أخرج الصديق الأستاذ فؤاد حمدو الدقس منذ فترة قريبة موسوعة ضخمة ترجم فيها لعشرات الصحابة والتابعين وتابعى التابعين بالإضافة إلى زوجات الرسول الكريم صلوات الله وسلاماته عليه وغيرهن من النسوة المسلمات الأوائل، وحقق كثيرا من الأخبار التى تتعلق بهم وصحح منها ما رأى أنه غير صحيح. وفى ندوة ممتعة تحت إشراف أ. د. صابر عبد الدايم بدار الأدب الإسلامى عقدت الليلة لمناقشة الموسوعة أطنب فى الثناء عليها وعلى صاحبها عدد من الصحافيين والإذاعيين والأساتذة الجامعيين. وهذه كلمتى التى شاركت بها فى تلك الندوة. وقد اخترت أن أتحدث عن غلاف الكتاب وما يثيره من المسائل اللغوية، فكانت هذه السطور.
وأول شىء أتناوله فى كلام الصديق الأستاذ الدقس هو التركيب الذى استعمله فى عنوان كتابه: "موسوعة الأعلام فى فجر وضحى الإسلام"، فقد استعمل تركيبا يرفضه كثير من النحويين والمهتمين بالصحة اللغوية، وهو التركيب الذى يتعاور فيه مضافان مضافا إليه واحدا، إذ قال: "فجر وضحى الإسلام"، فأضاف "فجر وضحى" إلى "الإسلام"، أى أضاف اسمين متعاطفين بالواو إلى مضاف إليه واحد، وهم يقولون إن هذا التركيب لا توجد شواهد عليه سوى قول أحد العرب القدماء: "قطع الله يد ورجل من قاله" والبيت الشعرى التالى:
يا من رأى عارضًا أرقتُ له = بين ذراعَىْ وجبهةِ الأسد
ومع هذا فأذكر أنى لقيت فى طريقى قبل مدة ليست بالطويلة تعاور مضافين لا بالواو كما فى المثالين السابقين بل بـ"أو" مضافا إليه مفردا، وهو قول الأعشى:
إلا بَدَاهَةَ أو عُلا = لةَ قارحٍ نَهْدِ الجُزَاره
ويقيس البغدادى فى "خزانة الأدب" على هذه الشواهد الجملتين التاليتين: "عندى نصفُ أو ربعُ درهمٍ"، و"جئتك قبلَ أو بعدَ العصرِ".
وهؤلاء الرافضون لذلك التركيب يذكروننى بما كنا نقوله ونحن نلعب كرة القدم فى طفولتنا وصبانا من أن دخول لاعبين على لاعب واحد من فريق الخصوم هو"فاول"، أى لعب سيئ غير مقبول عقوبته أخذ الكرة من الفريق المخطئ وإعطاؤها للفريق الآخر ليركل أحدهم الكرة فى الاتجاه الذى يحب وللزميل الذى يريد.
لكن رأيى هو أنه ما دام قال ذلك بعض العرب فهذا يكفى. كما أن للمسألة توجيها رائعا من قلب النحو نفسه. ألا يقول النحويون بـ"التنازع" ووضعوا له بابا كبيرا ووافَوْنا بصور متعددة له تدير الدماغ وتسبب خوتة للمخ؟ فلم لا يَعُدُّون هذا التركيب من باب "التنازع" على أساس أن كلا من المضافين ينازع المضاف الآخر المضافَ إليه، وبخاصة أنه يخلو من الحاجة إلى التقدير الذى تتسبب فيه أحيانا بعض الأمثلة التى يوردونها كما فى بيت الشعر التالى:
نحن بما عندنا، وأنت بما عنـ= ـدك راض، والرأى مختلفُ
فالضميران "نحن" و"أنت"، وكل منهما مبتدأ، يتنازعان الخبر: "راضٍ" مع أن "راض" هذه لا تصلح أن تكون خبرا لـ"نحن" لأنها مفرد، و"نحن" جمع. ومع هذا لا يجد النحويون المتنطسون أية معابة أو حتى غرابة فى ذلك. وأنا أيضا لا أجد شيئا فى ذلك التركيب بل أراه تركيبا موفقا جميلا. فكيف تواتيهم نفوسهم على رفض قول بعض العرب قديما: "قطع الله يد ورجل من قالها" وهى تخلو من العثكلة التى تصل أحيانا إلى أن يقول الشاعر:
إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب= جهارا فكن فى الغيب أحفظَ للعهد
ويقول شاعر آخر:
بعكاظَ يُعْشِى الناظرين إذا= همو لمحوا شُعَاعَه
وتزداد وتسخف حين يقول النحويون أنفسهم: "ظننى وظننت زيدا قائما إياه" و"أظن ويظناننى إياه زيدًا وعَمْرًا أخوين" و"أظن ويظناننى أخًا زيدا وعمرا أخوين". فهل تُقْبَل يا إلهى مثل تلك التراكيب التى تشبه لغة الجن والعفاريت ويُرْفَض قول العربى القديم: "قطع الله يد ورجل من قالها"؟ ولنفترض أن هذا التركيب لا توجيه له، وهذا غير صحيح، أفليس السجع كالشعر، والفاصلة كالقافية؟ أليس هناك ما يسمى بـ"الضرائر الشعرية"؟ فلنَعُدّ العنوان المسجوع الذى أمامنا كالشعر نتسامح فيه مع ضرورة ذلك التركيب، وكفى الله الكاتبين والشعراء النزاع والصراع، وكان الله حليما غفورا.
وبعيدا عن النحو وما يجيزه بعض النحويين ويرفضه بعضهم فلا شك أن قولنا: "موسوعة الأعلام فى فجر وضحى الإسلام" أجمل موسيقيا وذوقيا من قولنا: "موسوعة الأعلام فى فجر الإسلام وضحاه"، فضلا عن أنْ ليس كل النحويين يرفضون هذا التركيب بل هناك من لا يرى فيه شيئا البتة، ونحن من هؤلاء أو على الأقل ممن يجرى فى خطا هؤلاء أو على أقل الأقل ممن يحب أن يلتصق بهؤلاء.
وهناك توجيه آخر وجدته فى "مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام الأنصارى، وهو أن "يد" مضاف الى "من قالها"، و"رجل" لمجاورتها له مع أنه المضاف إليه في المعنى كأنها مضاف إليه لفظًا. وهو توجيه معقد ومتصنع، وتوجيهى أبسط وأكثر منطقيةً ومباشرةً.
ومما أقف عنده فى صفحة العنوان اسم "الدقس"، وهو لقب الأسرة. واللقب عند النحويين ليس هو لقب الأسرة بل لقب الشخص نفسه مما يُشْعِر بمدحه أو ذمه كـ"الصِّدِّيق" و"الفاروق" و"ذى النورين" و"أبى تراب" و"جبار الفكر والقلم" و"عميد الأدب العربى" و"الملاكم الأدبى" و"سيدة الغناء العربى" و"قيثارة الحب" و"موسيقار الأجيال" و"العندليب الأسمر" و"وحش الشاشة"، وهذه ألقاب مدحية، أما الألقاب الذمية فمنها "تأبط شرا" و"الأعشى" و"أبو جهل" و"رأس النفاق" و"المقفع" و"أنف الناقة" و"الأخطل" و"مجنون ليلى" و"المتنبى" و"ديك الجن" و"جحظة" و"الوَأْواء" و"ابن فسوة" و"ابن خروف" و"حَمّالة الحطب"... إلخ.
بل إن النبى عليه السلام لم يسلم من إطلاق المشركين عليه لقبًا ذَمِّيًّا، إذ ردا على اسمه الجميل الكريم: "محمد" قالوا: "مُذَمَّم" لعنة الله على المشركين والكافرين. جاء فى "السيرة النبوية" لابن هشام: "قال ابن إسحاق: فذُكِر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفى يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغنى أنه يهجونى. والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه. أما والله إنى لشاعرة. ثم قالت:
مُذَمَّمًا عصينا = وأَمْرَه أَبَيْنا
ودينَه قَلَيْنا
ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتنى. لقد أخذ الله ببصرها عنى...
قال ابن إسحاق: وكانت قريش إنما تسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مذمما" ثم يسبونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا تعجبون لما صرف الله عنى أذى قريش؟ يسبون مذمما، وأنا محمد".
