د. أحمد الحطاب - أحزابَ سياسيةَ لم تستفِد من الزلزال السياسي!

أذكِّر بأن الزلزال السياسي كانت وراءه أعلى سلطة في البلاد، أي جلالةُ الملك محمد السادس، يوم الثلاثاء 24 أكتوبر 2017. وقد تمثَّل هذا الزلزال السياسي في إعطاء أهمِّية لمبدأ "ربط المسئولية بالمحاسبة" حيث تمَّ إعفاء وزراء ومسئولين كبار من مناصبهم أو حرمان البعض منهم من تقلُّدِ مناصب أخرى في المستقبل. لماذا، آنذاك، وُصِفَ هذا الإعفاء ب"الزلزال السياسي"؟

لأن الملك محمد السادس لم يتوقَّف في خُطَبِه المختلفة الموجَّهة للشعب المغربي عن دعوة الأحزاب السياسية إلى لعِب الأدوار المنوطة بها، والمُحدَّدة دستوريا وقانونيا، عوض إفساد المشهد السياسي والخوض في متاهات لا تُسمن ولا تغني من جوع ولا تفيد البلادَ والعبادَ.

بالفعل، لولا الأوراش الكبرى التي أطلقها جلالة الملك ويسهر على تنفيذها، تكاد تكون إنجازات الأحزاب السياسية المتعاقبة على تدبير الشأن العام، من خلال الحكومات المتوالية، ضئيلة ولا أثرَ لها على الحياة اليومية للمواطنين.
بعد مرور ست سنوات على هذا الزلزال السياسي، يبدو أن حليمة عادت إلى عادتِها القديمة. أي أن الأحزاب السياسية، إن زعزعها الزلزال السياسي في آنِه، فإنها، مع مرور الوقت، لم تستطع التَّخلُّصَ من عيوبها ومن انحرافاتِها عن ما يحتِّمه عليها الدستور والقانون المُنظِّم لوجودها وعملها وأهدافِها.

الملك، من خلال الأوراش الكبرى، يقوِّي اقتصادَ البلاد ويرفع من شأنها بين الأمم ويعزِّز مكانتَها في العالم. الأحزاب السياسية تقضي وقتَها في الصراعات الحزبية الضيقة وفي تصفية الحسابات وفي التَّسابق إلى كراسي السلطة.

فعوض أن تهتمَّ الأحزاب السياسية المتعاقبة على تدبير الشأن العام، منذ عقود، بما يطمح له المواطن المغربي من تغيير في حياته اليومية، فإنها اهتمَّت وتهتم بعدد المقاعد التي ستحصِّل عليها في البرلمان وبعدد الوزراء في الحكومات وبعدد الجماعات الترابية التي ستبسط عليها نفوذها.

فمنذ استقلال البلاد وخصوصا بعد الستينيات، لم تتوقَّف، مثلاً، الأحزاب السياسية المتعاقبة على تدبير الشأن العام، في مختلف الحكومات، عن إدراج بعض القضايا المصيرية في جداول أعمالها التنموية كإصلاح الإدارة وإصلاح منظومتي التَّعليم والصحة… والحقيقة أن هذه المرافق العمومية، من حيث التسيير وتقديم الخدمات للمواطنين، لم يطرأ عليها أي تغيير يُذكر. وإذا حدث هذا التغييرُ، فإنه يتمثَّل في التقهقر ورداءة الخدمات. بل إن هذه المرافق نخرها الفسادُ وأصبحت لا تتحرَّك إلا بالزبونية والمحسوبية و"باك صاحبي"...
الإدارة، مثلا، كانت ولا تزال بالنسبة لشريحة عريضة من المواطنين عدوا لدودا. لأن كل ما قيل ويقال عن تقريب الإدارة من المواطنين ليس إلا كلام عبارة عن شعارات جوفاء لا تَمُتُّ بصلة للواقع المُعاش. وهذا يعني أن المسافة بعيدةٌ بين هذه الشعارات وهذا الواقع. فما جدوى الشعارات إذا بقيت العقليات على ما هي عليه؟ زوروا المرافق الإدارية العمومية وسترون بأم أعينكم الفساد الذي يكون وراءه بعض المسئولين على هذه المرافق. سترون كذلك المكانة المُنحطة التي أُجْبِرَ عليها المواطن في الإدارة العمومية. سترون كذلك أن الزبونية والمحسوبية هما القاعدتان اللتان يعتمد عليهما إسداء الخدمات للمواطنين.

