيرة والرواية لظروف خاصة تتصل من جهة بالأثر الغربي، ومن جهة ثانية بتوفر شروط إنتاجها في الأقطار العربية بتفاوت فيما بينها. أما الحديث عن التأصيل، فيبدو لي غير ذي معنى. لقد ظهرت الرواية العربية، وتطورت، وصارت لها خصوصيتها وتاريخها. والذين يتحدثون عن "التأصيل"، أسارى مقولة "استيراد" هذا النوع عن الغرب؟ ويمكنهم تعميم هذه المقولة الخاطئة على كل ما تحقق في واقعنا بسبب التفاعل مع العالم الذي نعيش فيه؟ ظهرت الرواية في الغرب الحديث لظروف خاصة، ومتى توفرت مثل تلك الظروف في أي قطر، تبرز الرواية مستفيدة بما سبقها من إنتاجات، ومتفاعلة مع واقعها الخاص. وهذا ما جرى عالميا مع الرواية، ومع السينما، وغيرهما. فباتت بذلك الرواية نوعا سرديا عالميا. وما قلناه عن الرواية، نقوله عن دراستها. فتحليل البنية ضروري لفهم خصوصيتها، وما يتصل بالسياقات التي تتحقق فيها، يطور رؤيتها إلى جوانب تتصل بها في الزمان والمكان.

د. عبد الله إبراهيم: لنشأة السرد العربي الحديث تاريخ غامض لم يقع فكّ ألغازه بصورة نهائية إلى الآن؛ لغياب الدراسات الحفرية عن ثقافة القرن التاسع عشر التي شهدت انهيارات نسقية للأنواع السردية العربية القديمة، وبزوغ الأنواع السردية الجديدة، وعلى رأسها الرواية التي انبثقت من خضمّ تلك التحولات الكبرى. وقد شغلني ذلك طويلا، وخصصته بجزء كامل في "موسوعة السرد العربي"، هو الجزء الرابع منها، وتبين لي أنّ القول إن الرواية العربية، بوصفها لبّ ذلك السرد، صدى للرواية الأوروبية، كما أشاع ذلك الخطاب الاستعماري، أو إنها استئناف للمرويات السردية القديمة، كما أذاع ذلك الخطاب القومي، قول تنقصه الدقة، والموضوعيّة، ويجانبه الصواب، وبالقطع، لم يستوعب أحوال تلك الظاهرة من جوانبها كافة، وانتهيت إلى أنها إعادة تشكيل للرصيد السردي الذي تحلّل في القرن التاسع عشر بسبب انهيار الأنواع السردية القديمة، فظهر الشكل الروائي لاستيعاب مادة تفككت أنواعها الكبرى، ولم تعد منتظمة بأشكال، ولا حتى بأشكال ثانوية.

كان القرن التاسع عشر حقبة تفتّتت فيها أنظمة السرد العربي القديم، ولم يبق منه غير كتلة سردية هائلة لا أنواع لها، ولا أشكال، ما جعل التفكير باقتراح شكل سردي يستوعبها، ويعيد تنظيمها، أمر ضروري، فذلك شرط ثقافي وتاريخي من شروط انبثاق الأنواع الجديدة. كان الشكل بسيطا، في بداية الأمر، ولكنه ما لبث أن تقوّى في النصف الثاني من ذلك القرن، وأفرز عشرات من الروايات قبل الاطلاع على منجزات السرد الأوروبي الذي حمله الخطاب الاستعماري في فترة متأخرة. ليس في واردي قطع دابر التفاعل بين الآداب السردية، فذلك من المآثر العظيمة، وليس من المعايب الدنيئة، إنما قادني استقصاء المواد السردية العربية في القرن التاسع عشر إلى عدم اطلاع الكتاب العرب على الرواية الأوروبية إلا بعد عقود من ظهور الرواية العربية، حتى إنّ "المعرّبات" من اللغات الأوروبية، وخاصة الفرنسية والإنجليزية، قد تأثّرت، بالشكل والمحتوى، بالمرويات السردية العربية القديمة، وليس العكس. لائحة الأعمال السردية المكتوبة أو المعرّبة، خلال القرن التاسع عشر تكشف ذلك لكلّ باحث غايته الاستقصاء. لا يكاد الباحث يقع على نصّ معرّب حافظ على نوعه وشكله، وعلى شخصياته وأحداثه، وعلى خصوصياته السردية، خلال تلك الفترة، إنما التعريب هو نوع من التلخيص والتجميع، والحذف والإضافة، الذي أعاد صوغ الرواية الأوروبية كأنها فصول من المرويات السردية العربية القديمة. وليس نوعا شبه متكامل في أصوله، وظلّ ذلك شائعا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، وخلال ذلك كانت الرواية العربية قد ضربت جذرها في الأدب العربي. ولا أريد حسم أمر استعارة الأنواع السردية، واستنباتها، فالراجح أنها لا تُستزرع، إنما تنبت من السياق الثقافي الحاضن لها، ذلك ما يعرفه القاصي والداني في كثير من الأنواع الأدبية التي توجد عند هذه الأمة، ولا توجد عند تلك، كالملاحم، والمقامات، وغيرها.