ولم أكن أعرف كيف تنطق كلمة "الدقس" حينما عرفتها فى السعودية لأول مرة قبل عدة عقود، وكانت لقب أحد الكتاب غير السعوديين، وهو د. كامل سلامة الدقس، الذى كنت أظنه فلسطينيا أو أردنيا، وأُنْسِيت الآن ما كنت قرأته عنه هناك، وله مؤلفات فى الإسلاميات والأدب العربى، وكان أستاذا جامعيا فى السعودية. وقد نطقها أمامى كاتبنا بكسر الدال وتسكين القاف، لكنى وجدتها مضبوطة بكسر الدال على غلاف بعض كتب د. كامل سلامة الدقس، وبفتحها على غلاف بعض كتبه الأخرى.
وحاولت أن أعرف معنى كلمة "الدقس" فألفيت "لسان العرب" يقول فى مادة "د ق س": "دَقَسَ فِي الْأَرْضِ دَقْسًا وَدُقُوسًا: ذَهَبَ فَتَغَيَّبَ. وَالدُّقْسَةُ: دُوَيْبَّةٌ صَغِيرَةٌ. وَدَقْيُوسُ: اسْمُ مَلِكٍ (أَعْجَمِيَّةٌ). اللَّيْثُ: الدَّقْسُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَلَكِنَّ الْمَلِكَ الذى بَنَى الْمَسْجِدَ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ اسْمُهُ دَقْيُوسُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَرَأَيْتُ فِي نَوَادِرِ الْأَعْرَابِ: مَا أَدْرِي أَيْنَ دَقَسَ وَلَا أَيْنَ دُقِسَ بِهِ وَلَا أَيْنَ طَهَسَ وَطُهِسَ بِهِ، أَيْ أَيْنَ ذَهَبَ وَذُهِبَ بِه"ِ.
وفى "المعجم الوسيط": "دَقَسَ الوتِدُ في الأَرض يدقُس دَقْساً ودُقُوسًا: مضى. ويُقال: دَقَس فلان في البلاد: أَوْغَلَ فيها. ودَقَس خَلْفَ العدوّ: تَبِعَه وحَمَل عليه. ودقس الجرادُ النباتَ: أَوغل فيه وأَتى عليه".
وقرأت عن صلصة الدقوس المعروفة فى بعض دول الخليج والمغرب العربى والمصنوعة من الطماطم والملح والبقدونس والزيت والفلفل الحار والثوم مع ضربها فى الخلاط.
وكل هذا جيد، لكننا لم نعرف رغم ذلك معنى "الدِّقْس"، اللهم إلا أنه لقب أسرة شامية برز من بين أفرادها أهل علم وأدب وتأليف. أما إن كان بفتح الدال وسكون القاف فهو "المَلِك" كما قرأت فى "تاج العروس" للزَّبِيدىّ. وربما كان ضبط الدال الأصلى هو الفتح ثم دخل التحوير فيه فصار بالكسر. وهذا أقصى ما انتهيت إليه بعدما نفضت المعاجم القديمة والحديثة، وبخاصة الشامية كـ"محيط المحيط" لبطرس البستانى و"أقرب الموارد" للشرتونى و"المنجد" للمعلوف و"معجم النفائس الكبير" لجماعة من المختصين بإشراف د. أحمد أبو حاقَة، بل لقد فتشت فى "ضبط الأعلام" لأحمد تيمور باشا فلم أجد مادة "د ق س" أصلا، وهو ما ينطبق على "الرائد" لجبران مسعود و"تكملة المعاجم العربية" لدوزى.
وهذا عن "الدقس"، فماذا عن "حَمْدو"؟ إنها صيغة لا نعرفها فى مصر فى نطاق علمى. ومثلها فى قطر "فخْرو". والآن أهى صيغة تمليحية؟ أهى اختصار لـ"حَمْدُون وفَخْرُون" على وزن "فعلون" كـ"فتحون وعبدون وشكرون وعمرون وسحنون"، تلك الصيغة الصرفية الأندلسية التى قصدوا بها التكبير على عكس صيغة "فُعَيْل وفُعَيْعِل وفُعَيْعِيل" التى تعنى التصغير؟ أهى فى الأصل "حَمْدُه" ثم تحولت الهاء إلى مدة بالواو مثل "عبدو" بدلا من "عَبْدُه"؟
وقد ذكر المؤلف فى مقدمة كتابه أنه استدرك فى بعض المسائل على العلماء القدامى الذين اعتمد على كتبهم فى جمع موادّ معجمه بعض الأخطاء التى تنبه إليها. ثم سارع للتوّ إلى القول بأن ذلك لا يعد انتقاصا منهم، فقدرهم محفوظ، وإلى مؤلفاتهم استند، ولولا هم ما استطاع تأليف معجمه، وأنه إذا كان قد صحح ما وقعوا فيه من قليل الأخطاء فقد كانوا هم مصدر الصواب الكثير الذى لا يحصى مما أورده فى كتابه.
