قصيدة تأتي إليك و قصيدة تنصرف عنك ،تهجرك أو تهجرها ،قصيدة تطرق باب قلبك ،تطلب حق اللجوء و الإقامة الأبديين في مملكة روحك ، و أخرى لا تعمر طويلا ، فالقصيدة امرأة إما أن تكون كاملة الأنوثة أو لا تكون ، إما أن تفرض عليك سحرها لتدفعك لاعتناق جمالها و الايمان بكل رؤاها الآسرة ، أو أنها تقف أمامك عارية إلا من بشاعتها و رداءة نسجها الشعري ،فاختر ، و احسم أمرك ، فالشعر و معه الزجل كتابة لا تقبل المنزلة بين المنزلتين ، إما زجالا متمكنا من كل آلياته الشعرية و الإبداعية أو لا تكون ، اخترأن تكون قارئا واعيا و نوعيا أو لا تكون ، اختر أن تقصف البشاعة بسلاح الجمال الفتاك ، دمر كل حصون الرداءة التي شيدت لنفسها بيننا قصورا بأبراج عالية ، لا يطالها سوى من يمتلك أسلحة القراءة النوعية المدمرة و الفتاكة ، اختر أن تعانق بصيرتك بعين ثالثة ترى ما لا يراه صناع هذه البشاعة ، انطلق و ازرع في حقول ألغام بشاعتهم ورودا و أزهار ، و انسف بيسراك و يمناك إصرارهم العلني و الخفي على قتل كل ما هو جميل في فردوسنا الزجلي .
كلا لم تمت الكلمة المزجالة الغارقة في نعيم إبداعيتها و في فردوس دهشتها الجمالية ، مازالت القصيدة الكاملة عقل و دين ،تمشي بيننا بدلال ،أينما مرت ترسم بخطاها سحرا أخاذا ،سحرا حلالا ، لا يدركه إلا الراسخون في عشق الجمال ، و قصيدة " يمكن " لمقترفها و مرتكب دهشتها الجمالية ، الزجال الحكيم " عبد الرحيم باطما " خير مثال على أن كوكب الزجل مازال يدور وفق إيقاع جمال الإبداع و إبداعية الجمال ، قصيدة من زمن غير الزمن ، عندما تقرأها تصيبك بعدوى السؤال : من أنا و من أكون ؟ " يمكن نكونوا ... يمكن نكونوا ..." و من هذا الآخر الذي يقتسم معي كينونتي و يقتسم معي هذا الكون ؟ ما علاقتي بهذا الكائن ؟ و علاقتنا معا بالثنائيات المتضادة و المتنافرة شر/ خير ، حب / حقد ،حياة / موت ؟ من ارتكب الخطيئة الأولى ؟ و من أين أتينا ؟ و كيف أتينا " نزلنا رتق - يمكن طلعنا من الأرض فتق " و ما هي مكونات الخلق؟ و كيف تم خلق الإنسان؟ : " يمكن نكونوا ماء / يمكن هواء / درة / عافية / يمكن دخان ،أو عجينة فاضت من يحموم " ، و من ارتكب الخطايا التي ستتعاقب بعد خطيئة النزول أو الخروج ؟ من الضحية في فعل النزول ؟ أسئلة وجودية لذات شاعرة ذكورية ، تساءل الكون و الكائن حول الخلق و المخلوق ، حول ثنائية الشك و اليقين في فعل العشق و المعشوق .
" يمكن "، هي قصيدة تفرض سطوتها الفكرية و الوجودية ، قصيدة حداثية بامتياز ، حيث أن البعد الفكري الفلسفي من جهة و الإبداعية الشعرية الغارقة في دهشتها من جهة ثانية ، يمتزجان فيما بينهما ليمنحانا منجزا زجليا يسمو بالذائقة الشعرية ، و الأهم أنه يرفع من قيمة لغتنا العامية ، التي عكس ما يدعي البعض أنها لغة تواصل بسيطة ،و أنها ليست لغة فكر و شعر ، بل عكس ذلك ، في استطاعة هذه اللغة ملامسة قضايا الفكر و الوجود و بأسلوب شعري غارق في شعريته .
ديكارت و سارتر في ضيافة الزجل المغربي الحداثي :
" يوجد شيء واحد لا يمكن أن أشك فيه ، و هو أني أشك " قالها ديكارت و هو يضع منهجه هذا للوصول إلى الحقيقة و إلى اليقين ، إذن دعونا نقتحم عوالم هذه القصيدة النموذج ،و هي عوالم يمتزج فيها المنهج الديكارتي بالفكر الوجودي في رؤيا شعرية عميقة ، ليخلقا لنا أطروحة فكر- إبداعية في غاية العمق و التناسق ، قصيدة " يمكن " وقفة تأملية لذات شاعرة مهووسة بالسؤال الوجودي المستفز تارة ، و المشكك تارة أخرى في كل الثوابت العلائقية و المعتقدية ، منهجها في ذلك خطا ديكارتيا يروم لجعل من الكوجيطو المؤثت لنظرية الشك في علاقته باحتماليات اليقين و متاهات التصديق ، مسارا يحكم و يتحكم في فعل الأفكار ، لا الفكر ، بحكم أن ديكارت و هو يمارس فعل الشك يستثني في منهجه الفكر و الشك " لا يمكن أن يشك في شكه " و يتحكم كذلك في فعل الإبداع . و عبد الرحيم الحكيم تأبط شر شكه و مضى هذا الفتى المشبع بفكره الفلسفي إلى زعزعة المعتقد الفكري الذي تأسس و تشكل من خلال مرجعيات متعددة فكرية و معتقدية ،لامست في ترسيخها و الإيمان بها خلاصة حتمية ،ألا و هي حتمية اليقين ، يقول الزجال في مستهل أطروحته الفكر- زجلية :
يمكن نكونوا كيف
يمكن نكونوا كم
إنه تشكيك صارخ للتقييم الجوهري و النوعي لقيمة الإنسان في علاقته بإنسانيته، و علاقته بالآخر و بالكون كله ، تفكير وجودي بمنهج ديكارتي ، يروم لإحداث اهتزازات تكتونية ، الغاية منها إعادة النظر في الإنسان و في الوجود ، في وجودية الإنسان ، و في إنسانية الوجود ، هل نحن قيمة نوعية ؟أم أن قيمتنا في الكم و العدد المشكل لنا كذوات و هل العدد هو نواة لجوهر وجودنا ؟ هل نحن عقل يفكر و قلب يحس و يتفاعل مع كل ما يحيط به ؟ أم أننا مجرد عدد قيمته في تناسله و تكاثره ؟ و فعل " يمكن " المشكك في كل المسلمات و في كل القيم النوعية للإنسان ( عقل ، قلب ، احساس ، تفاعل ، انفعال ) ، و السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ، عن أي إنسان يتكلم الزجال هنا ؟ هل يتكلم عن إنسان معين ؟ بتحديد الرؤية و الرقعة الجغرافية ؟ ليس هناك أي سياق دلالي أو مفاهيمي يشير إلى ذلك ، إنه يتكلم عن الإنسان الكوني ،الإنسان في بعده الأشمل و الأوسع ، الإنسان كما وجد و تواجد منذ الظهور الأول .
