هناك نوعانِ من التكرار في شعر المتنبي:
الأول أن يكرر لفظًا معينًا في البيت الواحد عدة مرات، سواء كرره هو نفسه أو كرره مع مشتقاته.
والثاني أن يكرر لفظًا أو عدة ألفاظ في بيتين أو عدة أبيات متتالية أو متقاربة.
وقد تنبه نقَّاد المتنبي من قديم إلى النوع الأول من التكرير وأخذوه عليه؛ إذ عاب عليه الصاحب بن عباد مثلًا قولَه لسيف الدولة:
وأنت أبو الهيجا بنُ حمدانَ يَا بْنَه
تشابَهَ مولودٌ كريمٌ ووالدُ
وحمدانُ حمدونٌ، وحمدونُ حارثٌ
وحارثُ لقمانٌ، ولقمانُ راشدُ
وقوله:
جوابُ مُسائِلي: أله نظيرٌ؟ *** ولا لك في سؤالِك لَا ألا لا
وقوله:
عظُمتَ فلمَّا لم تكلَّم مهابةً *** تواضَعْتَ وَهْوَ العُظمُ عُظمًا عن العُظمِ[1]
وقوله:
ولا الضعفُ حتى يتبعَ الضعفَ ضعفُهُ *** ولا ضعف ضعفِ الضعفِ بل مثلُه ألفُ
وقوله:
وكم جاهلٍ بي وهو يجهَلُ جهلَهُ *** ويجهَلُ عِلْمي أنه بيَ جاهلُ[2]
وعاب عليه الحاتميُّ بعض هذه الأمثلة، مضيفًا إليها بعضًا آخر[3]، وزاد الثعالبي على هذه الأمثلة أمثلةً أخرى، فبلغت جميعًا واحدًا وعشرين مثالًا، ووضعها جميعًا مع مآخذ أخرى تحت عنوان كبير، هو (معائب شعره ومقابحه)[4].
تناول ابن رشيق القيرواني هذا الجانب من شعر المتنبي قائلًا: إن المتنبي قد جعل ذلك نصب عينيه حتى مقته وزهد فيه، وحتى خرج به أحيانًا عن حد الشعر، كما في قوله:
أسد فرائسها الأسودُ، يقودها *** أسدٌ تكون له الأسودُ ثعالبا[5]
وقد عقَّب الدكتور شعيب على حكم ابن رشيق هذا بقوله: (ولسنا ندري من أين جاء القيرواني بقوله: إن المتنبي جعل ذلك نصب عينيه حتى مقته وزهد فيه، دون أن يمدنا بإحصاء ما ذكره المتنبي من أبيات تشتمل على هذا العيب، ولم يذكر لنا هذا الإحصاء سواه من النقاد)[6].
والواقع أني كنت قد حاولت هذا الإحصاء من قبل، ووجدت أن الأبيات التي بهذا الشكل من شعر المتنبي قد قاربت الخمسين بيتًا.
وهذه أمثلة أخرى غير التي أوردها من رجعت إليهم:
يُعطِي فتُعطى مَن لُهَى يده اللُّهَى
وترى برؤيةِ رأيه الآراءُ
• • •
فشكري لهم شكرانِ: شكرٌ على الندى
وشكرٌ على الشكرِ الذي وهبوا بعدُ
• • •
أما الأحبة فالبيداءُ دونهمُ
فليت دونَك بيدًا دونها بِيدُ
• • •
فلا مشاد ولا مشيدُ حمًى
ولا مشيدٌ أغنى ولا شائدُ
• • •
أراه صغيرًا قدرها عظم قدره
فما لعظيمِ قدره عنده قدرُ
• • •
وَلا وَقَفْتُ بجسْمٍ مُسْيَ ثالِثَةٍ
ذي أرْسُمٍ دُرُسٍ في الأرْسُمِ الدُّرُسِ
• • •
إن المعيدَ لنا المنام خياله
كانت إعادته خيال خيالِه
• • •
غثاثةُ عيشي أن تغثَّ كرامتي
وليس بغثٍّ أن تغث المآكلُ
• • •
ملولةٌ ما يدوم ليس لها
من مللٍ دائم بها مللُ
• • •
لو كنَّ يوم جرين كنَّ كصبرنا
عند الرحيلِ لكُنَّ غيرَ سجامِ
(الضمير في (كن) يعود على (أرواحنا) التي مرت في البيت السابق على هذا البيت).
♦ ♦ ♦
وأطعمتني في نيلِ ما لا أناله
بما نلت حتى صرت أطمع في النجمِ
• • •
مَن ليس مِن قتلاه من طلقائه
مَن ليس ممن دان ممن حينا
وأظن أنه بعد هذه الأمثلة (وهي مجرد أمثلة)، والأمثلة التي وردت في كتب السابقين لا ينبغي أن يبقى لدينا شك في أن هذه سمة بارزة في شعر المتنبي، وأن نقَّادنا القدماء لم يتجنوا على الشاعر حين جعلوها كذلك، لكننا مع ذلك نخالفهم في أن المتنبي قد مقتنا بهذه الأبيات في تكرير اللفظ في البيت الواحد، فما من بيت من هذه الأبيات يشكِّل لنا أية صعوبة في نطقه، بل إن اللسان ليجري به جريًا لا يتحقق في أبيات أخرى ليس فيها هذا التكرار، وقد مرت أمثلة من هذه الأبيات الأخيرة في مواضع من هذا الكتاب.
