الشعر أسبق ظهوراً من النثر في عالم الفن الذي يحتفي صاحبه بإنشائه وتنميقه، ويتعمد إيداعه شعوره وأفكاره على نحو جميل يراد له السيرورة والبقاء. فالشعر يظهر ويرتقي والأمة ما تزال متبدية قليلة الحظ من الثقافة وأسباب العمران، أما النثر الفني فلا تدعو الحاجة إليه ولا تتم وسائله إلا في أمة متحضرة مستقرة واسعة الثقافة منتشرة فيها الكتابة الخطية، فالكتابة الخطية تتيح للكاتب أن يتوفر على إنشاء النثر المنمق، الذي يحوي تعميقاً في التأمل واتصالا في المجهود الأدبي وتدبيجاً للفظ، وتتيح أيضاً للنثر الفني أن يبقى ويذيع. أما الشعر فهو غني بموسيقاه ورويه عن تقيد الطروس، وهو أهل للنهوض بحاجة الأمة المتبدية، من التعبير عن عواطفها وأفكارها البسيطة؛ ومن ثم ارتقى الشعر الإغريقي كما يتمثل في ملاحم هوميروس رقياً عظيما، والأمة ما تزال إلى البداوة أقرب، وتطور حتى تفرع منه فن جديد هو فن التمثيل، كل ذلك قبل أن تتوطد قواعد النثر اليوناني، وقبل أن يبلغ مبالغه على أيدي هيرودوت وتيوسيد وأفلاطون.
وكلا الشعر والنثر مدينان في ظهورهما ورقيهما - كسائر الفنون - للدين والدولة بفضل عظيم: ينشأ الشعر مختلطا بالموسيقى مصاحبا للرقص في الحفلات الدينية، التي تحفلها الجماعات الأولى في مواسم آلهتها، وينفصل عن الموسيقى والرقص ويخرج من حظيرة الدين إلى حظيرة الدولة، فيمدح الملوك ويزين قصورهم كما كان يفعل الشعر الإغريقي في عصر الطغاة، وعلى أيدي الكهنة يتألف أول ما تعرف الأمة من مبادئ النثر الفني، من نبؤات مسجوعة وحكم وعقائد مدونة أو شفاهية وقصص عن الملوك والآلهة، ثم ينحاز الكتاب الناثرون كما انحاز الشعراء إلى بلاطات الملوك ودواوينهم، يزجون بضائعهم وينزلون آمالهم؛ ثم يستقل الشعر والنثر عن حظيرتي الديانة والدولة قليلا قليلا، بشيوع الرقي العقلي وانتشار الثقافة وتميز شخصية الفرد عن شخصية الجماعة، فيصبح كل منه فناً غايته التعبير الجميل عن شعور الإنسان بالحياة، وعلى قدر تحرر كل منهما من العلاقة بالكهان وبالحكام، وتخلصه من الغرض المادي يكون رقيه الفني وصدقه في أداء رسالة الحياة.
فبانتشار الحضارة والثقافة يرتقي الشعر عما كان عليه في عهد البداوة، ويظهر بجانبه النثر فناً ثانياً مترجماً بالألفاظ عن شعور الإنسان وتفكيره، منافساً له في كثير من مواضعه ومعانيه. فيتقاسمان النهوض بمهمة الأدب، ويظهر من الأدباء من يجمعون بين الفنين، يبرزون في كليهما أو يشتهرون بأحدهما فوق اشتهارهم بالثاني. ويشارك النثر الفني الشعر في كثير من خصائصه، أي خصائص الفنون جميعاً، كالموسيقية، والخيال، والتقابل، والتماثل، والتجاوب؛ بيد أنه وإن تشارك الفنان في شتى الخصائص والموضوعات، فما يزالان متميزين في خصائص، مستقلا كل منهما دون الآخر بموضوعات هي به أشبه وهو على تأديتها أقدر. فللشعر قصب السبق فيما هو أدخل في باب الخيال والعاطفة والشمول والغموض أحياناً، وللنثر ما هو أقرب إلى التفكير والمنطق والدقة والترتيب والاستقصاء، ومن ثم يلجأ الشاعر الناثر إلى الشعر طوراً وإلى النثر تارة
