إذا كان الموت هو الحدث الطبيعي الأكبر الذي يعصف بالحقيقة الإنسانية بحكم زمانيتها وبحكم طابعها المتناهي، ويقوم باجتثاثها من الجذور، فلا شك أن الإنسان منذ أن وعى حدود هذا الوجود وهو يحاول ابتكار أساليب وميكانيزمات متنوعة فكرية وسلوكية من أجل مقاومة الموت، هذا الحدث الحتمي الذي لا مفر من مواجهته والتحديق فيه مرة واحدة وإلى الأبد.
إن المطلع على النصوص الإنسانية الكبرى مثل الملاحم والأساطير وشذرات الفلاسفة القدماء، وكذلك نصوص الكتب المقدسة، يدرك بوضوح أن قضية الموت كانت الشاغل الأكبر بالنسبة للإنسانية عبر تاريخها. كما أن المآثر التي خلفها الإنسان منذ الرسومات الأولى في الكهوف، وأشكال البناء والمعمار كالأهرامات والأبراج والحدائق والمدن المحصنة والطقوس المرادفة لدفن الموتى في المقابر والمدافن المختلفة الأشكال لهي دليل آخر على حرص الإنسان على التشبث بفكرة الخلود كفكرة محورية من أجل مواجهة تحديات الموت.
لعل النص الذي يحضر في ذهن أي باحث في هذا الموضوع هو نص ملحمة جلجامش البابلية الشهيرة، التي تعد من أقدم روائع الأدب الإنساني بحيث يعود تاريخها إلى حوالي 2000 سنة قبل الميلاد. تحكي هذه الملحمة قصة الملك جلجامش الذي حكم مملكة أوروك ابتداء من سنة 2650 ق. م، وقد عرف عنه مبالغته في الطغيان والاستبداد. تقول الملحمة:
لازم أبطال أوروك حجراتهم متذمرين شاكين
لم يترك جلجامش ابنًا لأبيه
ولم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
لم يترك عذراء لحبيبها
ولا ابنة المقاتل
ولاخطيبة البطل.
هكذا تحول جلجامش في الملحمة من ملك تاريخي إلى ملك أسطوري، ثلثيه من سلالة الآلهة وثلثه فقط من سلالة البشر، أصبح كائنًا مقدسًا يجمع بين الخير والشر كما خصته الآلهة بالجمال وبالبطولة. تقول الملحمة:
جعلت الآلهة العظام
صورة جلجامش تامة كاملة
كان طوله أحد عشر ذراعًا
وعرض صدره تسعة أشبار
ثلثاه من إله وثلثه الباقي من بشر
وهيئة جسمه لا نظير لها.
لكن لما اشتدت تظلمات بني البشر إلى الآلهة عن طغيان جلجامش وبطشه بالناس قررت أن ترسل إليه كائنًا آخر ينافسه ويضاهيه قوة وعنفوانًا، أرسلت أنكيدو الذي خلقته من طين وألقته في البراري يرعى الكلأ مع الغزلان ويرد الماء مع الحيوان طليقًا حرًا.
سمع جلجامش بهذا الكائن الوحش فطلبه للعراك، وكانت هذه أمنية المستكين حتى تستريح المدينة من الطاغية. لكن الأمور سارت على غير هذا الحال. فبعد صراع مرير اهتزت له جدران المعابد وأسوار المدينة قرر المتعاركان الصلح اعترافًا بتكافؤ القوة وقررا أيضًا أن يتعاونا على قهر كل قوة تعترض سبيلهما.
إن علاقة جلجامش بأنكيدو في هذه المرحلة وانتصارهما على الأعداء، تعبر عن أوج عظمة الإنسان وثقته في نفسه ورغبته في السيطرة على الكون، متحديًا بذلك الآلهة التي خلقته وخلقت معه شرطه الأساس وهو الموت. لذلك اضطرت إلى التدخل مرة أخرى لإعادة ترتيب الأمور من جديد، ينبغي إذن تكسير هذه القوة الموحدة والخطيرة. فكان القرار الحاسم هو أن يموت أنكيدو الصديق الوفي، من أجل تذكير جلجامش بحدوده الأرضية.
هنا بدأت القصة تتخذ منعطفًا جديدًا وهو بداية للنهاية المأساوية التي خصت بها الآلهة بني البشر، فقد سقط أنكيدو مريضًا، حيث ضعف الجسد القوي وانهار العنفوان وصولة الشباب، امتلكه الحزن الشديد وأصبح يعيش أحلامًا مخيفة تظهر له فيها صور مرعبة من عالم الموت. سهر جلجامش إلى جانب صديقه ليال طوال لم ينفعه في شيء.