على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فإني لا أظن المتنبي رحمه الله إلا كان يقصد من وراء هذا التكرير إلى تحقيق قيمة فنية: إنه فيما يبدو لي كان يتلذَّذ في المديح والفخر والغزل بترديد اللفظة، ويريد للسامع والقارئ أن يتلذذا هما أيضًا بهذا الترديد، كما يتلذذ الواحد منا بتقليب قطعة من الحلوى في فمه، خذ هذا البيت مثلًا:
قَبيلٌ أنتَ أنتَ وأنتَ منهُمْ *** وجَدُّكَ بِشْرٌ المَلِكُ الهُمَامُ
ألست ترى أنها تقع من أذنِ الممدوح ونفسه موقع قطعة السكر في الفم؟ ومثله قوله:
وإني وإن كان الدفين حبيبَه *** حبيبٌ إلى قلبي حبيب حبيبي
وقد لمح نصر بن محمد الوزير الجزري، شيخ العكبري، هذا التعليل حين قال ردًّا على من يعيبون بيت المتنبي التالي:
العارض الهتن ابن العارض الهتنِ ابــ *** ــن العارض الهتن ابن العارض الهتنِ
(العارض الهتن: السحاب المدرار).
إذ قال: إنما تكرر الألفاظ لشرف الآباء[7].
كما أنه في بعض الأبيات التي من هذا النوع كان يقصد، فيما أرجح، إلى المبالغة وإبراز المعنى، وذلك كما في قوله:
عظمت، فلما لم تكلم مهابةً *** تواضعت، وهو العظم، عظمًا عن العظمِ
فانظر إلى هذه المراقي من العظمة كل مرقاة ترتفع بالممدوح في أجواز الفضاء إلى المدى الذي نُحِس معه أنه قد بلغ من الرفعة درجة لا تطال، وذلك كله بتكرار ألفاظ (ع ظ م) في البيت، فكأن كل لفظة منها طبقة في الفضاء تسلم إلى ما فوقها.
وقوله:
وكلكمُ أتى مأتى أبيه *** فكل فعالِ كلِّكمُ عجابُ
إن المتنبي هنا قد ضرب أصل الفكرة (وهو تقليد الأبناء لأبيهم في المجد والعظمة) في نفسه ثلاث مرات، فجعله كما يقول الرياضيون مكعبًا: (فكلكمُ... فكل فعالِ كلكمُ)، ومع ذلك لم تركَّ عبارته أو تنشز موسيقاه أو تتعقد ألفاظه، بل إنه قد وشي تكريره بالمخالفة بين نطق (كل) في الحالات الثلاث؛ هكذا: (كلكمُ)، و(كل) من غير كافٍ ولا ميم ولا مد، و(كلكمُ)، (بضمير المخاطبين ومد الميم ثانية).
ومثله قوله في البيت الثالث من الأبيات التالية:
ولست بدونٍ يرتجي الغيث دونَه
ولا منتهى الجودِ الذي خلفه خلفُ
ولا واحدًا في ذا الورى من جماعةٍ
ولا البعض من كل ولكنك الضعفُ
ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه
ولا ضعف ضعفِ الضعفِ، بل مثله ألفُ
أقاضيَنا، هذا الذي أنت أهلُه
غلطت، ولا الثلثانِ هذا، ولا النصفُ
فأي براعة هذا الذي يفعله المتنبي بهذه الألفاظ الحسابية!
إن الرجل بهذا كأنه يسبح في الهواء، ولا أدري كيف فات هذا كله المرحوم محمد كمال حلمي، وهو الرجل الذوَّاقة للأدب، والذي أرى أن كتابه عن المتنبي من أمتع ما كتب عن هذا الشاعر؛ إذ قال: (ألا ترى كيف انتقلنا من الشعر والخيال إلى عمليات حسابية ومسائل رياضية، بل وإلى متواليات هندسية لا تحلها كتب اللغة، وإنما تحلها جداول اللوغاريتم)[8].
لقد فاتته رحمه الله هذه البراعة التي حول بها المتنبي هذا الألفاظ الحسابية إلى موسيقا مجلجلة أبرزت لنا تفوُّق ممدوحه الساحق على الناس كل الناس، إن في الكلام مبالغة شديدة، ولكنها مبالغة بارعة.
وفي أحيان أخرى نشعر كأن المتنبي، بتكريره اللفظة في البيت الواحد، كأنه ممسك بإبرة يخزُّ بها من يهجوه، وقد تقوم حروف الكلمة المكررة بوظيفة التجسيد لمعنى البيت، كما تفعل (القاف واللام) في البيت التالي:
فقلقلت بالهمِّ الذي قلقل الحشا *** قلاقل عيس كلهن قلاقلُ
(قلاقل عيس: خفاف إبل).