يمكن نكونوا صروح عالية
يمكن ردم
يمكن نكونوا احرار في فعالنا
يمكن خدم
و يستمر منطق الشك و التشكيك حول من نحن و من نكون ؟ هل الإنسان أوجد الإنسان و بنى لنفسه في الإنسان و حوله قيمة الإنسان؟ و أنه بهذه القيمة بلغ أقصى مداه و بلغ جوهر ما يجب أن يكون عليه الإنسان ؟ أم أنه لا يعدو أن يكون مجرد دمار و خراب ينبطح مع التراب ،حقيرا ذليلا ، تستوي قيمته الوجودية مع قيمة " الردم " أي الدمار و الخراب ؟ و لعل الصور الشعرية الموالية التي تنبني في مجملها على فرضيتين اثنتين ،الفرضية و نقيضها ، فرضية الإيجاب و دحضها بفرضية أخرى سلبية و سالبة للقيمة الإعتبارية الإنسان في بعده القيمي ، وجدنا أنفسنا أمام خطاب شعري أشبه بحساب عسير لذات شاعرة مع إنسانيتها و مع انتمائها لهذا المخلوق الذي يسمى مجازا و واقعيا بالإنسان ( كيف / كم – صروح عالية / ردم – أحرار في أفعالنا / خدم ) ، ف فعل " يمكن " الذي يفيد احتمالية وقوع الشيء و تحققه واقعيا ، كما يفيد عكس ذلك ، إنه فعل احتمال، يجمع الضد بضده و النقيض بنقيضه، و يبقى التعبير الشعري الجامع لكل هذه المتقابلات الضدية بأسطر شعرية قصيرة ، هو جوهر و نواة لذة النص و دهشته العظمى . هناك مسافة فاصلة ما بين خيط الروح و موتها ،ما بين الحرية/ حرية الفعل و العبودية / الخدم ،فهل حقا هذه الحرية التي ننعم بها تشخيص و ترجمة فعلية للحرية في مفهومها الوضعي و المثالي ؟ أم أنها نسخة ممسوخة و مغلوطة لما يجب أن تكون عليه الحرية ؟ يقول جان بول سارتر عن الحرية : " الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا ،لأنه ذات حرة ألقي بها في العالم ، و هو مسؤول عن كل ما يفعل " ،و يقول كذلك صاحب رواية " الغثيان " : " الحرية هي ما تفعله مع ما تم فعله بك " فالتساؤل الضمني الذي يمكن أن يحدث بداخلنا رجة فكرية و معتقدية، إذا ما ربطناه بثنائية الحرية و العبودية في القصيدة بمقولات سارتر عن الحرية : هل الإنسان له القدرة الفكرية و النفسية و التعبيرية كذلك لإدراك ما الحرية و ما شروط تحققها ؟ و ما هي ملامحها ؟ مأزق فكري و مفاهيمي يؤرق كل قارئ لهذه القصيدة ،و يغرقه في متاهات أسئلة حارقة ،قد لا نجد لها أجوبة شافية و دقيقة و محددة كذلك ، تشكيك في ماهية الإنسان
قصيدة لها من السحر و القوة و المكر الفكري المبيت لكي ترمي بك في غياهب التأمل و التفكير العميقين .