سعيد أوعبو: المعلوم أنّ الإنتاج الأدبي لا يمكن فصله عمّا سبقه، ولا تستقيم القطيعة مع التّراث، ولعلّ السّيرورة تفرض ضبطا معيّنا لتّحولات الكتابة على الصّعيد الأجناسي، فما هي إذن حدود اشتغال الجنس والنّوع والنّمط؟ وهل للمفاهيم خصوصيّة عينيّة؟

د. سعيد يقطين: ظلت نظرية الأجناس الأدبية الأرسطية هي المهيمنة على تصورنا للأدب العربي وأجناسه. لم أكن مقتنعا بها لأني رأيت أن الإبداع الأدبي العربي عرف صيرورة مختلفة عن تلك التي عرفها الإبداع الغربي. ولذلك انطلقت من "الكلام" العربي للشروع في تحديد أقسامه، وأجناسه. ولقد قدمت في كتابي "الكلام والخبر" (1997) خطاطة عامة لأجناس الكلام العربي، ووضعت ضمنها "الخبر"، باعتباره نواة أي عمل سردي. وأرى أن كلمة "خبر" هي الترجمة الدقيقة التي يمكن أن تقابل كلمة (Récit) الفرنسية، و(Narrative) الإنجليزية. كما أنني فكرت في جعل "الخبريات" مقابلا لـ (Narratology)، ولكني عدلت عن ذلك كما بينت في الجواب السابق؛ لأن الخبر، مثله مثل الحكاية، والقصة، من الأنواع السردية. ورغم أن كلمة (Récitology) قد اقترحها بعضهم لتكون بديلا لـ (Narratology)، ولكنها لم تنتشر ربما للسبب نفسه الذي جعلني أقترح مصطلحا غير متصل بنوع محدد، واختيار مصطلح عام، وهو السرد. ففعل سرد مثله مثل حكى، وقص، وأخبر، وروى، ولكننا لا نجد في الإنتاج العربي نوعا محددا يتصل به، على عكس الأفعال الأخرى، حيث نجد: الحكاية، والقصة، والخبر، والرواية.

د. عبد الله إبراهيم: لا سرد من دون أحداث، على أنه لا يمكن أن تقتصر المتون السردية على الأحداث التي تنهض بها الشخصيات، فلا بد من أطر سردية ناظمة لها تخلع عليها وظيفة يتولى السرد تركيبها بالتخييل، وبذلك يتشكل جنس السرد، وتنبثق أنواعه الأساسية، فقوام السرد هو مجموع الأفعال التي تتولاها الشخصيات، والأحداث السردية مادة مصوغة صوغا متجانسا في غالب الأحيان، وتختلف في طبيعة تشكّلها بين عصر وآخر، وبين نوع سردي وآخر، وبين كاتب وكاتب، ويأتي الاختلاف بناء على طريقة سبك عناصر المادة السردية، فالصوغ هو الذي يعطي الأحداث السردية صورتها المتحقّقة في الكتابة.

واستقرت أبنية السرد العربي القديم حسب الأنواع والأغراض، ولم يقع التعريف بها كما ينبغي. أما السرد العربي الحديث، فيخوض مغامرة التجريب على مستوى الأشكال، والأبنية، ولكن لم تزل أنظمته في حالة تحوّل، وتطوّر، وتفاعل، وقد يفلح بعضها في تهجين نظام جديد من خلاصة نظم أخرى. والمعيار المعتمد في تصنيف أبنية المتون ضمن جنس السرد هو الزمان، وصور توالي الأحداث فيه من ناحية ترتيبها متعاقبة، أو متداخلة، أو متوازية، أو متكررة. ولست من القائلين إنّ المفاهيم هي التي تفتح دروبا للسرد، وتقترح أنواعا جديدة، إنما من القائلين إن المادة السردية هي التي تفرز المفاهيم بتعاقب الأزمان، وهي التي تبتكر الأنواع. وذلك، في تقديري، هو دأب السرد في كل زمان ومكان.

سعيد أوعبو: تختلف المداخل في قراءة الإنتاج الرّوائي بشكل خاص، فهل نظريّات الخطاب ذات جدوى في التّحليل والقراءة في ظلّ تجدّد الكتابة ونسقها وارتهانها بالتّحولات الاجتماعية والقلق الكوني المُنتَج عبر التّمثيل؟ أم إنّ هناك نظريّات بديلة في هذا الإطار قائمة على التّأويل والتّفاعل مع مختلف السّياقات الثّقافية؟

د. سعيد يقطين: عبرت مرارا عن كوني لا أتعصب لنظرية، أو منهج في قراءة الرواية. إني مقتنع بأن المواءمة المنهجية ضرورية في أي قراءة. والقراءة الملائمة في تقديري، تتطور بتطور النصوص الإبداعية، وشروط تحولها. فكما تتطور الكتابة الروائية استجابة لتطور المجتمع وقضاياه، تتطور القراءة بتطور المعارف والعلوم، والنظريات والمناهج. وفي هذا الصدد، أرى أن قيمة العمل الأدبي، عموما، والسردي خاصة، تكمن في جماليته. إني عندما أقرأ رواية أو قصة، أو مسرحية، أنطلق من كوني أتعامل مع نص إبداعي بالمعنى الذي يتضمن قسطا مركزيا من الجمالية، وأقول الشيء نفسه عن السينما، عندما أشاهد فيلما. أما الأفكار المتعلقة بالهوية، والصراع الثقافي، والمواقف الفكرية والسياسية وغيرها، فإني أبحث عنها في المؤلفات التي تقدم لي معرفة علمية عنها. هذا لا يعني أن السارد حين ينتج رواية، أو قصة، لا يعبر عن أفكاره، ومواقفه من الواقع والعالم الذي يعيش فيه. إن كل هذا حين لا يتقدم إلينا من خلال كتابة فنية جمالية فإنه يخرجه من دائرة الأدب أو الإبداع الأدبي. وإذا اختزلنا هذا في ثنائية اللفظ والمعنى، أرى أن المعنى الذي لا يقدم من خلال اللفظ الملائم، ليس معنى. لذلك أشدد، وأنا أشتغل بالسرد القديم والحديث، أن الذي يهمني بالدرجة الأولى هو طبيعته الفنية والجمالية. أما وظيفته وسياقاته المختلفة، فتأتي بالنسبة إلي في درجة ثانية. لذلك، فأنا أهتم بفهم النص، وتفسيره لا تأويله. إنني ضد التأويل؛ لأنه بحث عما نتصور أن النص يريد أن يقوله، إما في اتصال مع ما نؤمن به، أو انفصال عما نعتقده. إنني أقرأ الآن مسرحية راسين بغض النظر عن السياق الذي ظهرت فيه، ووقف عليه غولدمان ليؤكد لنا أنها تعبير عن رؤية للعالم لدى نبالة الرداء. كما أنني سأظل أقرأ المتنبي، وسأظل أستمتع بشعره، وأغوص في أعماق المعاني التي يولدها، وأتوقف عند قدرته على التعبير، ولا أهتم بالممدوح الذي كان ينافقه، أو يطمع في جائزته؟ ونفس الشيء عند قراءتي للمقامات، أو السيرة الشعبية. يمكن لعلوم عدة أن تدرس السرد، ولكل منها موضوعها، وطرائق تحليلها. في قراءتي السوسيو سردية للرواية العربية بعد الهزيمة، حللت الأبعاد الاجتماعية للنصوص في ضوء ما تقدم لي من خلال الشكل الذي كتبت به. وكنت حريصا على الملاءمة المنهجية في القراءة. ما أسهل التأويل لأن أي نص يقدم لنا أبدا ما يكفي من الاستشهادات التي يمكن أن نبني عليها ما نريد الوصول إليه، ونحن نبتغي تأويله لأغراض خاصة بنا؟ ولقد عبر القرآن الكريم عن ذلك أبلغ تعبير، وهو يرد على الذين يريدون الفتنة، باعتماد التأويلات الذاتية وغير البريئة.

د. عبد الله ابراهيم: فِي سياق صلتي بالظاهرة السردية القديمة والحديثة في الثقافة العربية، كنت، في أول أمري، قريبا من التحيّزات شبه الجاهزة في القراءة النقدية؛ أي التحيزات التي تكاد تحبس القارئ في ما تريد، وتدفع به للتعبير عمّا يوافق معاييرها، وليس ما يتطلّع إليه بإيماء من النصّوص الأدبية، فكان الإطار النظري للمنهج هو الذي يغريني إلى الذهاب إلى ما أقصد إليه، وكأن الغاية الأساسية هي الإخلاص لشروط المنهج أكثر من الوفاء لطبيعة النصوص. كانت تلك بداية وقع التفكير فيها طويلا بعد ذلك. ومع ذلك، فليس من الصواب القول بأنني أعرضت عن قيمة النصوص بذاتها، فقد كانت مقصدي، ومحطّ اهتمامي، ولكن في طريقي إليها كنت أشغل بالوسائل التي تمكّنني منها. وما كنت مغاليا في ذلك الانشغال، ولكن لا يجوز إنكار شيء من الإسراف في شؤون المنهج؛ فحداثة التجربة توقع الناقد في حبائل الفرضيات النظرية، وبها يظنّ أنه يحتمي من فوضى المناهج في مقاربة نصوص الأدب، والأكثر من ذلك، يريد أن يطرق دربا مهّده الآخرون له، فذلك أفضل له من السير في طريق غير ممهّد. كان المنهج دليلي، ولعلّي حسبت، وما زلتُ، أن اكتساب العدّة المنهجية هي الخطوة الأكثر أهمية في تجربة الناقد.

غير أنني عند نقطة التقاء خاتمة القرن العشرين بفاتحة القرن الحادي والعشرين عزفت عن تقديم الأطر المنهجيّة بوصفها شروطا تمهيديّة لكلّ قراءة، فما عادت نافعة لي، ولا مفيدة للنصوص الكثيرة التي اشتغل عليها، وقد توسّعت بها توسّعا مفرطا وغايتي الإلمام بالسردية العربية في أنواعها الشفوية والكتابية، وسياقاتها الثقافية والدينية، وهو موضعُ طلب مشروع "موسوعة السرد العربي" الذي شرعت به قبل ذلك الوقت بأكثر من عقد من الزمان. أضحت القراءة أكثر حرّية، وأجلّ مرونة، وفيها كثير من الشغف، والمتعة، فقيودها متوارية فيها، وليست ظاهرة على سطوحها. وقع شيء من الإبدال في منازل المناهج والنصوص، فانتزعت الأخيرة الحصة الأكبر من الاعتناء، حتى بدا أنني ما عدتُ مكترثا بالمناهج النظرية المغلقة.

وبعبارة جامعة، كنت في بداية أمري أُريد أن أرى دورًا لكلّ شيء أعمل به، بداية من الرؤية النقديّة، وصولًا إلى جهاز المفاهيم الذي استعين به، وانتهى الأمر إلى أن يكون ذلك مضمرًا في التحليل النقديّ، فلا يطفو على سطحه، إنما يجثم في أعماقه. فمن حيث لا يعلن عن نفسه يتولّى التصور المنهجي توجيه التحليلات إلى غاياتها كي لا تنفلت وتؤول إلى شروح وانطباعات، فالتأويل الذي خلصتُ إليه ما عاد قابلا الانحباس وراء الحدود الصارمة لكلّ من الوصف، والتحليل، إنما كان يروم الاستجابة لمقتضيات الظاهرة السردية، فيتهيّب من تخريبها بذريعة تفكيكها، وهدفه استقصاء سماتها، وبنياتها، ودلالاتها.

سعيد أوعبو: في عبارة أخيرة: كيف ترى مستقبل السرد العربي؟ أو ما هي الرهانات التي يستوجب الاشتغال عليها وفاءً لوظيفة الأدب وتحولاته على صعيدي الشكل والمضمون؟

د. سعيد يقطين: لا يمكن الحديث عن المستقبل إلا انطلاقا من الحاضر وما يمكن أن يتولد منه. وأرى أن الحاضر العربي يعيش متاهة وتشعبا وفوضى وتسيبا على المستويات كافة. والأفق الذي يمكننا التفكير فيه، لا يبدو واضحا. إنك هناك انسدادا للأفق على مستوى ما يمكن توقعه. في السبعينيات كنا رهيني أفق ومستقبل حلمنا به كثيرا، وقدمنا الكثير من أجل تحقيقه. وجاء الربيع العربي فتصورنا أننا أمام حقبة جديدة، فبدت الأمور على غير ما كنا نتوقع. تكرار الخيبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وانعكاساتها السلبية على الثقافة عامة، وعلى الإبداع السردي خصوصا. وفي غياب تفكير عميق حول ما يجري عربيا، وبحث أصيل على مستوى الفكر السياسي والاجتماعي العربي لا يمكن لإبداعنا السردي إلا أن يكون بلا بوصلة. إن البحث في التاريخ، والهوية، وكل القضايا التي يشتغل به الإبداع السرد العربي، والدراسات السردية، في رأيي، محاولات يائسة لملء الفراغ، وانتظار أي تحول يخرج المارد من القمقم. إنه بدون التفكير الجماعي في إبدال معرفي جديد يمكن أن يفتح آفاقا للعمل الفكري والسياسي والثقافي سيظل التشتت، والبحث، خارج سياق ما تفرضه علينا اللحظة الحالية.

لقد تطور العالم الذي نعيش فيه، وبدون تحرر رؤيتنا للعالم بمنأى عن أي تكرار أو اجترار لتجارب الغير لا يمكننا أن نتطور. إن السؤال الثقافي مطروح علينا بشكل ملح. ومن دون التفكير النقدي في هذا الإبدال المعرفي الجديد الذي يجيب عن أسئلتنا الخاصة القديم منها والحديث، وبكيفية جماعية، لا يمكننا إلا أن نظل ما نحن عليه منذ بداية الألفية الجديدة، ندور في دوامات بلا نهاية.

بالنسبة إلى السرد، نطرح الأسئلة التالية: لماذا نكتب سردا؟ كيف نكتبه بما يتلاءم مع واقعنا الجديد؟ ما هي القيم التي نريد إيصالها على القارئ؟ سؤال القيم أساسي. بدون القيم لا يمكننا أن نلتقي مع بعضنا البعض. وعلى الدراسات السردية أن تسعى إلى تعميم كيفية القراءة الملائمة التي تمكننا من تكوين معرفة جديدة بالكلمات والأشياء والظواهر، وتحررنا من التلقي السلبي الذي يؤدي إلى الاقتناع بالجاهز والمسبق والسائد. من دون التفكير النقدي المؤسس على المعرفة العلمية، سنظل مطمئنين إلى البسيط والسهل، ونبني أوهاما على أننا نتقدم.

د. عبد الله ابراهيم: أنفي عن نفسي قدرة التنبؤ، إنما الرصد والمعاينة، وبالنسبة لي، فالسرد وسيلة حبك لوقائع متناثرة، فلا يطلب منه أن يكُون شاهدًا على وقائع الحياة، وهو عاجز عن القيام بمهمّة لا تنسجم مع وظيفته التمثيليّة، ومجمل محتواه المتخيّل يربض في جوار تلك المنطقة بهوية مجازيّة خاصّة تأنف من الإقرار بوظيفة التوثيق، وتلك مهمة جليلة الشأن. وعلى خلاف ما شاع عن السرد، ففرادته تكمن في نفوره من تلك الوظيفة التوثيقية، أي في اصطناعه سياقًا متخيَّلًا بحبكة مقصودة تُدغم شذرات من وقائع الحياة في خطاب مجازيّ التكوين، فانغماس السرد بتمثيل الحياة يُعيد خلق خبراتها بما يستجيب لأعرافه، وليس لأعرافها.