إن الإنسان ليكاد يشعر بالخضخضة بعد قراءة هذا البيت عدة مرات متتابعة، إنه القلقلة مجسمة، جسمها تكرر القاف واللام متتابعين عدة مرات، ومن مهارة المتنبي أنه - من بين صفات النُّوق التي تدل على السرعة والخفة - قد اختار عمدًا الصفة (قلاقل)، لتوحي بـ(القلقلة) بحروفها، وإن لم تدل عليها بمعناها، فإذا عرَفنا أن هذا البيت من قصيدة قالها في صباه[9]، وهو ما ينطبق على عدة أبيات أخرى بهذا الشكل، تأكد لنا أن المتنبي كان واعيًا لقيمة هذا التكرير في شعره منذ فترة مبكرة من حياته.
ومثل ذلك قوله في بيت آخر:
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ *** وجوى يزيدُ وعَبرةٌ تترقرقُ
الذي عاب تكرر (القاف) في شطرته الأولى الدكتور صلاح عبدالحافظ[10]، مع أن تكرارها يجسم الأرق تجسيمًا، بل إنه ليطرد النوم عن العيون طردًا.
كذلك لا أحسبني مخطئًا إذا قلت: إن المتنبي قد أراد بهذا التكرير عمومًا أن يلفت أسماع جمهوره وأبصارهم، إنه المتنبي الذي يحب دائمًا شغل الناس به وبشعره!
فهذا عن النوع الأول من التكرير الموجود في شعر المتنبي.
أما النوع الثاني[11] فهو كما قلت تكرير لفظ أو عدة ألفاظ في بيت واحد أو في بيتين وعدة أبيات متتابعة أو متقاربة، تكريرًا متناظرًا، وهو كثير عند المتنبي، ومن أمثلته قوله في مدح سعيد بن عبدالله بن حسن الأنطاكي:
ذاك الجواد وإن قل الجوادُ له
ذاك الشجاعُ وإن لم يرض أقرانا
ذاك المعدُّ الذي تقنو يداه لنا
فلو أصيب بشيءٍ منه عزَّانا
(تقنو يداه لنا: تقتني الأموال لتعطيها لنا).
وقوله يمدح علي بن محمد بن سيار بن مكرم التميمي:
بنفسي الذي لا يزدهي بخديعةٍ
وإن كثرت فيها الذرائع والقصدُ
ومن بعده فقر ومن قربه غنى
ومن عرضه حر، ومَن ماله عبدُ
وقوله يصف مهره:
بز المذاكي وهو في العقائقِ
وزاد في الساقِ على النقانقِ
وزاد في الوقع على الصواعقِ
وزاد في الأذن على الخرانقِ
وزاد في الحذر على العقاعقِ
يميز الهزلَ من الحقائقِ
وقوله في مدح أبي العشائر:
وكلما أمن البلاد سرى
وكلما خيف منزل نزلَه
وكلما جاهر العدو ضحى
أمكن حتى كأنه ختَلَه
وقوله في مدح سيف الدولة:
فقد ملَّ ضوء الصبحِ مما تغيره
ومل سواد الليل مما تزاحمه
ومل القنا مما تدقُّ صدوره
ومل حديد الهندِ مما تلاطمه
• • •
وكذا تطلع البدور علينا
وكذا تقلقُ البحور العظام
• • •
أزلِ الوحشةَ التي عندنا يا
مَن به يأنس الخميس اللهامُ
والذي يشهد الوغى ساكن القلـ
ـبِ كأن القتالَ فيها ذمامُ
والذي يضرب الكتائب حتى
تتلاقى الفهاق والأقدامُ
وإذا حل ساعة بمكانٍ
فأذاه على الزمان حرامُ
والذي تنبت البلاد سرورٌ
والذي تمطر السحاب مُدامُ
• • •
فهن مع السيدانِ في البر عسَّلٌ
وهن مع النينانِ في الماء عومُ
وهن مع الغزلانِ في الوادِ كمن
وهن مع العقبان في النيق حومُ
(هن: خيل سيف الدولة).
♦ ♦ ♦
تُهاب سيوف الهند وهي حدائدٌ
فكيف إذا كانت نزارية عُرْبا؟
ويُرهب نابُ الليث والليث وحدَه
فكيف إذا كان الليوث له صحبا؟
ويُخشى عبابُ البحرِ وهو مكانَه
فكيف بمن يغشى البلاد إذا عبَّا؟
(الأفعال (تهاب، يرهب، يخشى) مبنية للمجهول، والكلام في الأشطر الثانية عن سيف الدولة).
♦ ♦ ♦
ومَن ذا الذي يقضي حقوقك كلَّها؟
ومن ذا الذي يرضى سوى مَن تسامح؟
• • •
لعلَّك يومًا يا دمستق عائدٌ
فكم هارب مما إليه يؤولُ
نجوتَ بإحدى مهجتيك جريحة
وخلفت إحدى مهجتيك تسيلُ
• • •
وإذا الحربُ أعرضت زعم الهو
ل لعينيه أنه تهويلُ
وإذا صح فالزمان صحيحٌ
وإذا اعتل فالزمان عليلُ
وإذا غاب وجهه عن مكانٍ
فبه من ثناء وجه جميلُ
• • •
فليت سيوفَك في حاسدٍ
إذا ما ظهرتَ عليهم كَئِبْ
وليتَ شكاتَكَ في جسمِهِ
وليتَك تجزي ببغضٍ وحُبّْ
(في البيت الثاني إشارة إلى مرض سيف الدولة، والبيتان من قصيدة نظمها المتنبي في العراق بعد فراره من مصر، وهي رد على رسالة كان سيف الدولة قد بعثها إليه يستقدمه إلى حلب ثانية).