وهذا كلام رائع، وأنا أقول مثله فى محاضراتى لطلابى فى الجامعة حين أختلف مع قامة سامقة كالجاحظ أو الطبرى أو ابن رشد أو العقاد مثلا فى بعض ما أكتبه، إذ سرعان ما أضيف أن هؤلاء العلماء العباقرة هم أساتذتى وأساتذة أساتذتى وأساتذة الأجيال كلها، وتحت أقدامهم دائما ما أجلس وفى يدى قلمى وقد فنجلتُ عينى وأشرعت أذنى وفتحت بكل قوةٍ مصاريع عقلى وقلبى وضميرى ليدخل من مؤلفاتهم النور إلى كيانى كله فيحضّرنى ويثقّفنى ويرتقى بى، ولولا أننى تعلمت على أيديهم لما صرت إلى هذا الذى صرت إليه، إن كنت صرت إلى شىء ذى قيمة. كما أعرف أنه سوف تمر الأيام ويأتى من تلاميذى وتلاميذ تلاميذى وتلاميذ تلاميذهم... إلى ما شاء الله من يستخرج من دراساتى وأبحاثى وكتبى ملاحظات وأغلاطا لم أتنبه إليها أو لم أكن على علم بها إما لأن قراءاتى لم تبلغها أو لأن حدود العلم فى وقتى كانت أضيق مما صارت إليه بعد موتى... وهكذا.
وفى الأثرين التاليين يتبين لنا أن ابن عباس، رغم صغر سنه بالقياس إلى كثير من الصحابة الكرام، لم يكن، إذا عرف شيئا ولم يعرفوه هم مع تفوقهم عليه فى العمر وتجارب الحياة، يتردد فى أن ينطق به فى الوقت الذى يحفظ فى نفسه لهم منزلتهم وسنهم وخبراتهم. وكان عمر بن الخطاب يشجعه على ذلك: "قالَ عُمَرُ رضى الله عنه يَوْمًا لأصْحابِ النبى ﷺ: فِيمَ تَرَوْنَ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ: "أيَوَدُّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ له جَنَّةٌ"؟ قالوا: اللهُ أعْلَمُ. فَغَضِبَ عُمَرُ فَقالَ: قُولوا: نَعْلَمُ أوْ لا نَعْلَمُ. فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ: في نَفْسِى منها شىءٌ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قالَ عُمَرُ: يا ابْنَ أخِى، قُلْ ولا تَحْقِرْ نَفْسَكَ. قالَ ابنُ عَبّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ. قالَ عُمَرُ: أيُّ عَمَلٍ؟ قالَ ابنُ عَبّاسٍ: لرَجُلٍ غَنِىٍّ يَعْمَلُ بطاعَةِ اللهِ سبحانه، ثُمَّ بَعَثَ اللهُ له الشَّيْطانَ، فَعَمِلَ بالمعاصِى حتّى أغْرَقَ أعْمالَهُ".
"كان ناسٌ مِنَ المُهاجِرينَ قد وجَدوا على عُمَرَ في إدنائِهِ ابنَ عبّاسٍ دونَهم. قال: وكان يَسألُه، فقال عُمَرُ: أمَا إنِّى سأُريكمُ اليَوْمَ منه ما تَعرِفونَ فَضلَه. فسألَهم عن هذه السُّورةِ: "إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ" (النصر/ ١)، فقال بَعضُهم: أمَرَ اللهُ نَبيَّه إذا رأى النّاسَ يَدخُلونَ فى دِينِ اللهِ أفواجًا أنْ يَحْمَدَه ويَستَغفِرَه. فقال عُمَرُ: يا ابنَ عبّاسٍ، تَكلَّمْ. فقال: أعلَمَهُ متى يَموتُ. أيْ فهى آيَتُكَ مِنَ المَوتِ: "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ" (النصر/ ٣)". هذا، والأستاذ الدقس ليس صبيا، والعلماء الكبار الكرام الذين استدرك عليهم فى معجمه الذى بين أيدينا ليسوا من الصحابة.