وأحسب أن مستقبل السرد العربي سوف يرتهن بتلك الوظيفة التخييلية، غير أنني لاحظت نزوعا في السرد العربي، وحتى في سرود الأمم الأخرى، يتمثل في نزوعه إلى البحث، فما عادت وظيفة السرد اصطناع حكاية متخيلة، إنما البحث المجازي في قضايا شائكة لها صلة بالهوية وبالتاريخ وغير ذلك. أحسب أن السرد سوف يكون أداة بحث مجازي في شؤون العالم عاجلا أم آجلا. ولا أجد ضربا من ضروب الكتابة الحديثة قد تورّط في مشكلات العالم المعاصر كما تورط بها السرد.






[1] عبد الله إبراهيم: ناقد وأستاذ جامعي من العراق، نال درجة الدكتوراه من جامعة بغداد عام1991.حاصل على جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب عام 2014، وعلى جائزة الشيخ زايد في الدراسات النقديّة عام2013 وعلى جائزة «شومان» للعلماء العرب لعام 1997. باحث مشارك في الموسوعة العالمية (Cambridge History of Arabic Literature)، من مؤلّفاته: التفكيك (الأصول والمقولات)، 1990/ المتخيّل السردي، 1990/ السردية العربية (بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي)، 1992/ المركزية الغربية، 1997/ الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، 1999/ التلقي والسياقات الثقافية، 2000/ المركزية الإسلامية (صورة الآخر في المخيال الإسلامي)، 2001/ عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين (مجلدان)، 2001/ السردية العربية الحديثة (مجلدان)، 2003/ المطابقة والاختلاف، 2005/ الرواية العربية (الأبنية السردية والدلالية)، 2007/عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين، 2007/ السرد النسوي (الثقافة الأبوية، الهوية الأنثوية، والجسد)، 2011/ السرد، والاعتراف، والهوية، 2011/ التخيّل التاريخي (السرد، والإمبراطوريّة، والتجربة الاستعماريّة)، 2011/ المحاورات السردية، 2012/ كتابة المنفى، 2012/ السرد والترجمة، 2012/ موسوعة السرد العربي (9 أجزاء) 2016/ المطابقة والاختلاف (3 أجزاء)، 2017/ عين الشمس (ثنائية الإبصار والعمى من هوميروس إلى بورخيس)، 2018/ أعراف الكتابة السردية، 2019/ الأرشيف السردي (الأحلام، العنف، السخرية)، 2019/ موسوعة السرد العربي (سيرة كتاب)، 2021/ الحكاية الخرافية (ألف ليلة وليلة تحت مجهر السرد)، 2022/ كتاب الأسفار، 2022.

[2] سعيد يقطين: ناقد وأستاذ جامعي من المغرب، نال درجة دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة محمد الخامس بالرباط. حاصل على جائزة المغرب الكبرى للكتاب سنة 1989 و1997، وجائزة عبد الحميد «شومان» للعلماء العرب لعام 1992، وجائزة اتحاد كتاب الإنترنيت العرب عام 2008، وجائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية عام 2016، وجائزة كتارا للرواية العربية عام 2022. من مؤلفاته: التجريب في الخطاب الروائي الجديد في المغرب، 1985/ تحليل الخطاب الروائي (الزمن، السرد، التبئير)، 1989/ انفتاح النص الروائي (النص والسياق)، 1989/ الرواية والتراث السردي (من أجل وعي جديد بالتراث)، 1992/ ذخيرة العجائب العربية (سيف بن ذي يزن) 1994/ الكلام والخبر (مقدمة للسرد العربي)، 1997/ قال الراوي (البنيات الحكائية في السيرة الشعبية)، 1997/ الأدب والمؤسسة (نحو ممارسة أدبية جديدة)، 2000/ الفكر الأدبي العربي (البنيات والأنساق)، 2015/ من النص إلى النص المترابط، 2005/ النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، 2012/ السرديات والتحليل السردي (الشكل والدلالة) 2012/ اللغة، الثقافة، المعرفة (إشكالات ورهانات)، 2019/ معجم المشكلات الثقافية، 2018/ الفتنة القائمة (عشر سنوات على ربيع عربي)، 2021/ السرد العربي (أنواع وأنماط)، 2022/ عتبات السرديات ومناصّاتها (مقدمات وحوارات)، 2022.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
المناظرات والمحاورات
المشاهدات
601
آخر تحديث
أعلى