الشعر ليس نثراً يضاف إليه شيء آخر، بل هو نقيض النثر، وبالنظر إلى ذلك يبدو سالباً تماما، ومن ثَمّ فإن "الشعريّة" قد مرت هذه الكلمة أولاً، عن طريق النقل، من السبب إلى المسبب، من الموضوع إلى الذات، وهكذا عنت كلمة "شعر" الإحساس الجمالي الخاص الناتج عن القصيدة، حتى أصبح حديثاً شائعاً عن "العاطفة" أو "الانفعال الشعري"،ثم استعملت الكلمة توسعاً في موضوع خارجي أدبي من شأنه أن يثير هذا النوع من الإحساس؛ استعملت أولاً من شأن الفنون الاخرى، ثم في الأشياء الموجودة في الطبيعة، و منذئذ لم يتوقف مجال هذه الكلمة عن التوسع، حتى اصبحت تحتوي اليوم على شكلٍ خاص ٍ من أشكال المعرفة، بل بعدٍ من أبعاد الوجود.
فإن الحديث عن التلازم بين الشعريّة والموت؛ هو الحديث عن علاقة عامة بين الشعريّة كمستوى من التعبير عن حال وجدانيّة هي الموت أي: الموت بوصفه ظاهرة انسانيّة انفعال من حدث طبيعي يخلف ردود أفعال لدى الانسان عامة والشعراء بخاصة، أي: كيف تشكّلت هذه الحالة الوجدانيّة من خلال النصوص الشعريّة العربيّة قديمها وحديثها. فإن الحديث عن الشعريّة يقودنا الى الحديث عن مفهوم الموت هو الآخر، اذ لما كان الموت يشمل الجميع طال العمر أم قصر، وهو كامن في كل الاحداث الطبيعيّة منها والثقافيّة، فهي ترصد حالات التطور والنمو ثم المحو والزوال، إلا إننا نجد أن الموت حدث ثقافة بامتياز؛ لكونه اتّخذ أشكالاً ثقافيّة متنوعة سواء أكانت أدباً أم ديناً أم ثقافةً على شكل طقوس ومبان أو اثاث تبقى اركولوجيا من مدونات ثقافيّة تحاول أن تقدم توصيفاً تفسيرياً الى احد اشكال الطبيعة؛ اذ لكل كائن حي نهاية ما، الا إنه لدى الإنسان عكس مستوى من الحضارة في التشريع والتدين و الأدب.فهو قد عكس في تلك الحقول جهده في إيجاد حلول للموت تجتهد في تقديم تفسير لهذا الحدث الذي اتّسم بالغموض اذ لم يستطع الإنسان أن يتكهن به، ومرد عدم الاستطاعة تلك الى الطبيعة المتناقضة للموت؛ لأنه يجمع بين اليقين وعدم اليقين فأنا أعرف بالضرورة بأنني سأموت، ولكني لا أعرف مطلقاً متى سيكون ذلك أو أين ولا كيف سيأتي حاملاً معه كل ذلك الرعب ،وهذا عدم اليقين قاد الإنسان إلى حالة وجدانيّة ممكن تلمس أثرها في قول الشاعر "عدي بن وعلاء الغساني"، إذ يقول: (ليْسَ منْ مْاتَ فَاسْتَراحَ بِمَيْتٍ.............إنّمْا المَيْتُ مَيْتُ الأحْياءِ). فقد تحول الموت من بعده الطبيعي الى بعد وجداني، فالموت لم يعد مجرد فناء بل هناك ما هو أثقل منه إنه موت وجداني وأخلاقي لمن لا يمتلك تلك القيم الحيّة من فضيلة وغيرها. لكن هناك سمة بالموت إذ لا يمكن أن يكون هناك بديلاً يمكن أن يحمِل المرء عبء الموت عن غيره، كما يحدث في العمل وغيره بل إن الانسان هو من يتحمل هذا العبء لوحده، ثم إن الإنسان لن يتقبل الموت من دون مقاومة مشهد انفصاله عن الأرض بكل بهائها أو الفقدان الحتمي لأحبائه وأقاربه؛ فالإنسان يخاف غريزياً من الموت،ويخشاه وإن خوف الإنسان من الموت هو جزء من خوفه من المجهول؛ لأنه ينقله من العالم المعروف له والذي ألفه إلى عالم مجهول وهو يحب ما تعوّد عليه، ويخشى ما لم يجربه وما ليس له به خبرة، وقد اكتنزت اللغة كثيراً من التجارب بكل وجدانيتها حتى صيّرته إرثا ثقافيا رمزيا بكل ثقله القيمي اذ تدل مادة (م.و.ت) في لغة على مفارقة الحياة، الخمود والجهل و السكون.وهذا الحقل الدلالي بجمعه كل هذه الدلالة يعني أن الموت فعل متناقض تناقضاً كبيراً لما هو حي ومتحرك وعالم ومدرك، على الرغم من كون الموت ليس فعلاً جمعياً بعمومه بل هو في أغلبه فعل فردي؛وخصوصا الموت الطبيعي قال تعالى: ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)، إلا إن تمركز الدلالة حتى بات الامر وكأن الموت مناقض لكل ما هو حي، ومن هنا توصيف الرجل بوصفه: (ميت وميت وقيل: الميت، الذي مات، و الميِت، و المائت الذي لم يمت بعد..)، هي توصيفات تجارب معاشة اختزنتها اللغة، وجعلت منها ذخيرة للتجارب والخبرات الثقافيّة ومنها اللغويّة التي تعرف (الموت: السكون وكل ما سكن فقد مات، وهو على المثل، وماتت النار موتاً: برد رمادها، فلم يبق من الجمر شيء، ومات الخمر: سكن غليانها و مات الماء بهذا المكان إذا نشفته الأرض. ويقال ماتت الريح، أي سكنت و الموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة: فمنها ما هو بأزاء القوة الناميّة الموجودة في الحيوان والنبات) كقول تعالى: " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا".
فالموت هنا بحسب هذا التعريف فعل يشمل كل شيء حتى يصبح مناقضا او مباينا لما هو حي (إنسان او حيوان او نبات او ماء او ريح )، كقوله تعالى: (( يحيي الأرض بعد موتها)) إلا إننا نجد أن الموت الذي شغل حضوراً كبيراً هو موت الإنسان كفرد او كجماعة سواء أكان طبيعياً أم من جرّاء كارثة كقوله تعالى: (( يا ليتني متُّ قبلَ هذا))، و (الموت نهايّة الحياة)، فنجد ام (الموت هو الظاهرة الوحيدة التي بقيت منذ عشرات الآلاف من السنين حتى يومنا هذا محل اهتمام الإنسان وعنايته، فكل الشعوب وكل المجتمعات باختلاف عقائدها وبيئاتها ومستوياتها الحضاريّة تهتم بالموت وتمنحه مكانة مقدسة في حياتها).
أشكلة الموت
يحاول هذا النص طرح مشكلة الموت بوصفها حدث ثقافي وهو يحاول رصد التمثلات الثقافيّة للموت عبر استعراض تشكلها في شاعريّة ترصد كيف كان الموت حاضراً في تمثلات متنوعة لدى الشعراء من خلال النظر والتأمل في زاويّة الخيال: الغرض هو توضيح أمر أساس يقوم على كشف نصوص معينة شكّلت المنتج الثقافي الإنساني حول الموت والتي تركت ومازالت تترك اثراً عميقاً في الفكر الإنساني؛ فهي تمثل دهشة الإنسان إمام الطبيعة عندما اكتشف لأول مرة أنه فانٍ وهذا الاكتشاف جعله يبحث عن الخلود، ففي المخيال الأسطوري العراقي القديم كان جلجامش هو الباحث عن سر هذا الخلود ؛ لكن يبدو أن الموت ارتبط بمجموعةٍ من الثنائيّات الابستمولوجيّة مثل:
1- (الموت / الحريّة ): اذ ارتبط الموت في كثير من التفسيرات الدينيّة بالحريّة، ففي الوقت الذي لا توجد فيه الحريّة؛ إلا إذا كانت هناك حياة ووجود أعني لا توجد الحريّة إلا بعيداً عن الموت يقال: إن الموت دخل العالم؛بسبب خطيئة آدم التي أدّت إلى طرده من عالم الخلد فأصبح لأول مرة قابلا للفناء والموت. ولما كانت الخطيئة الأولى تعبيراً عن ممارسة الإنسان لحريته لأول مرة، فقد كان هناك ارتباطاً وثيقاً بالموت والحريّة. هكذا يمكن أن نفهم أن الموت ارتبط بالحريّة في ظل نظام ديني،( فالدين بوصفه نظاماً رمزياً وعقائدياً متكاملاً.... ومن خلاله ينحت المؤمن عالماً يتحرر فيه من عزلته ومن تيهه).
2- الموت و الخلق / العدم: كانت الحياة، لكونها مخلوقة تحتوي على جرثومة الموت، وبهذا كان الوجود؛ لأنه خلق من عدم بحسب الرؤيّة الدينيّة، فإنه يحتوي في داخله على بذور العدم الذي خرج منه، ومن ثم فكل وجود يميل بطبعه إلى الفناء وكل حياة يكمن الموت في جوفها؛ لهذا انتجت الحضارات القديمة ادب المراثي؛ بفعل الدمار الذي تتعرض له والاسباب كثيرة،فقد يكون الواقع جمعياً يصيب المدن والجماعات؛ بفعل نتائج متنوعة حروب أو وباء أو غضب؛ بفعل قوى مفارقة فسرت بوصفها (وهو عَتَب إلهي نتيجة الإزعاج الذي يحدثه الجنس البشري لتلك الآلهة من خلال الضجة الناجمة عن ضجيج الناس في المدن). وقد ظهرت نتيجة هذا الشكل الجمعي من الموت وقد تمّ (تأشيره من قِبَلِ الباحث (كريمر Kramer) الذي يعد أول من أعطى العنوان الحديث للرثاء، عند نشره لرثاء تدمير مدينة أور).
3- (الموت / الشخصيّة ): ارتبط الموت بالشخصيّة مع أن الموت هو أساساً قضاء على كل شخصيّة، فكلما كانت الشعوب انضج وأقوى شخصيّة، كان الإنسان أقدر على إدراك الموت. قد تكون تلك الشعوب خلّفت ميراثاً أدبياً وفلسفياً يعبر عن تجربتها بأزاء الموت وأحيانا أنها اتخذت من خطابها أي: إنها وظفته في إدارة الانسان في الدنيا وهيمنت عليه باصطناع عوالم بديله تخيليّة.
لقد جاءت كثير من النصوص تحاول تقديم تفسيرات دينيّة؛ وهي تحاول استثمارها سياسيا من خلال التركيز على حدث الموت وآليات التوظيف السياسي في تأكيد الجبريّة والخضوع وتقيد الحريات الفرديّة أو اصطناع عقاب اخروي.
لهذا الموت موضوعا في الكثير من الحقول في: (الادب والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع )، وسوف نحاول ان نقارب الحدث الديني من خلال الشعر العربي في نماذج مختارة بين القديم والحديث والاختلاف بينهما.
لهذا تجد الموت قد خلق خوفاً لدى الشعوب القديمة التي لم تصل بعد إلى فكرة الثواب في الآخرة بوصفه كابوساً يلقي بكلكله على جميع اعمالنا في الحياة. وقدر الموت في ظلمة القبر. وهبوط الروح إلى الجحيم فكل شيء فيها غبار و ظلام، قدر فظيع مميت وهي ما سوف تظهر بوضوح عند هوميروس في تصويره وموقفه من الموت.، إذ صورت لنا ملحمته عوالم: ( الموت، وحتميّة، وعبث الحياة )، وقد كانت هناك اساطير الموت Mythsofdeath: وهي أساطير نهاية الكون والآلهة والإنسان في ملحمة تدميريّة واحدة وتمثلها في الأدب العراقي القديم أسطورة الطوفان .
وقد تمظهر على مستويين مستوى جمعي ومستوى فردي أما الجمعي، وهو ما يعرف (بأدب المراثي ) كان يتحدث عن تدمير المدن كما ظهر في الأدب العبري عن رثاء تدمير اورشليم اذ كان هذا النوع من الأدب قديم في بلاد مابين النهرين إذ تتعرض هذه المدن الى عوامل التدمير: (العواصف أو الأعداء الغزاة، أو كليهما )، إلا إن توزيع ذلك ومعالجته يختلف كثيراً. فضلاً عن العوامل البيئيّة الأخرى مثل: (الطوفان والجفاف وغيرها). إذ كان هناك ادباً شعرياً يرثي ( المدن تذكر أو تفترض الإصلاح لهيكل المدينة وتتوجها الصلاة الختاميّة إلى الإله ذي العلاقة الذي يعود إلى مدينتة، واللعنة ضد العدو. وهو نمط من الأدب مازال حاضراً في الأدعية الدينيّة التي تقوم على الأسباب نفسها.أي تلك الكوارث الطبيعيّة والسياسيّة يعني الموت والمجاعة، وهو يؤدي في واقع الأمر إلى تقليل عدد السكان، وهنا يكمن القرار الإلهي بتدمير الجنس البشري.
أما الموت على المستوى الفردي وهو موضوع هذا المقال، اذ نجد في ملحمة جلجامش لا ينظر الى العدم، و إنما هو ببساطة تغير في طريقة اتصال فرد بآخر، إنه انفصال أصلاً، شأنه في ذلك شأن المرض ولكن اذا كان المرض انفصالاً موقتاً؛ فإن الموت انفصال دائمي. فالموت (تنفصل الروح عن الجسد وتنتقل إلى طور جديد من الوجود. إذ تنحدر الروح بعد وضع الجسم في القبر الى عالم الأرواح وهو العالم الأسفل وتعيش هناك إلى أبد الآبدين، إذ لا قيامة ولا رجعة عندهم. أما الثواب والعقاب فهما زمنيان أي يكونان في الحياة، وقد تصوّر البابليون أنّ موطن الأرواح الذي تذهب إليه بعد الموت يقع من ضمن هذه الأرض، تحت سطحها الظاهر، وهو العالم الأسفل. ،وقد كانت أيضا هناك معتقدات عن عالم الخلود اكثر تعقيداً في مصر، تقوم على عدم قابليّة الشخصيّة الانسانيّة الجوهريّة للفناء إذ نجد ذلك في كتاب الموت المصري الذي يعود تاريخه إلى حوالي 3500(ق.م) فهو يتناول رحلة الروح الانسانيّة في دار الخلود. وقد انعكست عوالم الموت في لوحات جداريّة مرسومة تبين واقع الموتى بعد الموت اذ (إننا نشاهدهم في مختلف التصاوير جالسين جنباً إلى جنب فوق كراس او مقاعد على مقربة من موائد صغيرة محملة بما لذ وطاب، ويسهر على راحتهم عدد كبير من الخدم.وتصدح الموسيقى، فترتفع أصوات المغنين؛ لتشيع دواعٍ من المرح بين الحاضرين… ويستنشق المدعوون زهرة اللوتس التي تلامس أنوفهم ويحافظون على توازن مخروط الشحم المعطر فوق شعورهم المستعارة… فهل نطالب مثل هذه المشاهد ان تعيد المآدب الدنيويّة؟ لكنها احتفال جنائزي) هذه حالة الموت كما تخيلها الأدباء عن مرويات كتاب الموتى كما تخيله الكهنوت المصري القديم.
بالمقابل اذا ما انتقلنا من الأدب والفكر القديم ودخلنا الى الحديث منه فهناك ملامح عامة عن شاعريّة الموت في الشعر العربي قديمه وحديثه، إذ وجد أن اشارة " بورخس" جميلة ومعبرة بوصفها المفتتح هنا، يقول ( إن أي مكتبة هي نوع من المغارة السحريّة الممتلئة بالموتى.ويمكن لهؤلاء الموتى أن ينبعثوا أحياء، يمكن لهم أن يعودوا إلى الحياة عندما نفتح صفحاتهم. ) يبدو لي هذه الاستعارة التي تبدو وكأنها تعويذة بابل والذي يمكن الولوج منه إلى شاعريّة الموت؛ لأن الموت كحدث توارى خلف الشاعريّة؛ فالشاعريّة هي بمثابة تأويل الواقعة وليس الواقعة كما يقول نيتشه (ليس ثمة وقائع و إنما فقط تأويلات.) اذا نحن نبحث عن شاعريّة الموت أي تمثلات الشعراء النفسيّة للموت أي كيف تجسدت تلك المواقف من خلال أشعارهم وهي تعكس موقفا وجوديا تمثل بشاعريّة الموت خوف رهبة او أشياء اخرى مثل: (ذكر الاهل و الاصحاب وتوجيه الخطاب إلى الأخ او الرفيق)، يبثه الشاعر في أحزانه ويشكو له بعض آلامه و ايضا نجد أن حضور المرأة الواضح في شعر الموت كزوجة أو أم أو ابنة، ولم تذكر المرأة بوصفها متعة منه في شعر الموت حديثاً. وكذلك شيوع اسلوب الاستفهام.إلى جانب الحديث عن القبر، ووصفه أحياناً، وهذا الوصف غلبة ضمير المتكلم.هذه ملامح لا تخطئها لعين في شعر الموت قديماً وفي شعر الموت حديثاً. لكن تبقى الشعريّة تحوي جانبا جماليا شكليا، وليس فقط موقفا وجوديا اي إن الجانب الجمالي هو الآخر جزء فعال وحيوي من شاعريّة الموت التي تتجلى في تلك الرعشة التي يثيرها النص بالمتلقي، والمتلقي وإن كان يحضر بشكل فئة اجتماعيّة يخاطبها الشاعر في مرحلة زمنيّة؛ الا إن النص الشعري يبقى رسالة مفتوحة عبر الازمنة تبحث عن متلق، مما يعني أن النص الشعري وإن كانت له ظروفه الجماليّة والموضوعيّة تفترض مضامين معينة تبدو في أفق النص؛ إلا إنها ايضا منفتحة على انصهار آفاق بين الشاعر والمتلقي وأفق التلقي منفتحة على تأويل وإعادة القراءة.و أيضا، في مجال بحثنا عن شاعريّة الموت ينبغي أن نفتش عن شاعر يعبر عن ملكة شعريّة مميزة لأن الشاعر يجب أن تتوافر فيه ثلاثة شروط وهي: (موهبة، وامتلاك فاعل لثقافة العصر يقيم معها حوارا زلزاليا مستمرا، يستطيع الكشف عن المآزق الخبيئة داخل تلك الثقافة).
لعل البحث في تلك التجارب الشعريّة تدفعنا الى العودة الى الاصول البعيدة للشعريّة العربيّة (الشعر الجاهلي) في مقاربة تكوينيّة تقلب في طبقات تلك الحقبة من الشعر الجاهلي فقد مثل افقا مميزاً أظهر مواقف من شاعريّة الموت، فإننا نتلمس الأمر في بعدين الاول في موسيقى الشعر (حيث ميّز أبراهيم أنيس أن موسيقى الشعر العربي تتكون من عنصرين رئيسيين: نظام توالي المقاطع أي الكم و مراعاة النغمة الموسيقيّة "Intonation" في إنشاده ) أما البعد الثاني لشعريّة الموت فيمكن أن نتلمسه في سمات طغت على أشعار كثير من الشعراء الذين رثوا أنفسهم، وتعدد القصائد للواحد منهم أحياناً، ولم يقتصر رثاء النفس في الشعر الحديث على طائفة بعينها من الشعراء، أما في القديم فقد كان رثاء النفس مقتصراً على الشعراء الفرسان والشعراء المعمرين.و نجد في هذا الشعر أن تجربة الموت التي دفعت الشعراء إلى رثاء أنفسهم في الشعر الحديث تجربة متخيلة، وهي ليست تجربة حاضرة إلا نادراً، والسبب في ذلك أن الفروسيّة لن تعد مرتبطة بالشعر في العصر الحديث، أما في العصر القديم؛ فقد كانت أغلب التجارب الدافعة إلى رثاء النفس تجارب حاضرة معاشة.
وما كان رثاء امرئ القيس نفسه، حين شعر بدنو أجله، في أثناء عودته من بلاد الروم التي قصدها طلبا لمعونتها في تثبيت أركان مملكة كندة، سوى حوار مر جادل فيه ثقافة عصره، وما أنتجته من قيم.
أَجارَتَنْا إنّ الْمَزْارَ قَريْبٌ....... وَإنْي مُقيْمٌ ما أَقْامَ عَسِيبُ
أَجارَتَنْا إنّا غَريْباْنِ ها هُنا..... وَكْلُّ غَريبٍ للْغَرِيبِ نَسِيْبُ
إن الرعشة التي تسري في جسد متلقي هذين البيتين و في نفسه، في زماننا هذا، لإشارة قويّة إلى ما كان لها أن تخترق العصور لولا تلك الرؤية الإنسانيّة التي نفذ من خلالها امرؤ القيس إلى عمق من أعماق الثقافة الجاهليّة وقيمها، فتكشف له عن مأزق تلك الثقافة أمام النسب الجديد الذي تراءى للشاعر في لحظة مأزقيّة من حياته.، ويبدو أن الشعر هنا ليس بمجرد وسيلة للتواصل وإنما يمكن له أن يكون كذلك عاطفة ومتعة،اي أن اللحظة التي تنبثق بها لحظة الاغتراب والوجع العميق هي نفسها لحظة شاعريّة الموت بكل ظاهريتها وجوانيتها معاًّ.
تلك المواضعات تظهر في ثقافة الشاعر الجاهلي الذي تقاس (في مقدمتها امتداد عمره الزمني، ورحلاته داخل شبه الجزيرة و خارجها، ثم هناك الوافدون عليه من الامم المجاورة، فضلا عما حظي به من ثقافة داخل نطاق بيئته، واطلاعه على آثار الأسلاف المستحيلة إلى خرائب و أطلال وقبور، كما كان للديانات السماويّة المنتشرة في مواضع متفرقة من بلاد العرب أثر في هذه الثقافة أيضا..، ومن هذا المنطلق كانت العرب تطلق على الرجل الذي يقول الشعر صفة "الكامل")، وهنا تكمن أهميّة الشاعر بوصفه فنانا يجمع بين أشباح الماضي وخيالاته، ويمثلها في أسماع مجتمعه وأمام عينهم، ووسائل الشاعر في عمليّة ابتكاره هذه عديدة منها الصورة ومنها المفردة التي يستطيع الايحاء بها في المناخ الاسطوري.،ويمكن للشاعر بوصفه "الكامل" أن يطلع على معتقدات قومه العرب الذين كانوا يعتقدون، أن أرواح البشر تستحيل بعد مفارقة الأبدان إلى طير؛ وهذه العقيدة شملت أكثر الشعوب القديمة فآمنوا بأن بعض فصائل الطيور أرواح الموتى.
ومنهم عامر بن الظرب العدوانى وكان من شعراء العرب وخطبائهم وله وصيّة طويلة يقول في آخرها: إني ما رأيت شيئا قط خلق نفسه ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعاً ولا جائيا إلا ذاهبا ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء ثم قال إني أرى أمورا شتى وحتى قيل له وما حتى قال حتى يرجع الميت حياً ويعود لا شيء شيئاً؛ ولذلك خلقت السموات و الأرض فتولوا عنه ذاهبين وقال ويل إنها نصيحة لو كان من يقبلها، وقال في بعض مواعظه: ((كلا ورب الكعبة، ليعودن ما باد، ولئن ذهب ليعودن يوماً، وأنشد في معنى الإعادة:
يا بْاكِيَ الْمَوْتَ والأمْواْتَ في جدثٍ عَلَيْهِم من بَقايا بِزِهِمْ خَرَقُ
دَعْهُمْ، فَإنَ لَهُمْ يَوْماً يُصاحُ بِهمْ كَمْا يُنْبِهُ مِنْ نَوْمْاتِهِ الصَّعَقُ
في الرثاء وبكاء الديار: لم يصلنا من رثاء الجاهليّة شيئا كثيراً، ومنه أن الدهر هو سبب الموت في الشعر الجاهلي..يقول النابغة:
غَشِيْتُ مَنازِلاً بِعُرَيتُناتٍ….. فَأعْلَى الجِزْعِ للحَي الْمُبِنْ
تَعْاوَرَهُنًّ صَرْفُ الدَهْرِ حَتْى عَفَوتَ حَتْى….. عَفُوْنَ وَكُلِ مُنْهَمِرٍ مَرِنِ.
ونجد عناية الشاعر بذكر مكان قبر المرثي، وهي العناية التي تلاحظ في تحديد أماكن الديار، يقول النابغة:
لَئِنْ كان للقبْرينِ قبرٌ بِجُلّقِ….. وَقبْرٌ بِصَيداءَ الَّتي عِنْدَ حارِبِ
وفي تلك التجارب الشعريّة التي تختلف في الزمان والمكان بين القديم والحديث اذ يلحظ، خروج شعراء الموت في العصر الحديث في كثير من الأحيان من إطار الذاتيّة، وتوحد الشعراء فيه مع أمتهم في شمولها للفرد. مما يقود إلى تجاوز رثاء النفس لدى الشعراء الملتزمين اسلامياً في العصر الحديث حدود التعبير عن الالتزام النفسي و الهموم الشخصيّة، وحمل ما يمكن ان تسميه شهادة على العصر، ونقداً لنظمه السياسيّة والاجتماعيّة. اذ يتحول رثاء النفس في هذه الحالة إلى رثاء للأمة، إذ ينضح هذا النمط من الرثاء بمرارة الاغتراب ويرسخ الأسى والأحزان.
وَمَضى القِطْارُ
والعمْرُ يدفِنُ بعْضَهُ بَعْضاً
عَشْرُ حَيْارى ثمّ عشْرٌ للأَسْى
وخِتامُها عشْرُ الأَمْاني الضائِعاتُ.
ونجد أن الموت كما تجلّى في تجربة سيد قطب الشعريّة إذ يعبر عن الموت في الأسرار المحجوبة والحقوق المغيّبة، أملاً في أن يجد عندهم الجواب فيقول:
وَمْاذْا لَقيْتُمْ بعْدَ ما قدْ خَلعْتُمُو....... قِيود الْلَيالي الْخادِعاتِ المَواكِرِ
وَمْاذا وَرْاءَ الغيبِ والغيبُ مُطبقٌ...... وَهَلْ يَتَجَلّى مَرّةً للْنَوْاظِرِ.
ونجد أن الموت كما تجلّى في تجربة إيليا ابي ماضي، قصيدة الخلود، نجد أن شعريّة الموت في تصوره تكمن في أن الروح تفنى بفناء الجسد، كما يذهب ضوء الشمعة بانتهائها، وكما يزول الظل تزول الغصون، والبعث – في رأيه – مستبعد؛ لأنه لوكان بعث بعد الموت لاحتمل موت آخر بعد البعث وهكذا ينتهي الأمر إلى الدور والتسلسل )، فيقول:
نعْشَقُ الْبُقْيا لأنّا زائِلونْ... و الأَمْاني حِسّيّة في كُلِ حَي
تَلْبُثُ الأفْياءُ ما دامَ الغُصونُ... فَإذا ما ذَهبْتَ لم يبق في.
وقد كان الشعر العربي متأثراً بالرمزيّة الغربيّة من جانبين: (جانب الأسلوب وجانب المضمون )و يذكر صورا لكل جانب مثل قول جبران:
هَلْ يَصُم المَوت آذاناً وَعتْ........ إنه الظًلْمُ وأنغامُ الْسِكُونِ
الموت / البعث:
في تنوع مهم في تحولات شعريّة الموت في الشعر الحديث والمعاصر وتحول في الاهتمام من الفرديّة الى الأمة وخصوصا في حقبة الخمسينيات كان الاهتمام بالأحداث التي أعقبت النكبة عام 1947 م في الخمسينيات وبداية الستينيات ظهور بعض الحركات الثوريّة، فكان هذا أشبه بهاجس الخصب و البعث والولادة وكان الشعر العربي قد تعرف على الاسطورة (في مجال هذه المضامين جاء شعر ما يعرف بالحركة التموزيّة أو شعر التموزيين من أمثال أدونيس وبدر شاكر السياب وخليل حاوي... الذين أفادوا من الأسطورة و إليوت، وبخاصة "الأرض اليباب " التي ربما مثلت كلمة "اليباب" إيقاعا تجاوب مع ما في هواجسهم من جدب وقحط وموت فتثاقفوا معها إلى حد التفاعل معها و التأثر بها.
يقول أ دونيس من قصيدة "البعث و الرماد":
أحْلُمُ أنّ رِئتي جمْرَةٌ
يخْطِفُني بُخُورُها يَطيْرُ بي لِبعْلَبكْ
بعْلَبكْ مذْبَحٌ
يُقالُ فيهِ طائِرٌ مولَهٌ بِموتِهِ
وَقيلَ بِاسْمِ غَدِه الجَديدُ بِاسمِ بعثِهِ
يحترق.
أما السياب: فقد عاش في مرحلة عصيبة تنتمي فيها إلى التغيير وتخشى من ممارسة وتنوه بأثقال واقع مزر متفسخ،وامتدادات أجيال من الظلم والقهر والطغيان التي رسّخت في العقول (عقدا وشكوى وآلاما وانغلاقا مريضا) ويطغي عليها الإحساس بأنّ مأساة الإنسان في الاساس فرديّة ، وعلى الرغم من اندماجه المطلق الأعمى بالجماعة في قيمها… وعلى الرغم من هذا الإندماج؛ فإنه إن جاع او مرض او نكب فإنه هو وحده الذي يستعمل هذه المأساة و لا أحداً سيدفعها عنه.
وإن بدرا كتب تعليقا على كلمة العرب قال فيه:(ضاع مفهوم القوميّة عندنا بين الشعوبيين والشوفينيين يجب أن تكون القوميّة شعبيّة والشعبيّة قوميّة....)
في إطار القصيدة التموزيّة يعد المسيح من الرموز الأثيرة لدى الشعراء التموزيين إذ اتخذوه رمزا للشاعر يعاني ويضحي بنفس سبيل وطنه وأمته يقول السياب:
غَنَيتُ ترْبَتِكِ الحَبيبَة
وَحَملتُها فَأنا المَسيحُ يَجُرُ في المنْفى صَليبَه.
تحوّل الشاعر برمزيّة تموز و المسيح عن مجال القضايا الاجتماعيّة إلى المجال الذاتي – كما أشرنا الى ذلك سابقا – ومن الطبيعي أن يكون هذا المجال ضيقا على دلالة الرمزيين، ولكن الشاعر الذي كان يرى نفسه أحق برمز تموز من اليوت
ان حبة الحنطة قد سقطت من حياة السياب إلى الأرض، ولكنها لم تمت؛ لأن سقوطها لم يكن سقوط نضال في مرحلته الأخيرة بل كان سقوطا عن النضال، لذلك فلم تثمر هذه الحبة سوى ابنه غيلان، فلم يكن السياب يرى امتداد حياته بعد موته إلا في غيلان وحده:
"بابا" كأنّ يدُ المَسيحِ
فيها.. كَأنّ جَماجِم الموتى تُبرعِم في الضَريحِ
تموزُ عادَ بكلِ سنبُلَةٍ تُعابِثُ كُلِ رِيحِ.
الخاتمة:
إن الشعر ليس نثراً يضاف إليه شيء آخر، وبالآتي فإن الشعريّة هي أساساً الإحساس الجمالي الخاص الناتج عن القصيدة، معبراً عن "العاطفة" أو "الانفعال الشعري" حتى اصبحت تحتوي اليوم شكلاً خاصاً من أشكال المعرفة.
فإن الشعريّة والموت هي مستوى من التعبير عن حال وجدانيّة فيما الموت بوصفه ظاهرةً انسانيّةً تنجم عن انفعال من حدث طبيعي يخلف ردود أفعال عند الانسان عامة والشعراء بخاصة
فإن الإنسان لن يتقبل الموت من دون مقاومة مشهد انفصاله عن الأرض بكل بهائها أو الفقدان الحتمي لأحبائه، وأقاربه فالإنسان يخاف غريزياً من الموت ويخشاه وإن خوف الإنسان من الموت هو: جزء من خوفه من المجهول؛ لأنه ينقله من العالم المعروف له والذي ألفه إلى عالم مجهول وهو يحب ما إعتاد عليه، ويخشى ما لم يجربه وما ليس له به خبرة.
فان تلك الخبرات تعد تعبيراً عن تجارب معاشة اختزنتها اللغة وجعلت منها ذخيرة للتجارب والخبرات الثقافيّة، وقد صورت تلك الخبرات الموت من خلال أحكام مسبقة طاغيّة على الوعي وتجد ترجمتها في تصوير الموت؛ وكأنه مناقض لكل ما هو حي ومن هنا توصيف الرجل بوصفه: (ميت وميت وقيل: الميت: الذي مات، و الميت، و المائت الذي لم يمت بعد.. فالموت هنا بحسب هذا التعريف فعل يشمل كل شيء حتى يصبح مناقض او مباين لما هو حي.
أشكلة الموت: يحاول هذا النص أن يطرح مشكلة الموت بوصفها حدثاً ثقافياً، وهو يحاول رصد التمثلات الثقافيّة للموت عبر استعراض تشكلها في شاعريّة ترصد كيف كان الموت حاضراً في تمثلات متنوعة لدى الشعراء من خلال النظر والتأمل في زاويّة الخيال منها:
(الموت / الحريّة): اذ ارتبط الموت في كثير من التفسيرات الدينيّة بالحريّة، في الوقت الذي لا توجد الحريّة الا بعيداً عن الموت يقال إن الموت دخل العالم بسبب خطيئة ادم التي أدت إلى طرده من عالم الخلد؛ فأصبح لأول مرة قابلا للفناء والموت.
(الموت و الخلق) / العدم: كانت الحياة، لكونها مخلوقة تحتوي على جرثومة الموت، وبهذا كانت الوجود لأنه خلق من عدم بحسب الرؤية الدينيّة، ومن ثم فكل وجود يميل بطبعه إلى الفناء وكل حياة يكمن الموت في جوفها.
(الموت / الشخصيّة ): ارتبط الموت بالشخصيّة على الرغم من كون الموت هو اساساً قضاء على كل شخصيّة، فكلما كانت الشعوب انضج وأقوى شخصيّة، كأن الإنسان أقدر على إدراك الموت.
أما الموت على المستوى الفردي وهو موضوع هذا المقال، اذ نجد في ملحمة جلجامش لا ينظر الى العدم، و إنما هو ببساطة تغير في طريقة اتصال فرد بآخر، فهو في الأصل انفصال، وبالآتي؛ فإن شاعريّة الموت كما تجسدت في تمثلات الشعراء. فقد تجسدت في الشعر الجاهلي، فقد مثل افقا مميزا عكس مواقف من شاعريّة الموت، فقد تميز هذا الشعر بمجموعة من السمات من خلال كثرة الشعراء الذين رثوا أنفسهم، وتعدد القصائد للواحد منهم أحياناً. فقد كان رثاء النفس تجارب حاضرة معاشة.وإن كانت مقتصرة على الشعراء الفرسان والشعراء المعمرين.
بالمقابل نجد في هذا الشعر أن تجربة الموت التي دفعت الشعراء إلى رثاء انفسهم في الشعر الحديث تجربة متخيلة، وليست تجربة حاضرة إلا نادراً.
فإن الحديث عن التلازم بين الشعريّة والموت؛ هو الحديث عن علاقة عامة بين الشعريّة كمستوى من التعبير عن حال وجدانيّة هي الموت أي: الموت بوصفه ظاهرة انسانيّة انفعال من حدث طبيعي يخلف ردود أفعال لدى الانسان عامة والشعراء بخاصة، أي: كيف تشكّلت هذه الحالة الوجدانيّة من خلال النصوص الشعريّة العربيّة قديمها وحديثها. فإن الحديث عن الشعريّة يقودنا الى الحديث عن مفهوم الموت هو الآخر، اذ لما كان الموت يشمل الجميع طال العمر أم قصر، وهو كامن في كل الاحداث الطبيعيّة منها والثقافيّة، فهي ترصد حالات التطور والنمو ثم المحو والزوال، إلا إننا نجد أن الموت حدث ثقافة بامتياز؛ لكونه اتّخذ أشكالاً ثقافيّة متنوعة سواء أكانت أدباً أم ديناً أم ثقافةً على شكل طقوس ومبان أو اثاث تبقى اركولوجيا من مدونات ثقافيّة تحاول أن تقدم توصيفاً تفسيرياً الى احد اشكال الطبيعة؛ اذ لكل كائن حي نهاية ما، الا إنه لدى الإنسان عكس مستوى من الحضارة في التشريع والتدين و الأدب.فهو قد عكس في تلك الحقول جهده في إيجاد حلول للموت تجتهد في تقديم تفسير لهذا الحدث الذي اتّسم بالغموض اذ لم يستطع الإنسان أن يتكهن به، ومرد عدم الاستطاعة تلك الى الطبيعة المتناقضة للموت؛ لأنه يجمع بين اليقين وعدم اليقين فأنا أعرف بالضرورة بأنني سأموت، ولكني لا أعرف مطلقاً متى سيكون ذلك أو أين ولا كيف سيأتي حاملاً معه كل ذلك الرعب ،وهذا عدم اليقين قاد الإنسان إلى حالة وجدانيّة ممكن تلمس أثرها في قول الشاعر "عدي بن وعلاء الغساني"، إذ يقول: (ليْسَ منْ مْاتَ فَاسْتَراحَ بِمَيْتٍ.............إنّمْا المَيْتُ مَيْتُ الأحْياءِ). فقد تحول الموت من بعده الطبيعي الى بعد وجداني، فالموت لم يعد مجرد فناء بل هناك ما هو أثقل منه إنه موت وجداني وأخلاقي لمن لا يمتلك تلك القيم الحيّة من فضيلة وغيرها. لكن هناك سمة بالموت إذ لا يمكن أن يكون هناك بديلاً يمكن أن يحمِل المرء عبء الموت عن غيره، كما يحدث في العمل وغيره بل إن الانسان هو من يتحمل هذا العبء لوحده، ثم إن الإنسان لن يتقبل الموت من دون مقاومة مشهد انفصاله عن الأرض بكل بهائها أو الفقدان الحتمي لأحبائه وأقاربه؛ فالإنسان يخاف غريزياً من الموت،ويخشاه وإن خوف الإنسان من الموت هو جزء من خوفه من المجهول؛ لأنه ينقله من العالم المعروف له والذي ألفه إلى عالم مجهول وهو يحب ما تعوّد عليه، ويخشى ما لم يجربه وما ليس له به خبرة، وقد اكتنزت اللغة كثيراً من التجارب بكل وجدانيتها حتى صيّرته إرثا ثقافيا رمزيا بكل ثقله القيمي اذ تدل مادة (م.و.ت) في لغة على مفارقة الحياة، الخمود والجهل و السكون.وهذا الحقل الدلالي بجمعه كل هذه الدلالة يعني أن الموت فعل متناقض تناقضاً كبيراً لما هو حي ومتحرك وعالم ومدرك، على الرغم من كون الموت ليس فعلاً جمعياً بعمومه بل هو في أغلبه فعل فردي؛وخصوصا الموت الطبيعي قال تعالى: ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)، إلا إن تمركز الدلالة حتى بات الامر وكأن الموت مناقض لكل ما هو حي، ومن هنا توصيف الرجل بوصفه: (ميت وميت وقيل: الميت، الذي مات، و الميِت، و المائت الذي لم يمت بعد..)، هي توصيفات تجارب معاشة اختزنتها اللغة، وجعلت منها ذخيرة للتجارب والخبرات الثقافيّة ومنها اللغويّة التي تعرف (الموت: السكون وكل ما سكن فقد مات، وهو على المثل، وماتت النار موتاً: برد رمادها، فلم يبق من الجمر شيء، ومات الخمر: سكن غليانها و مات الماء بهذا المكان إذا نشفته الأرض. ويقال ماتت الريح، أي سكنت و الموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة: فمنها ما هو بأزاء القوة الناميّة الموجودة في الحيوان والنبات) كقول تعالى: " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا".
فالموت هنا بحسب هذا التعريف فعل يشمل كل شيء حتى يصبح مناقضا او مباينا لما هو حي (إنسان او حيوان او نبات او ماء او ريح )، كقوله تعالى: (( يحيي الأرض بعد موتها)) إلا إننا نجد أن الموت الذي شغل حضوراً كبيراً هو موت الإنسان كفرد او كجماعة سواء أكان طبيعياً أم من جرّاء كارثة كقوله تعالى: (( يا ليتني متُّ قبلَ هذا))، و (الموت نهايّة الحياة)، فنجد ام (الموت هو الظاهرة الوحيدة التي بقيت منذ عشرات الآلاف من السنين حتى يومنا هذا محل اهتمام الإنسان وعنايته، فكل الشعوب وكل المجتمعات باختلاف عقائدها وبيئاتها ومستوياتها الحضاريّة تهتم بالموت وتمنحه مكانة مقدسة في حياتها).
أشكلة الموت
يحاول هذا النص طرح مشكلة الموت بوصفها حدث ثقافي وهو يحاول رصد التمثلات الثقافيّة للموت عبر استعراض تشكلها في شاعريّة ترصد كيف كان الموت حاضراً في تمثلات متنوعة لدى الشعراء من خلال النظر والتأمل في زاويّة الخيال: الغرض هو توضيح أمر أساس يقوم على كشف نصوص معينة شكّلت المنتج الثقافي الإنساني حول الموت والتي تركت ومازالت تترك اثراً عميقاً في الفكر الإنساني؛ فهي تمثل دهشة الإنسان إمام الطبيعة عندما اكتشف لأول مرة أنه فانٍ وهذا الاكتشاف جعله يبحث عن الخلود، ففي المخيال الأسطوري العراقي القديم كان جلجامش هو الباحث عن سر هذا الخلود ؛ لكن يبدو أن الموت ارتبط بمجموعةٍ من الثنائيّات الابستمولوجيّة مثل:
1- (الموت / الحريّة ): اذ ارتبط الموت في كثير من التفسيرات الدينيّة بالحريّة، ففي الوقت الذي لا توجد فيه الحريّة؛ إلا إذا كانت هناك حياة ووجود أعني لا توجد الحريّة إلا بعيداً عن الموت يقال: إن الموت دخل العالم؛بسبب خطيئة آدم التي أدّت إلى طرده من عالم الخلد فأصبح لأول مرة قابلا للفناء والموت. ولما كانت الخطيئة الأولى تعبيراً عن ممارسة الإنسان لحريته لأول مرة، فقد كان هناك ارتباطاً وثيقاً بالموت والحريّة. هكذا يمكن أن نفهم أن الموت ارتبط بالحريّة في ظل نظام ديني،( فالدين بوصفه نظاماً رمزياً وعقائدياً متكاملاً.... ومن خلاله ينحت المؤمن عالماً يتحرر فيه من عزلته ومن تيهه).
2- الموت و الخلق / العدم: كانت الحياة، لكونها مخلوقة تحتوي على جرثومة الموت، وبهذا كان الوجود؛ لأنه خلق من عدم بحسب الرؤيّة الدينيّة، فإنه يحتوي في داخله على بذور العدم الذي خرج منه، ومن ثم فكل وجود يميل بطبعه إلى الفناء وكل حياة يكمن الموت في جوفها؛ لهذا انتجت الحضارات القديمة ادب المراثي؛ بفعل الدمار الذي تتعرض له والاسباب كثيرة،فقد يكون الواقع جمعياً يصيب المدن والجماعات؛ بفعل نتائج متنوعة حروب أو وباء أو غضب؛ بفعل قوى مفارقة فسرت بوصفها (وهو عَتَب إلهي نتيجة الإزعاج الذي يحدثه الجنس البشري لتلك الآلهة من خلال الضجة الناجمة عن ضجيج الناس في المدن). وقد ظهرت نتيجة هذا الشكل الجمعي من الموت وقد تمّ (تأشيره من قِبَلِ الباحث (كريمر Kramer) الذي يعد أول من أعطى العنوان الحديث للرثاء، عند نشره لرثاء تدمير مدينة أور).
3- (الموت / الشخصيّة ): ارتبط الموت بالشخصيّة مع أن الموت هو أساساً قضاء على كل شخصيّة، فكلما كانت الشعوب انضج وأقوى شخصيّة، كان الإنسان أقدر على إدراك الموت. قد تكون تلك الشعوب خلّفت ميراثاً أدبياً وفلسفياً يعبر عن تجربتها بأزاء الموت وأحيانا أنها اتخذت من خطابها أي: إنها وظفته في إدارة الانسان في الدنيا وهيمنت عليه باصطناع عوالم بديله تخيليّة.
لقد جاءت كثير من النصوص تحاول تقديم تفسيرات دينيّة؛ وهي تحاول استثمارها سياسيا من خلال التركيز على حدث الموت وآليات التوظيف السياسي في تأكيد الجبريّة والخضوع وتقيد الحريات الفرديّة أو اصطناع عقاب اخروي.
لهذا الموت موضوعا في الكثير من الحقول في: (الادب والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع )، وسوف نحاول ان نقارب الحدث الديني من خلال الشعر العربي في نماذج مختارة بين القديم والحديث والاختلاف بينهما.
لهذا تجد الموت قد خلق خوفاً لدى الشعوب القديمة التي لم تصل بعد إلى فكرة الثواب في الآخرة بوصفه كابوساً يلقي بكلكله على جميع اعمالنا في الحياة. وقدر الموت في ظلمة القبر. وهبوط الروح إلى الجحيم فكل شيء فيها غبار و ظلام، قدر فظيع مميت وهي ما سوف تظهر بوضوح عند هوميروس في تصويره وموقفه من الموت.، إذ صورت لنا ملحمته عوالم: ( الموت، وحتميّة، وعبث الحياة )، وقد كانت هناك اساطير الموت Mythsofdeath: وهي أساطير نهاية الكون والآلهة والإنسان في ملحمة تدميريّة واحدة وتمثلها في الأدب العراقي القديم أسطورة الطوفان .
وقد تمظهر على مستويين مستوى جمعي ومستوى فردي أما الجمعي، وهو ما يعرف (بأدب المراثي ) كان يتحدث عن تدمير المدن كما ظهر في الأدب العبري عن رثاء تدمير اورشليم اذ كان هذا النوع من الأدب قديم في بلاد مابين النهرين إذ تتعرض هذه المدن الى عوامل التدمير: (العواصف أو الأعداء الغزاة، أو كليهما )، إلا إن توزيع ذلك ومعالجته يختلف كثيراً. فضلاً عن العوامل البيئيّة الأخرى مثل: (الطوفان والجفاف وغيرها). إذ كان هناك ادباً شعرياً يرثي ( المدن تذكر أو تفترض الإصلاح لهيكل المدينة وتتوجها الصلاة الختاميّة إلى الإله ذي العلاقة الذي يعود إلى مدينتة، واللعنة ضد العدو. وهو نمط من الأدب مازال حاضراً في الأدعية الدينيّة التي تقوم على الأسباب نفسها.أي تلك الكوارث الطبيعيّة والسياسيّة يعني الموت والمجاعة، وهو يؤدي في واقع الأمر إلى تقليل عدد السكان، وهنا يكمن القرار الإلهي بتدمير الجنس البشري.
أما الموت على المستوى الفردي وهو موضوع هذا المقال، اذ نجد في ملحمة جلجامش لا ينظر الى العدم، و إنما هو ببساطة تغير في طريقة اتصال فرد بآخر، إنه انفصال أصلاً، شأنه في ذلك شأن المرض ولكن اذا كان المرض انفصالاً موقتاً؛ فإن الموت انفصال دائمي. فالموت (تنفصل الروح عن الجسد وتنتقل إلى طور جديد من الوجود. إذ تنحدر الروح بعد وضع الجسم في القبر الى عالم الأرواح وهو العالم الأسفل وتعيش هناك إلى أبد الآبدين، إذ لا قيامة ولا رجعة عندهم. أما الثواب والعقاب فهما زمنيان أي يكونان في الحياة، وقد تصوّر البابليون أنّ موطن الأرواح الذي تذهب إليه بعد الموت يقع من ضمن هذه الأرض، تحت سطحها الظاهر، وهو العالم الأسفل. ،وقد كانت أيضا هناك معتقدات عن عالم الخلود اكثر تعقيداً في مصر، تقوم على عدم قابليّة الشخصيّة الانسانيّة الجوهريّة للفناء إذ نجد ذلك في كتاب الموت المصري الذي يعود تاريخه إلى حوالي 3500(ق.م) فهو يتناول رحلة الروح الانسانيّة في دار الخلود. وقد انعكست عوالم الموت في لوحات جداريّة مرسومة تبين واقع الموتى بعد الموت اذ (إننا نشاهدهم في مختلف التصاوير جالسين جنباً إلى جنب فوق كراس او مقاعد على مقربة من موائد صغيرة محملة بما لذ وطاب، ويسهر على راحتهم عدد كبير من الخدم.وتصدح الموسيقى، فترتفع أصوات المغنين؛ لتشيع دواعٍ من المرح بين الحاضرين… ويستنشق المدعوون زهرة اللوتس التي تلامس أنوفهم ويحافظون على توازن مخروط الشحم المعطر فوق شعورهم المستعارة… فهل نطالب مثل هذه المشاهد ان تعيد المآدب الدنيويّة؟ لكنها احتفال جنائزي) هذه حالة الموت كما تخيلها الأدباء عن مرويات كتاب الموتى كما تخيله الكهنوت المصري القديم.
بالمقابل اذا ما انتقلنا من الأدب والفكر القديم ودخلنا الى الحديث منه فهناك ملامح عامة عن شاعريّة الموت في الشعر العربي قديمه وحديثه، إذ وجد أن اشارة " بورخس" جميلة ومعبرة بوصفها المفتتح هنا، يقول ( إن أي مكتبة هي نوع من المغارة السحريّة الممتلئة بالموتى.ويمكن لهؤلاء الموتى أن ينبعثوا أحياء، يمكن لهم أن يعودوا إلى الحياة عندما نفتح صفحاتهم. ) يبدو لي هذه الاستعارة التي تبدو وكأنها تعويذة بابل والذي يمكن الولوج منه إلى شاعريّة الموت؛ لأن الموت كحدث توارى خلف الشاعريّة؛ فالشاعريّة هي بمثابة تأويل الواقعة وليس الواقعة كما يقول نيتشه (ليس ثمة وقائع و إنما فقط تأويلات.) اذا نحن نبحث عن شاعريّة الموت أي تمثلات الشعراء النفسيّة للموت أي كيف تجسدت تلك المواقف من خلال أشعارهم وهي تعكس موقفا وجوديا تمثل بشاعريّة الموت خوف رهبة او أشياء اخرى مثل: (ذكر الاهل و الاصحاب وتوجيه الخطاب إلى الأخ او الرفيق)، يبثه الشاعر في أحزانه ويشكو له بعض آلامه و ايضا نجد أن حضور المرأة الواضح في شعر الموت كزوجة أو أم أو ابنة، ولم تذكر المرأة بوصفها متعة منه في شعر الموت حديثاً. وكذلك شيوع اسلوب الاستفهام.إلى جانب الحديث عن القبر، ووصفه أحياناً، وهذا الوصف غلبة ضمير المتكلم.هذه ملامح لا تخطئها لعين في شعر الموت قديماً وفي شعر الموت حديثاً. لكن تبقى الشعريّة تحوي جانبا جماليا شكليا، وليس فقط موقفا وجوديا اي إن الجانب الجمالي هو الآخر جزء فعال وحيوي من شاعريّة الموت التي تتجلى في تلك الرعشة التي يثيرها النص بالمتلقي، والمتلقي وإن كان يحضر بشكل فئة اجتماعيّة يخاطبها الشاعر في مرحلة زمنيّة؛ الا إن النص الشعري يبقى رسالة مفتوحة عبر الازمنة تبحث عن متلق، مما يعني أن النص الشعري وإن كانت له ظروفه الجماليّة والموضوعيّة تفترض مضامين معينة تبدو في أفق النص؛ إلا إنها ايضا منفتحة على انصهار آفاق بين الشاعر والمتلقي وأفق التلقي منفتحة على تأويل وإعادة القراءة.و أيضا، في مجال بحثنا عن شاعريّة الموت ينبغي أن نفتش عن شاعر يعبر عن ملكة شعريّة مميزة لأن الشاعر يجب أن تتوافر فيه ثلاثة شروط وهي: (موهبة، وامتلاك فاعل لثقافة العصر يقيم معها حوارا زلزاليا مستمرا، يستطيع الكشف عن المآزق الخبيئة داخل تلك الثقافة).
لعل البحث في تلك التجارب الشعريّة تدفعنا الى العودة الى الاصول البعيدة للشعريّة العربيّة (الشعر الجاهلي) في مقاربة تكوينيّة تقلب في طبقات تلك الحقبة من الشعر الجاهلي فقد مثل افقا مميزاً أظهر مواقف من شاعريّة الموت، فإننا نتلمس الأمر في بعدين الاول في موسيقى الشعر (حيث ميّز أبراهيم أنيس أن موسيقى الشعر العربي تتكون من عنصرين رئيسيين: نظام توالي المقاطع أي الكم و مراعاة النغمة الموسيقيّة "Intonation" في إنشاده ) أما البعد الثاني لشعريّة الموت فيمكن أن نتلمسه في سمات طغت على أشعار كثير من الشعراء الذين رثوا أنفسهم، وتعدد القصائد للواحد منهم أحياناً، ولم يقتصر رثاء النفس في الشعر الحديث على طائفة بعينها من الشعراء، أما في القديم فقد كان رثاء النفس مقتصراً على الشعراء الفرسان والشعراء المعمرين.و نجد في هذا الشعر أن تجربة الموت التي دفعت الشعراء إلى رثاء أنفسهم في الشعر الحديث تجربة متخيلة، وهي ليست تجربة حاضرة إلا نادراً، والسبب في ذلك أن الفروسيّة لن تعد مرتبطة بالشعر في العصر الحديث، أما في العصر القديم؛ فقد كانت أغلب التجارب الدافعة إلى رثاء النفس تجارب حاضرة معاشة.
وما كان رثاء امرئ القيس نفسه، حين شعر بدنو أجله، في أثناء عودته من بلاد الروم التي قصدها طلبا لمعونتها في تثبيت أركان مملكة كندة، سوى حوار مر جادل فيه ثقافة عصره، وما أنتجته من قيم.
أَجارَتَنْا إنّ الْمَزْارَ قَريْبٌ....... وَإنْي مُقيْمٌ ما أَقْامَ عَسِيبُ
أَجارَتَنْا إنّا غَريْباْنِ ها هُنا..... وَكْلُّ غَريبٍ للْغَرِيبِ نَسِيْبُ
إن الرعشة التي تسري في جسد متلقي هذين البيتين و في نفسه، في زماننا هذا، لإشارة قويّة إلى ما كان لها أن تخترق العصور لولا تلك الرؤية الإنسانيّة التي نفذ من خلالها امرؤ القيس إلى عمق من أعماق الثقافة الجاهليّة وقيمها، فتكشف له عن مأزق تلك الثقافة أمام النسب الجديد الذي تراءى للشاعر في لحظة مأزقيّة من حياته.، ويبدو أن الشعر هنا ليس بمجرد وسيلة للتواصل وإنما يمكن له أن يكون كذلك عاطفة ومتعة،اي أن اللحظة التي تنبثق بها لحظة الاغتراب والوجع العميق هي نفسها لحظة شاعريّة الموت بكل ظاهريتها وجوانيتها معاًّ.
تلك المواضعات تظهر في ثقافة الشاعر الجاهلي الذي تقاس (في مقدمتها امتداد عمره الزمني، ورحلاته داخل شبه الجزيرة و خارجها، ثم هناك الوافدون عليه من الامم المجاورة، فضلا عما حظي به من ثقافة داخل نطاق بيئته، واطلاعه على آثار الأسلاف المستحيلة إلى خرائب و أطلال وقبور، كما كان للديانات السماويّة المنتشرة في مواضع متفرقة من بلاد العرب أثر في هذه الثقافة أيضا..، ومن هذا المنطلق كانت العرب تطلق على الرجل الذي يقول الشعر صفة "الكامل")، وهنا تكمن أهميّة الشاعر بوصفه فنانا يجمع بين أشباح الماضي وخيالاته، ويمثلها في أسماع مجتمعه وأمام عينهم، ووسائل الشاعر في عمليّة ابتكاره هذه عديدة منها الصورة ومنها المفردة التي يستطيع الايحاء بها في المناخ الاسطوري.،ويمكن للشاعر بوصفه "الكامل" أن يطلع على معتقدات قومه العرب الذين كانوا يعتقدون، أن أرواح البشر تستحيل بعد مفارقة الأبدان إلى طير؛ وهذه العقيدة شملت أكثر الشعوب القديمة فآمنوا بأن بعض فصائل الطيور أرواح الموتى.
ومنهم عامر بن الظرب العدوانى وكان من شعراء العرب وخطبائهم وله وصيّة طويلة يقول في آخرها: إني ما رأيت شيئا قط خلق نفسه ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعاً ولا جائيا إلا ذاهبا ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء ثم قال إني أرى أمورا شتى وحتى قيل له وما حتى قال حتى يرجع الميت حياً ويعود لا شيء شيئاً؛ ولذلك خلقت السموات و الأرض فتولوا عنه ذاهبين وقال ويل إنها نصيحة لو كان من يقبلها، وقال في بعض مواعظه: ((كلا ورب الكعبة، ليعودن ما باد، ولئن ذهب ليعودن يوماً، وأنشد في معنى الإعادة:
يا بْاكِيَ الْمَوْتَ والأمْواْتَ في جدثٍ عَلَيْهِم من بَقايا بِزِهِمْ خَرَقُ
دَعْهُمْ، فَإنَ لَهُمْ يَوْماً يُصاحُ بِهمْ كَمْا يُنْبِهُ مِنْ نَوْمْاتِهِ الصَّعَقُ
في الرثاء وبكاء الديار: لم يصلنا من رثاء الجاهليّة شيئا كثيراً، ومنه أن الدهر هو سبب الموت في الشعر الجاهلي..يقول النابغة:
غَشِيْتُ مَنازِلاً بِعُرَيتُناتٍ….. فَأعْلَى الجِزْعِ للحَي الْمُبِنْ
تَعْاوَرَهُنًّ صَرْفُ الدَهْرِ حَتْى عَفَوتَ حَتْى….. عَفُوْنَ وَكُلِ مُنْهَمِرٍ مَرِنِ.
ونجد عناية الشاعر بذكر مكان قبر المرثي، وهي العناية التي تلاحظ في تحديد أماكن الديار، يقول النابغة:
لَئِنْ كان للقبْرينِ قبرٌ بِجُلّقِ….. وَقبْرٌ بِصَيداءَ الَّتي عِنْدَ حارِبِ
وفي تلك التجارب الشعريّة التي تختلف في الزمان والمكان بين القديم والحديث اذ يلحظ، خروج شعراء الموت في العصر الحديث في كثير من الأحيان من إطار الذاتيّة، وتوحد الشعراء فيه مع أمتهم في شمولها للفرد. مما يقود إلى تجاوز رثاء النفس لدى الشعراء الملتزمين اسلامياً في العصر الحديث حدود التعبير عن الالتزام النفسي و الهموم الشخصيّة، وحمل ما يمكن ان تسميه شهادة على العصر، ونقداً لنظمه السياسيّة والاجتماعيّة. اذ يتحول رثاء النفس في هذه الحالة إلى رثاء للأمة، إذ ينضح هذا النمط من الرثاء بمرارة الاغتراب ويرسخ الأسى والأحزان.
وَمَضى القِطْارُ
والعمْرُ يدفِنُ بعْضَهُ بَعْضاً
عَشْرُ حَيْارى ثمّ عشْرٌ للأَسْى
وخِتامُها عشْرُ الأَمْاني الضائِعاتُ.
ونجد أن الموت كما تجلّى في تجربة سيد قطب الشعريّة إذ يعبر عن الموت في الأسرار المحجوبة والحقوق المغيّبة، أملاً في أن يجد عندهم الجواب فيقول:
وَمْاذْا لَقيْتُمْ بعْدَ ما قدْ خَلعْتُمُو....... قِيود الْلَيالي الْخادِعاتِ المَواكِرِ
وَمْاذا وَرْاءَ الغيبِ والغيبُ مُطبقٌ...... وَهَلْ يَتَجَلّى مَرّةً للْنَوْاظِرِ.
ونجد أن الموت كما تجلّى في تجربة إيليا ابي ماضي، قصيدة الخلود، نجد أن شعريّة الموت في تصوره تكمن في أن الروح تفنى بفناء الجسد، كما يذهب ضوء الشمعة بانتهائها، وكما يزول الظل تزول الغصون، والبعث – في رأيه – مستبعد؛ لأنه لوكان بعث بعد الموت لاحتمل موت آخر بعد البعث وهكذا ينتهي الأمر إلى الدور والتسلسل )، فيقول:
نعْشَقُ الْبُقْيا لأنّا زائِلونْ... و الأَمْاني حِسّيّة في كُلِ حَي
تَلْبُثُ الأفْياءُ ما دامَ الغُصونُ... فَإذا ما ذَهبْتَ لم يبق في.
وقد كان الشعر العربي متأثراً بالرمزيّة الغربيّة من جانبين: (جانب الأسلوب وجانب المضمون )و يذكر صورا لكل جانب مثل قول جبران:
هَلْ يَصُم المَوت آذاناً وَعتْ........ إنه الظًلْمُ وأنغامُ الْسِكُونِ
الموت / البعث:
في تنوع مهم في تحولات شعريّة الموت في الشعر الحديث والمعاصر وتحول في الاهتمام من الفرديّة الى الأمة وخصوصا في حقبة الخمسينيات كان الاهتمام بالأحداث التي أعقبت النكبة عام 1947 م في الخمسينيات وبداية الستينيات ظهور بعض الحركات الثوريّة، فكان هذا أشبه بهاجس الخصب و البعث والولادة وكان الشعر العربي قد تعرف على الاسطورة (في مجال هذه المضامين جاء شعر ما يعرف بالحركة التموزيّة أو شعر التموزيين من أمثال أدونيس وبدر شاكر السياب وخليل حاوي... الذين أفادوا من الأسطورة و إليوت، وبخاصة "الأرض اليباب " التي ربما مثلت كلمة "اليباب" إيقاعا تجاوب مع ما في هواجسهم من جدب وقحط وموت فتثاقفوا معها إلى حد التفاعل معها و التأثر بها.
يقول أ دونيس من قصيدة "البعث و الرماد":
أحْلُمُ أنّ رِئتي جمْرَةٌ
يخْطِفُني بُخُورُها يَطيْرُ بي لِبعْلَبكْ
بعْلَبكْ مذْبَحٌ
يُقالُ فيهِ طائِرٌ مولَهٌ بِموتِهِ
وَقيلَ بِاسْمِ غَدِه الجَديدُ بِاسمِ بعثِهِ
يحترق.
أما السياب: فقد عاش في مرحلة عصيبة تنتمي فيها إلى التغيير وتخشى من ممارسة وتنوه بأثقال واقع مزر متفسخ،وامتدادات أجيال من الظلم والقهر والطغيان التي رسّخت في العقول (عقدا وشكوى وآلاما وانغلاقا مريضا) ويطغي عليها الإحساس بأنّ مأساة الإنسان في الاساس فرديّة ، وعلى الرغم من اندماجه المطلق الأعمى بالجماعة في قيمها… وعلى الرغم من هذا الإندماج؛ فإنه إن جاع او مرض او نكب فإنه هو وحده الذي يستعمل هذه المأساة و لا أحداً سيدفعها عنه.
وإن بدرا كتب تعليقا على كلمة العرب قال فيه:(ضاع مفهوم القوميّة عندنا بين الشعوبيين والشوفينيين يجب أن تكون القوميّة شعبيّة والشعبيّة قوميّة....)
في إطار القصيدة التموزيّة يعد المسيح من الرموز الأثيرة لدى الشعراء التموزيين إذ اتخذوه رمزا للشاعر يعاني ويضحي بنفس سبيل وطنه وأمته يقول السياب:
غَنَيتُ ترْبَتِكِ الحَبيبَة
وَحَملتُها فَأنا المَسيحُ يَجُرُ في المنْفى صَليبَه.
تحوّل الشاعر برمزيّة تموز و المسيح عن مجال القضايا الاجتماعيّة إلى المجال الذاتي – كما أشرنا الى ذلك سابقا – ومن الطبيعي أن يكون هذا المجال ضيقا على دلالة الرمزيين، ولكن الشاعر الذي كان يرى نفسه أحق برمز تموز من اليوت
ان حبة الحنطة قد سقطت من حياة السياب إلى الأرض، ولكنها لم تمت؛ لأن سقوطها لم يكن سقوط نضال في مرحلته الأخيرة بل كان سقوطا عن النضال، لذلك فلم تثمر هذه الحبة سوى ابنه غيلان، فلم يكن السياب يرى امتداد حياته بعد موته إلا في غيلان وحده:
"بابا" كأنّ يدُ المَسيحِ
فيها.. كَأنّ جَماجِم الموتى تُبرعِم في الضَريحِ
تموزُ عادَ بكلِ سنبُلَةٍ تُعابِثُ كُلِ رِيحِ.
الخاتمة:
إن الشعر ليس نثراً يضاف إليه شيء آخر، وبالآتي فإن الشعريّة هي أساساً الإحساس الجمالي الخاص الناتج عن القصيدة، معبراً عن "العاطفة" أو "الانفعال الشعري" حتى اصبحت تحتوي اليوم شكلاً خاصاً من أشكال المعرفة.
فإن الشعريّة والموت هي مستوى من التعبير عن حال وجدانيّة فيما الموت بوصفه ظاهرةً انسانيّةً تنجم عن انفعال من حدث طبيعي يخلف ردود أفعال عند الانسان عامة والشعراء بخاصة
فإن الإنسان لن يتقبل الموت من دون مقاومة مشهد انفصاله عن الأرض بكل بهائها أو الفقدان الحتمي لأحبائه، وأقاربه فالإنسان يخاف غريزياً من الموت ويخشاه وإن خوف الإنسان من الموت هو: جزء من خوفه من المجهول؛ لأنه ينقله من العالم المعروف له والذي ألفه إلى عالم مجهول وهو يحب ما إعتاد عليه، ويخشى ما لم يجربه وما ليس له به خبرة.
فان تلك الخبرات تعد تعبيراً عن تجارب معاشة اختزنتها اللغة وجعلت منها ذخيرة للتجارب والخبرات الثقافيّة، وقد صورت تلك الخبرات الموت من خلال أحكام مسبقة طاغيّة على الوعي وتجد ترجمتها في تصوير الموت؛ وكأنه مناقض لكل ما هو حي ومن هنا توصيف الرجل بوصفه: (ميت وميت وقيل: الميت: الذي مات، و الميت، و المائت الذي لم يمت بعد.. فالموت هنا بحسب هذا التعريف فعل يشمل كل شيء حتى يصبح مناقض او مباين لما هو حي.
أشكلة الموت: يحاول هذا النص أن يطرح مشكلة الموت بوصفها حدثاً ثقافياً، وهو يحاول رصد التمثلات الثقافيّة للموت عبر استعراض تشكلها في شاعريّة ترصد كيف كان الموت حاضراً في تمثلات متنوعة لدى الشعراء من خلال النظر والتأمل في زاويّة الخيال منها:
(الموت / الحريّة): اذ ارتبط الموت في كثير من التفسيرات الدينيّة بالحريّة، في الوقت الذي لا توجد الحريّة الا بعيداً عن الموت يقال إن الموت دخل العالم بسبب خطيئة ادم التي أدت إلى طرده من عالم الخلد؛ فأصبح لأول مرة قابلا للفناء والموت.
(الموت و الخلق) / العدم: كانت الحياة، لكونها مخلوقة تحتوي على جرثومة الموت، وبهذا كانت الوجود لأنه خلق من عدم بحسب الرؤية الدينيّة، ومن ثم فكل وجود يميل بطبعه إلى الفناء وكل حياة يكمن الموت في جوفها.
(الموت / الشخصيّة ): ارتبط الموت بالشخصيّة على الرغم من كون الموت هو اساساً قضاء على كل شخصيّة، فكلما كانت الشعوب انضج وأقوى شخصيّة، كأن الإنسان أقدر على إدراك الموت.
أما الموت على المستوى الفردي وهو موضوع هذا المقال، اذ نجد في ملحمة جلجامش لا ينظر الى العدم، و إنما هو ببساطة تغير في طريقة اتصال فرد بآخر، فهو في الأصل انفصال، وبالآتي؛ فإن شاعريّة الموت كما تجسدت في تمثلات الشعراء. فقد تجسدت في الشعر الجاهلي، فقد مثل افقا مميزا عكس مواقف من شاعريّة الموت، فقد تميز هذا الشعر بمجموعة من السمات من خلال كثرة الشعراء الذين رثوا أنفسهم، وتعدد القصائد للواحد منهم أحياناً. فقد كان رثاء النفس تجارب حاضرة معاشة.وإن كانت مقتصرة على الشعراء الفرسان والشعراء المعمرين.
بالمقابل نجد في هذا الشعر أن تجربة الموت التي دفعت الشعراء إلى رثاء انفسهم في الشعر الحديث تجربة متخيلة، وليست تجربة حاضرة إلا نادراً.