تطور معارك النقد الأدبي المعاصر دعوة الحق

تمثل معارك النقد في أدبنا العربي المعاصر قطاعا حيا من قطاعات حياتنا الفكرية له خطورته وأهميته في مجالات النثر والشعر واللغة العربية ومفاهيم الثقافة وقد دارت هذا المعارك منذ وقت مبكر، ولعل معركة إبراهيم اليازحي وفارس الشدياق التي تبادلا فيها النقد عام 1871 حيث نشرت الجنان كتابات إبراهيم، ونشرت الجوانب كتابات فارس هي أشهر المعارك الأدبية التي ترسم أبرز ملامح النقد الأدبي في هذه الفترة الباكرة وهي :
- غلبة الطابع اللغوي على النقد.
- اصطناه الهجوم الشخصي في سبيل الغلبة.
- استعمال الهجاء بدلا من مواجهة النقد بالنقد.
ويمكن القول بان غلبة الطابع اللغوي على النقد ظل على فترة طويلة طابع المعارك الأدبية وقد بدا ذلك واضحا في معارك نقدية مشهورة منها :
- نقد «محمد المويلحي» لديوان شوقي 1898 وقد انصب على اللغة.
- نقد «طه حسين» لكتاب النظرات للمنفلوطي عام 1911.
ومن ذلك فإن النقد الأدبي حتى في هذه الفترة لم يقتصر على الطابع اللغوي وحده بل ظهرت بين حين وحين نقدات تغلب عليها الموضوعية النقدية، من هذه النماذج :
- ما كتبه ابن هاشم (أنيس الجليس أبريل 1903) في نقد رواية (كله نصيب) لنقولا الحداد، فقد تناولت موضوعية الرواية.
- ما كتبه عدد من النقاد في نقد ترجمة حافظ إبراهيم لرواية البؤساء.
- مقالات مفرقة في المجالات عن نقد بعض الآثار الدبية روعي فيها الاهتمام بالمضمون دون اللفظ.
وفي هذه المرحلة كان أبرز ملامح الطابع اللغوي للنقد ظاهرا في أعمال ثلاثة من كبار كتاب هذه الفترة هم : فارس الشدياق وإبراهيم اليازجي وحسين المرصفي، فقد عني الشدياق بنقد المعاجم، وعني اليارجي بنقد لغة الجرائد وألف في ذلك كتابه (لغة الجرائد) الذي أحصى فيه الأخطاء اللغوية المختلفة وكشف عن الوجه الصحيح لها.
أما حسين المرصفي في كتابه (الوسيلة الأدبية) فقد عني بأن يوجه الأديب إلى العناية باللغة وقواعدها وضبط مفرداتها.
ومن أبرز كتب النقد في هذه الفترة «منهل الوارد في علم الانتقاد» لقسطاكي الحمصي الذي صدر عام 1907، ويعد هذا الكتاب في نظر مؤرخي الأدب أول كتاب عربي في النقد.
وعنده إبراهيم اليازجي هو أول من أعطى النقد حقه عند العرب وذلك في الذيل الذي ذيل به شرح ديوان المتنبي.
وقد رسم خطة النقد فقال : أنه لا يمكن الوصول إلى سديد النقد إلا بارتقاء درجاته الثلاث وهي : الشرح، والتبويب، والحكم.
والشرح عنده هو إيضاح وتحديد العلاقة بين الكتاب والمنقود وبين تاريخ العلوم الأدبية بالعموم، تحديد علاقة التأليف بما كان من نوعه بالمكان والزمان الذي ظهر فيه تحديد العلاقة الكائنة بين الكاتب وكتابه.
والتبويب عنده هو تعيين باب الكتاب المنقود، أو مؤلفه، وتحديد مرتبته بين أمثاله بالحجج العادلة.
ويرى قسطاطي الحمصي أن إبراهيم اليازجي هو أول من رسم الخطط الأولى للنقد بمقاله (في صناعة فن النقد) في المجلد الثاني من الضياء (1898).
وفي نقد الشيخ حمزة فتح الله وحسين المرصفي وسيد حسن علي المرصفي التي عرفتها دار العلوم في أوائل هذا القرن كان النقد منصبا على اللغويات ومعاني الكلمات.
ومن ثم تحول أمصال طه حسين من نقده اللغوي لكتاب النظرات 1912 إلى مفاهيم جديدة وأنكر نقده القديم.
غير أن هذه المرحلة الجديدة لم تكن قائمة على أساس ثابت، حقيقة أنها أخذت المقومات الحديثة للنقد ولكنها مضت بها أبعد من الشوط، واندفعت بها نحو الغرض الشخصي، ثم انحرفت بها حين اتخذتها وسيلة للغض من مقومات الفكر العربي كله ومهاجمة اللغة والتاريخ ومختلف القيم الأساسية.
وقد ظل اتجاه فارس الشدياق في خلط المناظرة العلمية بالمقاذعة، والانتقال من البرهان إلى الطعن والشتم، يسير ف يخط طويل لن يستطع النقد الحديث التحرر منه.
بل يمكن القول بأن دوافع المعارك الأدبية –في الأغلب- لم تكن خالصة لوجه الفكر وغنما وقعت تحت سيطرة دافعين كبيرين هما : الخصومات السياسية، والخلافات الشخصية.
وربما أدى هذا إلى تناقض الكتاب بين معركة ومعركة، أو تحول عن اتجاه إلى اتجاه أخرى، وربما كان الرأي مقيدا بوجه نظر أو ظرف معين، فإذا اختلف هذا الظرف تغير الرأي.
ولعل النقد السياسي قد طغى على النقد الأدبي وأثر فيه وأبرز طابع السخرية والعنف في الهجوم. وربما كان الاختلاف السياسي مصدرا من مصادر الاختلاف الفكري فقد كانت مدارس سياسية تسير في الطريق العثماني الإسلامي أو الطريق الإقليمي أو الطريق القومي العربي وقد تأثر الفكر والأدب والنقد بهذه الميادين الثلاثة، هذا بالإضافة إلى التأثر بدعوات التغريب حيث بدا هناك تياران واضحان : هما تيار المحافظة وتيار التجديد.
وقد ذهب كل من التيارين إلى مداه، فدعا المحافظون إلى حماية اللغة العربية وقاموا كل محاولة للسخرية من التاريخ العربي وأمجاد الأمة العربية والوحدة العربية ودعوات التغريب إلى تصوير العقلية العربية بصورة منتقصة، وجعل الثقافة العربية متأثرة بالثقافة اليونانية، وتغليب التقليد على الاقتباس، أو تحريف السيرة بإضافة الأساطير، أو الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية.
هذا بينما ذهب المجددون إلى آخر المدى في الاستهانة باللغة الفصيحة والسخرية بتاريخ الأمة العربية والتشكيك في مقومات الفكر العربي وتراثه وقيمه المتمثلة في الفقه والتشريع والشعر والأدب وغيرها.
غير أن الأمور لم تلبث أن تطورت على نحو قارب بين المجددين والمحافظين وبقي عدد قليل من دعاة التغريب يقضون وحدهم، وقد انكشفت أهدافهم ذلك أن أغلب الكتاب المجددين الذين كانوا في أول الأمر يغالطون الجماهير لكسب الشهرة، ثم أرغمتهم السياسة على مسايرة الجماهير وتملقها كما حدث في كثير من الكتابات الدينية، والرضوخ لآراء المستشرقين حين تحول أحمد أمين للدعوة إلى العامية ومهاجمة الأدب العربي القديم، هؤلاء الكتاب قد تحولوا من بعد، إذ تكشفت لهم حقائق الأمور، حين شاهدوا الفوارق البعيدة بين شعارات الحضارة الغربية وبين واقعها وتصرفاتها العقلية في العالم العربي والإسلامي، هنالك استفاقت معان جديدة في نفوس هؤلاء لمفكرين جعلتهم يقفون وقفة النظر والتأمل، غلبت فيها عاطفة الإيمان بالوطن والتراث، وحق أمتهم عليهم، وقد بلغ بهم الاعتقاد حد الإيمان بأن هذه المذاهب التغريبية لن تصل بهم إلى خلق أمة وفكر جديد، هنالك قاوموا زملائهم في آرائهم ووقفوا يعارضونها. فقد عارض (هيكل) دعوة طه حسين إلى كتابة الساطير على أنها جزء من سيرة الرسول، وعارض (توفيق دباب) الأدب المكشوف، وعارض (منصور فهمي) التقليد الخاص، وعارض فيلكس فارس نظريات التغريب في الثقافة، وعارض زكي مبارك النزعة اليونانية، وعارض المازني الكتابات الإباحية وترجمة القصص الفرنسية المكشوفة وقد كشف أكثر من رسالة عن مدى سيطرة المستشرق الغربي على أقدار الشباب العرب الذين يدرسون في الجامعات المختلفة، هؤلاء الذين ذهبوا إلى أوربا دون أن يحصلوا على قدر كاف من الثقافة العربية، ودون إيمان واضح بأمتهم وثقافتهم وشخصيتهم العربية، فلم يلبثوا أن جروا في تيار الدعوة التغريبية ظهر هذا في رسالة منصور فهمي 1914 عن (حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها)، ورسالة طه حسين 1917 عن ابن خلدون حيث هاجم المغاربة واتهمهم بالقصور عن التجاوب مع الحضارة الغربية، واعتبر كفاحهم في سبيل الحرية ومقاومة الاستعمار الفرنسي عملا منافيا للتحضر والترقي.
وعندما حاول مثل زكي مبارك أن يواجه المستشرقين بآرائه ويعزف عن التبعية الفكرية والعمالة الثقافية حطموه في بلده وأبعدوه عن الجامعة وعن وزارة المعارف وهددوه حتى يئس ولم يجد له طريقا إلا الخمر...
وقد تحول منصور فهمي عن التبعية الثقافية ولكنه لم يجرؤ على كتابة كلمة واحدة في الرجوع عن أرائه.
ولعل أهم مصادر اضطراب النقد هو أنه ارتبط بالدعوة التي دعاها لطفي السيد 1907 إلى التمصير وهي دعوة سياسية ولكنها استتبعت الدعوة إلى مصر منذ ذلك الوقت طابعا إقليميا ضيقا، كان له أثر في جميع معارك النقد بعد ذلك، ذلك أن دعاة تمصير اللغة إنما كانوا يهدفون إلى تغليب اللغة العامية وتحويلها إلى لغة مصرية خالصة منفصلة عن اللغة العربية الأم، وهي دعوة دارت حولها معارك متعددة : أبرزها معركة لطفي السيد مع مصطفى صادق الرافعي وعبد الرحمن البرقوقي، وقد تواترت المعارك حول هذه القضية طوال تلك الفترة بعدما حمل لواء العامية سلامة موسى وحمل لواء الكتابة بالحروف فريد أبو حديد وأحمد أمين وغيرهما في التخفف من اللغة الفصحى.
وقد كانت أبرز المعارك الأدبية قد دارت حول الأسلوب والمضمون والنزعة اليونانية والصراع بين المذهبين الفرنسي والإنجليزي في النقد وكتابة السيرة والأساطير، وحول الترجمة وأدب الساندويش والأدب المكشوف ومقومات الأدب العربي والنقد الذاتي والموضوعي.

تطور مفهوم النقد
ويمكن القول أن مفهوم النقد كان إلى ما قبيل الحرب العالمية الأولى في العالم العربي نقدا لغويا يحتفل بالصيغ والألفاظ والنواحي البلاغية، ثم تحول من بعد إلى العناية بالتجربة الشعرية والصياغة الفنية والناحية الموضوعية، غير أن دعاة الاتجاه الجديد ذهبوا في مجال التحرر من القيم الثابتة والتي قامت عليها الحياة الفكرية العربية واستهانوا بمقومات فكرية أصيلة، وأبرز من تصدى لهذه الجوانب جماعة المتأثرين بالمستشرقين والمبشرين ودعاة التغريب في العالم العربي وقد دعوا إلى :
- حياة القدماء وإضفاء ثوب التقديس عن كل ما هو قديم ودراستها كأنها حياة الناس فيها الخطأ والصواب.
- إنكار روايات التوراة والإنجيل والقرآن بالنسبة للنبيئين إبراهيم وإسماعيل وإنكار وجودهما التاريخي واعتبار أن قصتهما نوع من الحيلة الدينية.
- إلقاء الشك على الجوانب القومية في التاريخ العربي والاستناد في ذلك على حياة شعراء ماجنين وذلك على النحو الذي حدث عندما حاول طه حسين اتهام العصر الأموي في نهايته، والعصر العباسي في بدايته بأنه عصر شك وعبث ومجون معتمدا في ذلك على كتاب الأغاني أو بعض الشعراء أمثال أبي نواس وغيره، بينما تجاهل الكاتب عشرات من أعلام الفكر والفقه والشعر وغيره في نفس المرحلة.
- الاندفاع في محاربة الأسلوب التقليدي في الكتابة إلى الحد الذي يصل إلى محاربة الفصحى نفسها.
- الانحراف في كتابة السيرة وتغليب الأساطير عليها.
- الدعوة إلى الأدب المكشوف باعتباره اتجاها طبيعيا إلى الكشف عن النفس الإنسانية.
- الدعوة إلى التقليد المطلق للحضارة الغربية «خيرها وشرها ما يحمد فيها وما يعاب».
- تهديم الشخصية العربية الإسلامية بنقل نظريات «رينان» في الأجناس وتخلف العقلية السامية ومؤازرة نظرية النزعة اليونانية ومحاولة إضفاء فضل مشكوك فيه لليونان على العرب.
- ترجمة القصص الفرنسية الإباحية.
- مهاجمة العرب وتاريخهم وبطولاتهم وثقافتهم والتشكيك فيها.
ومن مجموع هذه الخطط تبتدئ وراء «النقد العربي المعاصر» محاولة سامة مسمومة، لم تكن تهدف في الحقيقة إلى تحرير الفكر العربي وتنقيته وتخصيبه وإغنائه بالنظريات، الغربية بقدر ما كانت محاولة للقضاء عليه ودفعه إلى طريق فقدان ملامح الشخصية الأصلية.
ومن هنا قامت المعارك الأدبية من أجل الدفاع عن : اللغة العربية وفضل العرب على الحضارة ومعارضة الأدب المكشوف ونقل الحضارة نقلا كاملا وتغليب الجانب الأسطوري على السيرة المحمدية وتصحيح الحقائق فيما يتعلق بالعقلية العربة والنزعة اليونانية.
ومن الظواهر الواضحة أن الذين عارضوا دعوات التغريب هذه المرة ودخلوا المعارك الأدبية بعنف وقوة هم كتاب عصريون تعلموا في أوربا، ولم يكونوا مجرد كتاب محافظين أزهري الثقافة.
فقد حمل ساطع الحصري وزكي مبارك وعبد الرحمن عزام ومحيي الدين الخطيب لواء الدفاع عن العرب، وعارض توفيق دباب الأدب المكشوف، وعارض منصور فهمي التقليد المطلق، وعارض فليكس فارس نظريات تغريب الثقافة، وعارض زكي كبارك النزعة اليونانية، وعارض هيكل دعوة طه حسين إلى إحياء الأساطير، وعارض المازني الكتابات الإباحية وترجمة القصص الفرنسية المكشوفة.
ويمكن القول أن أضخم المعارك قد دارت حول كتب : مثل معركة الخلافة وأصول الحكم لعلي عبد الرزاق، والشعر الجاهلي لطه حسين، ومستقبل الثقافة لطه حسين، والنثر الفني لزكي مبارك، ورسالة منصور فهمي للدكتوراه عن «حالة المرأة الإسلامية»، وكتاب «حديث الأربعاء» لطه حسين، وهناك معارك قامت من جانب واحد منها معركة الشعر الجاهلي فقد صمت طه حسين إزاءها صمتا منكرا، ومعركة لقمة العيش التي أثارها الدكتور زكي مبارك، ومعركة جناية أحمد أمين على الأدب العربي التي أدارها الدكتور مبارك.

معركة مفاهيم الأدب
معارك مفاهيم الأدب بدأت حول الأسلوب عام 1923 بين الرافعي وطه حسين، ثم تناولت غاية الأدب واتصلت بالأسلوب والمضمون، وتوسعت هذه المعارك فشملت الفن للفن، والفن للمجتمع والتراث العربي القديم ومعارك مفاهيم أظغة.
وقد قامت هذه المعارك على أساس مهاجمة الأسلوب القديم المفرق في السجع والمقدمات والألفاظ القاموسية، وحول غلبة العناية باللفظ على العناية بالمضمون، وقد وقف شكيب أرسلان والرافعي في صف الدفاع، ووقف سلامة موسى وطه حسين في صف الهجوم.
وكانت حجة المدافعين حماية اللغة الغربية من أعجمية العامية التي كانت هدف الدعوة التي أثيرت واستشرت.
وجرت معركة حول أسلوب الكتابة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكين حيث هاجم الأخير كتابات أمير البيان كما كانوا يطلقون عليه، وقد جرت هذه المعركة على نحو معركة الرافعي مع طه حسين وسلامة موسى.
وفي عديد من معارك جرى البحث حول الأسلوب والمضمون واتصل هذا بدعوة جبران حين كتب مقالة –لي لفتي ولكم لغتكم).

معارك الشعر
ودارت المعارك الأدبية حول مفهوم الشعر، حيث بدأ النقد الأدبي للشعر يأخذ طابعا جديدا على يدي ثلاثة الديوان «شكري والعقاد والمازني وهم الذين حملوا لواء الدعوة إلى وحدة القصيدة منذ عام 1908، وكان مطران قد سبقهما هام 1900 في الدعوة إلى تحرير الشعر التقليدي : اشترك فيها العقاد والمازني من ناحية ومدرسة المهجر وعلى رأسها جبران ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، وكان مضمون مفاهيم الشعر عند المدرسة الحديثة هو : أن سكون الشعر متصلا بالنفس وأن أي قصيدة إذا غير ترتيب أبياتها اضطراب معناها، وأن يكون له قوته إذا ترجم إلى أي لغة أجنبية وأن تكون القصيدة وحدة كاملة.
وقد كان للشعر مجال ضخم في معارك الأدب وحظى أحمد شوقي بالجانب الأكبر منه فقد هاجمته المدرسة الحديثة هجوما عنيفا، وقد بدأ العقاد حملة على شوقي عام 1912 في رثائة لبطرس غالي ووالاه في كتاب الديوان 1922، كما حمل المازني على حافظ عام 1912 وكان الرافعي قد رتب الشعراء عام 1905 في مقال له بمجلة الثريا طبقات، ووضع نفسه في الطبقة الأولى مع الكاظمي والبارودي وحافظ ووضع صبري وشوقي ومطران في الطبقة الثانية.
ثم بدأت معركة السرقة الشعرية بين شكري والمازني 1918 حيث اتهم شكري المازني بالسرقة في مقدمة الجزء الخامس من ديوانه الإغارة على شللر وهيني وغيرهما، ورد المازني الضربة لشكري في الديوان بمقال مقذع باسم (صنم الألاعيب).
ودارت معارك أخرى حول «إمارة الشعر» بعد وفاة شوقي وحافظ وكانت أقصى المعارك الشعرية بين الرافعي والعقاد ويعد كتاب (على السفود) أشد هذه الحملة إقذاعا.
وقد بلغت معارك النقد في الشعر أبعد مدى من التعنت والتحامل وانبعثت في الأغلب من الخصومة السياسية وقد عرف الرافعي بتعنته في نقده للعقاد، وعرف العقاد بتعنته لشوقي، وعرف المازني بتعنته في نقده لشكري.
ومن أمثلة هذا النقد قول العقاد (إيه يا خفافيش الأدب، أغثيتم نفوسنا أغشى الله نفوسكم الضئيلة، لا هوادة بعد اليوم، السوط في اليد، وجلودكم لمثل هذا السوط خلقت، وستفرغ لكم أيها الثقلان، فأكدوا من مساوئكم فإنكم بهذه المساوئ تعملون للأدب، والحقيقة إضعاف ما عملت لها صفاتكم إن كانت لكم حسنة يحسها الأدب والحقيقة).
ويمكن القول بأن القواعد التي وضعتها المدرسة الحديثة في الشعر لم تكن نبراسا لها فيما نظمت من شعر، بل إن العقاد نفسه تحول عن هدفه حين نظم في المسرح والرثاء وأن الدكتور مندور قام بتغيير ترتيب قصيدة له فجاءت بنفس النتيجة التي قام بها العقاد لشعر شوقي وجعلها قاعدة لنقده للشعر التقليدي.
تحول النقاد عن القواعد التي وضعوها
وأعجب ما في الأمر أن هؤلاء النقاد قد تحولوا عن مناهج النقد التي وضعوها فقد غير طه حسين رأيه في دراسة الأدب، بعد أن دعا في كتابه (ذكرى أبي العلاء) إلى دراسة الأدب على أساس علمي محصن، عاد بعد ثلاثة عشر عاما في كتاب الشعر الجاهلي فقال أن الأدب لا يستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي الخالص وجدها ولابد من اعتماده على الذوق الخاص.
وتحول المازني عن نقده لحافظ وشكري.
وتحول طه حسين عن نقده للمنفلوطي.
وتحول طه حسين عن رأيه في شوقي كما تحول المازني في نقده لشوقي.
وقال المازني عن نقده لحافظ (أما النقد فقد أسقطنا من جملة ما كتبنا غير آسفين على إسقاطه، فقد كان مما أغرت به حماقة الشباب).
ومن هنا يمكن القول بأن كتابنا لم يلتزموا قواعد النقد الأدبي التي رسموها، وأنهم لم يكونوا جادين في فرضها. وأن نقدهم كان في الأغلب مغرضا ذاتيا مرتبطا بالأهواء الخاصة والتقلبات السياسية، وقد بلغ النقد الأدبي حدة من العنف عند أحمد فارس الشدياق في فجر الحركة النقدية في الأدب العربي وقد أورث هذه الطريقة أحمد زكي باشا شيخ العروبة، وسار في هذا الاتجاه الرافعي وطه حسين والعقاد فكانوا أشد نقادنا عنفا وأبعدهم عن النزاهة والتجرد.
وكان الخلاف بين الرافعي والعقاد –وقد دارت بينهما أعنف المعارك- إنما يرجع إلى أسباب خاصة منها أن للعقاد رأيا في إعجاز القرآن غير رأي الرافعي ذكره في حديث له في مجلة المقتطف، وأن العقاد أزعجه تكريم سعد زغلول لكتاب الرافعي هذا واتهامه بأنه لم يكتب له شيئا، وكان هناك خلاف آخر حول النشيد القومي ذكره العقاد في كتاب الديوان، ويمكن أن يضاف إلى هذا أن مقابلة تمت بين الكاتبين مع الكاتبة مي أغضبت فيها الكاتبة قليلا عن الرافعي في اهتمام بالعقاد دفعت الرافعي إلى الخصومة معها وقطع صلته بها والحملة على خصمه العقاد.
وكذلك كان الخلاف بين الرافعي وطه حسين –وقد دارت بينهما أعنف المعارك- وكان الرافعي هو أول من حمل لواء معركة (الشعر الجاهلي) بعنف، ويرجع ذلك إلى أسباب سابقة ربما كان أهمها أن الرافعي كان حرصا على أن يكون أستاذ الأدب العربي في الجامعة وأن طه حسين أحرز هذا المنصب من دونه.
ومما يذكر أن كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين قد واجه أكثر النقود عنفا فقد ألفت أكثر من ثمانية كتب في الرد عليه : للرافعي، وفريد وجدي، والخضر حسين، ولطفي جمعة، والغمرادي، وشكيب أرسلان، والخضري، ومحمد عرفة.
ويمكن القول بان النقد تأثر كثيرا بالخصومات والصداقات وأن خلافات الكتاب لم تكن نبعا لمذاهب فكرية بقدر ما كانت قائمة على الخصومات الشخصية والخلافات الحزبية.
ومعنى هذا أن النقد الأدبي الحديث لم تكن له مناهج تعهد بها النقاد أو وقفوا عندها.
ونستطيع أن نقرر بعد دراسة أكثر من ستين معركة كبرى في الفترة من أوائل القرن حتى عام 1940 أن أغلب أحكام هذه المعارك تدل على التناقض، فالرأي مقيد بوجهة نظر وظرف معين، فإذا اختلف هذا الظرف تغير الرأي، وآية ذلك أن طه حسين بايع العقاد عام 1934 بإمارة الشعر، وكان قبل ذلك قد بايع بها العراق ثم عدل عنها وعاد طه حسين عام 1956 فاعلي ما يلي :
«أحب أن أؤكد أني لم أبايع العقاد بإمارة الشعر وما كان أن أبايعه لأني لم أكن شاعرا».
وربما كان في النقد عامل آخر هو أن هناك رأيا مسبقا بالنسبة للكاتب تم تجرأ النقد لمحاولة تبرير الرأي وتأكيده بالتماسه هنا وهناك من نصوص الأثر المنقود.
ولقد حملت الصحافة لواء النقد وأفسحت له المجال وأتاحت الفرصة للقراء لمتابعة معاركه وموالاتها.



دعوة الحق

62 العدد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى