د. أحمد الحطاب - كالأمِّية والفقر، الفسادُ آفةٌ اجتماعية

بما أن فسادَ مشهدنا السياسي من فساد أحزابنا السياسية، فالحملات الانتخابية ليست إلا فرصة تُتيح للفساد السياسي أن يدخلَ في تنافسٍ شَرِسٍ مع الفساد السياسي. وبدون أدنى شك، النَّصر يعود حتما للفساد السياسي ليُلقيَ بضلاله، كما كان الشأن في السنوات الماضية، على البلاد والعباد.

ستزداد سِكَكُ قِطارُ الفساد طولاً واتِّجاهاً ليجوبَ البلاد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. والفساد السياسي هو مصدر جميع أنواع الفساد. والمصدر أصلُه بشرٌ والبشر السياسي الفاسد، إدا وصل إلى سُدَّةِ تدبير الشأن العام والمحلي، كان الله في عون البلاد والعباد.

ولماذا انتصر وينتصِر الفساد السياسي؟ لأنه، عندما يتواجه الفسادُ مع الفساد في الحملات الانتخابية، فالمنتصِر حتما، كما سبق الذكرُ، هو الفساد. فلا غرابةَ أن يتغلغل هذا الفسادُ في ربوع البلاد اجتماعيا، لاأخلاقيا واقتصاديا؟ ولماذا تغلغل في ربوع البلاد؟

أولا، لأنه وجدَ تربةً خصبةً استقبلته وتستقبله بالأحضان، وفي غياب تام للضمير الحي. ثانيا، لأن التَّجربةَ بيَّنت وتُبيِّن بوضوح أن الفسادَ لن يقضيَ على نفسِه بنفسِه. وبعبارة أوضح، إذا وصل السياسيون الفاسدون إلى سُدَّة الحكم وتدبير الشأن العام، و إذا كانوا هم مَن يُصدرون القوانين ولا يُلحُّون إطلاقا على تطببقها تطبيقا صارما، فهل سيقضون على أنفسهم بأنفسهم؟

بالطبع لا. وهل سيقضي السياسيون الفاسدون على مصادر إشباع جَشعِهم؟ لم يفعلوا ولن يفعلوا. لماذا؟

لأن هؤلاء الفاسدين بدلوا ما في وسعهم من جهود ليصبح الفساد ثقافةً مترسِّخةً في المِخيال الجماعي بل ليصبحَ عقليةً تُلقي بضلالها على الحياة العامة. حياة عامة نخر الفساد كل مظاهرها وأرغم الكثيرين، طوعاً أو كُرهاً، على التطبيع معه.

ولهذا، يمكن القولُ بدون تردُّد، الفسادَ أصبح، مثله مثل الأمية والفقر، آفةً اجتماعيةً لن تقضي عليها القوانين والمساطر والحملات الإعلامية وحدها.

ما سيقضي على هذه الآفة هو، أولا و قبل كل شيء، الإرادة السياسية ثم التطبيق الصارم للقانون إضافةً إلى التركيز على بناء الإنسان المغربي، بناءً مواطنا، من طرف المؤسسات الاجتماعية وعلى رأسها المدرسة، دون إغفال دور السياسات العمومية في توفير كرامة العيش للمواطنين. ولهذا، فالقضاء على الفساد لن يتمَّ بين عشية وضحاها إذ يلزمه النَّفَسُ الطويل لأن الأمر يتعلَّق بعقلية جماعية ترسَّخت في الفكر والسلوك والعمل.

انطلاقا من هذه الاعتبارات، الانتخابات، مهما كانت شفافة ونزيهة، لن تأتيَ بتغيير في هذا الشأن ما دام بَشَرُ الأحزاب السياسية لم يُراجعوا أنفسَهم ولم يفكِّروا في القطيعة مع ممارساتِهم الماضية، المُنافية للقِيم والأخلاق والمواطنة وحب الوطن. لماذا؟

لأن الفسادَ أصبح ثقافةً جماعيةً يصعب فكُّ ترابُطاتِها، وخصوصا أن وراءها قضاءَ مصالحَ اقتصادية واجتماعية. بل إن هذه الثقافة تفتح البابَ على مصراعيه للريع والمضاربات والاغتناء السريع والابتزاز والاختلاس والسرقة والنهب…

الحلُّ الوحيد للقضاء على الفساد، أو على الأقل، للحد من تداعياته، هو، كما سبق الذكرُ، توفُّر الإرادة السياسية وتطبيق القانون تطبيقا صارما وبدون تمييز.

من بين هذه التَّداعيات، تجدر الإشارة إلى أن الفسادَ، عندما يتعلَّق الأمرُ بالمعاملات الاقتصادية الضخمة، يُعدُّ خسارة للاقتصاد الوطني المهيكل. وتتجلَّى هذه الخسارة في ضياع مبالغ مالية هائلة كانت، لو مرَّت المعاملات في إطار القانون، ستُضاف إلى الناتج الداخلي الخام، أي إلى الثروة التي تُنتِجها البلادُ.

وهنا، لا بدَّ من التذكير أن الفسادَ منتشرٌ في جميع بلدان العالم. وهو موجود حتي في البلدان المتقدِّمة والراقية اجتماعيا وثقافيا. الفرق بين البلدان المتقدِّمة والبلدان السائرة في طريق النمو، هو أن القضاء، في البلدان المتقدِّمة، مستقل استقلالا تاما عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويقوم بأدواره كاملةً في حماية اقتصادات هذه البلدان، وكذلك في حماية المواطنين من تداعيات الفساد. بينما في البلدان النامية أو السائرة في طريق النمو، القضاء، غالبا ما يكون مستقلا على الورق فقط. أما الواقع، فالمحسوبية والزبونية والانتماء الطبقي والجاه و"باك صاحْبِي"... هي الأشياء التي تُسيِّر الحياة اليومية! فمَن يؤدِّي ضريبةَ الفساد في البلدان السائرة في طريق النمو؟

بدون تردُّدٍ، إنهم المواطنون، وبالأخص، المواطنون الفقراء الذين لا حولَ ولا قوةَ لهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى