«إنّ التّراجيديا الأتيكيّة هي أنبل إنجازات الإنسان على مدار التّاريخ. لم يُقل شيءٌ أكثر حقّانية منها. ليس ثمّة شيء أكثر واقعيّة، ولا أكثر محسوسيّة ولا أكثر فضيلةً وتثقيفًا وجمالًا من التّراجيديا الأتيكيّة. إذا لم نكن نُدركُ هذا، فإنّ اللّوم يقعُ على عاتق بعض النّاس، وسأوجّه النقد مباشرةً إلى النّظام التعليمي متحمّلًا مسؤوليّتي باعتباري مُدرّسًا».
«وُلدت التراجيديا الأتيكيّة من خلال علاقة الإغريق الجدليّة بالموت. لذلك فهي نتاج مواجهة الإغريق الرّوحيّة لظاهرة الموت. يمكن إثبات ذلك على نحو جليّ كالتالي: فلنستحضر شعراء التراجيديا الأتيكيّة الثلاثة العظام (أسخيليوس وسوفوكليس ويوريبيديس)،. الأبطال والشخصيات والتبصّرات الفكريّة الرّائعة التي أبدعوها، «تماثيل الكلمات»، كما نقول في الأدب، كلّهم أناسٌ يلاقون حتفهم في النّهاية. يُذبحُ أجَامِمْنـُون في الحمّام، تُقتلُ كليتيمنيسترا على يد ابنها، يُقتلُ إيجيسثوس أيضًا على يد أوريستيس، يفقأ أوديب عينيه ثمّ يموتُ في كولونوس، تشنقُ أمّه وزوجته، جوكاستا، نفسها، تُدفنُ ابنتهما أنتيجون، حيّةً، ويَقتل ابنا أوديب إيتوكليس وبولينيكس بعضهما. إنّ التّراجيديا الأتيكيّة موضع دائمٌ للذّبح. يقتلُ آياس، المحارب العظيم، نفسه بسيفه. ويُسحق هيبوليتوس حتّى الموت كما هو الحال في حادث سيّارة عنيف. تقتل ميديا أبناءها، وهكذا دواليك. بالانتقال من التّراجيديا الأتيكيّة إلى أعظم لحظة، تقريبًا، في الفنّ الأوروبّي، تراجيديا شكسبير، «السّليل» المباشر لأسخيليوس، ستلاحظون أيضًا سقوط السّتائر على مسرح مليء بالجثث. فلنستحضر ماكبث وعطيل وهاملت وديدمونة وأوفيليا وغيرهم. هذه مجرّد عيّنة عن كيفيّة انبثاث ثيمة الموت في عالم الفنّ».
«إنّ الموت مُهيمنٌ على الكوكب، إنّه حاكمُ الكون، وقانونه السّائد. نحنُ نعلمُ اليوم، بفضل الفيزياء الفلكيّة وعلم الكون، أنّ النّجوم تموت أيضًا. سوف تموت شمسنا في غضون خمسة مليارات سنة، في حين أنّ الكواكب سوف تموت في وقتٍ أكثر قربًا. إنّ الموت يُهيمن أيضًا على المركّبات اللّاعضويّة، على الكون كلّه».
فلسفة
«إنّ الموت أهمّ قضيّة فلسفيّة. ما الفلسفة؟ قد يحدّها المرء بوصفها أنطولوجيا وإيتيقا وإستطيقا وعرفانيات وميتافيزيقا، كما يفعل الأكاديميون في الجامعات. ليست المسألة كذلك على الإطلاق! إنّ هذه الموضوعات بمثابة الهامش، إنّ تعريفها بهذا الشكل أمرٌ سخيفٌ وسورياليّ، لا يمكن تدريس الفلسفة انطلاقًا من هذه الرؤية، ولهذا السّبب فإنّ علاقتنا بها باردة، فلنترك ما قاله ديكارت وديوجانس اللايرتي وبرغسون وزينون الرواقي وزينون الإيلي للخبراء. الفلسفة أمرٌ واحدٌ فقط. إنّها تفكّر الإنسان في ظاهرة الموت. هكذا عرّفها أحد أعظم الفلاسفة: أفلاطون، في محاورة فيدون، قائلًا ‘الفلسفة هي دراسة الموت’. وهو يقصدُ علاقة كلّ منّا بموته الخاص، وليس بموت صديقه أو والده أو أحد أقاربه، كأن نذهب إلى المقبرة أو إلى جنازة ونكون في حالة حداد. ليس الأمر كذلك، إنّ الفلسفة هي دراسةُ الموت بمعنى أن أتأمّل موتي الخاص، في ضوء حقيقة أنّي سوف أموت يومًا ما. بعد التعريف الذي قدّمهُ مباشرةً، يخبرنا أفلاطون أنّ ‘أولئك الذين يتفلسفون بشكل صحيح، يدرسون كيف سيموتون، ولا يهابون الموتَ متى حلّ أجلهم’. لقد قيل هذا من قبل الكثيرين في العصر الحديث، لكنّ الصيّاغة الكلاسيكيّة كانت لأفلاطون. لقد افتتح كامو، إحدى أهمّ مقالاته، أسطورة سيزيف، بعبارة مرعبة ‘ليس ثمّة سوى مشكلة فلسفيّة واحدة: الانتحار’. لكنّه لم يعبّر عن الفكرة بوضوح الإغريق ورصانتهم واستبصارهم، كما فعل أفلاطون».
«ثمّة قول مأثور من التاريخ اللّاتيني (: Si vis pacem, para bellum) ‘إذا أردت السّلام فلتستعد للحرب’. قام فرويد بإعادة صياغته ليجعله (: Si vis vitam, para mortem) ‘إذا أردت الحياة فلتستعد للموت’. إذا أردت أن تعيش بأفضل الطرق الممكنة، وأن تحظى بأكثر الحيوات اكتمالا وسعادةً ونزاهةً، فلتتجهّز في كلّ لحظة ولتستعدّ للموت عبر التفكّر فيه».
«لقد ضمّن الإغريق معنى الموت في لغتهم الثريّة التي لا تُضاهى. تُؤدّي كلمة (Telos) في اللّغة اليونانيّة معنيين: النهاية والغاية. يهدف كلّ ما نقوم به في حياتنا إلى النهاية/الغاية، إلى موتنا. إنّ موتنا، النهاية، هو غاية حياتنا».
«لقد قال الإغريق كلّ شيء بكلمات ‘منويّة’ في حين لم تقل الحضارة الأوروبيّة شيئًا؛ لم يقم الأوروبيون سوى بتطوير ما صاغه الإغريق في كلمات منويّة».
«جميعنا نعلم أنّنا سوف نموت، وحدهم البشر يملكون هذه الخاصية. إنّه الاختلاف الأنطولوجي للدازاين، كما يقول هايدغر. نحن البشر نعلم أنّنا سوف نموت لأنّنا كائنات مفكّرة، لأنّنا حصّلنا الوعي المعرفي؛ نحن نملك عقلًا. ذلك ما يجعل الموت ظاهرة مؤلمة بالنسبة إلى الإنسان، وهو ما يخلق الخوف من الموت».
«تُوجدُ علامات لطيفة في الأساطير الفلسفيّة الماضية، نعثر على إشارة واضحة، في العهد القديم، في سفر التّكوين: خلق الإله آدم وحواء ووضعهما في الجنّة وحذّرهما من الأكل من شجرة المعرفة: ‘وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ’ (تك 2: 17). نحن نعلم أنّهما لم يموتا، فماذا كان يُقصد بالموت؟ لقد حصّل الإنسان الوعي المعرفي، أو المعرفة، وانسلخ على الفور من الطّبيعة، التي لم يُغادرها أيّ نوع من الكائنات الحيّة الأخرى. لقد خرج الإنسان من الحالة الطّبيعيّة وجعل العالم «شيئًا» يتفحّصه، وبدأت منذ ذلك الحين متاعبه كلّها. كان الموتُ العقوبة الكبرى التي هدّدهم الإله بها، لذلك فإنّ وعينا المعرفي يجعلنا نُدرك الموت ويُنشئ فينا الأسى والألم. إنّ شجرة المعرفة هي كناية عن تحصيل الإنسان الوعي المعرفي. هكذا تأوّلَ الفيلسوف الألماني العظيم كانط هذه الأسطورة، وفكَّ التباسها، في مقالة موجزة كتبها في منتصف عمره بعنوان ‘تخمينات حول بداية التاريخ البشري’، حيث قال إنّ ‘الثعبان’ المذكور في سفر التكوين هو ‘اللّماذا’ الأولى، سؤال الإنسان الأوّل. لقد تطوّر دماغ الإنسان، حسب نظرية التطوّر، حيث نما حجم دماغ الإنسان الماهر (هومو هابيلس) والإنسان المنتصب (هومو إريكتوس)، وحدث ذات يوم ذلك الانفجار الهائل في ذهنه وصاغ أوّل الأسئلة».
«يخبرنا أبيقور أنّ الموت غير جدير بالخوف، يقول في رسالة إلى مُريده مينيسي ‘وهكذا فإن الموت، وهو أفظع الشرور، لا شيء بالنسبة إلينا، إذ عندما نكون فالموت لا يكون، وعندما يكون الموت فنحن لا نكون’. لقد منحنا أبيقور وصفةً علاجيّة متكوّنة من أربعة أدوية، قدّم لنا ترياقًا بالمعنى الأبقراطي؛ أوّلا ‘لا تخشوا الآلهة’، ثانيا ‘لا معنى للموت’، لن أشعر به حين أموت، سوف يكون بمثابة نوم هنيء أبدي، كما دعاه سوفوكليس في تراجيدياته بـ’النوم الأبدي’. ثالثًا ‘يسهل الحصول على ما هو جيّدٌ’. بإمكانك تحصيل الفرح، إنّه أمرٌ هيّنٌ. رابعًا ‘بإمكانك تحمّل ما هو فظيع’. يمكننا تحمّل الشدائد والنكبات والمحن التي تصيبنا، إذا ما تملّكنا هذه الأداة، هذا ‘القُوت الفلسفي’، هذا السّلوك الفلسفيّ السّليم».
«لقد ذهب تشاؤم الإغريق إلى الأقاصي، ولامس القاع، وتبصّر الظّلمة المطلقة، لكنّه لم يعلق في الأسفل ليصير عدميّةً. لقد صنع الإغريق من ذلك التشاؤم قوّةً وارتقوا وصاغوا أنشودةً من رحم تفجّعهم، لذلك أبدعوا هذا الفنّ الفريد الرّائد الخالد. لقد ولّدَ هذا الألم الأعمدة والتماثيل والفلسفة الأفلاطونيّة وأغاني بنداروس ومرثيات الشاعر الغنائي وملحمة هوميروس».
الفلسفة
«في الفلسفة، عندما نقول ‘الموت’ فإنّنا نعني ‘العدم’، كما هو وارد في الأنطولوجيا، وعندما نقول ‘الحب’ فإنّنا نعني ‘الكينونة’». تجري دراما الحياة في هذين القطبين، إنّ ما نسمّيه بالطّبيعة والولادة والخلق، هو بالضبط اللّقاء الفلسفي بين الحب والموت، إيروس وثاناتوس- الكينونة والعدم».
«إنّ ما نحتاج إلى معرفته بخصوص الحبّ، هو علاقته التّبادليّة بالموت. إنّ حالةً إيروسيّة مكثّفة، طريقة حياة إيروسيّة عميقة، لن نُدركها أبدًا في بعدها الطّبيعي إنْ لم تكن مصحوبة بظاهرة الموت. لذلك كانت لقصص الحب التي يكتبها الشعراء العظام نهايات مدمّرة، مثل تراجيديا روميو وجولييت لشكسبير التي تُعدّ بمثابة نموذج أصليّ».