غادر أنكيدو هذا العالم، لم يصدق جلجامش ذلك، فبكى بكاء مرًا، صرخ في وجه الجدران والأسوار، رفض الانهيار أمام الحقيقة، لبث أمام الجثة ستة أيام وسبع ليال. ولما تفسخ الجسد وتعفن وجه الصديق، تركه وهام على وجهه يائسًا حزينًا على فقدانه رافضًا الموت، باحثًا عن سر الخلود.
أصر جلجامش على الرفض والرحيل من أجل مقاومة الموت، قطع الجبال وعبر الأنهار والوديان باحثًا عن رجل الطوفان أوتنابشتيم يسأله عن سر حصوله على ميزة الخلود. ورجل الطوفان هذا خصته الآلهة بالخلود بسبب صنعه للسفينة التي أنقذت بني البشر من هول الطوفان الذي غمر الأرض. ولما نجت السفينة قدم القرابين للآلهة شكرًا لها، فاجتمعت وقررت أن تكافئه على صنيعه فخصته بالخلود. في الطريق إلى رجل الطوفان اعترضت حورية جلجامش محاولة أن تقنعه بلا جدوى مساعيه للحصول على المستحيل.
لم يبال جلجامش بهذه الكلمات واستمر في الرحيل رغم الصعاب والمحن وأهوال السفر إلى أن وصل إلى رجل الطوفان الذي أقنعه بأن الخلود الذي خصته به الآلهة لن يتكرر ولن يحصل عليه كائن آخر. لكن تعاطفًا معه اقترح حلا وسطا بحيث أشار عليه بنبتة سحرية توجد في قاع البحر لا تعطي الخلود لمن تناولها ولكن فقط تجدد الشباب وتطيل العمر.
غاص البطل في المياه العميقة وحصل أخيرًا على النبتة الغريبة، وفي طريق رجوعه رأى بركة ماء بارد فقرر أن يستحم، وضع النبتة إلى جانب البركة وما إن نزل إلى الماء حتى تسللت حية على المكان فالتهمت النبتة واستعادت شبابها، ومنذ ذلك الحين والحية تبدل جلدها كلما تقدم بها العمر.
هكذا أحكمت الآلهة قبضتها مرة أخرى وحرمته حتى من أدنى درجات الخلود، وهي تجديد الشباب، ورغم ذلك بقي جلجامش مصرًا على المقاومة مخلدًا بذلك قصة الإنسان في صراعه مع الموت عبر
إن المطلع على النصوص الإنسانية الكبرى مثل الملاحم والأساطير وشذرات الفلاسفة القدماء، وكذلك نصوص الكتب المقدسة، يدرك بوضوح أن قضية الموت كانت الشاغل الأكبر بالنسبة للإنسانية عبر تاريخها. كما أن المآثر التي خلفها الإنسان منذ الرسومات الأولى في الكهوف، وأشكال البناء والمعمار كالأهرامات والأبراج والحدائق والمدن المحصنة والطقوس المرادفة لدفن الموتى في المقابر والمدافن المختلفة الأشكال لهي دليل آخر على حرص الإنسان على التشبث بفكرة الخلود كفكرة محورية من أجل مواجهة تحديات الموت.
لعل النص الذي يحضر في ذهن أي باحث في هذا الموضوع هو نص ملحمة جلجامش البابلية الشهيرة، التي تعد من أقدم روائع الأدب الإنساني بحيث يعود تاريخها إلى حوالي 2000 سنة قبل الميلاد. تحكي هذه الملحمة قصة الملك جلجامش الذي حكم مملكة أوروك ابتداء من سنة 2650 ق. م، وقد عرف عنه مبالغته في الطغيان والاستبداد. تقول الملحمة:
لازم أبطال أوروك حجراتهم متذمرين شاكين
لم يترك جلجامش ابنًا لأبيه
ولم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
لم يترك عذراء لحبيبها
ولا ابنة المقاتل
ولاخطيبة البطل.
هكذا تحول جلجامش في الملحمة من ملك تاريخي إلى ملك أسطوري، ثلثيه من سلالة الآلهة وثلثه فقط من سلالة البشر، أصبح كائنًا مقدسًا يجمع بين الخير والشر كما خصته الآلهة بالجمال وبالبطولة. تقول الملحمة:
جعلت الآلهة العظام
صورة جلجامش تامة كاملة
كان طوله أحد عشر ذراعًا
وعرض صدره تسعة أشبار
ثلثاه من إله وثلثه الباقي من بشر
وهيئة جسمه لا نظير لها.
لكن لما اشتدت تظلمات بني البشر إلى الآلهة عن طغيان جلجامش وبطشه بالناس قررت أن ترسل إليه كائنًا آخر ينافسه ويضاهيه قوة وعنفوانًا، أرسلت أنكيدو الذي خلقته من طين وألقته في البراري يرعى الكلأ مع الغزلان ويرد الماء مع الحيوان طليقًا حرًا.
سمع جلجامش بهذا الكائن الوحش فطلبه للعراك، وكانت هذه أمنية المستكين حتى تستريح المدينة من الطاغية. لكن الأمور سارت على غير هذا الحال. فبعد صراع مرير اهتزت له جدران المعابد وأسوار المدينة قرر المتعاركان الصلح اعترافًا بتكافؤ القوة وقررا أيضًا أن يتعاونا على قهر كل قوة تعترض سبيلهما.
إن علاقة جلجامش بأنكيدو في هذه المرحلة وانتصارهما على الأعداء، تعبر عن أوج عظمة الإنسان وثقته في نفسه ورغبته في السيطرة على الكون، متحديًا بذلك الآلهة التي خلقته وخلقت معه شرطه الأساس وهو الموت. لذلك اضطرت إلى التدخل مرة أخرى لإعادة ترتيب الأمور من جديد، ينبغي إذن تكسير هذه القوة الموحدة والخطيرة. فكان القرار الحاسم هو أن يموت أنكيدو الصديق الوفي، من أجل تذكير جلجامش بحدوده الأرضية.
هنا بدأت القصة تتخذ منعطفًا جديدًا وهو بداية للنهاية المأساوية التي خصت بها الآلهة بني البشر، فقد سقط أنكيدو مريضًا، حيث ضعف الجسد القوي وانهار العنفوان وصولة الشباب، امتلكه الحزن الشديد وأصبح يعيش أحلامًا مخيفة تظهر له فيها صور مرعبة من عالم الموت. سهر جلجامش إلى جانب صديقه ليال طوال لم ينفعه في شيء.
غادر أنكيدو هذا العالم، لم يصدق جلجامش ذلك، فبكى بكاء مرًا، صرخ في وجه الجدران والأسوار، رفض الانهيار أمام الحقيقة، لبث أمام الجثة ستة أيام وسبع ليال. ولما تفسخ الجسد وتعفن وجه الصديق، تركه وهام على وجهه يائسًا حزينًا على فقدانه رافضًا الموت، باحثًا عن سر الخلود.
أصر جلجامش على الرفض والرحيل من أجل مقاومة الموت، قطع الجبال وعبر الأنهار والوديان باحثًا عن رجل الطوفان أوتنابشتيم يسأله عن سر حصوله على ميزة الخلود. ورجل الطوفان هذا خصته الآلهة بالخلود بسبب صنعه للسفينة التي أنقذت بني البشر من هول الطوفان الذي غمر الأرض. ولما نجت السفينة قدم القرابين للآلهة شكرًا لها، فاجتمعت وقررت أن تكافئه على صنيعه فخصته بالخلود. في الطريق إلى رجل الطوفان اعترضت حورية جلجامش محاولة أن تقنعه بلا جدوى مساعيه للحصول على المستحيل.
لم يبال جلجامش بهذه الكلمات واستمر في الرحيل رغم الصعاب والمحن وأهوال السفر إلى أن وصل إلى رجل الطوفان الذي أقنعه بأن الخلود الذي خصته به الآلهة لن يتكرر ولن يحصل عليه كائن آخر. لكن تعاطفًا معه اقترح حلا وسطا بحيث أشار عليه بنبتة سحرية توجد في قاع البحر لا تعطي الخلود لمن تناولها ولكن فقط تجدد الشباب وتطيل العمر.
غاص البطل في المياه العميقة وحصل أخيرًا على النبتة الغريبة، وفي طريق رجوعه رأى بركة ماء بارد فقرر أن يستحم، وضع النبتة إلى جانب البركة وما إن نزل إلى الماء حتى تسللت حية على المكان فالتهمت النبتة واستعادت شبابها، ومنذ ذلك الحين والحية تبدل جلدها كلما تقدم بها العمر.
هكذا أحكمت الآلهة قبضتها مرة أخرى وحرمته حتى من أدنى درجات الخلود، وهي تجديد الشباب، ورغم ذلك بقي جلجامش مصرًا على المقاومة مخلدًا بذلك قصة الإنسان في صراعه مع الموت عبر