وقوله في رثاء خولة أخت الأمير الحمداني:
فليتَ طالعةَ الشمسينِ غائبةٌ
وليت غائبةَ الشمسينِ لم تغبِ
وليتَ عينَ التي آب النهارُ بها
فداءُ عينِ التي زالت ولم تؤبِ
وقوله من قصيدته في الحمى التي أصابته في مصر:
فإن أمرض فما مرض اصطباري
وإن أحمم فما حم اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى، ولكن
سلمت من الحمام إلى الحمامِ
وقوله:
أما في هذه الدنيا كريمٌ
تزول به عن القلب الهمومُ؟
أما في هذه الدنيا مكانٌ
يسر بأهله الجار المقيم؟
وقوله في مدح دلير لشكروز، الذي قدم ليدفع عن الكوفة هجمة القرامطة، وإن كان قد بلغها بعد أن كان سكانها قد ردوهم:
وما دام دلير يهزُّ حسامه فلا
ناب في الدنيا لليث ولا شبلِ
وما دام دلير يقلِّب كفَّه فلا
خلق من دعوى المكارم في حلِّ
وهكذ، وهكذا...، وهذه مجرد أمثلة، وفي شعر الرجل منها الكثير.
ولا شك أن القارئ قد لاحظ أن المتنبي ينوع في هذا التكرار، فمثلًا قد يكرر اللفظ أو العبارة مرتين في البيت الواحد؛ مرة في أول كل شطرة من شطرتي البيت الذي يليه، وقد يتم التكرار في أبيات بيتين متعاقبين؛ كل مرة في أول الشطرة الأولى من كل بيت، وقد يكرر اللفظ أو العبارة في أول الشطرة الأولى من بيت، وفي أول كل شطرة من شطرتي البيت الذي يليه، وقد يتم التكرار في أبيات بعضها متتالٍ وبعضها غير ذلك، وإن لم يكن متباعدًا، وقد تحوي القصيدة أكثر من لفظٍ أو عبارة، كما رأينا في بعض ما مر من أمثلة، وهكذا...
ومما لا مماراة فيه أن هذا التكرير يحدث نوعًا من الموسيقا الداخلية في القصيدة، كما أنه يصنع تجاوبًا بين أبياتها، فكأنك في مكان عالي الأركان، فسيح البنيان، تتكلم، فإذا الجدران والقباب تردِّد ما قلت مجلجلًا، وقد خلعت عليه حلة من الفخامة والجلال، وربما الرهبة أيضًا.
كذلك فهذا التكرار يقوم بوظيفةِ الربط بين بعض أبيات القصيدة، ويجعلنا نُحِس بها كأنها عقود، وليست، من الناحية الشكلية، حبات منفردة.
ينبغي أيضًا ألا ننسى أن في التكرار تأكيدًا، ثم إن لترديد بعض الألفاظ والعبارات بين الحين والآخر حلاوة في الفم، وهو ما أشرنا إليه في كلامنا عن النوع الأول من التكرار في شعر المتنبي.
=======================
[1] وقد قال الصاحب في نقد هذا البيت: (ما أكثر عظام هذا البيت).
[2] انظر: الكشف عن مساوئ المتنبي لابن عباد 237، 240، 243، 245، 247.
[3] انظر: الرسالة الموضحة / 175.
[4] انظر: يتيمة الدهر / 1 / 161، 180، وما بعدها، وانظر: الصبح المنبي / 377 - 379.
[5] العمدة / 1 / 303، نقلا، عن د. عبدالرحمن شعيب / 113.
[6] د. عبدالرحمن شعيب / 114.
[7] انظر: العكبري 4 / 216 - 217 / هـ19، وانظر: ملاحظة شبيهة لابن الأثير في (الاستدراك) / 41، نقلًا عن د. صلاح عبدالحافظ / 75.
[8] ص / 344 من كتابه عن الشاعر.
[9] هي قصيدة: (قفا تريا ودقي فهاتا المخايل).
[10] انظر: رأى الدكتور صلاح عبدالحافظ في كتابه الصنعة الفنية في شعر المتنبي / 234.
[11] لا بد من التنبيه إلى أن أول مَن أشار إلى هذا النوع من التكرير في شعر المتنبي، في حدود انتباهي، هو المرحوم محمد كمال حلمي، وإن كانت الأمثلة التي أوردها قليلة، كما أنه اكتفى في تعليقه على هذه السمة بإدراجها في مقتضيات (الأسلوب الخطابي)، ولم يقل فيها شيئًا أكثر من ذلك؛ انظر: كتاب أبو الطيب المتنبي - حياته وخلقه وشعره وأسلوبه / 332.
الأول أن يكرر لفظًا معينًا في البيت الواحد عدة مرات، سواء كرره هو نفسه أو كرره مع مشتقاته.
والثاني أن يكرر لفظًا أو عدة ألفاظ في بيتين أو عدة أبيات متتالية أو متقاربة.
وقد تنبه نقَّاد المتنبي من قديم إلى النوع الأول من التكرير وأخذوه عليه؛ إذ عاب عليه الصاحب بن عباد مثلًا قولَه لسيف الدولة:
وأنت أبو الهيجا بنُ حمدانَ يَا بْنَه
تشابَهَ مولودٌ كريمٌ ووالدُ
وحمدانُ حمدونٌ، وحمدونُ حارثٌ
وحارثُ لقمانٌ، ولقمانُ راشدُ
وقوله:
جوابُ مُسائِلي: أله نظيرٌ؟ *** ولا لك في سؤالِك لَا ألا لا
وقوله:
عظُمتَ فلمَّا لم تكلَّم مهابةً *** تواضَعْتَ وَهْوَ العُظمُ عُظمًا عن العُظمِ[1]
وقوله:
ولا الضعفُ حتى يتبعَ الضعفَ ضعفُهُ *** ولا ضعف ضعفِ الضعفِ بل مثلُه ألفُ
وقوله:
وكم جاهلٍ بي وهو يجهَلُ جهلَهُ *** ويجهَلُ عِلْمي أنه بيَ جاهلُ[2]
وعاب عليه الحاتميُّ بعض هذه الأمثلة، مضيفًا إليها بعضًا آخر[3]، وزاد الثعالبي على هذه الأمثلة أمثلةً أخرى، فبلغت جميعًا واحدًا وعشرين مثالًا، ووضعها جميعًا مع مآخذ أخرى تحت عنوان كبير، هو (معائب شعره ومقابحه)[4].
تناول ابن رشيق القيرواني هذا الجانب من شعر المتنبي قائلًا: إن المتنبي قد جعل ذلك نصب عينيه حتى مقته وزهد فيه، وحتى خرج به أحيانًا عن حد الشعر، كما في قوله:
أسد فرائسها الأسودُ، يقودها *** أسدٌ تكون له الأسودُ ثعالبا[5]
وقد عقَّب الدكتور شعيب على حكم ابن رشيق هذا بقوله: (ولسنا ندري من أين جاء القيرواني بقوله: إن المتنبي جعل ذلك نصب عينيه حتى مقته وزهد فيه، دون أن يمدنا بإحصاء ما ذكره المتنبي من أبيات تشتمل على هذا العيب، ولم يذكر لنا هذا الإحصاء سواه من النقاد)[6].
والواقع أني كنت قد حاولت هذا الإحصاء من قبل، ووجدت أن الأبيات التي بهذا الشكل من شعر المتنبي قد قاربت الخمسين بيتًا.
وهذه أمثلة أخرى غير التي أوردها من رجعت إليهم:
يُعطِي فتُعطى مَن لُهَى يده اللُّهَى
وترى برؤيةِ رأيه الآراءُ
• • •
فشكري لهم شكرانِ: شكرٌ على الندى
وشكرٌ على الشكرِ الذي وهبوا بعدُ
• • •
أما الأحبة فالبيداءُ دونهمُ
فليت دونَك بيدًا دونها بِيدُ
• • •
فلا مشاد ولا مشيدُ حمًى
ولا مشيدٌ أغنى ولا شائدُ
• • •
أراه صغيرًا قدرها عظم قدره
فما لعظيمِ قدره عنده قدرُ
• • •
وَلا وَقَفْتُ بجسْمٍ مُسْيَ ثالِثَةٍ
ذي أرْسُمٍ دُرُسٍ في الأرْسُمِ الدُّرُسِ
• • •
إن المعيدَ لنا المنام خياله
كانت إعادته خيال خيالِه
• • •
غثاثةُ عيشي أن تغثَّ كرامتي
وليس بغثٍّ أن تغث المآكلُ
• • •
ملولةٌ ما يدوم ليس لها
من مللٍ دائم بها مللُ
• • •
لو كنَّ يوم جرين كنَّ كصبرنا
عند الرحيلِ لكُنَّ غيرَ سجامِ
(الضمير في (كن) يعود على (أرواحنا) التي مرت في البيت السابق على هذا البيت).
♦ ♦ ♦
وأطعمتني في نيلِ ما لا أناله
بما نلت حتى صرت أطمع في النجمِ
• • •
مَن ليس مِن قتلاه من طلقائه
مَن ليس ممن دان ممن حينا
وأظن أنه بعد هذه الأمثلة (وهي مجرد أمثلة)، والأمثلة التي وردت في كتب السابقين لا ينبغي أن يبقى لدينا شك في أن هذه سمة بارزة في شعر المتنبي، وأن نقَّادنا القدماء لم يتجنوا على الشاعر حين جعلوها كذلك، لكننا مع ذلك نخالفهم في أن المتنبي قد مقتنا بهذه الأبيات في تكرير اللفظ في البيت الواحد، فما من بيت من هذه الأبيات يشكِّل لنا أية صعوبة في نطقه، بل إن اللسان ليجري به جريًا لا يتحقق في أبيات أخرى ليس فيها هذا التكرار، وقد مرت أمثلة من هذه الأبيات الأخيرة في مواضع من هذا الكتاب.