وأول شىء أتناوله فى كلام الصديق الأستاذ الدقس هو التركيب الذى استعمله فى عنوان كتابه: "موسوعة الأعلام فى فجر وضحى الإسلام"، فقد استعمل تركيبا يرفضه كثير من النحويين والمهتمين بالصحة اللغوية، وهو التركيب الذى يتعاور فيه مضافان مضافا إليه واحدا، إذ قال: "فجر وضحى الإسلام"، فأضاف "فجر وضحى" إلى "الإسلام"، أى أضاف اسمين متعاطفين بالواو إلى مضاف إليه واحد، وهم يقولون إن هذا التركيب لا توجد شواهد عليه سوى قول أحد العرب القدماء: "قطع الله يد ورجل من قاله" والبيت الشعرى التالى:
يا من رأى عارضًا أرقتُ له = بين ذراعَىْ وجبهةِ الأسد
ومع هذا فأذكر أنى لقيت فى طريقى قبل مدة ليست بالطويلة تعاور مضافين لا بالواو كما فى المثالين السابقين بل بـ"أو" مضافا إليه مفردا، وهو قول الأعشى:
إلا بَدَاهَةَ أو عُلا = لةَ قارحٍ نَهْدِ الجُزَاره
ويقيس البغدادى فى "خزانة الأدب" على هذه الشواهد الجملتين التاليتين: "عندى نصفُ أو ربعُ درهمٍ"، و"جئتك قبلَ أو بعدَ العصرِ".
وهؤلاء الرافضون لذلك التركيب يذكروننى بما كنا نقوله ونحن نلعب كرة القدم فى طفولتنا وصبانا من أن دخول لاعبين على لاعب واحد من فريق الخصوم هو"فاول"، أى لعب سيئ غير مقبول عقوبته أخذ الكرة من الفريق المخطئ وإعطاؤها للفريق الآخر ليركل أحدهم الكرة فى الاتجاه الذى يحب وللزميل الذى يريد.
لكن رأيى هو أنه ما دام قال ذلك بعض العرب فهذا يكفى. كما أن للمسألة توجيها رائعا من قلب النحو نفسه. ألا يقول النحويون بـ"التنازع" ووضعوا له بابا كبيرا ووافَوْنا بصور متعددة له تدير الدماغ وتسبب خوتة للمخ؟ فلم لا يَعُدُّون هذا التركيب من باب "التنازع" على أساس أن كلا من المضافين ينازع المضاف الآخر المضافَ إليه، وبخاصة أنه يخلو من الحاجة إلى التقدير الذى تتسبب فيه أحيانا بعض الأمثلة التى يوردونها كما فى بيت الشعر التالى:
نحن بما عندنا، وأنت بما عنـ= ـدك راض، والرأى مختلفُ
فالضميران "نحن" و"أنت"، وكل منهما مبتدأ، يتنازعان الخبر: "راضٍ" مع أن "راض" هذه لا تصلح أن تكون خبرا لـ"نحن" لأنها مفرد، و"نحن" جمع. ومع هذا لا يجد النحويون المتنطسون أية معابة أو حتى غرابة فى ذلك. وأنا أيضا لا أجد شيئا فى ذلك التركيب بل أراه تركيبا موفقا جميلا. فكيف تواتيهم نفوسهم على رفض قول بعض العرب قديما: "قطع الله يد ورجل من قالها" وهى تخلو من العثكلة التى تصل أحيانا إلى أن يقول الشاعر:
إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب= جهارا فكن فى الغيب أحفظَ للعهد
ويقول شاعر آخر:
بعكاظَ يُعْشِى الناظرين إذا= همو لمحوا شُعَاعَه
وتزداد وتسخف حين يقول النحويون أنفسهم: "ظننى وظننت زيدا قائما إياه" و"أظن ويظناننى إياه زيدًا وعَمْرًا أخوين" و"أظن ويظناننى أخًا زيدا وعمرا أخوين". فهل تُقْبَل يا إلهى مثل تلك التراكيب التى تشبه لغة الجن والعفاريت ويُرْفَض قول العربى القديم: "قطع الله يد ورجل من قالها"؟ ولنفترض أن هذا التركيب لا توجيه له، وهذا غير صحيح، أفليس السجع كالشعر، والفاصلة كالقافية؟ أليس هناك ما يسمى بـ"الضرائر الشعرية"؟ فلنَعُدّ العنوان المسجوع الذى أمامنا كالشعر نتسامح فيه مع ضرورة ذلك التركيب، وكفى الله الكاتبين والشعراء النزاع والصراع، وكان الله حليما غفورا.