قصيدة " يمكن " تأمل في الماهية و في الوجود الفعلي للإنسان
يقول سارتر في كتابه " الوجودية مذهب إنساني" : " الإنسان يوجد ،ثم يريد أن يكون " " الإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه " فالوجود بالنسبة له هو الأصل أما الماهية فتأتي بعد وجوده ، فالإنسان هو من خلق ماهية وجوده و اختار كيف ينبغي أن تكون عليه هذه الماهية ، و قصيدة يمكن غوص زجلي بنزعة فكرية تشكيكية تروم للنبش و الحفر العقلاني في ماهية الوجود و وجودية هذه الماهية " كم / كيف " ، و تساؤلات ضمنية و مباشرة حول الإنسان و أصله ، أو أصوله ، و لعل توظيفه لفعل " النزول " : " يمكن نكونوا نزلنا رتق " الذي يقابله في الحركية الفعلية النقيضة فعل : " طلعنا " ، ففعل النزول يحيل على الخطيئة الكبرى، و التي تتلخص في عملية الاندحار و الهبوط لأرض ستكون مسرحا للبحث و استيعاب ماهية الوجود : " يمكن من الارض طلعنا فتق " ،فبعد طرح معضلة الوجهة حسب ثنائية متضادة و متنافرة " نزول – طلوع " ، ينتقل بنا إلى بناء آخر أكثر عمقا من سابقه ، ألا و هو أصل الانسان : " ماء – هواء – درة – عافية – دخان – عجينة – عقل كبير " إنه يضعنا أمام ماهية التكوين و التشكل الأول لهذا الإنسان ،و بنزعة ديكارتية تهدف التشكيك من أجل بلوغ و إدراك فهم تقريبي و ليس يقيني لماهية الإنسان و أصله ، يتلاعب بنا و بفهمنا الساذج و البسيط حول المادة التي تشكل عبرها و منها الإنسان ، فكل عناصره السبعة المدرجة في هذا الباب ، هي في حقيقة الأمر ليست عناصر مشكلة لوجوده و إنما هي عناصر و آليات ستساعده على إدراك ماهية الوجود ، فعبر كل هذه المكونات سيرتقي الإنسان بماهيته و ماهية وجوده ، يقول سارتر في هذا الباب : " إن الإنسان يوجد ، ثم يسعى لأن يكون " ، و لكي تستمر كينونته لابد له من التفكير في اكتشاف محيطه و فهمه حتى يتسنى له إدراك ماهيته كإنسان و ماهية وجوده ، ف " العقل الكبير " الحالم ، الذي يفكر/يخمم ، هو المنهج الذي يوصل الانسان الى ماهيته ، هو الفكر الذي يضمن له الإستمرار في استيعاب محيطه/كونه و كينونته ، لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا بإلحاح شديد ، لماذا الزجال استثنى " الطين " من هذه المكونات السبع ؟ باعتبار أن هذا المكون هو الحاضر في كل الخطابات الإلهية و اللاهوتية ؟ فإذا ما رجعنا إلى الوجودية باعتبارها فلسفة حياة ،تتخذ من الإنسان محورا لكل انشغالاتها ، هو منطلق كل الأفكار ، فالإنسان هو " أقدم شيء في الوجود، و وجوده سابق لكل شيء " ،إنه محور الكون بكل مكوناته ، إنه المادة الأولى و الأخيرة ، و الزجال الحكيم هنا لم يقص هذا المكون اعتباطيا ، انه تعمد ذلك ،من أجل دعوتنا لإقصاء كل الخطابات الجاهزة و الاحتكام للعقل للوصول إلى الحقيقة ، أو التفكير في الإنسان ،في حقيقة وجوده، بعيدا عن تفسيرات النقل بدل الاعتماد على العقل .
إن جوهر الوجود الإنساني حسب سارتر يتمثل في الربط بين ثالوث الحرية و الإختيار ثم المسئولية ، إنها الأسس الثلاثة المحددة لوجود كل إنسان في كل زمان و مكان ، و الزجال كان ذكيا في الجمع بين هذه المكونات الثلاث المحددة لجوهر و كنه الوجود في قوله : " المهم ... كنا كاينين بالقوة ،كاينين بالفعل .. راحنا عصيناه و جينا بجوج " ، فالحرية هي التواجد بالفعل مع الانفعال و التفاعل مع هذا الفعل / الاختيار ، و قد جاءت كلمة القوة كمقابل ضدي لمنحى اختيار الفعل ، و ادراجهما يحيلنا على ثنائية المسيَّر و المخير في فعل التواجد و الوجود ، و هنا مرة أخرى يدخل منهج الريب و الشك الديكارتي ، الذي يساءل احساسنا بالوجود و التواجد ، هل هذه الكينونة/ " كاينين" هي إنعكاس طوعي ،أم هي مفروضة علينا ، و مهما كان الجواب فإن الخلاصة تتمثل في فعل العصيان من جهة و المجيء أو النزول من جهة أخرى . و سيبقى هذا التواطؤ في فعل المجيء يتردد و يعيد نفسه في كل محطات تأنيب الضمير الفردي و الثنائي و الجماعي كذلك داخل القصيدة ، بل سيصبح هذا التأنيب هو الجوهر العام و نواة الرؤيا الكلية و الشمولية لهذه القصيدة : ( راحنا عصيناه و جينا بجوج ـ سؤال سكتنا عليه بجوج ـ علمناه يستر الدم حنا بجوج ـ اجنينا الخير و الشر بيدينا بجوج ـ تلينا بجوج ـ يمكن مني يمكن منك ، يمكن منا بجوج ) .
قصيدة " يمكن " احتراق و تأنيب ضمير مفرد ،لكنه بصيغة مثنى بهيئة جمع وجودية :
أولى "سارتر" أهمية كبرى لمفهوم الحرية و دورها في تحديد اختيارات كل فرد ،فبالفعل الحر يتمكن كل شخص من إعطاء معنى لوجوده ، و فعل الاختيار أو اختيار الفعل و طبيعته، يحددان ماهية وجود الشخص داخل منظومته المجتمعية ، و الزجال الحكيم في قصيدة " يمكن "هو مفرد ،من خلال ذاته الشاعرة ، لكنه بصيغة مثنى جامع لوجودية الإنسان ،إننا هنا أمام ذات شاعرة تحترق و تحرقنا معها ، تغرقنا في وابل من الاسئلة الشك – الوجودية " حيرة سؤال " ، كلما لامسنا مقاربات هذا السؤال إلا و توالدت و تناسلت أسئلة أخرى و تعددت المتاهات بداخلنا : " من صلب جوابه أبعث تاني سؤال " ، لنصبح وسط دوامة من الشك و التشكيك في الشك نفسه " ازرع الشك ف طريق اليقين " .
ألم أقل أن الزجال في هذه القصيدة ماكر حد المتعة ،و عميق حد نفسه الأمارة بالتأمل ، عرف كيف يسن لنفسه طريقا محفوفا بالاستفزاز الفكري ،لكنه استفزاز يوقظ بداخنا قيمة السؤال و دوره في فهم الإنسان و من خلاله فهم وجوده ، انها ذات شاعرة لها شجاعة خارقة على تأنيب ذاتها و تأنيب الآخر من منطلق تقاسمهما معا كل السياقات السلب ـ إيجابية : " رباح و خسران ـ شوك و ورد ـ اجنينا الخير و الشر بيدينا بجوج " ، فكل هذه الثنائيات المتضادة و المتنافرة هي تعبير عن فكر وجودي قلق ،على حد تصور " هايدغر " ، قلق من مصير هذه الحياة التي يحياها هذا الانسان ، قلق من السقوط في العدمية ،قلق مريب من اللاجدوى الوجود/ الحياة ، قلق يدفع هذه الذات الشاعرة لكي تتخذ من هذا القلق/تأنيب الضمير الفردي و الجماعي، مرجعية لتقويم وجودها ،لكي تعيد التفكير في كيفية الإقبال عن الحياة : " طارو طيور حطو طيور ـ كانو فراخ صبحو نسور " ، أليس في هذا ما يحيل على وعي بقلق فعل الحياة في علاقة تجاذبية مع الوجود و وجودية الإنسان ؟ أليس الإنسان مرجعنا الأوحد في فهم هذا الإنسان ،فهم الحياة ، فهم الآخر ،و فهم الوجود ، بغية إيجاد تعايش بين الإنسان و كونه ،و كذا قبوله لكينونة ثنائية و جماعية كذلك ؟ أليس في الرصد و الاعتراف بالنواقص / العيوب : " عيبي ، عيبك " الذاتية و الموضوعية ،محاولة لترميم الحياة بين هذا الثنائي الذي خلق لكي يمنحا لبعضهما البعض الحياة ،ثم ليكونا معا قيمة وجودية و اعتبارية لوجودهما معا و لوجودية الإنسان ؟
إن تأنيب الضمير الفردي /الذات الشاعرة ، و التأنيب الثنائي /أنا ـ أنت ـ بجوج ، من خلال الجهر و الإقرار المباشر بفعل المعصية : " ياك عصيناه و جينا بجوج "، يحيلنا على مأساة و عقدة ذنب جماعية ، أفرزت لنا سيكولوجية جماعة مضطربة و مهتزة ، لم تتخلص من ذنبها الأزلي و الأبدي ، ذنب ظل يلاحقها : "و الا اليوم ف القلوب ما تلات محنة ـ راه منا و منا بجوج " ، يقول " غوستاف لوبون " في كتابه " سيكولوجية الجماهير " متحدثا عن تأثير الأيديولوجيات الدينية في السلوك الجماعي ، و ما حملته هذه الأيديولوجيات من عقد ذنب جماعية ،كان لها التأثير الكبير في التعامل مع كل ما يحيط بها ،بحيث أن معصية النزول و مغادرة الجنة، أصبحت مصدرا و مرجعا لتبرير كل ما لحق بالانسان من محن و من ويلات ،و بالتالي خلق بداخل هذا الضمير الجماعي شعورا بالضياع و بالهلاك ، ذنب ضمير جماعي يرى خلاصه في الرجوع و الطريق الى ذلك محفوفة بالمواجهة ، مواجهة الأنا و الآخر ،و مواجهة هذا الذنب ، و مواجهة هذا التأنيب الجماعي و مواجهة الطبيعة في صورتها العدوانية و العنيفة .
خلاصة / خلاص من قصيدة متعبة و ماتعة :
قرأت القصيدة و قرأتني ، ما إن اقتربت منها حتى لبستني ، مشت بداخلي عارية إلا من رؤيتها الشعرية الغارقة في العمق و في الجمال ، كنت قد سمعتها لأول مرة هنا بمنفاي الشعري ، قرأها صاحبها ، الزجال عبد الرحيم باطمة في ساعات متأخرة من ليلة أعلنت عن انتسابها للشعر ، كان للصوت ملامح الحكماء ،الذين يمشون في الأرض، يزرعون سنبلة شعرية هنا و قنبلة فكرية هناك ، تأبط شعره/زجله ، و لوح لعقلي لكي يستيقظ ، و كأنه يقول لي قبل بدء قراءة قصيدته " يمكن " من ديوانه الأخير " الدهشة فضول " : " لا أطلب منك سوى أن تكون أنت و لا أحدا غيرك " ، و مشت القصيدة و صاحبها فوق أضلعي و انسابا معا في مجرى دمي ، و بدأ ينشد و يرتل زجله ترتيلا ، استعرت في الإصغاء الأول كل ما أحمله بداخلي من معاجم و من كتب في النقل و العقل ، من علوم و مناهج ، لكن القصيدة كانت صفعة للإنسان العاشق للجمال بداخلي ، كانت حماما باردا أيقظني من سباتي الأبدي ،و أنا الذي قظيت في كهف نومهم مئات السنين ،أبحث عن قصيدة تعيدني إلي و إلى الزجل المبين ، و عبد الرحيم لم يكن رحيما بي و بفكري ، قال لي و هو يقرأ ما تيسر من قصيدة " يمكن " : لن أموت في كنف العربي ، و لن أعيش في جلباب أخي محمد ، أنا صوت لقصيدة أخرى ، أنا زجل يمشي بحكمة و بكبرياء إلى موته/حياته ،يحمل مختبرا في جيبه الأيمن ، و في الآخر مركزا للتشريح الفكري و التأملي ، لقد كان بحق يعيش الانسلاخ الشعري، و قد برهن بعمق قصيدته أن المحطات السابقة ،( شجرة البطمة – الشحطة ) لم تكن في الحقيقة سوى محطات استراحة للوصول إلى وجهة الحداثة ، نعم ، أكيد ، قصيدة " يمكن " قصيدة حداثية بامتياز ، قصيدة لكي تدخل غمار رؤيتها العميقة ،يجب عليك أن تأخذ تأشيرة من بابل العالمة ،و أن تتبرك بأحجار الإغريق و تماثيل حكمائها و فلاسفتها الأجلاء ، يجب عليك أن تتوسل لابن رشد أن ينبعث من جديد فتحضر حلقات فكره ، إنها قصيدة مسكونة بالسؤال ، بالقلق الوجودي ، و بالمنهج الديكارتي ، قصيدة لا تمنحك حق الجواب ، فقط هي أسئلة تتزاحم بمخيلتك فتغرقك في التأملات الفكرية و الوجودية ،لتصبح مدمنا على طرح الأسئلة حول الأنا و الاخر ،حول الفكر الجماعي في علاقته التجاذبية بالذنب و التأنيب الجماعيين .
