يكره أستاذي المترجم المعروف الدكتور بسام البزاز بورخس كرها شديدا، ويبدو أن قراءة بورخس بالاسبانية تختلف عن قراءته بعد الترجمة. لم اسأل عن سبب كره بورخس لكني من وجهة نظر شخصية أعدّ بورخس أحد أعظم المثقفين والكتاب في العالم. أعشقه جدا لسبب بسيط هو: أنه حطم الفوارق بين الاشكال الأدبية، بعبارة ابسط إنه كان ضد التجنيس أي أن نصوص بورخس تقرأ دوما على انها قصص ومقالات، وسيرة أدبية، وغالبا ما تخدعنا نصوصه حين نظن أننا نقرأ نقداً أو بحثا في قضية ارجنتينية خالصة في حين انه يقدم لنا قصة قصيرة بلغة يعرف كيف يشكلها.
أظن أن بورخس مثقف عالمي مصاب بمرض لا يفلت منه الاشخاص الاذكياء الذين يكتشفون الحياة كما هي أو يرونها على حقيقتها. وهنا تكمن كل موهبة بورخس أعني قدرته على الاحساس بحقيقة الواقع من حوله، وكيف ان ديكور الحياة هو مجرد خداع بحت. وفي هذه النقطة سيكون بورخس أقرب إلى المعري منه إلى طه حسين.
المعري متشائم، ضرير لكنه يعرف فساد العالم، وحقارته، أما طه حسين فعقلاني وضرير، وهو اي عميد الادب أبعد ما يكون عن المعري وبورخس.
ما النقطة التي يلتقي فيها ضريران احدهما ارجنتيني هو بورخس والآخر شامي عباسي هو المعري ويفترقان معا تاركين خلفهما عميد الادب العربي طه حسين. النقطة هي: ايمان طه حسين بقدرة تفكيره العقلاني، وحبه لنظرية الشك الديكارتية. لذا اقول ببساطة شديدة إن مزاج طه حسين يتكون من خليط عقلاني لا يستطيع بورخس فهمه، ولا المعري حتى. ومن الغريب أن طه حسين كان يعشق المعري جدا، ويفضله على المتنبي.
لا انكر اني افضل ان اقرأ اعمال بورخس كلها مترجمة إلى العربية بترجمة يتبناها الدكتور بسام البزاز. هذا العمل لن يقوم به إلا مثقف فضولي جدا ينفق على الثقافة من جيبه الخاص، وهذا شبه محال، أو حاكم له حماس المأمون حين بدأ يحث المترجمين على نقل التراث اليوناني إلى اللغة العربية.
لن اشك في اننا سنحتاج إلى بورخس، فالرجل لم ينس بعد. وهو مازال حاضرا، وتباع كتبه رغم الكثير من ترجماته السيئة. وأنا على ثقة أن ترجمة اعماله الكاملة أو التي لم تترجم بعد ستكون بمثابة مفتاح لتغيير ذوقنا الادبي الفاسد. لكن المشكلة ان الواقعية السحرية عندنا إن حاولنا فهمها لن تجد تلاميذ يهضمونها جيدا، ومن ثم يكتبون نصوصا تتمرّد على المنطق العقلي أو تتمرّد على حدود الواقع التي تحيط بنا.
بورخس مقرف. هذا الحكم أراه في عيون كثير من المثقفين. لكن لماذا هو مقرف وغير مفهوم؟ السبب واضح جدا. إنه غير قابل للاحتواء، أو هو متمرد ضد كل اشكال الرتابة والشكليات الفارغة.
إنَّ عظمة هذا الضرير الارجنتيني انه ما زال معنا على الرغم من انه لم يكتب رواية. هذا يعني ان كتاب الرواية عندنا لن يكنوا له الاحترام الكامل. انه في نظر كاتب رواية غزير الانتاج مجرد شخص قليل الخبرة.
لنقف قليلا عند هذه النقطة. بورخس لم يكتب رواية. لماذا؟ قد يقول روائي اصدر اربعة روايات أن بورخس لم يكن جادا في كتابة رواية. هذا مجرد رأي مضحك. الرواية شكل ادبي، وبورخس يسعى لتحطيم هذا الشكل.
في قصصه يذوب شكل القصة القصيرة. هذه ميزته. إنه يحطم الشكل في اصغر وحداته وهو القصة القصيرة، فكيف سيصل إلى كتابة رواية من ثلاثمئة صفحة. إن الشكل عنده لا يصمد امام خياله الذي يتلاعب باللغة ليصنع منها نصوصا بلا هوية بحيث لا يمكن أن نقول انه كتب قصة بالمعنى المألوف. ترى من أين جاء بورخس بهذا الاحساس التشاؤمي الذي لا يرحم قارئه؟ هل تعلمه من احد؟ هل هو حرفة اتقنها بورخس لتكون علامته بين الكتاب؟
الجواب: إن بورخس مرعوب من الحياة نفسها. ففي هذا العالم يفقد كل شيء ملامحه، ولونه وقوته. بورخس يراقب هذا التحول يرصده، يحس به. انه ليس انسان اينشتاين الذي يرى الاشياء من نقطة ثابتة كلا. بورخس مشارك في لعبة التحول والدمار التي لا تنتهي. لاقل بمعنى ادق: بورخس الضرير يقف في قلب التغير الذي سيقوده إلى نقطة اخرى. وفي كل قصة نجد هذا الرعب من العالم كما هو. العالم الذي لا يخضع لتحليل العقل أبدا.
نوزاد حسن
·
أظن أن بورخس مثقف عالمي مصاب بمرض لا يفلت منه الاشخاص الاذكياء الذين يكتشفون الحياة كما هي أو يرونها على حقيقتها. وهنا تكمن كل موهبة بورخس أعني قدرته على الاحساس بحقيقة الواقع من حوله، وكيف ان ديكور الحياة هو مجرد خداع بحت. وفي هذه النقطة سيكون بورخس أقرب إلى المعري منه إلى طه حسين.
المعري متشائم، ضرير لكنه يعرف فساد العالم، وحقارته، أما طه حسين فعقلاني وضرير، وهو اي عميد الادب أبعد ما يكون عن المعري وبورخس.
ما النقطة التي يلتقي فيها ضريران احدهما ارجنتيني هو بورخس والآخر شامي عباسي هو المعري ويفترقان معا تاركين خلفهما عميد الادب العربي طه حسين. النقطة هي: ايمان طه حسين بقدرة تفكيره العقلاني، وحبه لنظرية الشك الديكارتية. لذا اقول ببساطة شديدة إن مزاج طه حسين يتكون من خليط عقلاني لا يستطيع بورخس فهمه، ولا المعري حتى. ومن الغريب أن طه حسين كان يعشق المعري جدا، ويفضله على المتنبي.
لا انكر اني افضل ان اقرأ اعمال بورخس كلها مترجمة إلى العربية بترجمة يتبناها الدكتور بسام البزاز. هذا العمل لن يقوم به إلا مثقف فضولي جدا ينفق على الثقافة من جيبه الخاص، وهذا شبه محال، أو حاكم له حماس المأمون حين بدأ يحث المترجمين على نقل التراث اليوناني إلى اللغة العربية.
لن اشك في اننا سنحتاج إلى بورخس، فالرجل لم ينس بعد. وهو مازال حاضرا، وتباع كتبه رغم الكثير من ترجماته السيئة. وأنا على ثقة أن ترجمة اعماله الكاملة أو التي لم تترجم بعد ستكون بمثابة مفتاح لتغيير ذوقنا الادبي الفاسد. لكن المشكلة ان الواقعية السحرية عندنا إن حاولنا فهمها لن تجد تلاميذ يهضمونها جيدا، ومن ثم يكتبون نصوصا تتمرّد على المنطق العقلي أو تتمرّد على حدود الواقع التي تحيط بنا.
بورخس مقرف. هذا الحكم أراه في عيون كثير من المثقفين. لكن لماذا هو مقرف وغير مفهوم؟ السبب واضح جدا. إنه غير قابل للاحتواء، أو هو متمرد ضد كل اشكال الرتابة والشكليات الفارغة.
إنَّ عظمة هذا الضرير الارجنتيني انه ما زال معنا على الرغم من انه لم يكتب رواية. هذا يعني ان كتاب الرواية عندنا لن يكنوا له الاحترام الكامل. انه في نظر كاتب رواية غزير الانتاج مجرد شخص قليل الخبرة.
لنقف قليلا عند هذه النقطة. بورخس لم يكتب رواية. لماذا؟ قد يقول روائي اصدر اربعة روايات أن بورخس لم يكن جادا في كتابة رواية. هذا مجرد رأي مضحك. الرواية شكل ادبي، وبورخس يسعى لتحطيم هذا الشكل.
في قصصه يذوب شكل القصة القصيرة. هذه ميزته. إنه يحطم الشكل في اصغر وحداته وهو القصة القصيرة، فكيف سيصل إلى كتابة رواية من ثلاثمئة صفحة. إن الشكل عنده لا يصمد امام خياله الذي يتلاعب باللغة ليصنع منها نصوصا بلا هوية بحيث لا يمكن أن نقول انه كتب قصة بالمعنى المألوف. ترى من أين جاء بورخس بهذا الاحساس التشاؤمي الذي لا يرحم قارئه؟ هل تعلمه من احد؟ هل هو حرفة اتقنها بورخس لتكون علامته بين الكتاب؟
الجواب: إن بورخس مرعوب من الحياة نفسها. ففي هذا العالم يفقد كل شيء ملامحه، ولونه وقوته. بورخس يراقب هذا التحول يرصده، يحس به. انه ليس انسان اينشتاين الذي يرى الاشياء من نقطة ثابتة كلا. بورخس مشارك في لعبة التحول والدمار التي لا تنتهي. لاقل بمعنى ادق: بورخس الضرير يقف في قلب التغير الذي سيقوده إلى نقطة اخرى. وفي كل قصة نجد هذا الرعب من العالم كما هو. العالم الذي لا يخضع لتحليل العقل أبدا.
نوزاد حسن
·