وبعيدا عن النحو وما يجيزه بعض النحويين ويرفضه بعضهم فلا شك أن قولنا: "موسوعة الأعلام فى فجر وضحى الإسلام" أجمل موسيقيا وذوقيا من قولنا: "موسوعة الأعلام فى فجر الإسلام وضحاه"، فضلا عن أنْ ليس كل النحويين يرفضون هذا التركيب بل هناك من لا يرى فيه شيئا البتة، ونحن من هؤلاء أو على الأقل ممن يجرى فى خطا هؤلاء أو على أقل الأقل ممن يحب أن يلتصق بهؤلاء.
وهناك توجيه آخر وجدته فى "مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام الأنصارى، وهو أن "يد" مضاف الى "من قالها"، و"رجل" لمجاورتها له مع أنه المضاف إليه في المعنى كأنها مضاف إليه لفظًا. وهو توجيه معقد ومتصنع، وتوجيهى أبسط وأكثر منطقيةً ومباشرةً.
ومما أقف عنده فى صفحة العنوان اسم "الدقس"، وهو لقب الأسرة. واللقب عند النحويين ليس هو لقب الأسرة بل لقب الشخص نفسه مما يُشْعِر بمدحه أو ذمه كـ"الصِّدِّيق" و"الفاروق" و"ذى النورين" و"أبى تراب" و"جبار الفكر والقلم" و"عميد الأدب العربى" و"الملاكم الأدبى" و"سيدة الغناء العربى" و"قيثارة الحب" و"موسيقار الأجيال" و"العندليب الأسمر" و"وحش الشاشة"، وهذه ألقاب مدحية، أما الألقاب الذمية فمنها "تأبط شرا" و"الأعشى" و"أبو جهل" و"رأس النفاق" و"المقفع" و"أنف الناقة" و"الأخطل" و"مجنون ليلى" و"المتنبى" و"ديك الجن" و"جحظة" و"الوَأْواء" و"ابن فسوة" و"ابن خروف" و"حَمّالة الحطب"... إلخ.
بل إن النبى عليه السلام لم يسلم من إطلاق المشركين عليه لقبًا ذَمِّيًّا، إذ ردا على اسمه الجميل الكريم: "محمد" قالوا: "مُذَمَّم" لعنة الله على المشركين والكافرين. جاء فى "السيرة النبوية" لابن هشام: "قال ابن إسحاق: فذُكِر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفى يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغنى أنه يهجونى. والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه. أما والله إنى لشاعرة. ثم قالت:
مُذَمَّمًا عصينا = وأَمْرَه أَبَيْنا
ودينَه قَلَيْنا
ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتنى. لقد أخذ الله ببصرها عنى...
قال ابن إسحاق: وكانت قريش إنما تسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مذمما" ثم يسبونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا تعجبون لما صرف الله عنى أذى قريش؟ يسبون مذمما، وأنا محمد".
ولم أكن أعرف كيف تنطق كلمة "الدقس" حينما عرفتها فى السعودية لأول مرة قبل عدة عقود، وكانت لقب أحد الكتاب غير السعوديين، وهو د. كامل سلامة الدقس، الذى كنت أظنه فلسطينيا أو أردنيا، وأُنْسِيت الآن ما كنت قرأته عنه هناك، وله مؤلفات فى الإسلاميات والأدب العربى، وكان أستاذا جامعيا فى السعودية. وقد نطقها أمامى كاتبنا بكسر الدال وتسكين القاف، لكنى وجدتها مضبوطة بكسر الدال على غلاف بعض كتب د. كامل سلامة الدقس، وبفتحها على غلاف بعض كتبه الأخرى.
وحاولت أن أعرف معنى كلمة "الدقس" فألفيت "لسان العرب" يقول فى مادة "د ق س": "دَقَسَ فِي الْأَرْضِ دَقْسًا وَدُقُوسًا: ذَهَبَ فَتَغَيَّبَ. وَالدُّقْسَةُ: دُوَيْبَّةٌ صَغِيرَةٌ. وَدَقْيُوسُ: اسْمُ مَلِكٍ (أَعْجَمِيَّةٌ). اللَّيْثُ: الدَّقْسُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَلَكِنَّ الْمَلِكَ الذى بَنَى الْمَسْجِدَ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ اسْمُهُ دَقْيُوسُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَرَأَيْتُ فِي نَوَادِرِ الْأَعْرَابِ: مَا أَدْرِي أَيْنَ دَقَسَ وَلَا أَيْنَ دُقِسَ بِهِ وَلَا أَيْنَ طَهَسَ وَطُهِسَ بِهِ، أَيْ أَيْنَ ذَهَبَ وَذُهِبَ بِه"ِ.
وفى "المعجم الوسيط": "دَقَسَ الوتِدُ في الأَرض يدقُس دَقْساً ودُقُوسًا: مضى. ويُقال: دَقَس فلان في البلاد: أَوْغَلَ فيها. ودَقَس خَلْفَ العدوّ: تَبِعَه وحَمَل عليه. ودقس الجرادُ النباتَ: أَوغل فيه وأَتى عليه".
وقرأت عن صلصة الدقوس المعروفة فى بعض دول الخليج والمغرب العربى والمصنوعة من الطماطم والملح والبقدونس والزيت والفلفل الحار والثوم مع ضربها فى الخلاط.
وكل هذا جيد، لكننا لم نعرف رغم ذلك معنى "الدِّقْس"، اللهم إلا أنه لقب أسرة شامية برز من بين أفرادها أهل علم وأدب وتأليف. أما إن كان بفتح الدال وسكون القاف فهو "المَلِك" كما قرأت فى "تاج العروس" للزَّبِيدىّ. وربما كان ضبط الدال الأصلى هو الفتح ثم دخل التحوير فيه فصار بالكسر. وهذا أقصى ما انتهيت إليه بعدما نفضت المعاجم القديمة والحديثة، وبخاصة الشامية كـ"محيط المحيط" لبطرس البستانى و"أقرب الموارد" للشرتونى و"المنجد" للمعلوف و"معجم النفائس الكبير" لجماعة من المختصين بإشراف د. أحمد أبو حاقَة، بل لقد فتشت فى "ضبط الأعلام" لأحمد تيمور باشا فلم أجد مادة "د ق س" أصلا، وهو ما ينطبق على "الرائد" لجبران مسعود و"تكملة المعاجم العربية" لدوزى.
وهذا عن "الدقس"، فماذا عن "حَمْدو"؟ إنها صيغة لا نعرفها فى مصر فى نطاق علمى. ومثلها فى قطر "فخْرو". والآن أهى صيغة تمليحية؟ أهى اختصار لـ"حَمْدُون وفَخْرُون" على وزن "فعلون" كـ"فتحون وعبدون وشكرون وعمرون وسحنون"، تلك الصيغة الصرفية الأندلسية التى قصدوا بها التكبير على عكس صيغة "فُعَيْل وفُعَيْعِل وفُعَيْعِيل" التى تعنى التصغير؟ أهى فى الأصل "حَمْدُه" ثم تحولت الهاء إلى مدة بالواو مثل "عبدو" بدلا من "عَبْدُه"؟
وقد ذكر المؤلف فى مقدمة كتابه أنه استدرك فى بعض المسائل على العلماء القدامى الذين اعتمد على كتبهم فى جمع موادّ معجمه بعض الأخطاء التى تنبه إليها. ثم سارع للتوّ إلى القول بأن ذلك لا يعد انتقاصا منهم، فقدرهم محفوظ، وإلى مؤلفاتهم استند، ولولا هم ما استطاع تأليف معجمه، وأنه إذا كان قد صحح ما وقعوا فيه من قليل الأخطاء فقد كانوا هم مصدر الصواب الكثير الذى لا يحصى مما أورده فى كتابه.
وهذا كلام رائع، وأنا أقول مثله فى محاضراتى لطلابى فى الجامعة حين أختلف مع قامة سامقة كالجاحظ أو الطبرى أو ابن رشد أو العقاد مثلا فى بعض ما أكتبه، إذ سرعان ما أضيف أن هؤلاء العلماء العباقرة هم أساتذتى وأساتذة أساتذتى وأساتذة الأجيال كلها، وتحت أقدامهم دائما ما أجلس وفى يدى قلمى وقد فنجلتُ عينى وأشرعت أذنى وفتحت بكل قوةٍ مصاريع عقلى وقلبى وضميرى ليدخل من مؤلفاتهم النور إلى كيانى كله فيحضّرنى ويثقّفنى ويرتقى بى، ولولا أننى تعلمت على أيديهم لما صرت إلى هذا الذى صرت إليه، إن كنت صرت إلى شىء ذى قيمة. كما أعرف أنه سوف تمر الأيام ويأتى من تلاميذى وتلاميذ تلاميذى وتلاميذ تلاميذهم... إلى ما شاء الله من يستخرج من دراساتى وأبحاثى وكتبى ملاحظات وأغلاطا لم أتنبه إليها أو لم أكن على علم بها إما لأن قراءاتى لم تبلغها أو لأن حدود العلم فى وقتى كانت أضيق مما صارت إليه بعد موتى... وهكذا.
وفى الأثرين التاليين يتبين لنا أن ابن عباس، رغم صغر سنه بالقياس إلى كثير من الصحابة الكرام، لم يكن، إذا عرف شيئا ولم يعرفوه هم مع تفوقهم عليه فى العمر وتجارب الحياة، يتردد فى أن ينطق به فى الوقت الذى يحفظ فى نفسه لهم منزلتهم وسنهم وخبراتهم. وكان عمر بن الخطاب يشجعه على ذلك: "قالَ عُمَرُ رضى الله عنه يَوْمًا لأصْحابِ النبى ﷺ: فِيمَ تَرَوْنَ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ: "أيَوَدُّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ له جَنَّةٌ"؟ قالوا: اللهُ أعْلَمُ. فَغَضِبَ عُمَرُ فَقالَ: قُولوا: نَعْلَمُ أوْ لا نَعْلَمُ. فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ: في نَفْسِى منها شىءٌ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قالَ عُمَرُ: يا ابْنَ أخِى، قُلْ ولا تَحْقِرْ نَفْسَكَ. قالَ ابنُ عَبّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ. قالَ عُمَرُ: أيُّ عَمَلٍ؟ قالَ ابنُ عَبّاسٍ: لرَجُلٍ غَنِىٍّ يَعْمَلُ بطاعَةِ اللهِ سبحانه، ثُمَّ بَعَثَ اللهُ له الشَّيْطانَ، فَعَمِلَ بالمعاصِى حتّى أغْرَقَ أعْمالَهُ".
"كان ناسٌ مِنَ المُهاجِرينَ قد وجَدوا على عُمَرَ في إدنائِهِ ابنَ عبّاسٍ دونَهم. قال: وكان يَسألُه، فقال عُمَرُ: أمَا إنِّى سأُريكمُ اليَوْمَ منه ما تَعرِفونَ فَضلَه. فسألَهم عن هذه السُّورةِ: "إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ" (النصر/ ١)، فقال بَعضُهم: أمَرَ اللهُ نَبيَّه إذا رأى النّاسَ يَدخُلونَ فى دِينِ اللهِ أفواجًا أنْ يَحْمَدَه ويَستَغفِرَه. فقال عُمَرُ: يا ابنَ عبّاسٍ، تَكلَّمْ. فقال: أعلَمَهُ متى يَموتُ. أيْ فهى آيَتُكَ مِنَ المَوتِ: "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ" (النصر/ ٣)". هذا، والأستاذ الدقس ليس صبيا، والعلماء الكبار الكرام الذين استدرك عليهم فى معجمه الذى بين أيدينا ليسوا من الصحابة.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com