كنا نظن أن الزلزالَ السياسي هو بدايةٌ لدخول المغرب في عصر جديد، عصر يتساوى فيه المواطنون، لا فرق بينهم، من حيث الحقوق والواجبات. أي لا فرقَ بين غني وفقير وبين مثقف وغير مثقف وناخب ومُنْتَخَب وسياسي ومَن لا انتماء له، الخ.

الكل مدعوٌّ، وخصوصا السياسيون، أن يُخلصَ لوطنه وأن يساعدَ أو يساهمَ بكيفية أو أخرى في إنجاح خدمة الصالح العام. ومَن هو منوطةٌ به مسئولية عليا أو عادية، عليه أن يقوم بها حسب أخلاقيات المهنة وما تقتضيه الوطنية والمواطنة. ومَن كانت له مسئولية، عليه أن يعتبرها تكليفا وليس امتيازا يجعله ينظر للناس من فوق. بل من أهمِّ الصفات التي عليه أن يتحلى بها، هي نكران الذات ولا فرق بينه وبين أي مواطن عادي، أَخْذاً مسئوليتَه مأخذ جد وتفانٍ لبلورتها على أرض الواقع.

كلنا راعٍ وكلنا مسئولون عن رعيتنا. المسئولية هي كل شيء. إن أعطاها كل مواطن ما تستحقه من عناية، فهذا يعني أن البلاد ركبت قطارَ التقدم والحضارة. والمسئولية لا يجب أن تُدْرَكَ حصريا كمسئولية إدارية أو سياسية أو نقابية أو انتخابية أو جماعاتية، الخ. بل بالعكس، المسئولية تسري على جميع المواطنين كيفما كانت مكانتهم الاجتماعية. احترام القانون مسئولية. احترام قانون السير مسئولية. عدم احتلال الملك العام مسئولية. أداء الضرائب مسئولية. احترام المرافق العمومية مسئولية. احترام البيئة مسئولية. رمي الفضلات في الأماكن المخصصة لها مسئولية. الصفاء و عدم الغش في التجارة مسئولية، تربية وتعليم الأبناء والبنات مسئولية، الخ.

وعليه، إذا كان المسئولون الإداريون والسياسيون و المُنْتَخَبُون، الخ. مطالبين بأداء مهامهم بصدق وأمانة، فالمواطنون هم الآخرون، أكثر من غيرهم، مطالبون بأن يُخلِصوا في أداء مهامهم وما عليهم من واجبات، كل في مجال اختصاصه. الإخلاص في أداء المهام والقيام بالواجبات هو أساس التنمية بجميع أشكالها.

وهنا، لا بد من التمييز بين التنمية والحضارة. فإذا كان بلد ما متقدما اقتصاديا، علميا، تكنولوجيا، عسكريا… ولم تكن تنميتُه هذه مبنيةً على أخلاق عالية وقيم سامية ومواطنة حقة، فهي تنمية مادية صِرفة. والتنمية إذا اقترنت بأخلاق عالية وقيم سامية ومواطنة حقة وثقافة ملائمة، فإنها في نفس الوقت، تُصبح حضارةً يكون فيها العنصر البشري هو الأساس. عنصر بشري يضع نصبَ أعينه خدمة الصالح العام ويسعد بتقدم بلاده وجهته ومدينته وقريته وجماعته. واقتران التنمية بالحضارة لا يكون ممكنا إلا في دولة الحق والقانون يتساوى فيها المواطنون كيفما كان انتمائهم الاجتماعي و وضعُهم الاقتصادي.

هذا هو العهد الجديد الذي كان ينتظره المواطنون بعد حدوث الزلزال السياسي. عهدٌ، أنا متأكِّدٌ أن المواطنين كانوا سيكونون خيرَ سندٍ و خيرَ مؤيد له، بل و خيرَ مدافع عنه. عهدٌ، إن تحقَّق، كان سيساهم بالتأكيد في رقي بلادنا اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، فكريا، أخلاقيا، سياسيا، فنيا، علميا وحضاريا.
وهنا، لا بدَّ من التذكير أن بناءَ الحضارة عمل جماعي يساهم فيه كل المواطنين الذين لهم غيرة على بلدهم. كل مواطن من موقعه، عندما يُخلص في عمله ويكون في مستوى المسئولية الملقاة على عاتقه، فإنه يضع لَبِنَتَهُ لبناء صرح حضارة بلاده. إذا أخلص في عملِه السياسيُّ والنِّقابيُّ والمُنْتَخَبُ والإداري والمقدم والشيخ والقائد والباشا والعامل والوالي والوزير والموظف السامي والعادي والمعلم والأستاذ والباحث والمهندس والطبيب والممرِّض والقاضي والمحامي والتَّاجر ورجل وامرأة الأعمال والكاتب والصحفي، الخ.، تصوروا، بحكم العدد، كم من لَبِنَةٍ ستُضاف إلى صرح الحضارة. فأي مواطن ومواطنة لن يكون فخورا ببلاده آنذاك.
لكن، هيهات : "من شبَّ على شيءٍ، شاب عليه!" أو "لقد رجعت حليمة إلى عادتها القديمة".

فعلا، لا يزال السياسيون والمُنْتَخَبُون، إلا من رحم ربك، يخادِعون المواطنين ليستولوا على أصواتهم من أجل الوصول إلى كراسي المسئولية والبدء في امتصاص دمهم معنويا وماديا.
بالنسبة لهؤلاء السياسيين والمُنْتَخَبِين، المواطن لا يساوي شيئا بعد إدلائه بصوته في صناديق الاقتراع. حينها، يصبح كائنا مجهولاً رغم توفُّره على بطاقة وطنية تعطيه الحق في المواطنة والوطنية وتُبْرِزُهُ كشخص له حقوْق وعليه واجبات.

كل هذه المواصفات لا تهمّ السياسي والمُنْتَخَب بقدر ما يهمُّهما دَوْسُهَا بأقدام الجشع والشره والطمع بجميع أشكاله. السياسيون والمُنْتَخَبُون هم الذين، بسلوكهم الدنيء وانحرافهم عن الأخلاق السامية وتصرفاتهم الخسيسة، كانوا ولا يزالوا وراء الويلات التي تعاني منها البلاد اليوم من فساد وإفساد ومحسوبية وزبونية وارتشاء وريع وغش وتسيُّب، الخ.

النتيجة أن الأحزاب المنعوتة عبثا بالسياسية ليست أحزابا وإنما لوبيات ومافيات يسود داخلها الفساد وتنشره في مجموع أرجاء البلاد عبر مُنْتَخَبِيها.
والغريب في الأمر أن هذه الأحزاب عندما تصل إلى الحكومة، شعارُها هو "العَامْ زِينْ" وسبحان الله، عندما تنتقل إلى المعارضة، شعارها هو تخريب ما يقوم به الحزب الآخر أو الأحزاب الأخرى.

فبالنسبة لهؤلاء السياسيين والمُنْتَخَبِين، السياسة ليست علما قائما بذاته له قواعده ومبادئه ومسلّماته. بل بالعكس، السياسة في نظرهم هي أن يتصرَّفوا حسب نزواتهم بعيدا عن محيطهم ومَنْ يعيش فيه، وحسب ما تُمليه عليهم ضمائرهم الضَّاربة جذورها في أعماق التّعفّن.

هذه هي السياسة التي كانت ولا تزال وراء تدبير الشأن العام وهؤلاء هم السياسيون والمُنْتَخَبُون الذين لا يهمُّهم القيام بما تفرضه عليهم المسئولية من أعمال و واجبات بقدر ما يهمُّهم ما سيجنونه من غنائم وريع ومكتسبات غير مشروعة.

فكم نحن في حاجة إلى زلزالٍ سياسي آخر تفوق قوَّتُه 7 في سُلَّمِ ريشتر Richter!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى