ومهما يكن من أمر صاحب هذه القصيدة فان أبياتها تنضح بالوثنية، وأسلوبها يدل على ذلك، كما أن أهميتها القصوى تتضح لنا من أنها أثارت جوته بعد أن قرأ ترجمتها باللاتينية فقام بطبع ترجمة لها بالألمانية مع نقد جميل للشعر في (الديوان الشرقي - وفي هذه القصيدة نرى الشاعر يصور كيف يلج به الثأر لخاله الذي قتله هذلي، ويصف بطولة القتيل وخلقه والغزوة التي قام بها وانتصاره (الشاعر) في النهاية على خصومه وظهوره عليهم فيقول:
إِن بالشِّعب الذيِ عندَ سَلْعٍ ... لقَتيلا دَمُه ما يُطَلُّ
خلّف العِبَْء عليّ وولى ... أنا بالعِبْءِ له مستقل
ووراء الثأرِ مني ابنُ أختِ ... مَصع عقْدَتهُ ما تُحَل
مُطرِق يَرشح سَماً كما أطْ ... رَقَ أفْعَى يَرْشح السُمَّ صِلُّ
خَبر ما نابَنَا مُصْمَئِلٌّ ... جلَّ حتى دَقَّ فيه الأجل
بزَّنى الدهرُ وكان غَشوماً ... بأبيٍ جارُه ما يُذَل
شامس في القُرِ حتى إذا ما ... ذَكّتِ الشِّعرَي فَبرْد وظِل
يابسُ الجنبينِ مِن غير بؤس ... وندِي الكفين شهْم مُدِل
ظاعن بالحزْم حتى إذا ما ... حلّ: حلَّ الحزْم حيث يَحُل
غيث مزْنٍ غامر حيْث يُجدِي ... وإذا يَسْطو فليْث أبل
مسبل في الحيِّ أحْوى رِفِل ... وإذا يغْزُو فسِمْع أزَل
وله طعمان أرْى وشَرْى ... وَكِلا الطعْمَينِ قد ذاقَ كل
يركبُ الهوْلَ وحيداً ولا يَصْ ... حُبُهُ إلا اليماني الأفَل
وفتُوٍّ هَجِروا ثم أسْرَوْا ... ليلهم حتى إذا إنجاب حلو كلّ
ماض قد تردَّى بماض ... كسَنا البرقِ إذا ما يُسل
فأدَّرَكْنا الثَّأرَ منْهُمْ ولمَّا ... يَنْجُ مِ الحيَّين إلاَّ الأقلُّ
فاحتْسَوْا أنفاسَ نوْم فلمَّا ... هوَّموا رُعْتُهُم فاشْمَعلُّوا
فَلئِنْ فلَّتْ هُذَيل شَباهُ ... لبما كان هذيْلاً يَفِل
وبمَا أدْرَكَهَا في مَناخٍ ... جَعْجعٍ ينْقُبُ فيهِ الأضّل
وبمَا صَبَّحَها في ذُرَاها ... منْهُ بعْدُ القتْلِ نَهب وشَمل
صليَتُ منى هُذيْل بِخرْقٍ ... لا يَمل الشّرَّ حَتى يَمَلوا
يُنْهلُ الصَّعْدَة حتى إذا مَا ... نهِلَتْ، كان لها منهُ عَل
حلتِ الخمر وكانت حرَاماً ... وبلاْيٍ ما ألَمَّتْ تحُلْ
فاسقِنيها يا سوادَ ابنَ عمرو ... إني جسمي بعد خالي لخَل
تضحكُ الضبْعُ لقتلى هُذيْلٍ ... وترى الذيب لها يَسْتَهل
وعِتاقُ الطيرِ تَغدو بِطاناً ... تتخطاهم فما تستْقل
ولم تكن الفضائل التي استوعبها العربي عن الشرف معدودة كأنها صفات شخصية فطرية أو مكتسبة، بل إرثاً ورثه الخلف عن السلف منذ القدم، ولا بد له من أن يحافظ عليه تماماًً حتى يسلمه إلى أبنائه دون أن تشوبه شائبة ما، ولم يكن الأمل، في الخطوة بخلود النفس هو ما يحفز الشاعر العربي لأن (يقول القول ويفعل فعال الشرف)، بل كان الرغبة في أن يقاسم أسلافه ذكرهم، وينافسهم صيتهم. وهو بهذا ابعد ما يكون عن الفلاح الاسكتلندي، حين يقول في مثله الدارج (الإنسان بشخصه أياً كان اصله) لأنه كان ينظر نظرة الشك والريبة إلى هذه الجدارة التي ليس لها اصل مأثور عند الآباء:
ومَا تَسْتَوِي أحسَابُ قوٍم تُوُرثَت ... قديماَ وأحسَابُ َنبْتنَ معَ البقْلِ
وإن الحسب عندهم أشبه بحصن حصين قد جد في إقامته الآباء للأبناء أو كجبل شامخ يضرب بقنته في أجواز الفضاء، يرتد عنه مهاجموه بالفشل دون أن ينالوا منه شيئاً، وكان الشعراء يعرفون جيداً المفاخر والمثالب فيتشدقون بالأولى بشرف أجدادهم وكرم أرومتهم، ويتخذون الثانية أداة ينالون بها من أعدائهم دون رعاية أو اهتمام بقواعد الأدب والحشمة.
لقد وجهت عنايتي أن أورد في هذا المجال بعض الصفات الخاصة للشعر العربي إذا ما قورن بالشعر العبري أو الفارسي أو الإنكليزي، ولكن لما كان إيراد الأمثال ذا جدوى غير منكورة فإني أبدأ حالا بالتكلم عن القصائد الشهيرة بالمعلقات التي تحتل مكانة سامية وذروة رفيعة في الأدب العربي.
الأرجح أن كلمة معلقة قد اشتقت من قولهم (عِلق) أي الشيء النفيس الثمين العالي المستوى. إما لأن الإنسان يتعلق بها تعلقا شديدا، أو لأنها تعلق في مكان شريف أو بين واضح كبيوت المال أو في خزائن عامة وعلى مر الزمن تنوسي المدلول الحقيقي لكلمة معلقة، وأصبح من الضروري إيجاد تفسير مقبول منصوب لها وهنا ظهرت الخرافة التي أصبحت فيما بعد مألوفة لطول تكرارها وكثرة استعمالها، والتي تزعم أن تسمية المعلقات بهذا الاسم، راجعة لتعليقها بأستار الكعبة تقديرا لفضلها الذي قضى لها به المحكمون في عكاظ على مقربة من مكة؛ حيث يجتمع الشعراء متنافسين في إنشاد أروع ما دبجته قرائحهم، وأنها كانت تكتب بماء الذهب، على القباطي الواردة من مصر قبل تعليقها على الكعبة.
(يتبع)
حسن حبشي
-
مجلة الرسالة - العدد 197
بتاريخ: 12 - 04 - 1937
إِن بالشِّعب الذيِ عندَ سَلْعٍ ... لقَتيلا دَمُه ما يُطَلُّ
خلّف العِبَْء عليّ وولى ... أنا بالعِبْءِ له مستقل
ووراء الثأرِ مني ابنُ أختِ ... مَصع عقْدَتهُ ما تُحَل
مُطرِق يَرشح سَماً كما أطْ ... رَقَ أفْعَى يَرْشح السُمَّ صِلُّ
خَبر ما نابَنَا مُصْمَئِلٌّ ... جلَّ حتى دَقَّ فيه الأجل
بزَّنى الدهرُ وكان غَشوماً ... بأبيٍ جارُه ما يُذَل
شامس في القُرِ حتى إذا ما ... ذَكّتِ الشِّعرَي فَبرْد وظِل
يابسُ الجنبينِ مِن غير بؤس ... وندِي الكفين شهْم مُدِل
ظاعن بالحزْم حتى إذا ما ... حلّ: حلَّ الحزْم حيث يَحُل
غيث مزْنٍ غامر حيْث يُجدِي ... وإذا يَسْطو فليْث أبل
مسبل في الحيِّ أحْوى رِفِل ... وإذا يغْزُو فسِمْع أزَل
وله طعمان أرْى وشَرْى ... وَكِلا الطعْمَينِ قد ذاقَ كل
يركبُ الهوْلَ وحيداً ولا يَصْ ... حُبُهُ إلا اليماني الأفَل
وفتُوٍّ هَجِروا ثم أسْرَوْا ... ليلهم حتى إذا إنجاب حلو كلّ
ماض قد تردَّى بماض ... كسَنا البرقِ إذا ما يُسل
فأدَّرَكْنا الثَّأرَ منْهُمْ ولمَّا ... يَنْجُ مِ الحيَّين إلاَّ الأقلُّ
فاحتْسَوْا أنفاسَ نوْم فلمَّا ... هوَّموا رُعْتُهُم فاشْمَعلُّوا
فَلئِنْ فلَّتْ هُذَيل شَباهُ ... لبما كان هذيْلاً يَفِل
وبمَا أدْرَكَهَا في مَناخٍ ... جَعْجعٍ ينْقُبُ فيهِ الأضّل
وبمَا صَبَّحَها في ذُرَاها ... منْهُ بعْدُ القتْلِ نَهب وشَمل
صليَتُ منى هُذيْل بِخرْقٍ ... لا يَمل الشّرَّ حَتى يَمَلوا