فالشعر والنثر كلاهما قادران على تأديته أغراض الوصف والحكمة والعتاب والاعتذار والفكاهة؛ وربما رق النثر في كل ذلك وتشبع بالخيال حتى صار أشبه بالشعر، لا يميزه عنه سوى انعدام الوزن وإن ساواه في الموسيقية؛ أما الحماسة والنسيب مثلا فالشعر أمهد لهما سبلا وأرحب مجالا، إلا أن يجيء النثر الحماسي خطابة فيكون له من رهبة الموقف وتعبير سيماء الخطيب وهيبة محضره عوض عما يمتاز به الشعر من خيال وروعة واستجاشة للعواطف، ومن ثم كانت الخطابة من أشبه فنون النثر بالشعر؛ وأما في سرد الوقائع التاريخية أو القصص الفردية، أو تقرير الحقائق العلمية والأدبية، فالنثر أرحب بكل ذلك صدراً وأطول باعاً. ومن ثم كان نقد الشعر والأدب عامة وتسديد خطى الأدباء وإظهار محاسن الشعراء من أهم وظائف النثر التي يضطلع بها إذا ما توطد وساير الشعر جنباً لجنب
وقصارى القول أن موضوعات الشعر والنثر يتباعد طرفاها، ويلتقي الطرفان الآخران حتى يختلطا؛ وإن الروح الشعري قد يكون في النثر الجيد كما قد ينعدم من النظم الرديء؛ ولما كان الشعر والنثر يعبران مشتركين عن شتى خوالج النفس الإنسانية، فمن الطبيعي أن يرتقيا معاً في عصور الرقي الإنساني وينحطا معاً في عصور الانحطاط. بيد أنه يلاحظ بجانب ذلك أن أحدهما ربما ارتقى وفاز باحتفاء الأدباء والثاني في انخذال وقعود، تبعاً لما تميل إليه نزعة الشعب في عصر من عصوره، فكما يختلف الفرد الواحد بين نزعة الخيال والعاطفة والخفة أحياناً، وبين نزعة التأمل الوقور والاستقصاء الهادئ للحقائق أحياناً حسب اختلاف أطوار النفس الإنسانية الخفية الأغوار المنقلبة الأطوار، كذلك تمر الأمم بعصور طموح ومغامرة يزدهر فيها الشعر والنثر الشعري، وبعصور هدوء وركود، وتأمل علمي وفلسفي، يغزر فيها النثر ويلعب دوراً كبيراً ويخفت صوت الشعر
فإذا نحن رسمنا لأطوار الشعر والنثر دورة، كتلك التي رسمها أرسطو لنظم الحكم في المدن اليونانية، بين ملكية وارستقراطيه وهلم جراً، كان أول أطوار تلك الدورة طورا شعرياً طويلا، يبلغ ذروته بنهضة الأمة بين الأمم، ونيلها نصيباً وافراً من الحضارة والثقافة، يلي ذلك طور نثري يشتغل فيه النثر بنقد ما تجمع لديه من آثار الشعراء المتقدمين، وينخذل الشعر في أثنائه أو عقبه مباشرة؛ فإذا ما انبثت في الأمة روح جديدة جاء طور شعري جديد سابق أيضاً، يليه طور نثري وهلم جراً. ولعل في تاريخ الأدب الفرنسي مثالا لذلك واضحاً: إذ سبق الشعر الفرنسي بالظهور على أيدي التروبادور ورونسار، ثم نهض النثر على أيدي رابليه ومونتين في عهد النهضة الأوربية، ثم نهض الشعر مرة أخرى في عهد لويس الرابع عشر على أيدي كورني وراسين، ثم كان القرن الثامن عشر عهد نثر طويلا ظهر فيه فلتير وروسو، ثم كانت النهضة الرومانسية الشعرية فظهر لامرتين وهوجو، ثم نهض النثر بانتشار الحركة العلمية وذيوع القصة، وظهور القصاصون كبلزاك وموباسان، والنقاد كرينان وتين
يتشارك النثر والشعر - منذ ظهور النثر الفني - في تأدية رسالة الأدب ويتشابكان موضوعات وغايات، ويتراوحان صعوداً وهبوطا مع تعاقب العصور، ويظهر النوابغ في كل منهما، وينال هؤلاء وأولئك حب المثقفين وإعجابهم؛ بيد أن الشعر يظل آثر لدى المثقفين وأكثر استئثاراً بحفظهم وساتشهادهم، ويظل الشعراء أحظى بالرعاية والاهتمام، وآثارهم أحظى بالدرس والنقد. وإلى الشعر والشعراء ينصرف الذهن أول ما ينصرف إذا تحدثنا عن الأدب أو فكرنا في الأدباء، أو أردنا الموازنة والاستشهاد أو التدليل على صحة نظرية. وبأسماء فحول الشعراء تسمى عصور الأدب المتتابعة في تاريخ الأدب الإنجليزي، كل ذلك لما يمتاز به الشعر من تضمين المعنى الشامل اللفظ الموجز، والنظرة النافذة القول الرصين، وما يتوفر عليه من شرح العواطف والذكريات، والآمال والأشجان والإطراب، ومازال الإنسان أكثر انجذاباً إلى العاطفة منه إلى الفكر، وهو من ثم يؤشر الشعر على النثر.