«إنّ هرقليطس أعظم عقل وُلد على الإطلاق. ماذا قال هذا الرجل؟ لقد حُفظت لنا بعض شذراته التي وسعت كلّ شيء، كلّ شيء، النظريات الحديثة كلّها، ميكانيكا الكم، الفيزياء النسبيّة.. لقد كان هذا الرجل المالينخولي ينتحب طوال حياته، سخط على النّاس واستهزأ بهم، ومات متجوّلًا بين الجبال. يقول في إحدى شذراته ‘إنّ هاديس (الموت) وديونيسوس (الحب) أمرٌ واحدٌ’».
«لقد أقرّ فرويد في شيخوخته بوجود مبدأ، قانون في الطبيعة، هو النموذج البدئي الأساسي الأقوى. إنّه الدّافع نحو الموت (ثاناتوس). يتمّ التعبير عن هذا الدّافع بطريقتين: إمّا أن يُوجّهَ نحو الدّاخل ساعيًا إلى تدميري، مثل الانتحار الذي يُعدّ حالة نموذجيّة، وإمّا أن يُوجّهَ نحو الخارج بسبب وجود قوى مقاومة تحوّله ليصير الظاهرة التي نسمّيها ‘عدوانيّة’. انطلاقًا من هذه النقطة، قام فرويد بتأويل التاريخ البشري بطريقة لم يتخيّلها أيّ فيلسوف من قبل، لقد فسّر السجلّ الإجرامي الثقيل للتاريخ. لماذا تندلع الحرب؟ لم يكن ثمّة مفرّ من الحرب منذ بداية التاريخ، إنّها أكثر أشكال الصّراع تطرّفًا.
لماذا توجد الحرب؟ يكافح الكثير من الحكماء والفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسيين والعلماء والاقتصاديين من أجل إيجاد صيغة لتنظيم العلاقات الإنسانيّة، من أجل طمس هذه المعاناة، ولم ينجحوا. لماذا؟ لأنّ أحدهم لم يفكّر في وجود شيء متأصّل في الطّبيعة البشريّة، شيء طبيعي محض ولا يُهزم: الدّافع نحو الموت، عندما يتحوّل إلى الخارج ليصير عدوانيّة. هذا هو فرويد».
* (ألقاها ديميتريس ليانتينيس في مدرسة الصحّة العسكريّة بأثينا سنة 1997 قبل أشهر من انتحاره)
«وُلدت التراجيديا الأتيكيّة من خلال علاقة الإغريق الجدليّة بالموت. لذلك فهي نتاج مواجهة الإغريق الرّوحيّة لظاهرة الموت. يمكن إثبات ذلك على نحو جليّ كالتالي: فلنستحضر شعراء التراجيديا الأتيكيّة الثلاثة العظام (أسخيليوس وسوفوكليس ويوريبيديس)،. الأبطال والشخصيات والتبصّرات الفكريّة الرّائعة التي أبدعوها، «تماثيل الكلمات»، كما نقول في الأدب، كلّهم أناسٌ يلاقون حتفهم في النّهاية. يُذبحُ أجَامِمْنـُون في الحمّام، تُقتلُ كليتيمنيسترا على يد ابنها، يُقتلُ إيجيسثوس أيضًا على يد أوريستيس، يفقأ أوديب عينيه ثمّ يموتُ في كولونوس، تشنقُ أمّه وزوجته، جوكاستا، نفسها، تُدفنُ ابنتهما أنتيجون، حيّةً، ويَقتل ابنا أوديب إيتوكليس وبولينيكس بعضهما. إنّ التّراجيديا الأتيكيّة موضع دائمٌ للذّبح. يقتلُ آياس، المحارب العظيم، نفسه بسيفه. ويُسحق هيبوليتوس حتّى الموت كما هو الحال في حادث سيّارة عنيف. تقتل ميديا أبناءها، وهكذا دواليك. بالانتقال من التّراجيديا الأتيكيّة إلى أعظم لحظة، تقريبًا، في الفنّ الأوروبّي، تراجيديا شكسبير، «السّليل» المباشر لأسخيليوس، ستلاحظون أيضًا سقوط السّتائر على مسرح مليء بالجثث. فلنستحضر ماكبث وعطيل وهاملت وديدمونة وأوفيليا وغيرهم. هذه مجرّد عيّنة عن كيفيّة انبثاث ثيمة الموت في عالم الفنّ».
«إنّ الموت مُهيمنٌ على الكوكب، إنّه حاكمُ الكون، وقانونه السّائد. نحنُ نعلمُ اليوم، بفضل الفيزياء الفلكيّة وعلم الكون، أنّ النّجوم تموت أيضًا. سوف تموت شمسنا في غضون خمسة مليارات سنة، في حين أنّ الكواكب سوف تموت في وقتٍ أكثر قربًا. إنّ الموت يُهيمن أيضًا على المركّبات اللّاعضويّة، على الكون كلّه».
فلسفة
«إنّ الموت أهمّ قضيّة فلسفيّة. ما الفلسفة؟ قد يحدّها المرء بوصفها أنطولوجيا وإيتيقا وإستطيقا وعرفانيات وميتافيزيقا، كما يفعل الأكاديميون في الجامعات. ليست المسألة كذلك على الإطلاق! إنّ هذه الموضوعات بمثابة الهامش، إنّ تعريفها بهذا الشكل أمرٌ سخيفٌ وسورياليّ، لا يمكن تدريس الفلسفة انطلاقًا من هذه الرؤية، ولهذا السّبب فإنّ علاقتنا بها باردة، فلنترك ما قاله ديكارت وديوجانس اللايرتي وبرغسون وزينون الرواقي وزينون الإيلي للخبراء. الفلسفة أمرٌ واحدٌ فقط. إنّها تفكّر الإنسان في ظاهرة الموت. هكذا عرّفها أحد أعظم الفلاسفة: أفلاطون، في محاورة فيدون، قائلًا ‘الفلسفة هي دراسة الموت’. وهو يقصدُ علاقة كلّ منّا بموته الخاص، وليس بموت صديقه أو والده أو أحد أقاربه، كأن نذهب إلى المقبرة أو إلى جنازة ونكون في حالة حداد. ليس الأمر كذلك، إنّ الفلسفة هي دراسةُ الموت بمعنى أن أتأمّل موتي الخاص، في ضوء حقيقة أنّي سوف أموت يومًا ما. بعد التعريف الذي قدّمهُ مباشرةً، يخبرنا أفلاطون أنّ ‘أولئك الذين يتفلسفون بشكل صحيح، يدرسون كيف سيموتون، ولا يهابون الموتَ متى حلّ أجلهم’. لقد قيل هذا من قبل الكثيرين في العصر الحديث، لكنّ الصيّاغة الكلاسيكيّة كانت لأفلاطون. لقد افتتح كامو، إحدى أهمّ مقالاته، أسطورة سيزيف، بعبارة مرعبة ‘ليس ثمّة سوى مشكلة فلسفيّة واحدة: الانتحار’. لكنّه لم يعبّر عن الفكرة بوضوح الإغريق ورصانتهم واستبصارهم، كما فعل أفلاطون».
«ثمّة قول مأثور من التاريخ اللّاتيني (: Si vis pacem, para bellum) ‘إذا أردت السّلام فلتستعد للحرب’. قام فرويد بإعادة صياغته ليجعله (: Si vis vitam, para mortem) ‘إذا أردت الحياة فلتستعد للموت’. إذا أردت أن تعيش بأفضل الطرق الممكنة، وأن تحظى بأكثر الحيوات اكتمالا وسعادةً ونزاهةً، فلتتجهّز في كلّ لحظة ولتستعدّ للموت عبر التفكّر فيه».
«لقد ضمّن الإغريق معنى الموت في لغتهم الثريّة التي لا تُضاهى. تُؤدّي كلمة (Telos) في اللّغة اليونانيّة معنيين: النهاية والغاية. يهدف كلّ ما نقوم به في حياتنا إلى النهاية/الغاية، إلى موتنا. إنّ موتنا، النهاية، هو غاية حياتنا».
«لقد قال الإغريق كلّ شيء بكلمات ‘منويّة’ في حين لم تقل الحضارة الأوروبيّة شيئًا؛ لم يقم الأوروبيون سوى بتطوير ما صاغه الإغريق في كلمات منويّة».
«جميعنا نعلم أنّنا سوف نموت، وحدهم البشر يملكون هذه الخاصية. إنّه الاختلاف الأنطولوجي للدازاين، كما يقول هايدغر. نحن البشر نعلم أنّنا سوف نموت لأنّنا كائنات مفكّرة، لأنّنا حصّلنا الوعي المعرفي؛ نحن نملك عقلًا. ذلك ما يجعل الموت ظاهرة مؤلمة بالنسبة إلى الإنسان، وهو ما يخلق الخوف من الموت».
«تُوجدُ علامات لطيفة في الأساطير الفلسفيّة الماضية، نعثر على إشارة واضحة، في العهد القديم، في سفر التّكوين: خلق الإله آدم وحواء ووضعهما في الجنّة وحذّرهما من الأكل من شجرة المعرفة: ‘وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ’ (تك 2: 17). نحن نعلم أنّهما لم يموتا، فماذا كان يُقصد بالموت؟ لقد حصّل الإنسان الوعي المعرفي، أو المعرفة، وانسلخ على الفور من الطّبيعة، التي لم يُغادرها أيّ نوع من الكائنات الحيّة الأخرى. لقد خرج الإنسان من الحالة الطّبيعيّة وجعل العالم «شيئًا» يتفحّصه، وبدأت منذ ذلك الحين متاعبه كلّها. كان الموتُ العقوبة الكبرى التي هدّدهم الإله بها، لذلك فإنّ وعينا المعرفي يجعلنا نُدرك الموت ويُنشئ فينا الأسى والألم. إنّ شجرة المعرفة هي كناية عن تحصيل الإنسان الوعي المعرفي. هكذا تأوّلَ الفيلسوف الألماني العظيم كانط هذه الأسطورة، وفكَّ التباسها، في مقالة موجزة كتبها في منتصف عمره بعنوان ‘تخمينات حول بداية التاريخ البشري’، حيث قال إنّ ‘الثعبان’ المذكور في سفر التكوين هو ‘اللّماذا’ الأولى، سؤال الإنسان الأوّل. لقد تطوّر دماغ الإنسان، حسب نظرية التطوّر، حيث نما حجم دماغ الإنسان الماهر (هومو هابيلس) والإنسان المنتصب (هومو إريكتوس)، وحدث ذات يوم ذلك الانفجار الهائل في ذهنه وصاغ أوّل الأسئلة».
«يخبرنا أبيقور أنّ الموت غير جدير بالخوف، يقول في رسالة إلى مُريده مينيسي ‘وهكذا فإن الموت، وهو أفظع الشرور، لا شيء بالنسبة إلينا، إذ عندما نكون فالموت لا يكون، وعندما يكون الموت فنحن لا نكون’. لقد منحنا أبيقور وصفةً علاجيّة متكوّنة من أربعة أدوية، قدّم لنا ترياقًا بالمعنى الأبقراطي؛ أوّلا ‘لا تخشوا الآلهة’، ثانيا ‘لا معنى للموت’، لن أشعر به حين أموت، سوف يكون بمثابة نوم هنيء أبدي، كما دعاه سوفوكليس في تراجيدياته بـ’النوم الأبدي’. ثالثًا ‘يسهل الحصول على ما هو جيّدٌ’. بإمكانك تحصيل الفرح، إنّه أمرٌ هيّنٌ. رابعًا ‘بإمكانك تحمّل ما هو فظيع’. يمكننا تحمّل الشدائد والنكبات والمحن التي تصيبنا، إذا ما تملّكنا هذه الأداة، هذا ‘القُوت الفلسفي’، هذا السّلوك الفلسفيّ السّليم».
«لقد ذهب تشاؤم الإغريق إلى الأقاصي، ولامس القاع، وتبصّر الظّلمة المطلقة، لكنّه لم يعلق في الأسفل ليصير عدميّةً. لقد صنع الإغريق من ذلك التشاؤم قوّةً وارتقوا وصاغوا أنشودةً من رحم تفجّعهم، لذلك أبدعوا هذا الفنّ الفريد الرّائد الخالد. لقد ولّدَ هذا الألم الأعمدة والتماثيل والفلسفة الأفلاطونيّة وأغاني بنداروس ومرثيات الشاعر الغنائي وملحمة هوميروس».
الفلسفة
«في الفلسفة، عندما نقول ‘الموت’ فإنّنا نعني ‘العدم’، كما هو وارد في الأنطولوجيا، وعندما نقول ‘الحب’ فإنّنا نعني ‘الكينونة’». تجري دراما الحياة في هذين القطبين، إنّ ما نسمّيه بالطّبيعة والولادة والخلق، هو بالضبط اللّقاء الفلسفي بين الحب والموت، إيروس وثاناتوس- الكينونة والعدم».
«إنّ ما نحتاج إلى معرفته بخصوص الحبّ، هو علاقته التّبادليّة بالموت. إنّ حالةً إيروسيّة مكثّفة، طريقة حياة إيروسيّة عميقة، لن نُدركها أبدًا في بعدها الطّبيعي إنْ لم تكن مصحوبة بظاهرة الموت. لذلك كانت لقصص الحب التي يكتبها الشعراء العظام نهايات مدمّرة، مثل تراجيديا روميو وجولييت لشكسبير التي تُعدّ بمثابة نموذج أصليّ».
«إنّ هرقليطس أعظم عقل وُلد على الإطلاق. ماذا قال هذا الرجل؟ لقد حُفظت لنا بعض شذراته التي وسعت كلّ شيء، كلّ شيء، النظريات الحديثة كلّها، ميكانيكا الكم، الفيزياء النسبيّة.. لقد كان هذا الرجل المالينخولي ينتحب طوال حياته، سخط على النّاس واستهزأ بهم، ومات متجوّلًا بين الجبال. يقول في إحدى شذراته ‘إنّ هاديس (الموت) وديونيسوس (الحب) أمرٌ واحدٌ’».
«لقد أقرّ فرويد في شيخوخته بوجود مبدأ، قانون في الطبيعة، هو النموذج البدئي الأساسي الأقوى. إنّه الدّافع نحو الموت (ثاناتوس). يتمّ التعبير عن هذا الدّافع بطريقتين: إمّا أن يُوجّهَ نحو الدّاخل ساعيًا إلى تدميري، مثل الانتحار الذي يُعدّ حالة نموذجيّة، وإمّا أن يُوجّهَ نحو الخارج بسبب وجود قوى مقاومة تحوّله ليصير الظاهرة التي نسمّيها ‘عدوانيّة’. انطلاقًا من هذه النقطة، قام فرويد بتأويل التاريخ البشري بطريقة لم يتخيّلها أيّ فيلسوف من قبل، لقد فسّر السجلّ الإجرامي الثقيل للتاريخ. لماذا تندلع الحرب؟ لم يكن ثمّة مفرّ من الحرب منذ بداية التاريخ، إنّها أكثر أشكال الصّراع تطرّفًا.
لماذا توجد الحرب؟ يكافح الكثير من الحكماء والفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسيين والعلماء والاقتصاديين من أجل إيجاد صيغة لتنظيم العلاقات الإنسانيّة، من أجل طمس هذه المعاناة، ولم ينجحوا. لماذا؟ لأنّ أحدهم لم يفكّر في وجود شيء متأصّل في الطّبيعة البشريّة، شيء طبيعي محض ولا يُهزم: الدّافع نحو الموت، عندما يتحوّل إلى الخارج ليصير عدوانيّة. هذا هو فرويد».
* (ألقاها ديميتريس ليانتينيس في مدرسة الصحّة العسكريّة بأثينا سنة 1997 قبل أشهر من انتحاره)