ما كتبته هنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أعتبره قراءة نقدية ، أنا مثل كل من قرأته هذه القصيدة ، فاعتنق مذهب السؤال و انبرى بنفسه يطوف حولها، و يتضرع لكل أرباب الفكر ،علهم يجودون عليه ببريق معرفة ، و قبس من ضوء فكر ينير لديه عتمة السؤال ، و اذ أشكر صديقي عبد الرحيم باطمة ، أقول له : دام لك وعيك الشقي و دمت سؤالا حارقا في معادلتنا الزجلية ،و دمت ماكرا حد جمال الفكر و جمالية طرحه زجلا ماتعا .
مراجع : جان بول سارتر " الوجودية منزع إنساني "
كتاب " الوجود و العدم " ترجمة عبد الرحمن بدوي
مارتن هايدغر كتاب " السؤال عن الشيء "
" سيكولوجية الجماهير " غوستاف لوبون ،ترجمة و تقديم هاشم صالح
كلا لم تمت الكلمة المزجالة الغارقة في نعيم إبداعيتها و في فردوس دهشتها الجمالية ، مازالت القصيدة الكاملة عقل و دين ،تمشي بيننا بدلال ،أينما مرت ترسم بخطاها سحرا أخاذا ،سحرا حلالا ، لا يدركه إلا الراسخون في عشق الجمال ، و قصيدة " يمكن " لمقترفها و مرتكب دهشتها الجمالية ، الزجال الحكيم " عبد الرحيم باطما " خير مثال على أن كوكب الزجل مازال يدور وفق إيقاع جمال الإبداع و إبداعية الجمال ، قصيدة من زمن غير الزمن ، عندما تقرأها تصيبك بعدوى السؤال : من أنا و من أكون ؟ " يمكن نكونوا ... يمكن نكونوا ..." و من هذا الآخر الذي يقتسم معي كينونتي و يقتسم معي هذا الكون ؟ ما علاقتي بهذا الكائن ؟ و علاقتنا معا بالثنائيات المتضادة و المتنافرة شر/ خير ، حب / حقد ،حياة / موت ؟ من ارتكب الخطيئة الأولى ؟ و من أين أتينا ؟ و كيف أتينا " نزلنا رتق - يمكن طلعنا من الأرض فتق " و ما هي مكونات الخلق؟ و كيف تم خلق الإنسان؟ : " يمكن نكونوا ماء / يمكن هواء / درة / عافية / يمكن دخان ،أو عجينة فاضت من يحموم " ، و من ارتكب الخطايا التي ستتعاقب بعد خطيئة النزول أو الخروج ؟ من الضحية في فعل النزول ؟ أسئلة وجودية لذات شاعرة ذكورية ، تساءل الكون و الكائن حول الخلق و المخلوق ، حول ثنائية الشك و اليقين في فعل العشق و المعشوق .
" يمكن "، هي قصيدة تفرض سطوتها الفكرية و الوجودية ، قصيدة حداثية بامتياز ، حيث أن البعد الفكري الفلسفي من جهة و الإبداعية الشعرية الغارقة في دهشتها من جهة ثانية ، يمتزجان فيما بينهما ليمنحانا منجزا زجليا يسمو بالذائقة الشعرية ، و الأهم أنه يرفع من قيمة لغتنا العامية ، التي عكس ما يدعي البعض أنها لغة تواصل بسيطة ،و أنها ليست لغة فكر و شعر ، بل عكس ذلك ، في استطاعة هذه اللغة ملامسة قضايا الفكر و الوجود و بأسلوب شعري غارق في شعريته .
ديكارت و سارتر في ضيافة الزجل المغربي الحداثي :
" يوجد شيء واحد لا يمكن أن أشك فيه ، و هو أني أشك " قالها ديكارت و هو يضع منهجه هذا للوصول إلى الحقيقة و إلى اليقين ، إذن دعونا نقتحم عوالم هذه القصيدة النموذج ،و هي عوالم يمتزج فيها المنهج الديكارتي بالفكر الوجودي في رؤيا شعرية عميقة ، ليخلقا لنا أطروحة فكر- إبداعية في غاية العمق و التناسق ، قصيدة " يمكن " وقفة تأملية لذات شاعرة مهووسة بالسؤال الوجودي المستفز تارة ، و المشكك تارة أخرى في كل الثوابت العلائقية و المعتقدية ، منهجها في ذلك خطا ديكارتيا يروم لجعل من الكوجيطو المؤثت لنظرية الشك في علاقته باحتماليات اليقين و متاهات التصديق ، مسارا يحكم و يتحكم في فعل الأفكار ، لا الفكر ، بحكم أن ديكارت و هو يمارس فعل الشك يستثني في منهجه الفكر و الشك " لا يمكن أن يشك في شكه " و يتحكم كذلك في فعل الإبداع . و عبد الرحيم الحكيم تأبط شر شكه و مضى هذا الفتى المشبع بفكره الفلسفي إلى زعزعة المعتقد الفكري الذي تأسس و تشكل من خلال مرجعيات متعددة فكرية و معتقدية ،لامست في ترسيخها و الإيمان بها خلاصة حتمية ،ألا و هي حتمية اليقين ، يقول الزجال في مستهل أطروحته الفكر- زجلية :
يمكن نكونوا كيف
يمكن نكونوا كم
إنه تشكيك صارخ للتقييم الجوهري و النوعي لقيمة الإنسان في علاقته بإنسانيته، و علاقته بالآخر و بالكون كله ، تفكير وجودي بمنهج ديكارتي ، يروم لإحداث اهتزازات تكتونية ، الغاية منها إعادة النظر في الإنسان و في الوجود ، في وجودية الإنسان ، و في إنسانية الوجود ، هل نحن قيمة نوعية ؟أم أن قيمتنا في الكم و العدد المشكل لنا كذوات و هل العدد هو نواة لجوهر وجودنا ؟ هل نحن عقل يفكر و قلب يحس و يتفاعل مع كل ما يحيط به ؟ أم أننا مجرد عدد قيمته في تناسله و تكاثره ؟ و فعل " يمكن " المشكك في كل المسلمات و في كل القيم النوعية للإنسان ( عقل ، قلب ، احساس ، تفاعل ، انفعال ) ، و السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ، عن أي إنسان يتكلم الزجال هنا ؟ هل يتكلم عن إنسان معين ؟ بتحديد الرؤية و الرقعة الجغرافية ؟ ليس هناك أي سياق دلالي أو مفاهيمي يشير إلى ذلك ، إنه يتكلم عن الإنسان الكوني ،الإنسان في بعده الأشمل و الأوسع ، الإنسان كما وجد و تواجد منذ الظهور الأول .
يمكن نكونوا صروح عالية
يمكن ردم
يمكن نكونوا احرار في فعالنا
يمكن خدم
و يستمر منطق الشك و التشكيك حول من نحن و من نكون ؟ هل الإنسان أوجد الإنسان و بنى لنفسه في الإنسان و حوله قيمة الإنسان؟ و أنه بهذه القيمة بلغ أقصى مداه و بلغ جوهر ما يجب أن يكون عليه الإنسان ؟ أم أنه لا يعدو أن يكون مجرد دمار و خراب ينبطح مع التراب ،حقيرا ذليلا ، تستوي قيمته الوجودية مع قيمة " الردم " أي الدمار و الخراب ؟ و لعل الصور الشعرية الموالية التي تنبني في مجملها على فرضيتين اثنتين ،الفرضية و نقيضها ، فرضية الإيجاب و دحضها بفرضية أخرى سلبية و سالبة للقيمة الإعتبارية الإنسان في بعده القيمي ، وجدنا أنفسنا أمام خطاب شعري أشبه بحساب عسير لذات شاعرة مع إنسانيتها و مع انتمائها لهذا المخلوق الذي يسمى مجازا و واقعيا بالإنسان ( كيف / كم – صروح عالية / ردم – أحرار في أفعالنا / خدم ) ، ف فعل " يمكن " الذي يفيد احتمالية وقوع الشيء و تحققه واقعيا ، كما يفيد عكس ذلك ، إنه فعل احتمال، يجمع الضد بضده و النقيض بنقيضه، و يبقى التعبير الشعري الجامع لكل هذه المتقابلات الضدية بأسطر شعرية قصيرة ، هو جوهر و نواة لذة النص و دهشته العظمى . هناك مسافة فاصلة ما بين خيط الروح و موتها ،ما بين الحرية/ حرية الفعل و العبودية / الخدم ،فهل حقا هذه الحرية التي ننعم بها تشخيص و ترجمة فعلية للحرية في مفهومها الوضعي و المثالي ؟ أم أنها نسخة ممسوخة و مغلوطة لما يجب أن تكون عليه الحرية ؟ يقول جان بول سارتر عن الحرية : " الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا ،لأنه ذات حرة ألقي بها في العالم ، و هو مسؤول عن كل ما يفعل " ،و يقول كذلك صاحب رواية " الغثيان " : " الحرية هي ما تفعله مع ما تم فعله بك " فالتساؤل الضمني الذي يمكن أن يحدث بداخلنا رجة فكرية و معتقدية، إذا ما ربطناه بثنائية الحرية و العبودية في القصيدة بمقولات سارتر عن الحرية : هل الإنسان له القدرة الفكرية و النفسية و التعبيرية كذلك لإدراك ما الحرية و ما شروط تحققها ؟ و ما هي ملامحها ؟ مأزق فكري و مفاهيمي يؤرق كل قارئ لهذه القصيدة ،و يغرقه في متاهات أسئلة حارقة ،قد لا نجد لها أجوبة شافية و دقيقة و محددة كذلك ، تشكيك في ماهية الإنسان
قصيدة لها من السحر و القوة و المكر الفكري المبيت لكي ترمي بك في غياهب التأمل و التفكير العميقين .
قصيدة " يمكن " تأمل في الماهية و في الوجود الفعلي للإنسان
يقول سارتر في كتابه " الوجودية مذهب إنساني" : " الإنسان يوجد ،ثم يريد أن يكون " " الإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه " فالوجود بالنسبة له هو الأصل أما الماهية فتأتي بعد وجوده ، فالإنسان هو من خلق ماهية وجوده و اختار كيف ينبغي أن تكون عليه هذه الماهية ، و قصيدة يمكن غوص زجلي بنزعة فكرية تشكيكية تروم للنبش و الحفر العقلاني في ماهية الوجود و وجودية هذه الماهية " كم / كيف " ، و تساؤلات ضمنية و مباشرة حول الإنسان و أصله ، أو أصوله ، و لعل توظيفه لفعل " النزول " : " يمكن نكونوا نزلنا رتق " الذي يقابله في الحركية الفعلية النقيضة فعل : " طلعنا " ، ففعل النزول يحيل على الخطيئة الكبرى، و التي تتلخص في عملية الاندحار و الهبوط لأرض ستكون مسرحا للبحث و استيعاب ماهية الوجود : " يمكن من الارض طلعنا فتق " ،فبعد طرح معضلة الوجهة حسب ثنائية متضادة و متنافرة " نزول – طلوع " ، ينتقل بنا إلى بناء آخر أكثر عمقا من سابقه ، ألا و هو أصل الانسان : " ماء – هواء – درة – عافية – دخان – عجينة – عقل كبير " إنه يضعنا أمام ماهية التكوين و التشكل الأول لهذا الإنسان ،و بنزعة ديكارتية تهدف التشكيك من أجل بلوغ و إدراك فهم تقريبي و ليس يقيني لماهية الإنسان و أصله ، يتلاعب بنا و بفهمنا الساذج و البسيط حول المادة التي تشكل عبرها و منها الإنسان ، فكل عناصره السبعة المدرجة في هذا الباب ، هي في حقيقة الأمر ليست عناصر مشكلة لوجوده و إنما هي عناصر و آليات ستساعده على إدراك ماهية الوجود ، فعبر كل هذه المكونات سيرتقي الإنسان بماهيته و ماهية وجوده ، يقول سارتر في هذا الباب : " إن الإنسان يوجد ، ثم يسعى لأن يكون " ، و لكي تستمر كينونته لابد له من التفكير في اكتشاف محيطه و فهمه حتى يتسنى له إدراك ماهيته كإنسان و ماهية وجوده ، ف " العقل الكبير " الحالم ، الذي يفكر/يخمم ، هو المنهج الذي يوصل الانسان الى ماهيته ، هو الفكر الذي يضمن له الإستمرار في استيعاب محيطه/كونه و كينونته ، لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا بإلحاح شديد ، لماذا الزجال استثنى " الطين " من هذه المكونات السبع ؟ باعتبار أن هذا المكون هو الحاضر في كل الخطابات الإلهية و اللاهوتية ؟ فإذا ما رجعنا إلى الوجودية باعتبارها فلسفة حياة ،تتخذ من الإنسان محورا لكل انشغالاتها ، هو منطلق كل الأفكار ، فالإنسان هو " أقدم شيء في الوجود، و وجوده سابق لكل شيء " ،إنه محور الكون بكل مكوناته ، إنه المادة الأولى و الأخيرة ، و الزجال الحكيم هنا لم يقص هذا المكون اعتباطيا ، انه تعمد ذلك ،من أجل دعوتنا لإقصاء كل الخطابات الجاهزة و الاحتكام للعقل للوصول إلى الحقيقة ، أو التفكير في الإنسان ،في حقيقة وجوده، بعيدا عن تفسيرات النقل بدل الاعتماد على العقل .
إن جوهر الوجود الإنساني حسب سارتر يتمثل في الربط بين ثالوث الحرية و الإختيار ثم المسئولية ، إنها الأسس الثلاثة المحددة لوجود كل إنسان في كل زمان و مكان ، و الزجال كان ذكيا في الجمع بين هذه المكونات الثلاث المحددة لجوهر و كنه الوجود في قوله : " المهم ... كنا كاينين بالقوة ،كاينين بالفعل .. راحنا عصيناه و جينا بجوج " ، فالحرية هي التواجد بالفعل مع الانفعال و التفاعل مع هذا الفعل / الاختيار ، و قد جاءت كلمة القوة كمقابل ضدي لمنحى اختيار الفعل ، و ادراجهما يحيلنا على ثنائية المسيَّر و المخير في فعل التواجد و الوجود ، و هنا مرة أخرى يدخل منهج الريب و الشك الديكارتي ، الذي يساءل احساسنا بالوجود و التواجد ، هل هذه الكينونة/ " كاينين" هي إنعكاس طوعي ،أم هي مفروضة علينا ، و مهما كان الجواب فإن الخلاصة تتمثل في فعل العصيان من جهة و المجيء أو النزول من جهة أخرى . و سيبقى هذا التواطؤ في فعل المجيء يتردد و يعيد نفسه في كل محطات تأنيب الضمير الفردي و الثنائي و الجماعي كذلك داخل القصيدة ، بل سيصبح هذا التأنيب هو الجوهر العام و نواة الرؤيا الكلية و الشمولية لهذه القصيدة : ( راحنا عصيناه و جينا بجوج ـ سؤال سكتنا عليه بجوج ـ علمناه يستر الدم حنا بجوج ـ اجنينا الخير و الشر بيدينا بجوج ـ تلينا بجوج ـ يمكن مني يمكن منك ، يمكن منا بجوج ) .
قصيدة " يمكن " احتراق و تأنيب ضمير مفرد ،لكنه بصيغة مثنى بهيئة جمع وجودية :
أولى "سارتر" أهمية كبرى لمفهوم الحرية و دورها في تحديد اختيارات كل فرد ،فبالفعل الحر يتمكن كل شخص من إعطاء معنى لوجوده ، و فعل الاختيار أو اختيار الفعل و طبيعته، يحددان ماهية وجود الشخص داخل منظومته المجتمعية ، و الزجال الحكيم في قصيدة " يمكن "هو مفرد ،من خلال ذاته الشاعرة ، لكنه بصيغة مثنى جامع لوجودية الإنسان ،إننا هنا أمام ذات شاعرة تحترق و تحرقنا معها ، تغرقنا في وابل من الاسئلة الشك – الوجودية " حيرة سؤال " ، كلما لامسنا مقاربات هذا السؤال إلا و توالدت و تناسلت أسئلة أخرى و تعددت المتاهات بداخلنا : " من صلب جوابه أبعث تاني سؤال " ، لنصبح وسط دوامة من الشك و التشكيك في الشك نفسه " ازرع الشك ف طريق اليقين " .
ألم أقل أن الزجال في هذه القصيدة ماكر حد المتعة ،و عميق حد نفسه الأمارة بالتأمل ، عرف كيف يسن لنفسه طريقا محفوفا بالاستفزاز الفكري ،لكنه استفزاز يوقظ بداخنا قيمة السؤال و دوره في فهم الإنسان و من خلاله فهم وجوده ، انها ذات شاعرة لها شجاعة خارقة على تأنيب ذاتها و تأنيب الآخر من منطلق تقاسمهما معا كل السياقات السلب ـ إيجابية : " رباح و خسران ـ شوك و ورد ـ اجنينا الخير و الشر بيدينا بجوج " ، فكل هذه الثنائيات المتضادة و المتنافرة هي تعبير عن فكر وجودي قلق ،على حد تصور " هايدغر " ، قلق من مصير هذه الحياة التي يحياها هذا الانسان ، قلق من السقوط في العدمية ،قلق مريب من اللاجدوى الوجود/ الحياة ، قلق يدفع هذه الذات الشاعرة لكي تتخذ من هذا القلق/تأنيب الضمير الفردي و الجماعي، مرجعية لتقويم وجودها ،لكي تعيد التفكير في كيفية الإقبال عن الحياة : " طارو طيور حطو طيور ـ كانو فراخ صبحو نسور " ، أليس في هذا ما يحيل على وعي بقلق فعل الحياة في علاقة تجاذبية مع الوجود و وجودية الإنسان ؟ أليس الإنسان مرجعنا الأوحد في فهم هذا الإنسان ،فهم الحياة ، فهم الآخر ،و فهم الوجود ، بغية إيجاد تعايش بين الإنسان و كونه ،و كذا قبوله لكينونة ثنائية و جماعية كذلك ؟ أليس في الرصد و الاعتراف بالنواقص / العيوب : " عيبي ، عيبك " الذاتية و الموضوعية ،محاولة لترميم الحياة بين هذا الثنائي الذي خلق لكي يمنحا لبعضهما البعض الحياة ،ثم ليكونا معا قيمة وجودية و اعتبارية لوجودهما معا و لوجودية الإنسان ؟
إن تأنيب الضمير الفردي /الذات الشاعرة ، و التأنيب الثنائي /أنا ـ أنت ـ بجوج ، من خلال الجهر و الإقرار المباشر بفعل المعصية : " ياك عصيناه و جينا بجوج "، يحيلنا على مأساة و عقدة ذنب جماعية ، أفرزت لنا سيكولوجية جماعة مضطربة و مهتزة ، لم تتخلص من ذنبها الأزلي و الأبدي ، ذنب ظل يلاحقها : "و الا اليوم ف القلوب ما تلات محنة ـ راه منا و منا بجوج " ، يقول " غوستاف لوبون " في كتابه " سيكولوجية الجماهير " متحدثا عن تأثير الأيديولوجيات الدينية في السلوك الجماعي ، و ما حملته هذه الأيديولوجيات من عقد ذنب جماعية ،كان لها التأثير الكبير في التعامل مع كل ما يحيط بها ،بحيث أن معصية النزول و مغادرة الجنة، أصبحت مصدرا و مرجعا لتبرير كل ما لحق بالانسان من محن و من ويلات ،و بالتالي خلق بداخل هذا الضمير الجماعي شعورا بالضياع و بالهلاك ، ذنب ضمير جماعي يرى خلاصه في الرجوع و الطريق الى ذلك محفوفة بالمواجهة ، مواجهة الأنا و الآخر ،و مواجهة هذا الذنب ، و مواجهة هذا التأنيب الجماعي و مواجهة الطبيعة في صورتها العدوانية و العنيفة .
خلاصة / خلاص من قصيدة متعبة و ماتعة :
قرأت القصيدة و قرأتني ، ما إن اقتربت منها حتى لبستني ، مشت بداخلي عارية إلا من رؤيتها الشعرية الغارقة في العمق و في الجمال ، كنت قد سمعتها لأول مرة هنا بمنفاي الشعري ، قرأها صاحبها ، الزجال عبد الرحيم باطمة في ساعات متأخرة من ليلة أعلنت عن انتسابها للشعر ، كان للصوت ملامح الحكماء ،الذين يمشون في الأرض، يزرعون سنبلة شعرية هنا و قنبلة فكرية هناك ، تأبط شعره/زجله ، و لوح لعقلي لكي يستيقظ ، و كأنه يقول لي قبل بدء قراءة قصيدته " يمكن " من ديوانه الأخير " الدهشة فضول " : " لا أطلب منك سوى أن تكون أنت و لا أحدا غيرك " ، و مشت القصيدة و صاحبها فوق أضلعي و انسابا معا في مجرى دمي ، و بدأ ينشد و يرتل زجله ترتيلا ، استعرت في الإصغاء الأول كل ما أحمله بداخلي من معاجم و من كتب في النقل و العقل ، من علوم و مناهج ، لكن القصيدة كانت صفعة للإنسان العاشق للجمال بداخلي ، كانت حماما باردا أيقظني من سباتي الأبدي ،و أنا الذي قظيت في كهف نومهم مئات السنين ،أبحث عن قصيدة تعيدني إلي و إلى الزجل المبين ، و عبد الرحيم لم يكن رحيما بي و بفكري ، قال لي و هو يقرأ ما تيسر من قصيدة " يمكن " : لن أموت في كنف العربي ، و لن أعيش في جلباب أخي محمد ، أنا صوت لقصيدة أخرى ، أنا زجل يمشي بحكمة و بكبرياء إلى موته/حياته ،يحمل مختبرا في جيبه الأيمن ، و في الآخر مركزا للتشريح الفكري و التأملي ، لقد كان بحق يعيش الانسلاخ الشعري، و قد برهن بعمق قصيدته أن المحطات السابقة ،( شجرة البطمة – الشحطة ) لم تكن في الحقيقة سوى محطات استراحة للوصول إلى وجهة الحداثة ، نعم ، أكيد ، قصيدة " يمكن " قصيدة حداثية بامتياز ، قصيدة لكي تدخل غمار رؤيتها العميقة ،يجب عليك أن تأخذ تأشيرة من بابل العالمة ،و أن تتبرك بأحجار الإغريق و تماثيل حكمائها و فلاسفتها الأجلاء ، يجب عليك أن تتوسل لابن رشد أن ينبعث من جديد فتحضر حلقات فكره ، إنها قصيدة مسكونة بالسؤال ، بالقلق الوجودي ، و بالمنهج الديكارتي ، قصيدة لا تمنحك حق الجواب ، فقط هي أسئلة تتزاحم بمخيلتك فتغرقك في التأملات الفكرية و الوجودية ،لتصبح مدمنا على طرح الأسئلة حول الأنا و الاخر ،حول الفكر الجماعي في علاقته التجاذبية بالذنب و التأنيب الجماعيين .
ما كتبته هنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أعتبره قراءة نقدية ، أنا مثل كل من قرأته هذه القصيدة ، فاعتنق مذهب السؤال و انبرى بنفسه يطوف حولها، و يتضرع لكل أرباب الفكر ،علهم يجودون عليه ببريق معرفة ، و قبس من ضوء فكر ينير لديه عتمة السؤال ، و اذ أشكر صديقي عبد الرحيم باطمة ، أقول له : دام لك وعيك الشقي و دمت سؤالا حارقا في معادلتنا الزجلية ،و دمت ماكرا حد جمال الفكر و جمالية طرحه زجلا ماتعا .
مراجع : جان بول سارتر " الوجودية منزع إنساني "
كتاب " الوجود و العدم " ترجمة عبد الرحمن بدوي
مارتن هايدغر كتاب " السؤال عن الشيء "
" سيكولوجية الجماهير " غوستاف لوبون ،ترجمة و تقديم هاشم صالح