نشأ الشعر العربي وارتقى في البادية، سابقاً للنثر، إذ بلغ ما بلغه من الرقي على أيدي أصحاب المعلقات وأضرابهم، والنثر لا يتعدى بعد الخطب القصار والحكم المنثورة والأسجاع المأثورة والوصايا المتفرقة. نعم كان للقبائل خطباء كما كان لها شعراء. ولكن العرب كانوا بالشعر أولع حتى عدوه معرض مفاخرهم، وقالوا: (الشعر ديوان العرب)، ولم يقولوا: (الأدب) ولا (الخطابة). ولم تذع كلمة النثر حتى تحضروا وتثقفوا وانتشرت بينهم الكتب. وكان الشعر والنثر معا في بدء أمرهما مختلطين بالدين والدولة، فشاعر القبيلة كان وزير دعايتها بتعبير العصر الحاضر، والشعر والسحر والكهانة والعرافة والتنبؤ والسجع كانت معاني وألفاظا متلاحمة الوشائج. وقد كان للدين بين العرب من أقدم عصورهم مكان، وأخرجت جزيرتهم عدداً من الأنبياء عديداً، وكان الشعر إلى ظهور الإسلام ينشد في المواسم الدينية، وتخاطب به الآلهة، من ذلك قول بعض اليمانيين في طوافهم:
عك إليك عانية ... عبادك اليمانية
ولم يفصم الشعر والنثر العربيان يوما علاقتهما بالدين والدولة، بل ظلا طول عصورهما على اتصال بهما متين؛ بل بفضل الدين احتوى النثر العربي على أثر فني لا يجاري بلاغة، بل هو نموذج البلاغة الذي ظل يحتذى ويدرس ويقتبس في النثر والشعر معا طول العصور، وهو القرآن الكريم، وبقيام الملك على أساس ديني اتصلت علاقة الأدب بكلا الملك والدين، وظل الشعر يتقرب إلى الحكام بالمدح، والنثر يعمل في دواوينهم، ولم يخرج الأدب العربي خروجا تاما من طور خدمة الملوك، إلى الطور الفني الخالص المنزه عن كل غرض خارجي أو مطلب مادي، وإنما ظل الشعراء والكتاب يعتمدون على رعاية الأمراء، ويسخرون فنهم لخدمتهم وتوالت أطوار الشعر والنثر في تاريخ الأدب العربي: فسبق الشعر في الجاهلية، وحل محله النثر في صدر الإسلام متمثلا في الكتاب الكريم وخطب الرسول وخلفائه وكتبهم وكتب عمالهم، واستعاد الشعر مكانته في عهد الأمويين على ألسنة جرير والفرزدق والأخطل وجميل وكثير وابن أبي ربيعة وأضرابهم؟ وعند ذلك كان العرب قد تشربوا الحضارة والثقافة، فظهر النثر الفني على أقلام عبد الحميد وابن المقفع والجاحظ والبديع؛ وبلغ الشعر في الوقت نفسه أوجه على أيدي معاصري هؤلاء من الشعراء، كبشار وأبي نواس والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي والمعري، ثم أفل نجم الشعر بدءا من القرن الخامس وأفسده التعمل، وأعوزته روح الطموح والمغامرة التي غاضت من نفوس الأمة التي أرهقها المتسلطون، وبقيت للنثر بقية من قوة مستمدة من نضج الثقافة الإسلامية، فكان العصر التالي طور نثر طويلا أنجب من النقاد والمؤرخين والكتب أضراب ابن خلكان والنويري والقلقشندي وابن رشيق وابن خلدون، ممن كان هم أكثرهم جمع الآثار الأدبية والتاريخية المتخلفة من العصور السالفة، وتنظيمها والتعليق عليها. ثم لحق الوهن والإسفاف النثر كما لحق الشعر. فلما كانت النهضة الحديثة، كان الشعر أسبق إلى النهوض والحياة والتخلص من شوائب الصنعة والتقليد، فالشعر أسبق من النثر إلى الازدهار وأسبق منه إلى الذبول.
كان الشعر أسبق إلى الظهور والرقي في الجاهلية، وكان العرب يعدونه ديوانهم، وكانت له لديهم مكانة عظيمة، وقد ظلت له هذه المكانة على توالي العصور، على رغم ظهور النثر الفني ورقيه وحصول الكتاب دون الشعراء على المراتب السامية كالوزارة؛ وظل الشعر أعلق بالنفوس وآثر بالحفظ والذكر، ولم يسايره في الحفظ والسيرورة من آثار النثر إلا القرآن الكريم، وهو مملوء بالروح الشعري حافل بالتشبيهات والمجازات البليغة. ولما ارتقى النثر الفني راح يتتبع خطى الشعر: يقتبس أبياته ويضمن شطراته، ويتناول موضوعاته، ويحاكي موسيقاه ووزنه، فاصطنع السجع والازدواج والجناس، وأصبح السجع في النهاية للنثر لازماً لزوم القافية للشعر. والحق أن الأدب العربي بفنيه الشعر والنثر اتسم دائما بالاحتفاء باللفظ وجرسه وتنميقه، والأسلوب وتقسيمه وتدببجه، وقد ظل ذلك مستساغا مقبولاً حينا ثم أفرط وسمج. وظل الشعر العربي شديد الحرص على فخامة الموسيقى ووضوحها واطرادها بلا إخلال، كالإخلال الذي يكثر في الشعر الإنجليزي ويلجأ إليه شعراء الإنجليزية قصداً للتنويع واجتناب الاطراد الممل، وظلت القافية في الشعر العربي كذلك واضحة جزلة مكونة في الواقع من قافيتين صوتيتين، كما في (عانيه) و (مانيه) في البيت السالف الذكر، وهذا ما يعرف في الإنجليزية بالقافية المؤنثة، وقد دخلت الإنجليزية نقلا عن الإيطالية ولكن الشعراء سرعان ما نبذوها، لعدم ملاءمتها لطبيعة اللغة الإنجليزية التي تمج الإفراط في الموسيقية نثراً أو نظما.
ولما ظهر النثر الفني بجوار الشعر، ونبغ فيه الكتاب واحترفوا إنشاء الرسائل الديوانية، وحرصوا على التزود بكل أسباب الثقافة، والتحلي بكل موجبات الفضل، عالج أكثرهم الشعر طبعا أو تكلفا، فأثرت عن الحسن بن وهب وابن الزيات وابن الصولي وسعيد بن حميد وابن العميد وابن عباد والخوارزمي والبديع والجرجاني والعسكري، أشعار قالها بعضهم تظرفا ورياضة للقريحة، وقالها بعضهم جادين في التعبير عن خوالج صميمة وآراء صادقة. وقد قيل إن الجاحظ عالج قرض الشعر طويلا ثم أقلع حين لم يفلح. وكان البديع والحريري يخالفان في مقاماتهما بين شعر ونثر لا يكاد يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعروض، وفيما عدا ذلك يتساويان تنميق لفظ وبلاغة إنشاء، ومن أجمل أشعار الكتاب قول الجرجاني من أبيات هي من غرر الشعر العربي: -
يقولون لي: فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
إذا قيل: هذا مشرب قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وقد كانت المقابلة والمفاضلة بين الشعر والنثر من هم نقاد العربية وكان أكثرهم يميل مع الشعر؛ على أنها مفاضلة لا موضوع لها: فليس الشعر خيراً من النثر ولا النثر خيرا من الشعر، وإنما كلاهما ضروريان وكل منهما جميل في موضعه، زد على ذلك أن أولئك النقاد كانوا يدخلون في حسابهم اعتبارات خارجية لا صلة لها بالفن الصميم، بل هي شؤون اجتماعية أو سياسية أو فردية صاحبت الأدب في بعض العصور، فأصحاب الشعر يستدلون على أفضليته بأن الشاعر يخاطب الأمير باسمه مجرداً وباسم أمه وبصيغة المفرد، وبأن الشعر رفع قبائل كأنف الناقة ووضع أخرى كنمير، وبأن الكذب ومدح النفس يقبلان فيه ولا يستساغان نثراً؛ وأصحاب النثر يؤيدون حجتهم بأن الرسول الكريم لم يقرض الشعر، وأن الشعراء يخدمون الكتاب ويأخذون هباتهم. وأن الكاتب يجلس والشاعر ينشد وهو قائم وهلم جرا.
نشأ الشعر والنثر الإنجليزيان كذلك على صلة بالدين والدولة، وكان مزاولوهما الأوائل أمثال تشوسر وسبنسر وهوكر من رجال السياسة والدين والحرب، أو كانوا على اتصال بالساسة والمحاربين وعلماء الدين. ومن الكنيسة خرج فن التمثيل ذو الصلة الوثيقة بالأدب، فكان قوامه الشعر أولا على عهد شكسبير؛ ثم إنجاز تدريجاً إلى النثر؛ وكان للإنجيل أثر بليغ في اللغة الإنجليزية؛ غير أن الشعر والنثر ما لبثا بعد ذلك أن انسلخا تدريجاً عن الملك والكنيسة والأحزاب والأعيان، واعتمد كلاهما مكان أولئك جميعاً على الجمهور القارئ، ودخلا في طور الفنون الخالصة التي لا غاية لها سوى وصف مشاعر الإنسان وشعوره بجمال الحياة وغبطاتها، وهو الطور الذي لم يبلغه الشعر والنثر العربيان تماماً، بل قام من الأدباء الإنجليزي من ناصبوا الملكية والكنيسة، مثل شلي وبيرون
وكان الشعر الإنجليزي أسبق إلى الازدهار من النثر: فبلغ أوجه في عهد اليزابث في آثار شكسبير ومعاصريه، وتجلت الروح الشعرية حتى في النثر القليل الذي خلفه ذلك العصر الحافل بروح الإقدام، فهوكر مثلا وهو يدرس مسائل دينية يعرج فيصف الموسيقى وصفاً شعرياً زائفاً؛ وتلا ذلك طور نثري طويل في القرن الثامن عشر، بلغ فيه النثر الغاية من السلاسة ورحب الجوانب، ثم كانت هبة قومية جديدة فنهض الشعر في العهد الرومانسي نهضة باهرة، وكان كثير من شعرائها كتابا حذاقا أيضاً تفيض كتاباتهم النثرية بما تفيض به أشعارهم من روح رومانسية؛ ثم ارتقى النثر في أعقاب ذلك مرة أخرى، فظهر من النقاد ماكولي وارنولد، ومن القصصيين ثكري ودكنز، ومازالت القصة في ازدهار مطرد
وبلغ النثر الإنجليزي من الرقي الشكلي والموضوعي ما لم يبلغه النثر العربي: فظهرت فيه المقالة والصورة والترجمة والتأريخ والقصة الفنية. وبهذا كله تهيأ له أن يزاحم الشعر على مكانته، لاسيما بفضل القصة والرواية التمثيلية، بل هو انتزع الرواية التمثيلية من الشعر واستأثر بها. والقصة اليوم تستقل بأسماء أعلام الأدب الإنجليزي، وقد مارسها أكبر شاعرين محدثين: كبلنج وهاردي، بل كانت ممارسة النثر بجانب الشعر دائما من أدب شعراء الإنجليزية، يبسطون فيه آراءهم في النقد الأدبي والأحوال الاجتماعية. فكان دريدن وكارلي وبوب الشعراء مثلا من أوائل من كتبوا المقالات، أما كبار شعراء العربية فقلما روي لهم نثر مطنب
على أن الشعر الإنجليزي وإن زاخمه النثر في العصر الحديث هذه المزاحمة. واستأثر دونه بأكثر احتفال الأدباء والقراء، لم يفقد موضعه الأثير من نفوس المثقفين، وإنما هو يجتاز مثل عصر الركود الذي شهده في القرن الثامن عشر، إذ أن النثر والشعر كما تقدم يتجاذبان النفس الإنسانية على اختلاف العصور، بيد أن الناس حتى في مثل هذا الطور لا ينزعون عن حبهم للشعر. بل يلتفتون إلى الماضي يروون صداهم من عبابه الزاخر، ولا تزال لشكسبير وملتون ووردزورث وشلي منازل في قلوب قراء الإنجليزية، كمنازل ابن الرومي والمتنبي والمعري في قلوب قرائهم، لا يحتل مثلها الكتاب الناثرون في كلا الأدبين
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 196
بتاريخ: 05 - 04 - 1937
وكلا الشعر والنثر مدينان في ظهورهما ورقيهما - كسائر الفنون - للدين والدولة بفضل عظيم: ينشأ الشعر مختلطا بالموسيقى مصاحبا للرقص في الحفلات الدينية، التي تحفلها الجماعات الأولى في مواسم آلهتها، وينفصل عن الموسيقى والرقص ويخرج من حظيرة الدين إلى حظيرة الدولة، فيمدح الملوك ويزين قصورهم كما كان يفعل الشعر الإغريقي في عصر الطغاة، وعلى أيدي الكهنة يتألف أول ما تعرف الأمة من مبادئ النثر الفني، من نبؤات مسجوعة وحكم وعقائد مدونة أو شفاهية وقصص عن الملوك والآلهة، ثم ينحاز الكتاب الناثرون كما انحاز الشعراء إلى بلاطات الملوك ودواوينهم، يزجون بضائعهم وينزلون آمالهم؛ ثم يستقل الشعر والنثر عن حظيرتي الديانة والدولة قليلا قليلا، بشيوع الرقي العقلي وانتشار الثقافة وتميز شخصية الفرد عن شخصية الجماعة، فيصبح كل منه فناً غايته التعبير الجميل عن شعور الإنسان بالحياة، وعلى قدر تحرر كل منهما من العلاقة بالكهان وبالحكام، وتخلصه من الغرض المادي يكون رقيه الفني وصدقه في أداء رسالة الحياة.
فبانتشار الحضارة والثقافة يرتقي الشعر عما كان عليه في عهد البداوة، ويظهر بجانبه النثر فناً ثانياً مترجماً بالألفاظ عن شعور الإنسان وتفكيره، منافساً له في كثير من مواضعه ومعانيه. فيتقاسمان النهوض بمهمة الأدب، ويظهر من الأدباء من يجمعون بين الفنين، يبرزون في كليهما أو يشتهرون بأحدهما فوق اشتهارهم بالثاني. ويشارك النثر الفني الشعر في كثير من خصائصه، أي خصائص الفنون جميعاً، كالموسيقية، والخيال، والتقابل، والتماثل، والتجاوب؛ بيد أنه وإن تشارك الفنان في شتى الخصائص والموضوعات، فما يزالان متميزين في خصائص، مستقلا كل منهما دون الآخر بموضوعات هي به أشبه وهو على تأديتها أقدر. فللشعر قصب السبق فيما هو أدخل في باب الخيال والعاطفة والشمول والغموض أحياناً، وللنثر ما هو أقرب إلى التفكير والمنطق والدقة والترتيب والاستقصاء، ومن ثم يلجأ الشاعر الناثر إلى الشعر طوراً وإلى النثر تارة
فالشعر والنثر كلاهما قادران على تأديته أغراض الوصف والحكمة والعتاب والاعتذار والفكاهة؛ وربما رق النثر في كل ذلك وتشبع بالخيال حتى صار أشبه بالشعر، لا يميزه عنه سوى انعدام الوزن وإن ساواه في الموسيقية؛ أما الحماسة والنسيب مثلا فالشعر أمهد لهما سبلا وأرحب مجالا، إلا أن يجيء النثر الحماسي خطابة فيكون له من رهبة الموقف وتعبير سيماء الخطيب وهيبة محضره عوض عما يمتاز به الشعر من خيال وروعة واستجاشة للعواطف، ومن ثم كانت الخطابة من أشبه فنون النثر بالشعر؛ وأما في سرد الوقائع التاريخية أو القصص الفردية، أو تقرير الحقائق العلمية والأدبية، فالنثر أرحب بكل ذلك صدراً وأطول باعاً. ومن ثم كان نقد الشعر والأدب عامة وتسديد خطى الأدباء وإظهار محاسن الشعراء من أهم وظائف النثر التي يضطلع بها إذا ما توطد وساير الشعر جنباً لجنب
وقصارى القول أن موضوعات الشعر والنثر يتباعد طرفاها، ويلتقي الطرفان الآخران حتى يختلطا؛ وإن الروح الشعري قد يكون في النثر الجيد كما قد ينعدم من النظم الرديء؛ ولما كان الشعر والنثر يعبران مشتركين عن شتى خوالج النفس الإنسانية، فمن الطبيعي أن يرتقيا معاً في عصور الرقي الإنساني وينحطا معاً في عصور الانحطاط. بيد أنه يلاحظ بجانب ذلك أن أحدهما ربما ارتقى وفاز باحتفاء الأدباء والثاني في انخذال وقعود، تبعاً لما تميل إليه نزعة الشعب في عصر من عصوره، فكما يختلف الفرد الواحد بين نزعة الخيال والعاطفة والخفة أحياناً، وبين نزعة التأمل الوقور والاستقصاء الهادئ للحقائق أحياناً حسب اختلاف أطوار النفس الإنسانية الخفية الأغوار المنقلبة الأطوار، كذلك تمر الأمم بعصور طموح ومغامرة يزدهر فيها الشعر والنثر الشعري، وبعصور هدوء وركود، وتأمل علمي وفلسفي، يغزر فيها النثر ويلعب دوراً كبيراً ويخفت صوت الشعر
فإذا نحن رسمنا لأطوار الشعر والنثر دورة، كتلك التي رسمها أرسطو لنظم الحكم في المدن اليونانية، بين ملكية وارستقراطيه وهلم جراً، كان أول أطوار تلك الدورة طورا شعرياً طويلا، يبلغ ذروته بنهضة الأمة بين الأمم، ونيلها نصيباً وافراً من الحضارة والثقافة، يلي ذلك طور نثري يشتغل فيه النثر بنقد ما تجمع لديه من آثار الشعراء المتقدمين، وينخذل الشعر في أثنائه أو عقبه مباشرة؛ فإذا ما انبثت في الأمة روح جديدة جاء طور شعري جديد سابق أيضاً، يليه طور نثري وهلم جراً. ولعل في تاريخ الأدب الفرنسي مثالا لذلك واضحاً: إذ سبق الشعر الفرنسي بالظهور على أيدي التروبادور ورونسار، ثم نهض النثر على أيدي رابليه ومونتين في عهد النهضة الأوربية، ثم نهض الشعر مرة أخرى في عهد لويس الرابع عشر على أيدي كورني وراسين، ثم كان القرن الثامن عشر عهد نثر طويلا ظهر فيه فلتير وروسو، ثم كانت النهضة الرومانسية الشعرية فظهر لامرتين وهوجو، ثم نهض النثر بانتشار الحركة العلمية وذيوع القصة، وظهور القصاصون كبلزاك وموباسان، والنقاد كرينان وتين
يتشارك النثر والشعر - منذ ظهور النثر الفني - في تأدية رسالة الأدب ويتشابكان موضوعات وغايات، ويتراوحان صعوداً وهبوطا مع تعاقب العصور، ويظهر النوابغ في كل منهما، وينال هؤلاء وأولئك حب المثقفين وإعجابهم؛ بيد أن الشعر يظل آثر لدى المثقفين وأكثر استئثاراً بحفظهم وساتشهادهم، ويظل الشعراء أحظى بالرعاية والاهتمام، وآثارهم أحظى بالدرس والنقد. وإلى الشعر والشعراء ينصرف الذهن أول ما ينصرف إذا تحدثنا عن الأدب أو فكرنا في الأدباء، أو أردنا الموازنة والاستشهاد أو التدليل على صحة نظرية. وبأسماء فحول الشعراء تسمى عصور الأدب المتتابعة في تاريخ الأدب الإنجليزي، كل ذلك لما يمتاز به الشعر من تضمين المعنى الشامل اللفظ الموجز، والنظرة النافذة القول الرصين، وما يتوفر عليه من شرح العواطف والذكريات، والآمال والأشجان والإطراب، ومازال الإنسان أكثر انجذاباً إلى العاطفة منه إلى الفكر، وهو من ثم يؤشر الشعر على النثر.
نشأ الشعر العربي وارتقى في البادية، سابقاً للنثر، إذ بلغ ما بلغه من الرقي على أيدي أصحاب المعلقات وأضرابهم، والنثر لا يتعدى بعد الخطب القصار والحكم المنثورة والأسجاع المأثورة والوصايا المتفرقة. نعم كان للقبائل خطباء كما كان لها شعراء. ولكن العرب كانوا بالشعر أولع حتى عدوه معرض مفاخرهم، وقالوا: (الشعر ديوان العرب)، ولم يقولوا: (الأدب) ولا (الخطابة). ولم تذع كلمة النثر حتى تحضروا وتثقفوا وانتشرت بينهم الكتب. وكان الشعر والنثر معا في بدء أمرهما مختلطين بالدين والدولة، فشاعر القبيلة كان وزير دعايتها بتعبير العصر الحاضر، والشعر والسحر والكهانة والعرافة والتنبؤ والسجع كانت معاني وألفاظا متلاحمة الوشائج. وقد كان للدين بين العرب من أقدم عصورهم مكان، وأخرجت جزيرتهم عدداً من الأنبياء عديداً، وكان الشعر إلى ظهور الإسلام ينشد في المواسم الدينية، وتخاطب به الآلهة، من ذلك قول بعض اليمانيين في طوافهم:
عك إليك عانية ... عبادك اليمانية
ولم يفصم الشعر والنثر العربيان يوما علاقتهما بالدين والدولة، بل ظلا طول عصورهما على اتصال بهما متين؛ بل بفضل الدين احتوى النثر العربي على أثر فني لا يجاري بلاغة، بل هو نموذج البلاغة الذي ظل يحتذى ويدرس ويقتبس في النثر والشعر معا طول العصور، وهو القرآن الكريم، وبقيام الملك على أساس ديني اتصلت علاقة الأدب بكلا الملك والدين، وظل الشعر يتقرب إلى الحكام بالمدح، والنثر يعمل في دواوينهم، ولم يخرج الأدب العربي خروجا تاما من طور خدمة الملوك، إلى الطور الفني الخالص المنزه عن كل غرض خارجي أو مطلب مادي، وإنما ظل الشعراء والكتاب يعتمدون على رعاية الأمراء، ويسخرون فنهم لخدمتهم وتوالت أطوار الشعر والنثر في تاريخ الأدب العربي: فسبق الشعر في الجاهلية، وحل محله النثر في صدر الإسلام متمثلا في الكتاب الكريم وخطب الرسول وخلفائه وكتبهم وكتب عمالهم، واستعاد الشعر مكانته في عهد الأمويين على ألسنة جرير والفرزدق والأخطل وجميل وكثير وابن أبي ربيعة وأضرابهم؟ وعند ذلك كان العرب قد تشربوا الحضارة والثقافة، فظهر النثر الفني على أقلام عبد الحميد وابن المقفع والجاحظ والبديع؛ وبلغ الشعر في الوقت نفسه أوجه على أيدي معاصري هؤلاء من الشعراء، كبشار وأبي نواس والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي والمعري، ثم أفل نجم الشعر بدءا من القرن الخامس وأفسده التعمل، وأعوزته روح الطموح والمغامرة التي غاضت من نفوس الأمة التي أرهقها المتسلطون، وبقيت للنثر بقية من قوة مستمدة من نضج الثقافة الإسلامية، فكان العصر التالي طور نثر طويلا أنجب من النقاد والمؤرخين والكتب أضراب ابن خلكان والنويري والقلقشندي وابن رشيق وابن خلدون، ممن كان هم أكثرهم جمع الآثار الأدبية والتاريخية المتخلفة من العصور السالفة، وتنظيمها والتعليق عليها. ثم لحق الوهن والإسفاف النثر كما لحق الشعر. فلما كانت النهضة الحديثة، كان الشعر أسبق إلى النهوض والحياة والتخلص من شوائب الصنعة والتقليد، فالشعر أسبق من النثر إلى الازدهار وأسبق منه إلى الذبول.
كان الشعر أسبق إلى الظهور والرقي في الجاهلية، وكان العرب يعدونه ديوانهم، وكانت له لديهم مكانة عظيمة، وقد ظلت له هذه المكانة على توالي العصور، على رغم ظهور النثر الفني ورقيه وحصول الكتاب دون الشعراء على المراتب السامية كالوزارة؛ وظل الشعر أعلق بالنفوس وآثر بالحفظ والذكر، ولم يسايره في الحفظ والسيرورة من آثار النثر إلا القرآن الكريم، وهو مملوء بالروح الشعري حافل بالتشبيهات والمجازات البليغة. ولما ارتقى النثر الفني راح يتتبع خطى الشعر: يقتبس أبياته ويضمن شطراته، ويتناول موضوعاته، ويحاكي موسيقاه ووزنه، فاصطنع السجع والازدواج والجناس، وأصبح السجع في النهاية للنثر لازماً لزوم القافية للشعر. والحق أن الأدب العربي بفنيه الشعر والنثر اتسم دائما بالاحتفاء باللفظ وجرسه وتنميقه، والأسلوب وتقسيمه وتدببجه، وقد ظل ذلك مستساغا مقبولاً حينا ثم أفرط وسمج. وظل الشعر العربي شديد الحرص على فخامة الموسيقى ووضوحها واطرادها بلا إخلال، كالإخلال الذي يكثر في الشعر الإنجليزي ويلجأ إليه شعراء الإنجليزية قصداً للتنويع واجتناب الاطراد الممل، وظلت القافية في الشعر العربي كذلك واضحة جزلة مكونة في الواقع من قافيتين صوتيتين، كما في (عانيه) و (مانيه) في البيت السالف الذكر، وهذا ما يعرف في الإنجليزية بالقافية المؤنثة، وقد دخلت الإنجليزية نقلا عن الإيطالية ولكن الشعراء سرعان ما نبذوها، لعدم ملاءمتها لطبيعة اللغة الإنجليزية التي تمج الإفراط في الموسيقية نثراً أو نظما.
ولما ظهر النثر الفني بجوار الشعر، ونبغ فيه الكتاب واحترفوا إنشاء الرسائل الديوانية، وحرصوا على التزود بكل أسباب الثقافة، والتحلي بكل موجبات الفضل، عالج أكثرهم الشعر طبعا أو تكلفا، فأثرت عن الحسن بن وهب وابن الزيات وابن الصولي وسعيد بن حميد وابن العميد وابن عباد والخوارزمي والبديع والجرجاني والعسكري، أشعار قالها بعضهم تظرفا ورياضة للقريحة، وقالها بعضهم جادين في التعبير عن خوالج صميمة وآراء صادقة. وقد قيل إن الجاحظ عالج قرض الشعر طويلا ثم أقلع حين لم يفلح. وكان البديع والحريري يخالفان في مقاماتهما بين شعر ونثر لا يكاد يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعروض، وفيما عدا ذلك يتساويان تنميق لفظ وبلاغة إنشاء، ومن أجمل أشعار الكتاب قول الجرجاني من أبيات هي من غرر الشعر العربي: -
يقولون لي: فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
إذا قيل: هذا مشرب قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وقد كانت المقابلة والمفاضلة بين الشعر والنثر من هم نقاد العربية وكان أكثرهم يميل مع الشعر؛ على أنها مفاضلة لا موضوع لها: فليس الشعر خيراً من النثر ولا النثر خيرا من الشعر، وإنما كلاهما ضروريان وكل منهما جميل في موضعه، زد على ذلك أن أولئك النقاد كانوا يدخلون في حسابهم اعتبارات خارجية لا صلة لها بالفن الصميم، بل هي شؤون اجتماعية أو سياسية أو فردية صاحبت الأدب في بعض العصور، فأصحاب الشعر يستدلون على أفضليته بأن الشاعر يخاطب الأمير باسمه مجرداً وباسم أمه وبصيغة المفرد، وبأن الشعر رفع قبائل كأنف الناقة ووضع أخرى كنمير، وبأن الكذب ومدح النفس يقبلان فيه ولا يستساغان نثراً؛ وأصحاب النثر يؤيدون حجتهم بأن الرسول الكريم لم يقرض الشعر، وأن الشعراء يخدمون الكتاب ويأخذون هباتهم. وأن الكاتب يجلس والشاعر ينشد وهو قائم وهلم جرا.
نشأ الشعر والنثر الإنجليزيان كذلك على صلة بالدين والدولة، وكان مزاولوهما الأوائل أمثال تشوسر وسبنسر وهوكر من رجال السياسة والدين والحرب، أو كانوا على اتصال بالساسة والمحاربين وعلماء الدين. ومن الكنيسة خرج فن التمثيل ذو الصلة الوثيقة بالأدب، فكان قوامه الشعر أولا على عهد شكسبير؛ ثم إنجاز تدريجاً إلى النثر؛ وكان للإنجيل أثر بليغ في اللغة الإنجليزية؛ غير أن الشعر والنثر ما لبثا بعد ذلك أن انسلخا تدريجاً عن الملك والكنيسة والأحزاب والأعيان، واعتمد كلاهما مكان أولئك جميعاً على الجمهور القارئ، ودخلا في طور الفنون الخالصة التي لا غاية لها سوى وصف مشاعر الإنسان وشعوره بجمال الحياة وغبطاتها، وهو الطور الذي لم يبلغه الشعر والنثر العربيان تماماً، بل قام من الأدباء الإنجليزي من ناصبوا الملكية والكنيسة، مثل شلي وبيرون
وكان الشعر الإنجليزي أسبق إلى الازدهار من النثر: فبلغ أوجه في عهد اليزابث في آثار شكسبير ومعاصريه، وتجلت الروح الشعرية حتى في النثر القليل الذي خلفه ذلك العصر الحافل بروح الإقدام، فهوكر مثلا وهو يدرس مسائل دينية يعرج فيصف الموسيقى وصفاً شعرياً زائفاً؛ وتلا ذلك طور نثري طويل في القرن الثامن عشر، بلغ فيه النثر الغاية من السلاسة ورحب الجوانب، ثم كانت هبة قومية جديدة فنهض الشعر في العهد الرومانسي نهضة باهرة، وكان كثير من شعرائها كتابا حذاقا أيضاً تفيض كتاباتهم النثرية بما تفيض به أشعارهم من روح رومانسية؛ ثم ارتقى النثر في أعقاب ذلك مرة أخرى، فظهر من النقاد ماكولي وارنولد، ومن القصصيين ثكري ودكنز، ومازالت القصة في ازدهار مطرد
وبلغ النثر الإنجليزي من الرقي الشكلي والموضوعي ما لم يبلغه النثر العربي: فظهرت فيه المقالة والصورة والترجمة والتأريخ والقصة الفنية. وبهذا كله تهيأ له أن يزاحم الشعر على مكانته، لاسيما بفضل القصة والرواية التمثيلية، بل هو انتزع الرواية التمثيلية من الشعر واستأثر بها. والقصة اليوم تستقل بأسماء أعلام الأدب الإنجليزي، وقد مارسها أكبر شاعرين محدثين: كبلنج وهاردي، بل كانت ممارسة النثر بجانب الشعر دائما من أدب شعراء الإنجليزية، يبسطون فيه آراءهم في النقد الأدبي والأحوال الاجتماعية. فكان دريدن وكارلي وبوب الشعراء مثلا من أوائل من كتبوا المقالات، أما كبار شعراء العربية فقلما روي لهم نثر مطنب
على أن الشعر الإنجليزي وإن زاخمه النثر في العصر الحديث هذه المزاحمة. واستأثر دونه بأكثر احتفال الأدباء والقراء، لم يفقد موضعه الأثير من نفوس المثقفين، وإنما هو يجتاز مثل عصر الركود الذي شهده في القرن الثامن عشر، إذ أن النثر والشعر كما تقدم يتجاذبان النفس الإنسانية على اختلاف العصور، بيد أن الناس حتى في مثل هذا الطور لا ينزعون عن حبهم للشعر. بل يلتفتون إلى الماضي يروون صداهم من عبابه الزاخر، ولا تزال لشكسبير وملتون ووردزورث وشلي منازل في قلوب قراء الإنجليزية، كمنازل ابن الرومي والمتنبي والمعري في قلوب قرائهم، لا يحتل مثلها الكتاب الناثرون في كلا الأدبين
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 196
بتاريخ: 05 - 04 - 1937