على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فإني لا أظن المتنبي رحمه الله إلا كان يقصد من وراء هذا التكرير إلى تحقيق قيمة فنية: إنه فيما يبدو لي كان يتلذَّذ في المديح والفخر والغزل بترديد اللفظة، ويريد للسامع والقارئ أن يتلذذا هما أيضًا بهذا الترديد، كما يتلذذ الواحد منا بتقليب قطعة من الحلوى في فمه، خذ هذا البيت مثلًا:
قَبيلٌ أنتَ أنتَ وأنتَ منهُمْ *** وجَدُّكَ بِشْرٌ المَلِكُ الهُمَامُ
ألست ترى أنها تقع من أذنِ الممدوح ونفسه موقع قطعة السكر في الفم؟ ومثله قوله:
وإني وإن كان الدفين حبيبَه *** حبيبٌ إلى قلبي حبيب حبيبي
وقد لمح نصر بن محمد الوزير الجزري، شيخ العكبري، هذا التعليل حين قال ردًّا على من يعيبون بيت المتنبي التالي:
العارض الهتن ابن العارض الهتنِ ابــ *** ــن العارض الهتن ابن العارض الهتنِ
(العارض الهتن: السحاب المدرار).
إذ قال: إنما تكرر الألفاظ لشرف الآباء[7].
كما أنه في بعض الأبيات التي من هذا النوع كان يقصد، فيما أرجح، إلى المبالغة وإبراز المعنى، وذلك كما في قوله:
عظمت، فلما لم تكلم مهابةً *** تواضعت، وهو العظم، عظمًا عن العظمِ
فانظر إلى هذه المراقي من العظمة كل مرقاة ترتفع بالممدوح في أجواز الفضاء إلى المدى الذي نُحِس معه أنه قد بلغ من الرفعة درجة لا تطال، وذلك كله بتكرار ألفاظ (ع ظ م) في البيت، فكأن كل لفظة منها طبقة في الفضاء تسلم إلى ما فوقها.
وقوله:
وكلكمُ أتى مأتى أبيه *** فكل فعالِ كلِّكمُ عجابُ
إن المتنبي هنا قد ضرب أصل الفكرة (وهو تقليد الأبناء لأبيهم في المجد والعظمة) في نفسه ثلاث مرات، فجعله كما يقول الرياضيون مكعبًا: (فكلكمُ... فكل فعالِ كلكمُ)، ومع ذلك لم تركَّ عبارته أو تنشز موسيقاه أو تتعقد ألفاظه، بل إنه قد وشي تكريره بالمخالفة بين نطق (كل) في الحالات الثلاث؛ هكذا: (كلكمُ)، و(كل) من غير كافٍ ولا ميم ولا مد، و(كلكمُ)، (بضمير المخاطبين ومد الميم ثانية).
ومثله قوله في البيت الثالث من الأبيات التالية:
ولست بدونٍ يرتجي الغيث دونَه
ولا منتهى الجودِ الذي خلفه خلفُ
ولا واحدًا في ذا الورى من جماعةٍ
ولا البعض من كل ولكنك الضعفُ
ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه
ولا ضعف ضعفِ الضعفِ، بل مثله ألفُ
أقاضيَنا، هذا الذي أنت أهلُه
غلطت، ولا الثلثانِ هذا، ولا النصفُ
فأي براعة هذا الذي يفعله المتنبي بهذه الألفاظ الحسابية!
إن الرجل بهذا كأنه يسبح في الهواء، ولا أدري كيف فات هذا كله المرحوم محمد كمال حلمي، وهو الرجل الذوَّاقة للأدب، والذي أرى أن كتابه عن المتنبي من أمتع ما كتب عن هذا الشاعر؛ إذ قال: (ألا ترى كيف انتقلنا من الشعر والخيال إلى عمليات حسابية ومسائل رياضية، بل وإلى متواليات هندسية لا تحلها كتب اللغة، وإنما تحلها جداول اللوغاريتم)[8].
لقد فاتته رحمه الله هذه البراعة التي حول بها المتنبي هذا الألفاظ الحسابية إلى موسيقا مجلجلة أبرزت لنا تفوُّق ممدوحه الساحق على الناس كل الناس، إن في الكلام مبالغة شديدة، ولكنها مبالغة بارعة.
وفي أحيان أخرى نشعر كأن المتنبي، بتكريره اللفظة في البيت الواحد، كأنه ممسك بإبرة يخزُّ بها من يهجوه، وقد تقوم حروف الكلمة المكررة بوظيفة التجسيد لمعنى البيت، كما تفعل (القاف واللام) في البيت التالي:
فقلقلت بالهمِّ الذي قلقل الحشا *** قلاقل عيس كلهن قلاقلُ
(قلاقل عيس: خفاف إبل).
إن الإنسان ليكاد يشعر بالخضخضة بعد قراءة هذا البيت عدة مرات متتابعة، إنه القلقلة مجسمة، جسمها تكرر القاف واللام متتابعين عدة مرات، ومن مهارة المتنبي أنه - من بين صفات النُّوق التي تدل على السرعة والخفة - قد اختار عمدًا الصفة (قلاقل)، لتوحي بـ(القلقلة) بحروفها، وإن لم تدل عليها بمعناها، فإذا عرَفنا أن هذا البيت من قصيدة قالها في صباه[9]، وهو ما ينطبق على عدة أبيات أخرى بهذا الشكل، تأكد لنا أن المتنبي كان واعيًا لقيمة هذا التكرير في شعره منذ فترة مبكرة من حياته.
ومثل ذلك قوله في بيت آخر:
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ *** وجوى يزيدُ وعَبرةٌ تترقرقُ
الذي عاب تكرر (القاف) في شطرته الأولى الدكتور صلاح عبدالحافظ[10]، مع أن تكرارها يجسم الأرق تجسيمًا، بل إنه ليطرد النوم عن العيون طردًا.
كذلك لا أحسبني مخطئًا إذا قلت: إن المتنبي قد أراد بهذا التكرير عمومًا أن يلفت أسماع جمهوره وأبصارهم، إنه المتنبي الذي يحب دائمًا شغل الناس به وبشعره!
فهذا عن النوع الأول من التكرير الموجود في شعر المتنبي.
أما النوع الثاني[11] فهو كما قلت تكرير لفظ أو عدة ألفاظ في بيت واحد أو في بيتين وعدة أبيات متتابعة أو متقاربة، تكريرًا متناظرًا، وهو كثير عند المتنبي، ومن أمثلته قوله في مدح سعيد بن عبدالله بن حسن الأنطاكي:
ذاك الجواد وإن قل الجوادُ له
ذاك الشجاعُ وإن لم يرض أقرانا
ذاك المعدُّ الذي تقنو يداه لنا
فلو أصيب بشيءٍ منه عزَّانا
(تقنو يداه لنا: تقتني الأموال لتعطيها لنا).
وقوله يمدح علي بن محمد بن سيار بن مكرم التميمي:
بنفسي الذي لا يزدهي بخديعةٍ
وإن كثرت فيها الذرائع والقصدُ
ومن بعده فقر ومن قربه غنى
ومن عرضه حر، ومَن ماله عبدُ
وقوله يصف مهره:
بز المذاكي وهو في العقائقِ
وزاد في الساقِ على النقانقِ
وزاد في الوقع على الصواعقِ
وزاد في الأذن على الخرانقِ
وزاد في الحذر على العقاعقِ
يميز الهزلَ من الحقائقِ
وقوله في مدح أبي العشائر:
وكلما أمن البلاد سرى
وكلما خيف منزل نزلَه
وكلما جاهر العدو ضحى
أمكن حتى كأنه ختَلَه
وقوله في مدح سيف الدولة:
فقد ملَّ ضوء الصبحِ مما تغيره
ومل سواد الليل مما تزاحمه
ومل القنا مما تدقُّ صدوره
ومل حديد الهندِ مما تلاطمه
• • •
وكذا تطلع البدور علينا
وكذا تقلقُ البحور العظام
• • •
أزلِ الوحشةَ التي عندنا يا
مَن به يأنس الخميس اللهامُ
والذي يشهد الوغى ساكن القلـ
ـبِ كأن القتالَ فيها ذمامُ
والذي يضرب الكتائب حتى
تتلاقى الفهاق والأقدامُ
وإذا حل ساعة بمكانٍ
فأذاه على الزمان حرامُ
والذي تنبت البلاد سرورٌ
والذي تمطر السحاب مُدامُ
• • •
فهن مع السيدانِ في البر عسَّلٌ
وهن مع النينانِ في الماء عومُ
وهن مع الغزلانِ في الوادِ كمن
وهن مع العقبان في النيق حومُ
(هن: خيل سيف الدولة).
♦ ♦ ♦
تُهاب سيوف الهند وهي حدائدٌ
فكيف إذا كانت نزارية عُرْبا؟
ويُرهب نابُ الليث والليث وحدَه
فكيف إذا كان الليوث له صحبا؟
ويُخشى عبابُ البحرِ وهو مكانَه
فكيف بمن يغشى البلاد إذا عبَّا؟
(الأفعال (تهاب، يرهب، يخشى) مبنية للمجهول، والكلام في الأشطر الثانية عن سيف الدولة).
♦ ♦ ♦
ومَن ذا الذي يقضي حقوقك كلَّها؟
ومن ذا الذي يرضى سوى مَن تسامح؟
• • •
لعلَّك يومًا يا دمستق عائدٌ
فكم هارب مما إليه يؤولُ
نجوتَ بإحدى مهجتيك جريحة
وخلفت إحدى مهجتيك تسيلُ
• • •
وإذا الحربُ أعرضت زعم الهو
ل لعينيه أنه تهويلُ
وإذا صح فالزمان صحيحٌ
وإذا اعتل فالزمان عليلُ
وإذا غاب وجهه عن مكانٍ
فبه من ثناء وجه جميلُ
• • •
فليت سيوفَك في حاسدٍ
إذا ما ظهرتَ عليهم كَئِبْ
وليتَ شكاتَكَ في جسمِهِ
وليتَك تجزي ببغضٍ وحُبّْ
(في البيت الثاني إشارة إلى مرض سيف الدولة، والبيتان من قصيدة نظمها المتنبي في العراق بعد فراره من مصر، وهي رد على رسالة كان سيف الدولة قد بعثها إليه يستقدمه إلى حلب ثانية).
وقوله في رثاء خولة أخت الأمير الحمداني:
فليتَ طالعةَ الشمسينِ غائبةٌ
وليت غائبةَ الشمسينِ لم تغبِ
وليتَ عينَ التي آب النهارُ بها
فداءُ عينِ التي زالت ولم تؤبِ
وقوله من قصيدته في الحمى التي أصابته في مصر:
فإن أمرض فما مرض اصطباري
وإن أحمم فما حم اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى، ولكن
سلمت من الحمام إلى الحمامِ
وقوله:
أما في هذه الدنيا كريمٌ
تزول به عن القلب الهمومُ؟
أما في هذه الدنيا مكانٌ
يسر بأهله الجار المقيم؟
وقوله في مدح دلير لشكروز، الذي قدم ليدفع عن الكوفة هجمة القرامطة، وإن كان قد بلغها بعد أن كان سكانها قد ردوهم:
وما دام دلير يهزُّ حسامه فلا
ناب في الدنيا لليث ولا شبلِ
وما دام دلير يقلِّب كفَّه فلا
خلق من دعوى المكارم في حلِّ
وهكذ، وهكذا...، وهذه مجرد أمثلة، وفي شعر الرجل منها الكثير.
ولا شك أن القارئ قد لاحظ أن المتنبي ينوع في هذا التكرار، فمثلًا قد يكرر اللفظ أو العبارة مرتين في البيت الواحد؛ مرة في أول كل شطرة من شطرتي البيت الذي يليه، وقد يتم التكرار في أبيات بيتين متعاقبين؛ كل مرة في أول الشطرة الأولى من كل بيت، وقد يكرر اللفظ أو العبارة في أول الشطرة الأولى من بيت، وفي أول كل شطرة من شطرتي البيت الذي يليه، وقد يتم التكرار في أبيات بعضها متتالٍ وبعضها غير ذلك، وإن لم يكن متباعدًا، وقد تحوي القصيدة أكثر من لفظٍ أو عبارة، كما رأينا في بعض ما مر من أمثلة، وهكذا...
ومما لا مماراة فيه أن هذا التكرير يحدث نوعًا من الموسيقا الداخلية في القصيدة، كما أنه يصنع تجاوبًا بين أبياتها، فكأنك في مكان عالي الأركان، فسيح البنيان، تتكلم، فإذا الجدران والقباب تردِّد ما قلت مجلجلًا، وقد خلعت عليه حلة من الفخامة والجلال، وربما الرهبة أيضًا.
كذلك فهذا التكرار يقوم بوظيفةِ الربط بين بعض أبيات القصيدة، ويجعلنا نُحِس بها كأنها عقود، وليست، من الناحية الشكلية، حبات منفردة.
ينبغي أيضًا ألا ننسى أن في التكرار تأكيدًا، ثم إن لترديد بعض الألفاظ والعبارات بين الحين والآخر حلاوة في الفم، وهو ما أشرنا إليه في كلامنا عن النوع الأول من التكرار في شعر المتنبي.
=======================
[1] وقد قال الصاحب في نقد هذا البيت: (ما أكثر عظام هذا البيت).
[2] انظر: الكشف عن مساوئ المتنبي لابن عباد 237، 240، 243، 245، 247.
[3] انظر: الرسالة الموضحة / 175.
[4] انظر: يتيمة الدهر / 1 / 161، 180، وما بعدها، وانظر: الصبح المنبي / 377 - 379.
[5] العمدة / 1 / 303، نقلا، عن د. عبدالرحمن شعيب / 113.
[6] د. عبدالرحمن شعيب / 114.
[7] انظر: العكبري 4 / 216 - 217 / هـ19، وانظر: ملاحظة شبيهة لابن الأثير في (الاستدراك) / 41، نقلًا عن د. صلاح عبدالحافظ / 75.
[8] ص / 344 من كتابه عن الشاعر.
[9] هي قصيدة: (قفا تريا ودقي فهاتا المخايل).
[10] انظر: رأى الدكتور صلاح عبدالحافظ في كتابه الصنعة الفنية في شعر المتنبي / 234.
[11] لا بد من التنبيه إلى أن أول مَن أشار إلى هذا النوع من التكرير في شعر المتنبي، في حدود انتباهي، هو المرحوم محمد كمال حلمي، وإن كانت الأمثلة التي أوردها قليلة، كما أنه اكتفى في تعليقه على هذه السمة بإدراجها في مقتضيات (الأسلوب الخطابي)، ولم يقل فيها شيئًا أكثر من ذلك؛ انظر: كتاب أبو الطيب المتنبي - حياته وخلقه وشعره وأسلوبه / 332.