يُنْهلُ الصَّعْدَة حتى إذا مَا ... نهِلَتْ، كان لها منهُ عَل
حلتِ الخمر وكانت حرَاماً ... وبلاْيٍ ما ألَمَّتْ تحُلْ
فاسقِنيها يا سوادَ ابنَ عمرو ... إني جسمي بعد خالي لخَل
تضحكُ الضبْعُ لقتلى هُذيْلٍ ... وترى الذيب لها يَسْتَهل
وعِتاقُ الطيرِ تَغدو بِطاناً ... تتخطاهم فما تستْقل
ولم تكن الفضائل التي استوعبها العربي عن الشرف معدودة كأنها صفات شخصية فطرية أو مكتسبة، بل إرثاً ورثه الخلف عن السلف منذ القدم، ولا بد له من أن يحافظ عليه تماماًً حتى يسلمه إلى أبنائه دون أن تشوبه شائبة ما، ولم يكن الأمل، في الخطوة بخلود النفس هو ما يحفز الشاعر العربي لأن (يقول القول ويفعل فعال الشرف)، بل كان الرغبة في أن يقاسم أسلافه ذكرهم، وينافسهم صيتهم. وهو بهذا ابعد ما يكون عن الفلاح الاسكتلندي، حين يقول في مثله الدارج (الإنسان بشخصه أياً كان اصله) لأنه كان ينظر نظرة الشك والريبة إلى هذه الجدارة التي ليس لها اصل مأثور عند الآباء:
ومَا تَسْتَوِي أحسَابُ قوٍم تُوُرثَت ... قديماَ وأحسَابُ َنبْتنَ معَ البقْلِ
وإن الحسب عندهم أشبه بحصن حصين قد جد في إقامته الآباء للأبناء أو كجبل شامخ يضرب بقنته في أجواز الفضاء، يرتد عنه مهاجموه بالفشل دون أن ينالوا منه شيئاً، وكان الشعراء يعرفون جيداً المفاخر والمثالب فيتشدقون بالأولى بشرف أجدادهم وكرم أرومتهم، ويتخذون الثانية أداة ينالون بها من أعدائهم دون رعاية أو اهتمام بقواعد الأدب والحشمة.
لقد وجهت عنايتي أن أورد في هذا المجال بعض الصفات الخاصة للشعر العربي إذا ما قورن بالشعر العبري أو الفارسي أو الإنكليزي، ولكن لما كان إيراد الأمثال ذا جدوى غير منكورة فإني أبدأ حالا بالتكلم عن القصائد الشهيرة بالمعلقات التي تحتل مكانة سامية وذروة رفيعة في الأدب العربي.
الأرجح أن كلمة معلقة قد اشتقت من قولهم (عِلق) أي الشيء النفيس الثمين العالي المستوى. إما لأن الإنسان يتعلق بها تعلقا شديدا، أو لأنها تعلق في مكان شريف أو بين واضح كبيوت المال أو في خزائن عامة وعلى مر الزمن تنوسي المدلول الحقيقي لكلمة معلقة، وأصبح من الضروري إيجاد تفسير مقبول منصوب لها وهنا ظهرت الخرافة التي أصبحت فيما بعد مألوفة لطول تكرارها وكثرة استعمالها، والتي تزعم أن تسمية المعلقات بهذا الاسم، راجعة لتعليقها بأستار الكعبة تقديرا لفضلها الذي قضى لها به المحكمون في عكاظ على مقربة من مكة؛ حيث يجتمع الشعراء متنافسين في إنشاد أروع ما دبجته قرائحهم، وأنها كانت تكتب بماء الذهب، على القباطي الواردة من مصر قبل تعليقها على الكعبة.
(يتبع)
حسن حبشي
-
مجلة الرسالة - العدد 197
بتاريخ: 12 - 04 - 1937