د. أحمد الحطاب - الرزانة والحكمة وبُعد النظر مقابل الرعونة، الغطرسة والتَّعنُّت

الكلُّ يعرف حق المعرفة أن توثُّرَ العلاقات بين الجزائر والمغرب كان ولا يزال سببا في ظهور مجموعاتٍ من الذباب الإلكتروني في البلدين. ذبابٌ إلكتروني ينشط، عبرَ شبكات التَّواصل الاجتماعي، في تبادل الشتائم والسَّبِّ والقذف والإهانة والنقائص…

وما يثيرُ الانتباهَ هو أن مجموعاتِ الذباب الإلكتروني هذه تضمُّ في صفوفها مَن هبَّ ودبَّ، بل البعض منهم لا يُحسنون القراءةَ والكتابة ويعطون لأنفسِهم صفاتٍ وأدوارا ليسوا مؤهَّلين للقيام بها. فمنهم مَن يتقمَّص دورَ الصحفي، وما هو بصحفي ومنهم مَن يقدِّم نفسَه كناقد، وما هو بناقد… ومنهم مَن يستغلُّ هذه العلاقات المتوثِّرة للسَّطو على فيديوهات الغير وإدخال وصلات إشهارية فيها لربح بعض الدراهم من خلال القَرصَنة piraterie.

ولهذا، فعندما نتصفَّح مواقعَ التَّولصل الاجتماعي، نجدها تعجُّ في المغرب والجزائر بالمنشورات التي لها علاقة بالتَّوثُّر السائد بين هذين البلدين. فهناك مقالات، وخصوصا، فيديوهات التي يتمُّ، بواسطتِها، تبادل كل أنواع الدناءة والانحطاط واللوم والعبارات النابية والمُخِلة للأخلاق والمُسيئة لحسن الجوار. فيديوهات، أقل ما يُقال عنها أنها مُجانبة للصواب ومُنافية للأخلاق والقيم الإنسانية السامية.

لا أُنكِر أنه من بين هذه الفيديوهات، هناك البعض منها، من الجانبين، يتحدَّث أصحابُها بعقلانية ورزانة وثبات واحترام الآخر. فيديوهات، أنا شخصيا أُتابعها وأحلِّلها وأستخلص منها كثيرا من الدروس والعِبر.

لكن الذبابَ الإلكتروني يكون دائما بالمِرصاد لهذا النوع من الفيديوهات الجادة ليُقرصِنها، وكما سبق الذكر، يضيف لها بعض الوصلات الإشهارية، بدون تعليق على محتواها ودون نقد أو إضافة أو نقاش.

غير أن ما لا يُدركُه الذبابُ الإلكتروني، من الجانبين، هو أن تبادلَ الشتائم والسَّبِّ والقذف والإهانة والنقائص… لا يُغيِّر ولن يغيِّرَ شيئا في الوضع المتوثِّر القائم بين الجزائر والمغرب. لماذا؟

لأن توثُّرَ العلاقات بين البلدين شأنٌ يهمُّ النظامين الحاكمين في هذين البلدين : النظام الحاكِم بالجزائر الذي لا شعبِيةَ ولا مشروعيةَ له، بمعنى أنه نظام مفروض على الشعب الجزائري. بينما النظام الحاكم بالمغرب ناتِجٌ عن تلاحُم بين العرش والشعب. تلاحمٌ تضرب جدورُه في أعماق التاريخ. فكل نظام حاكم له نظرتُه وتقييمُه للوضع المتوثَّر في العلاقات بين البلدين. ولهذا، فتغيير هذا الوضع لا يمكن أن يأتيَ إلا عن طريق مبادرة من أحد الطرفين الحاكِمين أو منهما معا.

ولا داعيَ للتذكيرِ بأن المبادرةَ تأتي، منذ سنين، دائما من الطرف المغربي الحاكم. بمعنى أن المغرب ينهج سياسةَ "اليد الممدودة" بينما الطرف الجزائري الحاكم يتجاهلها ولا يتفاعل معها ولا يوليها أي اهتمام. لماذا؟

لأن الطرفَ الجزائري الحاكم يتَّخذ من توثُّر العلاقات ذريعةً prétexte لإلهاء الشعب الجزائري وصَرف انتباهِه عن المشاكل الداخلية التي يتخبَّط فيها هذا الشعبُ والتي لها علاقة بالمعيش اليومي للجزائريين الذين يعانون من شحِّ الماء ومن ندرة العديد من المواد الغذائية وعلى رأسِها الحليب والدقيق والسكر… ولأن الحكَّامَ الجزائريين منشعلون بقضية واحدة تتمثَّل في حرمان المغرب من وحجته الترابية.

بالمقابل، المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها. وبالمقابل كذلك، المغرب يسير بخطى ثابتة في مشوار التنمية والتَّطوُّر والازدهار. تنمية وتطوُّرُ بمبادرات ملكية جعلت من المغرب قطبا رائدا في مجالات صناعية متطوِّرة كصناعة السيارات والطيران وتحويل الفوسفاط إلى أسمِدة وصناعة الدواء… ناهيك عن الاستقرار الذي تنعَم به البلادُ حيث جعل منها هذا الاستقرار قُطبا رائدا في مجال جلب الاستثمارات الأجنبية وقُطبا يُقبِل عليه السُّياح بالملايين…

كما أصبح المغربُ قطبا رائدا في محاربة تغيير المناخ بلجوئه إلى الطاقات البديلة، الصديقة للبيئة، من طاقة شمسية وريحية. وستصبح البلادُ، في المستقبل القريب، رائدةً في مجال تدبير المياه والتَّصدِّي لمشكلة الإجهاد المائي stress hydrique. وقد شرعت البلاد في هذا التَّصدِّي بإنشاء محطات لتحلية ماء البحر، ولأول مرة في العالم، بربط حوض نهر "سبو" بحوض نهر "أبورقراق" بقناة طولها أكثر من 60 كيلومتر وبأيادي مائة في المائة مغربية…

في نفس الوقت الذي يتطوَّر فيه المغرب، حكَّام الجزائر منشغلون، كما سبق الذكرُ، داخليا وخارجيا، بقضية واحدة و وحيدة : حرمان المغرب من صحرائه المغربية عن طريق إنشاء ودعم، بدون شروط، كيانين وهميين، البوليساريو والجمهورية الصحراوية. وتشبث حكام الجزائر بهذه القضية وتعنُّتُهم المفرط جعلهم ينسون أو يتناسون بأن الجزائرَ لها شعب له، كباقي الشعوب، حاجياتٌ وتطلُّعاتٌ. بل إن تعنُّتَهم هذا جعلهم يُهملون، إلى أبعد حدٍّ، اقتصادَ البلاد، الذي يوجد اليوم في أسوءِ حال. إلى درجة أن رئيسَ الجمهورية أصبح يتحدَّث، في خطبِه وندواتِه الصحفية "المُفبركة" عن العدس واللوبيا والسكر والحليب… ندوات صحفية "مفبركة" لأن كل شيء فيها مخطَّطٌ له مسبقا بدءً باختيار الصحفيين والمواضيع والأسئلة والأجوبة…ندوات صحفية خيطها النَّاظِم هو الكذِب على الشعب الجزائري.

عادةً، رؤساء الدول، عندما يعقدون ندواتٍ صحفية، فلِلحديث عن القضايا السياسية الكبرى التي تشغل ارَّأيَ العام للبلاد، داخليا وخارجيا، وعن الاقتصاد والاستراتيجيات ومستقبل البلاد ومصالحها… غير أن حكَّامَ الجزائر لهم مصلحةٌ واحدة تتمثَّل في منع المغرب من استكمال وحدته الترابية.

وهذا الفرق الشاسع بين بلدٍ يتطوَّر وآخر يسير إلى الخلف، يزيد في الطين بلَّةً إذ يجعل حكامَ الجزائر يزيدون غيظا وحِقدا على المغرب. حينها وبحكم تعنُّتهم، يزيد كيدُهم ومكرُهم ولا يدَّخرون جُهدا للإساءة للمغرب بمناسبة وبغير مناسبة، على الصعيدين الإقليمي والدولي. غير أن كل محاولات الكيد والمكر باءت بالفشل سواءً على مستوى الأمم المتحدة ومجلس الأمن أو على مستوى القمَّتين العربيتين الأخيرتين بالجزائر والسعودية أو على مستوى الاتِّحاد الإفريقي ومنابر أخرى عبر العالم.

ولهذا، ما أريد أن أختمَ به هذه المقالة، هو أنه لا داعيَ أن يُقابَلَ الذبابُ الإلكتروني الجزائري بتبادل الشتائم والقذف والدناءة والخُبث… أحسن ما يمكن أن يُقابلَ به هذا الذباب هو المقارنة بين الوضعين الاجتماعي والاقتصادي في البلدين. وقد يكون الصمتُ أحسن وسيلة لإسكات الذباب الإلكتروني الجزائري. والصمتُ هو الذي تتبنَّاه الأوساط الرسمية في البلاد حيث لا تردُّ على ابتزازات وادِّعاءات وكذِب حكام الجزائر. بل إن المغربَ منشغلٌ بقضاياه التنموية، وبالتالي، يقابل الرعونةَ بالرزانة، والغطرسة بالحِكمة، والتَّعنُّتَ ببُعد النظر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى