(1)
لا تقوم فكرة الدراسات المقارنة، كما يتوهم بعض القراء، على سوء النوايا؛ فلا تفترض هذه الدراسات بالضرورة سرقة أدبية يندى لها جبين الإبداع؛ ذلك أنّ تلاقح الثقافات ظاهرة إيجابية، والتفاعل بين أدبنا والأدب العالمي مؤشر على حيويتنا وقدرتنا على الاندماج، ويكون ذلك بشرطين؛ أولهما: ألا نبالغ في محاكاة الآخر إلى درجة تضع إنتاجنا في حيّز “التلاصّ” لا “التناص” والمثاقفة، والثاني: أن نحاور النص الآخر، فكرياً وفنيّاً، وأن نبني عليه، لا أن نستسلم لسطوته. والعنوان الذي تحيل إليه هذه الدراسة يهدف ببساطة إلى دراسة التقاطعات الموضوعية والفنية والدلالية بين روايتي “دون كيشوت[1]” لـ “سرفانتس” و”حارسة الظلال[2]” لـ “واسيني الأعرج” الذي أعطى روايته عنواناً فرعياً هو “دون كيشوت في الجزائر”.
(2)
تحكي “حارسة الظلال” حكاية وصول الصحفي “فاسكيس دي سرفانتس دالميريا” إلى الجزائر، وهو الملقّب بـ “دون كيشوت” بسبب انحداره من عائلة الكاتب الإسباني الشهير “سرفانتس”؛ ليرى آثار جدّه، ويكتب سيرة عنه. ويستعين “دالميريا” لدى وصوله بالمستشار الثقافي في وزارة الثقافة “حسن” (الذي سمته جدّته “حسيسن”)، ويجد نفسه بعد زيارة مغارة “سرفانتس” وأماكن أخرى، قيد الاعتقال بتهمة الجاسوسية؛ ليُطرد بعدها خارج البلاد؛ فيما يتم طرد “حسيسن” من وزارة الثقافة؛ ليجد نفسه ـ بوصفه مثقفاً تقدمياًـ في مواجهة المتطرفين الذين يقطعون له ذَكَرَهُ ولسانه؛ فيتخذ الكتابة وسيلة لحكاية ما جرى معه.
في هذه الحكاية الكبرى تفاصيل كثيرة وحكايات متداخلة، يرتفع فيها صوتان متمردان عاليان: صوت ينتقد مجتمع السلطة وقوى السلب والنهب والجهاز الأمني (الجهاز الوحيد الذي يعمل في الدولة دون كلل)، وصوت ينتقد بجرأةٍ أولئك الذين جعلوا من الأيديولوجية المتطرفة نظرية للقتل، فراحوا يقتلون المذنب والبريء، وينصبون أنفسهم قضاة يحكمون بأمر الله على الأرض. وبين هؤلاء وهؤلاء تقف حارسة الظلال/ “حنّا” جدة “حسيسن”، ويقف “واسيني الأعرج”، ويقف “حسيسن” ليحفظوا صورة الوطن، وليحرسوا ظلاله النقية. وتتقاطع هذه الرواية (في فصلها الخامس بشكل خاص) مع رواية “دون كيشوت”؛ حيث يحكي ساردها عن رحلة “سرفانتس” إلى الجزائر وأهوال سفره، وما جرى له من مغامرات في المكان المسمّى زفرة “سرفانتس” الأخيرة.
أمّا رواية “دون كيشوت”، وهو نبيل من إقليم المانشا، فهي تحكي بأسلوب ساخر، عن رجل قضى شطراً من حياته، وهو يقرأ كتب الفروسية؛ فقد “كان يقضي الأوقات التي لا عمل فيها، أعني طول العام تقريباً، في انكباب على قراءة كتب الفروسية، بلذة ونهم يبلغان حدّاً، يجعله يكاد ينسى الخروج للصيد وإدارة أمواله[3]“. ثمّ يقرر هذا الرجل متأثراً بفروسيتهم أن يكون واحداً منهم؛ فتبدأ الحكاية في خروجه من بيته بحثاً عن المغامرات والمعارك التي خاضها لاحقاً ضد طواحين الهواء وخوابي النبيذ، وجيوش الخرفان، وتنتهي بعد عودته إلى البيت بعد تلك المغامرات التي تبعث على السخرية والمرارة في آن معاً، على الرغم من نبل الفكرة التي تقوم على رغبة فارس جوّال في حماية المستضعفين، والانتقام من الظالمين: “فكم كان يرجو أن ينتقم من مظالم، وأن يصلح من أخطاء، وأن يعالج من إهانات، وأن يصحح من إساءات، وأن يسدد من ديون[4]“، “وكان على استعداد للتنازل عن جاريته، بل وعن بنت أخيه في سبيل أن يركل الخائن جلالون بضع ركلات[5]“.
ولأنّ “سرفانتس” كان يريد في هذه الرواية السخرية من روايات الفروسية السائدة في عصره، فقد جعل من “دون كيشوت” صورة كاريكاتورية تقابل صورة الفارس الذي لا يقهر، بما فيها من مبالغات؛ لذلك تجلّى سلوكه الساخر في كل أقواله وتصرفاته، بدءاً من خوذته (صحن الحلاقة) التي سلبها من فارس مغوار(حلاق متجول) هرب منه[6]، وليس انتهاء باتخاذ عشيقة تليق بفروسيته، وصديق يحمل سلاحه ويرافقه، ويصدّق جنونه في بعض الأحيان.
ولم يسع “واسيني الأعرج” في روايته إلى إعادة إنتاج سيرة “سرفانتس” من ولادته إلى وفاته، ولم يهتم في روايته بشخصية هذا الكاتب قبل وصوله إلى الجزائر، ولم يكن مطلوباً منه ذلك؛ بل اهتم فقط بحكاية أسره ووصوله الجزائر حتى خروجه منها، وهي الحكاية التي قدّمها “سرفانتس” في ثلاثة فصول من القسم الأول من رواية “دون كيشوت” بين الفصل التاسع والثلاثين والفصل الحادي والأربعين.
ولا نريد هنا أن نستعرض تفاصيل سجنه، ومحاولات هروبه، بل سنشير إلى التقاطعات الحاصلة بين “سرفانتس” و”واسيني” من تلك المرحلة، مشيرين إلى أن تجربة الأسر تروى، لسبب فني، على لسان أسير آخر. ونحن لا نعتقد بصحة ما ذهب إليه عبد الرحمن بدوي وآخرون من أن السارد ها هنا يتحدث عن تجربة زميل “سرفانتس” في الأسر، على الرغم من أن السرد الروائي ذاته صرّح بذلك، وأشار إلى شجاعة أسير آخر اسمه (سابدرا[7]) الذي هو الجزء الأخير من اسم “ميغيل دي سرفانيس سابدرا”، وكان من الصعب فنياً أن تنسب هذه المغامرة إلى “دون كيشوت” نفسه؛ وذلك يعود في تقديرنا إلى أن نسبة هذا الجزء إلى “دون كيشوت” (بما فيه من واقعية وتتابع ومنطقية لا تتناسب مع شخصية ذلك المغامر غير المتوازن) خليق بأن يهدم جوهر الشخصية.
لقد بدأ “واسيني” محاكاته لرواية “دون كيشوت” شكلياً منذ العناوين التي وضعها تحت أرقام الفصول، وهي التي تدلل على الأحداث التي جرت فيها، كما فعل “سرفانتس” تماماً، ومنها:
· مغامرة “حسيسن” التي احتفظ ببعض تفاصيلها حتى لا يثير غضب الآخرين، وحتى لا يتعرض لعملية اختطاف مدبرة.
· انشداد “فاسكيس دي سرفانتس دالميريا” لقصص “حنّا” عاشقة الأشواق الأندلسية الضائعة.
· وقوع “دالميريا” في الأسر على يد الرجل الغامض المتنكر وراء نظارتين سوداوين.
· “حسيسن” يكتشف جنساً بشرياً من خيش وتبن، يشعلون النار ويخافون من حرائقها.
وتقابل هذه العناوين شكلياً العناوين التي وضعها “سرفانتس”، في دلالتها على المحتوى وأهم الأحداث، ومنها:
· في المغامرة التي جرت بين “دون كيشوت” ورعاة الماعز.
· في المغامرة الرائعة والغنيمة الوافرة التي ظفر فيها بخوذة ممبرينو، وفي أمور أخرى جرت لفارسنا الذي لا يقهر.
· في المعركة الحامية الرهيبة التي أثارها “دون كيشوت” ضد خوابي النبيذ، وتتمة حكاية المستطلع الفاسد الرأي.
· في المغامرة الغريبة التي خاضها الفارس “دون كيشوت” مع فارس المرايا الهمام.
وعلى الرغم من هذا التقابل الشكلي، فقد بدت عناوين “سرفانتس” أكثر إثارة، وأكثر مدعاة للسخرية والضحك؛ وربّما كان ابتعاد ثيمة الإضحاك عن رواية “واسيني” هو السبب الذي أبعد أسلوبه قليلاً عن أسلوب “سرفانتس”، وإن كان ينقل في بعض الأحيان عبارات قالها “دون كيشوت” الجد ليرسّخ الإطار الزمني والمكاني الذي يسعى إلى ترسيخه، وها هو ذا “دون كيشوت” يقول لسانشو/ حامل سلاحه في مغامراته المجنونة: “لقد سمعت الناس يقولون دائماً، أنّ من يكرم اللئيم كمن ينثر ماءً في البحر[8]“، وهي عبارة منقولة عن الأصل، بفارق اختلاف الترجمة، ليس إلا: “الإحسان إلى الأشرار كرمي الماء في البحار[9]“.
ولعلّنا نشير هنا إلى رواية “إميل حبيبي” “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل[10]” التي ربما كانت أكثر الروايات العربية اقتراباً من أسلوب “سرفانتس”، ليس من خلال عناوين فصولها فقط، بل من خلال أسلوبها السردي أيضاً. ولأننا لسنا في صدد التوسع بشأن رواية “حبيبي”، يمكننا أن نكتفي بالإشارة إلى بعض عناوين فصولها:
· سعيد يعلن أن حياته في “إسرائيل” كانت فضلة حمار.
· كيف لم يعد سعيد أبو النحس تيساً؟
· هل كان سعيد هو رأس الخيش؟
· كيف تحوّل سعيد إلى هرة تموء؟
· مسك الختام: الإمساك بالخازوق؟
(3)
تقوم البنية الأساسية لحكاية “حارسة الظلال” على ثلاث شخصيات أساسية؛ تتدرّج في أهميتها البنائية من “حسيسن” السارد الأساسي إلى “دالميريا” الذي يتولى السرد في الفصل الخامس عبر مذكراته، إلى “حنّا”، غير أننا سنمر مروراً سريعاً على “حسيسن” وجدّته “حنّا”، لصالح “دالميريا” الذي يلقبه أصدقاؤه بـ “دون كيشوت”.
نبدأ من “حسيسن” الذي يبدي هلعاً طبيعياً تجاه سرد الحكاية، في ظل وجود شهريارين لا يرحمان، فقد باح “حسيسن” بكلّ أسراره، وهو يعلن خوفه، غير نادم أنه وقع بين مطرقة السلطة وسندان التطرّف. لقد كان “حسيسن” هدفاً مباحاً ومستباحاً، لأنه يساعد “دالميريا” و”حنا” على حراسة الظلال، من خلال مساعدتهما؛ فهو يساعد “دالميريا”، ويضيء له طريق المفرغة وطريق التمثال؛ ليُسْهِما معاً، كل في حراسة ظلال بلاده وأجداده. وهو لا يتوانى عن مساعدة “حنّا” في تخيّل فضاء حكاياتها، كما تشتهي ذاكرتها. ولعلّ “حسيسن” كان يعرف النهاية التي تنتظره، ولعله أيضاً أقبل على هذه النهاية بفرح الساموراي، إذ دفع ثمن المغامرة طرداً من عمله، وفقداً لعضوين زائدين من جسده هما لسانُهُ وذكرُهُ) حتى يصير مواطناً صالحاً: “عندما عدتُ إلى وعيي كان العضوان الزائدان قد بُترا نهائياً لأصير مواطناً صالحاً[11]“.
وتستمدّ “حنّا” جدّة “حسيسن” وعاشقة الظلال الأندلسية الضائعة ظلال شخصيتها من التراث الشهرزادي، فهي لا تملّ من تكرار مغامرات الجد الموريسكي الذي ترك جنته الأندلسية، وعاش إحساس الفقد وضياع البلاد، ومات كما يموت الأبطال؛ إذ عضّ “على يده طويلاً، ولم يبرأ من جرحه حتى الموت[12]“. من هنا لجأت “حنّا” إلى سرد الحكايات التي تتعلق بذلك الجد، وعدّلتها، بما تمليه عليها المواقف، وشهوة القصّ، مؤكدة في كلّ مرة، أن ما ترويه عن “أسد الغيم والهجر، الذي لم يكن يحبّ شيئاً مثل حبّه لزهرة الكاسي” ص21. هو حقيقة لا يدخلها الزيف، لذلك احتفظت بعاداته وحكاياته وذكرياته، ورفضت أن تصدّق أن معالمَ كثيرة من ذلك التاريخ قد اندثرت، حتى إنّها تسأل “حسيسن” عن ظلال جدّها في شخصية ضيفه “دالميريا” الذي جاء للجزائر في زيارة حملت له كثيراً من المتاعب: “هل له أوشام على الذراع الأيسر؟[13]“.
أما “فاسكيس دي سرفانتس دالميريا” (“دون كيشوت” الحفيد) فيمكن اختصار ظهوره في الحدث الروائي بثلاث صوى رئيسية هي: وصوله إلى الجزائر ولقائه بـ “حسيسن”، وبحثه مع “حسيسن” عن ظلال جده “سرفانتس”، واعتقاله ثم إبعاده خارج الجزائر.
لقد كان ذنب “دالميريا” الأكبر أنّ والده “جعل من المحافظة على ذكرى هذا الشاعر التائه رهانه الحياتي”. ص28، وكان يرى فيه المنقذ لهذا الرهان بالإصرار المستميت على تحويله “بالقوة إلى أكبر كاتب شعبي في القرن[14]“؛ لذلك صرّح لـ “حسيسن” منذ اللقاء الأول عن هدفه قائلاً: “أنحدرُ من عائلة الكاتب الكبير ميغيل دي “سرفانتس”، وأنا هنا في مهمة إنجاز مشروع حياتي مهمّ[15]“.
وإمعاناً من “دالميريا” في الإيحاء بتداخل الظلال، فإنه يشير في مذكراته خلال حديثه عن جده “سرفانتس”: “هذا الجد المجنون الذي لم يفرّق بينه وبين بطله [دون كيشوت][16]“.. وتمكن ملاحظة أنّ هذا الجنون/ أو لنقل هذا التداخل انتقل إلى “حسيسن” الذي لم يميز في كثير من السياقات السردية بين “دالميريا” و”دون كيشوت”، بل راح يبحث في صورته عن ذلك البطل الأسطوري؛ إذ يقول “حسيسن”: “لم أكن قادراً على تصوّر الشخص الذي كان أمامي غير “دون كيشوت دي لامانشا”، في حالة يرثى لها، وهو يئن من جراحات حرب خاضها بدون هوادة ضدّ خيبات الدنيا[17]“.
كما أنه يدافع عن دونكيشوتية “دالميريا” في حوار بينه وبين أحد موظفي المديرية العامة للأمن الوطني:
“ـ هذا الرجل حتى اسمه ليس أمراً بديهياً. لماذا تصر على تسميته “دون كيشوت” بينما اسمه الحقيقي “فاسكيس دي سرفانتس دالميريا”؟
ـ كما لا يخفى عليكم يا سيدي أن “دون كيشوت” هو اسم رواية كتبها جدّه. وهذا يفسّر لماذا يناديه أصدقاؤه بهذا الاسم. هو مهبول شوية. كل حلمه أن يعيش الحالات العميقة التي عاشها جده[18]“.
ويبلغ التداخل بين ظلال الرجلين (الجد والحفيد) درجة يطلق فيها “حسيسن” اسم “دون كيشوت” ولقبه على “دالميريا”، كما يمكن أن نلمس في السياقات التالية:
· “استيقظ “دون كيشوت” مبكراً، وجدته منحنياً عى شرفة الطابق الخامس القديمة، يستمتع بالأدخنة الكثيفة التي بدأت تجتاح شيئاً فشيئاً حي باب الزوار…[19]“.
· “كانت هذه أول ليلة يقضيها “دون كيشوت” في الأسر[20]“.
· “في الرسالة كان الفارس ذو الوجه الحزين يتحدّث عن السجن كما يتحدث عن جولة فلسفية وعاطفية[21]“.
وها هو ذا “دالميريا” يعود، مطروداً من الجزائر، إلى بلده؛ ليكتشف ربما أنه كان يحارب مثل جدّه الأسطوري، طواحين الهواء في معركة اللاجدوى. وإذ نتحدث عن هذا التداخل بين “دالميريا” و”دون كيشوت”، فإننا نؤكد أنه تداخل مترع بالقصدية، لأنّ “واسيني الأعرج” يريد أن يقيم تداخلات أخرى موازية، من خلال تعرض كل من “دالميريا” و”حنّا” و”حسيسن” ـ بأشكال مختلفة ـ للشرب من كأس القمع ذاته، وكأنه يريد أن يقول: إن الحفاظ على التراث الثقافي الإسباني في الجزائر، هو الحفاظ على الجزائر ذاتها. لذلك فإن التراث الإنساني، وفقاً لهذا التداخل، يبدو كلاً لا يتجزّأ.
لقد أفاد “دالميريا” من “حسيسن” و”حنّا” في تظهير صورة الذاكرة البعيدة، ولعلنا نذكر الوصف الجسدي غير الواقعي الذي قدّمه “حسيسن” لجدته العمياء “حنّا” حين طلبت منه أن يصف ضيفه، دون أن يتوانى عن مساعدتها في تخيّل فضاء حكاياتها، إذ يصف لها “دالميريا” الذي تبحث فيه عن أجدادها الأندلسيين على النحو التالي: “آه يا “حنّا” لو كنت تشوفيه! من أين أبدأ؟ بنية قوية تحاذي المترين تقريباً ومئة كيلو من العضلات. هيئته مثل هيئة فارس خاض كل حروب جبال البشرات بالأندلس وخرج منتصراً. وجه مشع وعينان مليئتان بالنور والحب، مقرونتان بحاجبين مثل الهلال. قبضة قوية وخفيفة مثل الفولاذ. تنسدل من رأسه ضفيرة طويلة تختلط في النهاية بسبابات لباسه التي تملأ بدلته الأندلسية المذهبة بالحدائق والأنوار وأشجار الجنة. شامة تتوسط خدّه الأيسر بينما الخدّ الأيمن لم يشف بعد من جرح غائر أصيب به، بكل تأكيد، في حرب خاضها لوحده ضد أعداء مدينته[22]“.
ولم يكن هذا الوصف يداعب مخيلة “حنّا” فقط، بل يداعب أيضاً مخيلة “دالميريا”؛ لأنه يتوافق إلى حد بعيد مع “سرفانتس”/ أو مع السارد الأسير الذي روى سيرة أسره وهربه في رواية “دون كيشوت”: “وكان الرجل متين البنية رائع القوام، يناهز الأربعين من عمره، وبشرته برونزية، وشواربه طويلة، ولحيته مرتبة[23]“.
إن الوصفين الجسديين السابقين اللذين يحيلان على الفروسية في مظهرها الخارجي، ليسا شكل التعالق الوحيد بين “دالميريا” و”دون كيشوت”؛ إذ ثمّ تقاطعات نفسية بين الشخصيتين؛ فقد أخذ “دالميريا” من “دون كيشوت” الشجاعة والمثالية والحرية؛ ليجابه الواقعية والنفعية والرجعية في معركة خاسرة، مندفعاً في مواجهة ثقافة السلطة بسلطة الثقافة؛ ليكتشف أن قلمه يشبه تماماً رمح “دون كيشوت”، وأن معاركه ضدها تشبه معارك خاضها ضدّ طواحين الهواء الفارس ذو الوجه الحزين الذي “اندفع مغطى بترسه، ومشرعاً رمحه يركض بأقصى ما تستطيعه روثينانته في وجه أول طاحونة صادفته، لكن في اللّحظة التي خرق فيها الجناح بضربة قاصمة من رمحه دفعته الريح بعنف حطّم الرمح وساقت معه الفرس والفارس فراح يتدحرج على التراب[24]“.
وإذا كان “دون كيشوت” قد وجد نفسه متدحرجاً على التراب؛ فإن “دالميريا” وجد نفسه مطروداً خارج ساحة النزال؛ ليحصد خيبة مضاعفة تضاف إلى مجموعة حكايات الخيبة التي يجسدها الحاضر الروائي، وعلى رأسها خيبة “حسيسن” الذي أخفق في العثور على “دالميريا”، ليجد نفسه في مواجهة بلادة ساذجة تتحكم بالمصائر.
(4)
قضى “دالميريا” في السجن أياماً قليلة لا تقارن بالمدة التي قضاها “سرفانتس”؛ فهو يقول في رسالته إلى “حسيسن”: “خمسة أيام لا تساوي الشيء الكثير أمام الخمس سنوات التي قضاها جدي[25]“، ولكنه عانى فيها كثيراً، ليس فقط بسبب سجنه واتهامه بالجاسوسية، بل أيضاً بسبب محو معالم مهمة من ذاكرة مدينة الجزائر التي خسرت الشيء الكثير. يقول “دالميريا”: “المدينة هي الملامح التي تكتسبها عبر رحلتها التاريخية. خسارة كبيرة لا تعوض؛ لأن السنوات الخمس التي عاشها “سرفانتس” هنا صارت أبداً ملكاً للمدينة، ومحوها معناه محو جزء من ذاكرتها[26]“.
إن حكاية أسر “دالميريا” هي حكاية جزئية تدور في الإطار العام للرواية، أما حكاية أسر جده، فقد وردت في صيغتين، مرة على لسان “سرفانتس” (أو سارده الأسير)، ومرة على لسان “واسيني” (أو سارده السجين).
يسرد “سرفانتس” قصة أسره، في روايته، على لسان سارد خارجي، فيما يكون “دون كيشوت” مستمعاً بعد أن خاض مغامرة قارع فيها خابيتين من النبيذ؛ إذ يدخل عليه وعلى أصحابه “مسافر يدل ملبسه على أنه نصراني جاء حديثاً من بلاد المسلمين (…) وكانت معه امرأة تركب حماراً، وتلبس زيّاً مغربياً، وعليها خمار يغطي كلّ وجهها، وعلى رأسها طاقية من الديباج المذهب، وتلبس ملفّة تغطيها من الرأس حتى القدمين[27]“.
وعلى مدى ثلاثة فصول يروي لهم السارد العائد من الأسر القصة التي يرويها “دالميريا” مرة أخرى في “حارسة الظلال”، مع تعديلات دالة، نشير إليها لاحقاً، فقد تحدّث السارد في رواية “دون كيشوت” عن أسره في معركة “ليبانت” التي أوقفت تقدّم الأسطول العثماني، بما يمنح “سرفانتس” هيئة الفارس الشجاع الذي يدافع عن استسلامه للأسر:
· “ومن بين كل أولئك المحظوظين الذين يعدّ منهم أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمناً لتعلقهم بالدين، كنت أنا وحدي الشقي؛ إذ بدلاً من أن أتلقى إكليلاً بحرياً كما كانت الحال في زمان الرومان، وجدت نفسي في تلك الليلة التي تلت ذلك اليوم الرائع، مقيّداً بالسلاسل[28]“.
· “قمت بواجبي، ووثبت في السفينة المعادية، ولكن في اللحظة نفسها ابتعدت هذه السفينة عن تلك التي هاجمتها، بحيث لم يستطع جنودي اللحاق بي، فأصبحت وحدي في وسط أعدائي، واضطررت للتسليم أمام القوة العددية، وأنا مثخن بالجراح[29]“.
وقد تم إثر ذلك أسره ونقله للجزائر، لينتظر افتداءه بالمال، بعد محاولات مخفقة للهرب: “وهكذا قضيت حياتي في السجن بين الفرسان وعلية الناس المنتظَر فداؤهم بالمال[30]“. أما حكاية هربه من الجزائر فهي حكاية تليق بالفرسان؛ إذ تدلّ على مدى قدرة الحب والعقيدة الصحيحة (حسب رواية “سرفانتس” التي يحدّ “واسيني” من غلوائها) على تحقيق المعجزات، ويمكن أن نجد أثر تلك المعركة في “حارسة الظلال”، عندما يحاول الحفيد أن يدافع عن فروسية الجد في السياقين التاليين:
· “بدأت ألمس شيئاً فشيئاً وجوه ركاب لو صولاي في ذلك اليوم الخريفي الحزين 26 سبتمبر 1575. تساءلت في أعماقي بحنين: كم كان عددهم، وكيف واجهوا هجوم القراصنة المباغت؟[31]“.
· “في لحظة من اللحظات رأيت جدي “سرفانتس” وهو يحاول بما تبقى من شجاعة أن يدافع عن وجوده، لكن يده المهشمة في معركة ليبانت lepante لم تسعفه كثيراً[32]“.
تبدأ حكاية الهرب، كما يرويها الأسير، من العصا التي امتدّت من إحدى النوافذ الخلفية المطلة على السجن، والتي لم تترك إلا حين اقترب منها الأسير، بعد أن أخفق ثلاثة من زملائه: “وحاولت بدوري أن أجرب حظي، ولم أكد أقترب من العصا حتى تركوها، وسقطت عند قدمي في السجن، فأسرعت لحل قطعة القماش فوجدت فيها عشرة جنيهات[33]“.
وبعد تكرار الأمر، ووصول نقود أكثر، وصلت رسالة ممن وراء النافذة/ “زريد” (أو “ثريا” كما يسميها المترجم[34])، وهي فتاة موريسكية، علَّمتها جارية لأبيها الحاج مراد الصلاة المسيحية، ثم ماتت هذه الجاريةُ وزارت الفتاةَ في أحلامها مرتين: “وقالت لي اذهبي إلى بلاد النصارى. لتري “للا مريم” التي تحبني كثيراً[35]“. كما تعرض “زريد”/كاتبة الرسالة الزواجَ على الأسير، مغريةً إياه بالمال والجمال، بعد أن أغرته بنقاء العقيدة، فتقول: “إني شابة رائعة الجمال، وأستطيع أن آخذ معي كثيراً من المال، فانظر هل تستطيع أن تأخذني إلى هناك، وستكون أنت زوجاً[36]“.
ويرد الأسير برسالة، يعدها فيها بوضع خطة للخروج من الجزائر، وهي معهم، ويوافق على الزواج منها حين يصبحان في مكان أمين، ويستمر بعد ذلك تدفق المال، ويتم الاتفاق مع نصراني لبناء سفينة، واستئجار اثني عشر بحاراً أشداء، وتُنفَّذُ خطة الهرب التي اعترضتها صعوبات جمة؛ إذ يستيقظ والد “زريد”/ الحاج مراد، فيضطرون لأسره معهم إلى حين[37].
ويتفق سارد “واسيني”/ “دالميريا” في عدد من تفاصيل الحكاية التي أخذها أصلاً عن “دون كيشوت” مع حكاية الأسير، فنقرأ عنده، على سبيل التمثيل، السياق التالي: “عندما صعدتَ إلى سطيحة السجن مثلما كان يفعل أغلب السجناء الذين ينتظرون الفدية ليطلق سراحهم، كنتَ أول من اكتشف هذه المرأة (…) أول ما لمحت زريد وجهك حدث بينكما الذي كنت تبحث عنه. اخترقتكما الدهشة والذهول وغموض ما لم تفهمه أبداً. العصا الذهبية التي تركتها من النافذة كانت علامة على تعلقها بك[38]“.
ونذكر هنا أنّ كثيراً من هذه التفاصيل تتفق مع حياة “سرفانتس” نفسه إذ إنه اشترك في معركة ليبانت البحرية بين الأتراك من جهة، والبنادقة والإسبان وبعض الأوروبيين من جهة أخرى. وفي هذه المعركة أصيبت يد “سرفانتس” اليسرى، وظلّ يفخر بهذه الإصابة طوال حياته، كما اشترك في حملات بحرية مختلفة حتى عام 1575، وفي طريق عودته إلى إسبانيا أسرته السفن التركية، واقتيد أسيراً إلى الجزائر، وكاد يفقد حياته في أثناء محاولات هروبه، ولم يستطع الفكاك من الأسر إلا بعد خمس سنوات عام 1580[39]، وهذا سياق من رواية “حارسة الظلال”، يوضح الظلال التاريخية لـ “سرفانتس”، ويتحدث فيه “حسيسن” مع “دالميريا”/ “دون كيشوت” الحفيد عندما ذهبا معاً إلى الأميرالية؛ حيث وضع جدّه قدميه أول مرّة على أرض الجزائر:
“تعرف يا “دون كيشوت”، جدك عندما وصل إلى هذا المكان كان متعباً. ولهذا عند النزول، كما يقول بعض الوراقين، أُخلط بالسراق الذين كانوا يملؤون هذا الميناء الصغير، وبالمواشي، قبل أن يدرك القراصنة مكانته ويطالبوا بفدية من أجل إطلاق سراحه[40]“.
(5)
غير أن “دالميريا” (ومن وراءه “واسيني”) يريد أن يغيّر فكرة من أفكار جدّه “سرفانتس”، وتتعلق هذه الفكرة بكون “زريد” موريسكية مسلمة، وليست نصرانية كما أرادها جدّه أن تكون. وربما أراد “واسيني” أن يعطي قيمة أكبر للحب، فهو قيمة جديرة تجعل من “زريد” عاشقة تساعد من تحب على الهرب، لا مسيحية تفرّ بدينها من دار الإسلام. يقول “دالميريا”:
“لماذا كنت تصرّ دائماً أن “زريد” مسيحية أجبرت على أن ترتدّ لتصبح موريسكية وتظلّ داخلياً مسيحية نقية كالمعدن الصافي؟ يبدو أن الخوف وأحاسيسك الدينية الغامضة قد ضيعوك يا جدي. لم تر في خلوتك إلا الجزائر التي كنت تريد رؤيتها، وتركت “زريد” العاشقة تتسرب من بين يديك[41]“.
ها هنا يريد “دالميريا” أن يصحح نظرة “سرفانتس” ليس حول “زريد” فقط بل حول الجزائر، وحول حرية العقيدة أيضاً. ويستطيع قارئ “دون كيشوت” أن يلاحظ تواتر الفكرة ذاتها ليس في أثناء الحديث عن “زريد”، بل في كثير من السياقات التي تغص بها الرواية. فقبل أن يروي الأسير حكايته التي أشرنا إليها يُسأل عن مرافقته: أهي نصرانية أم مسلمة، فيجيب بما يرضي جمهور السامعين الذي لا تختلف نظرته عن نظرة الأسير تجاه الإسلام:
“فسألته دوروتيه: قل لي يا سيدي: هل هذه السيدة نصرانية أو مسلمة؟ إن ملبسها وصمتها يجعلاننا نخشى أن تكون ما لا نود أن تكونه.
فأجاب الأسير: إنها مسلمة زيّاً ومولداً، لكنها في داخل روحها نصرانية صميمة، وفيها رغبة شديدة في أن تصير كذلك[42]“.
وعندما تُسأل “زريد” (التي يسميها المترجم “ثريا”) عن اسمها تتخلى عنه بإصرار، لتختار اسماً آخر يقرّبها من الدين الجديد: “وسأل دون فرناندو الأسيرَ: ما اسمها فأجاب “للا ثريا”، لكنها وقد فهمت ما سألوا عنه صاحبها: لا “للا ثريا”، مارية، مارية[43]“.
وفي حكاية الأسير نفسه إشارة إلى “عذابات النصارى في بلاد المسلمين”؛ إذ يقول: “لم يحزننا شيء قدر أن نكون شهوداً على قساوات لم يُسمع بمثلها، كان سيّدي يسومها للنصارى، فلم يمض يوم دون أن يشنق أو يخوزق بعضهم، أو على الأقل يقطع آذانهم، وذلك كله لأسباب تافهة جداً[44]“.
ويمكن لنا أن نستعرض، خارج حكاية الأسير، كثيراً من مثل ذلك في المواقف الحكائية المختلفة، غير أننا سنشير إلى موقفين سريعين، أولهما عندما وجد السارد صبياً يعرض كتباً للبيع على تاجر أقمشة؛ إذ تناول إحدى هذه الكراسات: “فوجدتها مكتوبة بحروف عربية، ولما كنت لا أعرف قراءتها، وإن استطعت تمييز ما هي، ففكرت فيما إذا كنت أستطيع العثور على عربي متنصر أصبح من الأعاجم (الإسبان) يمكن أن يقرأها لي، ولم أجد مشقة في العثور على هذا الترجمان؛ لأني لو بحثت عن مترجم من لغة أقدس وأقدم لأمكنني العثور عليه أيضاً[45]“.
والثاني في إحدى مغامرات “دون كيشوت” الخيالية؛ حين يتوهم أنّ قطيعين من الضأن هما جيشان يتقاتلان، ويسرّب “سرفانتس” ميله (من خلال ميل “دون كيشوت” و”سانشو”) إلى المسيحية، وإلى تكفير المسلمين، حين يقرران انتصار جيش بنثابولين النصراني على جيش علي الفيّاش الكافر[46].
وبالطبع فإننا لا نود هنا أن تكون الدراسة مساجلة بين الأديان أو العقائد، بل نود أن نشير إلى أن الميل إلى فرض الدين أو المذهب بالقوة كان شائعاً في جميع العقائد والمذاهب، وليس تحويل من تبقى من المسلمين في إسبانيا بالقوة إلى مسيحيين إلا مثال على ذلك الميل.
(6)
ولأنّ العشق يعدّ سمة ملازمة للفارس، لا تكتمل فروسيته إلا بها، فقد بحث الجد، والحفيد عن عشقهما، وكما وجد الأسير عشقه في “زريد”، فقد وجده “دون كيشوت” في دلنثيا دل توبوسو، ووجده “دالميريا” في “مايا”/ ظلّ “زريد”.
لقد كانت المرأة شغلاً شاغلاً لـ “دون كيشوت”، وكان عشقه لها قراراً أكثر من كونه ميلاً عاطفياً، فلا فارس بلا معشوقة: “فلما نظّف سلاحه، وصنع من البصلة خوذة، وأعطى لبرذونه[47] اسماً، ولنفسه التأييد، اقتنع بأنه لم يعد ينقصه شيء إلا البحث عن سيدة ليعشقها[48]“؛ لذلك كان عليه، بجنونه العبقري أن يحول معشوقته من أي مركز اجتماعي، مهما كان وضيعاً، إلى مركز مرموق، تماماً كما حدث مع المرأتين اللتين أسهمتا في ترسيمه فارساً (وهما ابنة مرقّع ثياب، وابنة طحّان)؛ إذ حولهما من لاطولوسه ولامولينيرا إلى دونيا طولوسه ودونيا مولينيرا. أمّا العشيقة التي كانت جديرة بعشقه فهي الفاتنة دلثنيا دل توبوسو التي خاطب من أجلها الدون رودريغو دي نرفانث، في خياله طبعاً، في نهاية خطبة ألقاها أمام جاره الفلاح بدرو ألونسو، بعد أن كسر بغّالي أحد القوافل رمحه وأوسعه ضرباً: “اعلموا جنابكم يا سيدي الدون رودريغو دي نرفانث أن شريفة الجميلة هذه التي ذكرتها هي الآن دلثنيا دل توبوسو الحسناء التي من أجلها فعلت وأفعل وسأفعل أشهر أفعال الفروسية التي شاهدها الناس في الدنيا ويشهدونها وسيشهدونها[49]“.
وقد بقي حتى نهاية مغامراته يخاطبها بـ زهرة الجمال[50]، و”السيدة المبجّلة”، وينعت نفسه بالمخلص حتى الممات والفارس ذي الوجه الحزين[51]. حتى إن جواده روثيانته لم يخل من العشق، غير أن مغامراته أيضاً لقيت مصير مغامرات فارسه: “أحس روثينانته فجأة بالرغبة في مغازلة الأفراس السيدات (…) فاستقبلنه بالرفس والعض حتى مزقن أحزمة السرج وتركنه عارياً فوق العشب. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل كان ما هو أدهى؛ فإنّ البغالين وقد رأَوْا روثينانته يريد أن يهاجم أفراسهم أسرعوا بهراويهم وانهالوا عليه ضرباً حتى تركوه مرضوض العظام[52]“.
وفي المقابل يجد “دالميريا” في “مايا”، استناداً إلى الذاكرة الأدبية، حفيدةً لـ “زريد”؛ إذ تصبح، في معركة الظلال التي تخوضها الرواية ظلاً لها، وتقود كلٌّ منهما معركة الظلال نحو نهاية مفتوحة؛ فغياب “زريد” عن نظر “سرفانتس”/ أسير الحكاية وعن حياته الواقعية يمثل في واقع الأمر غياباً للظلال التي يبحث عنها “دالميريا”؛ لذلك راح يبحث عن ظلال أخرى تعيد لـ “زريد” الحياة من خلال شخصية “مايا” المترجمة التي كانت تدرك أنها جزء من لعبة الحضور والغياب، وأنها ليست سوى ظلّ يسعى “دالميريا” إلى حراسته:
– “أنت مدهشة. تذكرينني بشخصية نسائية عند “سرفانتس”..
– من؟ “زُريد”؟ “لالة مريم”؟ كما ترى لستُ جاهلة بجدك إلى هذا الحدّ[53]“.
لقد انتقلت “مايا” التي صادفها “دالميريا” في السجن منذ بداية ظهورها، بفعل الذاكرة الثقافية فقط، إلى “زريد”، ففي الرسالة الذي أرسلها إلى “حسيسن” عن طريق كباييرو، يكشف عن ذلك الرابط بين المرأتين منذ اللحظة الأولى:
“عندما نزعوا الغطاء من على عيني، أول شخص ملأ عينيّ امرأة بوجه مريح، شابة في مقتبل العمر، تتوسط شرطيين يرتديان الأزرق. تلقائياً ذكرتني بـ”زريد” الموريسيكية التي سحرت جدي من على سطيحة السجن[54]“.
حتّى إنه أطلق عليها اسم “زريد”، ففي الرسالة نفسها يقول: “البارحة عرفت من “مايا” السيدة النبيلة التي سميتها “زريد”، أنهم سيطلقون سراحي، استقامتها لا يمكن تصوّرها[55]“، حتى إنه في سياقات لاحقة صار يذكر ذلك الاسم بديلاً لـ “مايا” في أكثر من سياق، على نحو ما نجد في قوله: “زريد”، كما أسميتها، هي التي أعطت الأمر بالتوغل أكثر داخل النفق، لأول مرة وعلى العكس من السابق لم يعط أحد الامر بإغلاق عيني. تركوني تماماً حرّاً[56]“. وعلى الرغم من أنه يصف أحداثاً واقعية جرت معه؛ فإنه يستعين بالاسم لإضفاء ظلال سحرية خارج الواقع، من خلال تأكيده على الاسم الجديد الذي ارتضاه لـ “مايا”: “مشينا طويلاً. “زريد” تسبقنا بحركاتها المنضبطة، وخجلها الذي لم تستطع صرامتها أن تخبئه[57]“.
وإذ يخلط الحفيد “دالميريا” بين الفتاتين، فإنه يتحدث عن عشق صوفي يملأ قلبه بالضوء:
· “بعد خروج كباييرو عاد الصمت من جديد يملأ فراغات هذه الصالة الواسعة. حتى “زريد” (مايا) التي كانت تظهر من حين لآخر مثل الضوء الهارب غابت كلّية[58]“.
· “مايا.. أيتها الضوء المتسرّب بحلاوة عسلية، غيابك ترك فراغاً كبيراً، تمنّيت أن أقول لك.. “مايا”.. “زريد”.. لالة.. أينك أيتها السيدة العالية. أريد أن أفضي لك بما في القلب. أشعر بأنك الوحيدة القادرة على فهم هذا الجرح الفج الذي فُرض علي[59]“.
· “في حلمي المكسور رأيت “زريد” (مايا) كانت تلبس لباساً موريسكياً مثل الذي ترتديه “حنّا”. واسع ومزركش. كانت تبدو سعيدة في هندامها الذي كان يكشف عن معالم جسد فاتن[60]“.
ولا يحتاج المتلقي هنا إلى جهد كبير ليفهم من السياق الأخير أن “زريد” (مايا) ليست حزينة لكونها موريسيكية، بخلاف ما حاول “سرفانتس” أن يقول، وهي أيضاً، ليست حلماً أنتجه الخيال، بل هي ـ بخلاف ما يريد الحفيد نفسه ـ “زريد” ابنة الجزائر الحديثة وتفاصيلها اليومية:
“أرأيتَ يا صديقي؟ لستُ حتماً “زريد” التي تتشوق لإسقاطها عليّ، والتي كان جدّك قبلك يشتهيها لدرجة أنه خلق لها وجهاً آخر وديناً آخر. أنا “زريد” الحياة اليومية، البسيطة المعلقة على منقار عفريت[61]“.
وإذ تبلغه “مايا”/ “زريد” التي تعمل مترجمة في المديرية العامة للأمن الوطني آسفةً بضرورة مغادرة البلاد، فإنه ينام ليلتها بشكل سيئ؛ فقد أدرك أنه أضاع “زريد”/ التاريخ الذي لم يتمكن من الوصول إليه، و”زريد”/ الواقع التي لن يكون بمقدوره البقاء في بلادها:
“نمتُ بشكل سيّئ، حلمتُ بشكل أكثر سوءاً، لم أستطع لا التركيز ولا التفكير. حاولت أن أنسى وألا أفكّر إلا في وجه “مايا” الحزين، حارسة الظلال الضائعة في سراديب مدينة بلا روح، ولكنني لم أستطع[62]“.
ويجدر هنا بالقارئ أن ينتبه إلى أن حارسة الظلال هنا هي امتداد لحارسة الظلال/ “حنّا”: جدة “حسيسن” التي قابلها “دالميريا” في بداية الرواية، فأحب قصصها، لأنها “ليست مجرد قصص، ولكنها روح حية[63]“. لذلك كان “دالميريا” بالنسبة إلى “حنّا”، مثلما كانت هي بالنسبة إليه: ترى فيه ظلال أجدادها، ويرى في حكاياتها ظلال جدّه الذي جاء يبحث عن آثاره، فاكتشف اختفاء بعضها، ووجود بعضها في أماكن غير ملائمة، من مثل اللوحة الرخامية التي تخلد مرور “سرفانتس” من الجزائر؛ إذ وجدها في مزبلة وادي السمار التي تحولت إلى سوق لبيع الآثار:
· “خلال كل المسافة التي قطعناها لم يتحدث “دون كيشوت” عن شيء آخر إلا عن اللوحة الرخامية المخلدة لسرفانتس وعن المكان العجيب الذي سيقت إليه[64]“.
· “وكشف لنا [شفيق] عن اللوحة التذكارية بمناسبة تدشين مغارة “سرفانتس” كمعلم أثري للجالية الإسبانية (…) ركع “دون كيشوت” على ركبتيه باندهاش، وهو يفرك عينيه، لا يصدّق ما كان يراه[65]“.
(7)
لقد استعار “واسيني الأعرج” في “حارسة الظلال” قالب الشخصية الدونكيشوتية؛ ليس لينقل قالب الخيبة القائمة على لا واقعية الحرب التي تخاض ضد الشخصيات، بل عن واقعيتها، في ظل تخفّي صورة الأعداء في ألف لبوس ولبوس؛ وهذا ما يجعل حرب “دون كيشوت” الحفيد أكثر صعوبة:
“تخيّل إنساناً يخوض حرباً تراجيدية ضدّ الظلال. “دون كيشوت” واجه على الأقل طواحين هوائية موجودة[66]“.
لقد كان “حسيسن” مدركاً صعوبة معركته التي يخوضها إلى جانب صديقه “دالميريا”، ولكنه قرّر أن يخوضها منذ البداية: “كنتُ مدركاً للشطط الذي ينتظرني مع “دون كيشوت” وطبيعة مهمتي في ظروف أمنية أقل ما يقال عنها أنها تسير عكس التيار الذي كنت أسبح فيه[67]“.
وإذا كان “دالميريا” قد حمل خيباته وعاد إلى بلاده، ولو مطروداً، فإنه ترك خلفه “حسيسن” الذي كتب حكايته، وما زال مستعداً لمواجهة خيبات جديدة، يصارع فيها واقعية الواقع، بمثاليته التي تعيد إنتاج صورة “دون كيشوت” في نسخة عربية الملامح.
[1] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، دار المدى ـ دمشق، والمجمّع الثقافي ـ أبو ظبي، ط1، 1998.
[2] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط2، 2006.
[3] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج1/ ص34.
[4] المصدر نفسه، ج1/ ص39.
[5] نفسه، ج1/ ص35.
[6] نفسه، ج1/ ص189.
[7] نفسه، ج2/ ص70.
[8] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص25.
[9] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج1/ ص210.
[10] إميل حبيبي: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، دار ابن خلدون، بيروت، 1974.
[11] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص214.
[12] المصدر نفسه، ص21.
[13] نفسه، ص45.
[14] نفسه، ص28.
[15] نفسه، ص25.
[16] نفسه، 158.
[17] نفسه، ص25.
[18] نفسه، ص ص117ـ118.
[19]نفسه، ص55.
[20] نفسه، ص105.
[21] نفسه، ص141.
[22] نفسه، ص45.
[23] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج2/ ص52.
[24] المصدر نفسه، ج1/ ص84.
[25] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص142.
[26] المصدر نفسه، ص81.
[27] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج2/ ص ص51ـ52.
[28] المصدر نفسه، ج2/ ص63.
[29] نفسه، ج2/64.
[30] نفسه، ج2/ ص70.
[31] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص150.
[32] المصدر نفسه، ص152.
[33] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج2/ ص71.
[34] يشير المترجم هنا إلى أن الاسم الذي أورده سرفانتس هو (Zornida) وقد عرّبه ثريّا، ونظن أن “زريد” الذي اختاره واسيني الأعرج أكثر دقة وتعبيراً، وهو من روح البيئة الجزائرية.
[35] المصدر نفسه، ج2/ ص72.
[36] نفسه، ج2/ ص73.
[37] نفسه، ج2/ ص ص75ـ91.
[38] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص159.
[39] استفدنا هنا من مقدمة المترجم الوافية:
ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سبق، ج1/ ص ص5ـ8.
[40] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص79.
[41] المصدر نفسه، ص ص159ـ160.
[42] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج2/ ص52.
[43] المصدر نفسه، ج2/ ص52.
[44] نفسه، ج2/ ص70.
[45] نفسه، ج1/ ص94.
[46] نفسه، ج1/ ص ص160ـ162.
[47][47] البرذون: الدابة (لسان العرب ـ برذن)
[48] نفسه، ج1/ ص37.
[49] نفسه، ج1/ ص ص63ـ64.
[50] نفسه، ج1/ ص91.
[51] نفسه، ج1/ ص243.
[52] نفسه، ج1/ ص135.
[53] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص184.
[54] المصدر نفسه، ص172.
[55] نفسه، ص142.
[56] نفسه، ص ص172ـ173.
[57] نفسه، ص173.
[58] نفسه، ص181.
[59] نفسه، ص182.
[60] نفسه، ص181.
[61] نفسه، ص192.
[62] نفسه ، ص194.
[63] نفسه، ص51.
[64] نفسه، ص57.
[65] نفسه، ص65.
[66] نفسه، ص ص192ـ193.
[67] نفسه، ص32.
لا تقوم فكرة الدراسات المقارنة، كما يتوهم بعض القراء، على سوء النوايا؛ فلا تفترض هذه الدراسات بالضرورة سرقة أدبية يندى لها جبين الإبداع؛ ذلك أنّ تلاقح الثقافات ظاهرة إيجابية، والتفاعل بين أدبنا والأدب العالمي مؤشر على حيويتنا وقدرتنا على الاندماج، ويكون ذلك بشرطين؛ أولهما: ألا نبالغ في محاكاة الآخر إلى درجة تضع إنتاجنا في حيّز “التلاصّ” لا “التناص” والمثاقفة، والثاني: أن نحاور النص الآخر، فكرياً وفنيّاً، وأن نبني عليه، لا أن نستسلم لسطوته. والعنوان الذي تحيل إليه هذه الدراسة يهدف ببساطة إلى دراسة التقاطعات الموضوعية والفنية والدلالية بين روايتي “دون كيشوت[1]” لـ “سرفانتس” و”حارسة الظلال[2]” لـ “واسيني الأعرج” الذي أعطى روايته عنواناً فرعياً هو “دون كيشوت في الجزائر”.
(2)
تحكي “حارسة الظلال” حكاية وصول الصحفي “فاسكيس دي سرفانتس دالميريا” إلى الجزائر، وهو الملقّب بـ “دون كيشوت” بسبب انحداره من عائلة الكاتب الإسباني الشهير “سرفانتس”؛ ليرى آثار جدّه، ويكتب سيرة عنه. ويستعين “دالميريا” لدى وصوله بالمستشار الثقافي في وزارة الثقافة “حسن” (الذي سمته جدّته “حسيسن”)، ويجد نفسه بعد زيارة مغارة “سرفانتس” وأماكن أخرى، قيد الاعتقال بتهمة الجاسوسية؛ ليُطرد بعدها خارج البلاد؛ فيما يتم طرد “حسيسن” من وزارة الثقافة؛ ليجد نفسه ـ بوصفه مثقفاً تقدمياًـ في مواجهة المتطرفين الذين يقطعون له ذَكَرَهُ ولسانه؛ فيتخذ الكتابة وسيلة لحكاية ما جرى معه.
في هذه الحكاية الكبرى تفاصيل كثيرة وحكايات متداخلة، يرتفع فيها صوتان متمردان عاليان: صوت ينتقد مجتمع السلطة وقوى السلب والنهب والجهاز الأمني (الجهاز الوحيد الذي يعمل في الدولة دون كلل)، وصوت ينتقد بجرأةٍ أولئك الذين جعلوا من الأيديولوجية المتطرفة نظرية للقتل، فراحوا يقتلون المذنب والبريء، وينصبون أنفسهم قضاة يحكمون بأمر الله على الأرض. وبين هؤلاء وهؤلاء تقف حارسة الظلال/ “حنّا” جدة “حسيسن”، ويقف “واسيني الأعرج”، ويقف “حسيسن” ليحفظوا صورة الوطن، وليحرسوا ظلاله النقية. وتتقاطع هذه الرواية (في فصلها الخامس بشكل خاص) مع رواية “دون كيشوت”؛ حيث يحكي ساردها عن رحلة “سرفانتس” إلى الجزائر وأهوال سفره، وما جرى له من مغامرات في المكان المسمّى زفرة “سرفانتس” الأخيرة.
أمّا رواية “دون كيشوت”، وهو نبيل من إقليم المانشا، فهي تحكي بأسلوب ساخر، عن رجل قضى شطراً من حياته، وهو يقرأ كتب الفروسية؛ فقد “كان يقضي الأوقات التي لا عمل فيها، أعني طول العام تقريباً، في انكباب على قراءة كتب الفروسية، بلذة ونهم يبلغان حدّاً، يجعله يكاد ينسى الخروج للصيد وإدارة أمواله[3]“. ثمّ يقرر هذا الرجل متأثراً بفروسيتهم أن يكون واحداً منهم؛ فتبدأ الحكاية في خروجه من بيته بحثاً عن المغامرات والمعارك التي خاضها لاحقاً ضد طواحين الهواء وخوابي النبيذ، وجيوش الخرفان، وتنتهي بعد عودته إلى البيت بعد تلك المغامرات التي تبعث على السخرية والمرارة في آن معاً، على الرغم من نبل الفكرة التي تقوم على رغبة فارس جوّال في حماية المستضعفين، والانتقام من الظالمين: “فكم كان يرجو أن ينتقم من مظالم، وأن يصلح من أخطاء، وأن يعالج من إهانات، وأن يصحح من إساءات، وأن يسدد من ديون[4]“، “وكان على استعداد للتنازل عن جاريته، بل وعن بنت أخيه في سبيل أن يركل الخائن جلالون بضع ركلات[5]“.
ولأنّ “سرفانتس” كان يريد في هذه الرواية السخرية من روايات الفروسية السائدة في عصره، فقد جعل من “دون كيشوت” صورة كاريكاتورية تقابل صورة الفارس الذي لا يقهر، بما فيها من مبالغات؛ لذلك تجلّى سلوكه الساخر في كل أقواله وتصرفاته، بدءاً من خوذته (صحن الحلاقة) التي سلبها من فارس مغوار(حلاق متجول) هرب منه[6]، وليس انتهاء باتخاذ عشيقة تليق بفروسيته، وصديق يحمل سلاحه ويرافقه، ويصدّق جنونه في بعض الأحيان.
ولم يسع “واسيني الأعرج” في روايته إلى إعادة إنتاج سيرة “سرفانتس” من ولادته إلى وفاته، ولم يهتم في روايته بشخصية هذا الكاتب قبل وصوله إلى الجزائر، ولم يكن مطلوباً منه ذلك؛ بل اهتم فقط بحكاية أسره ووصوله الجزائر حتى خروجه منها، وهي الحكاية التي قدّمها “سرفانتس” في ثلاثة فصول من القسم الأول من رواية “دون كيشوت” بين الفصل التاسع والثلاثين والفصل الحادي والأربعين.
ولا نريد هنا أن نستعرض تفاصيل سجنه، ومحاولات هروبه، بل سنشير إلى التقاطعات الحاصلة بين “سرفانتس” و”واسيني” من تلك المرحلة، مشيرين إلى أن تجربة الأسر تروى، لسبب فني، على لسان أسير آخر. ونحن لا نعتقد بصحة ما ذهب إليه عبد الرحمن بدوي وآخرون من أن السارد ها هنا يتحدث عن تجربة زميل “سرفانتس” في الأسر، على الرغم من أن السرد الروائي ذاته صرّح بذلك، وأشار إلى شجاعة أسير آخر اسمه (سابدرا[7]) الذي هو الجزء الأخير من اسم “ميغيل دي سرفانيس سابدرا”، وكان من الصعب فنياً أن تنسب هذه المغامرة إلى “دون كيشوت” نفسه؛ وذلك يعود في تقديرنا إلى أن نسبة هذا الجزء إلى “دون كيشوت” (بما فيه من واقعية وتتابع ومنطقية لا تتناسب مع شخصية ذلك المغامر غير المتوازن) خليق بأن يهدم جوهر الشخصية.
لقد بدأ “واسيني” محاكاته لرواية “دون كيشوت” شكلياً منذ العناوين التي وضعها تحت أرقام الفصول، وهي التي تدلل على الأحداث التي جرت فيها، كما فعل “سرفانتس” تماماً، ومنها:
· مغامرة “حسيسن” التي احتفظ ببعض تفاصيلها حتى لا يثير غضب الآخرين، وحتى لا يتعرض لعملية اختطاف مدبرة.
· انشداد “فاسكيس دي سرفانتس دالميريا” لقصص “حنّا” عاشقة الأشواق الأندلسية الضائعة.
· وقوع “دالميريا” في الأسر على يد الرجل الغامض المتنكر وراء نظارتين سوداوين.
· “حسيسن” يكتشف جنساً بشرياً من خيش وتبن، يشعلون النار ويخافون من حرائقها.
وتقابل هذه العناوين شكلياً العناوين التي وضعها “سرفانتس”، في دلالتها على المحتوى وأهم الأحداث، ومنها:
· في المغامرة التي جرت بين “دون كيشوت” ورعاة الماعز.
· في المغامرة الرائعة والغنيمة الوافرة التي ظفر فيها بخوذة ممبرينو، وفي أمور أخرى جرت لفارسنا الذي لا يقهر.
· في المعركة الحامية الرهيبة التي أثارها “دون كيشوت” ضد خوابي النبيذ، وتتمة حكاية المستطلع الفاسد الرأي.
· في المغامرة الغريبة التي خاضها الفارس “دون كيشوت” مع فارس المرايا الهمام.
وعلى الرغم من هذا التقابل الشكلي، فقد بدت عناوين “سرفانتس” أكثر إثارة، وأكثر مدعاة للسخرية والضحك؛ وربّما كان ابتعاد ثيمة الإضحاك عن رواية “واسيني” هو السبب الذي أبعد أسلوبه قليلاً عن أسلوب “سرفانتس”، وإن كان ينقل في بعض الأحيان عبارات قالها “دون كيشوت” الجد ليرسّخ الإطار الزمني والمكاني الذي يسعى إلى ترسيخه، وها هو ذا “دون كيشوت” يقول لسانشو/ حامل سلاحه في مغامراته المجنونة: “لقد سمعت الناس يقولون دائماً، أنّ من يكرم اللئيم كمن ينثر ماءً في البحر[8]“، وهي عبارة منقولة عن الأصل، بفارق اختلاف الترجمة، ليس إلا: “الإحسان إلى الأشرار كرمي الماء في البحار[9]“.
ولعلّنا نشير هنا إلى رواية “إميل حبيبي” “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل[10]” التي ربما كانت أكثر الروايات العربية اقتراباً من أسلوب “سرفانتس”، ليس من خلال عناوين فصولها فقط، بل من خلال أسلوبها السردي أيضاً. ولأننا لسنا في صدد التوسع بشأن رواية “حبيبي”، يمكننا أن نكتفي بالإشارة إلى بعض عناوين فصولها:
· سعيد يعلن أن حياته في “إسرائيل” كانت فضلة حمار.
· كيف لم يعد سعيد أبو النحس تيساً؟
· هل كان سعيد هو رأس الخيش؟
· كيف تحوّل سعيد إلى هرة تموء؟
· مسك الختام: الإمساك بالخازوق؟
(3)
تقوم البنية الأساسية لحكاية “حارسة الظلال” على ثلاث شخصيات أساسية؛ تتدرّج في أهميتها البنائية من “حسيسن” السارد الأساسي إلى “دالميريا” الذي يتولى السرد في الفصل الخامس عبر مذكراته، إلى “حنّا”، غير أننا سنمر مروراً سريعاً على “حسيسن” وجدّته “حنّا”، لصالح “دالميريا” الذي يلقبه أصدقاؤه بـ “دون كيشوت”.
نبدأ من “حسيسن” الذي يبدي هلعاً طبيعياً تجاه سرد الحكاية، في ظل وجود شهريارين لا يرحمان، فقد باح “حسيسن” بكلّ أسراره، وهو يعلن خوفه، غير نادم أنه وقع بين مطرقة السلطة وسندان التطرّف. لقد كان “حسيسن” هدفاً مباحاً ومستباحاً، لأنه يساعد “دالميريا” و”حنا” على حراسة الظلال، من خلال مساعدتهما؛ فهو يساعد “دالميريا”، ويضيء له طريق المفرغة وطريق التمثال؛ ليُسْهِما معاً، كل في حراسة ظلال بلاده وأجداده. وهو لا يتوانى عن مساعدة “حنّا” في تخيّل فضاء حكاياتها، كما تشتهي ذاكرتها. ولعلّ “حسيسن” كان يعرف النهاية التي تنتظره، ولعله أيضاً أقبل على هذه النهاية بفرح الساموراي، إذ دفع ثمن المغامرة طرداً من عمله، وفقداً لعضوين زائدين من جسده هما لسانُهُ وذكرُهُ) حتى يصير مواطناً صالحاً: “عندما عدتُ إلى وعيي كان العضوان الزائدان قد بُترا نهائياً لأصير مواطناً صالحاً[11]“.
وتستمدّ “حنّا” جدّة “حسيسن” وعاشقة الظلال الأندلسية الضائعة ظلال شخصيتها من التراث الشهرزادي، فهي لا تملّ من تكرار مغامرات الجد الموريسكي الذي ترك جنته الأندلسية، وعاش إحساس الفقد وضياع البلاد، ومات كما يموت الأبطال؛ إذ عضّ “على يده طويلاً، ولم يبرأ من جرحه حتى الموت[12]“. من هنا لجأت “حنّا” إلى سرد الحكايات التي تتعلق بذلك الجد، وعدّلتها، بما تمليه عليها المواقف، وشهوة القصّ، مؤكدة في كلّ مرة، أن ما ترويه عن “أسد الغيم والهجر، الذي لم يكن يحبّ شيئاً مثل حبّه لزهرة الكاسي” ص21. هو حقيقة لا يدخلها الزيف، لذلك احتفظت بعاداته وحكاياته وذكرياته، ورفضت أن تصدّق أن معالمَ كثيرة من ذلك التاريخ قد اندثرت، حتى إنّها تسأل “حسيسن” عن ظلال جدّها في شخصية ضيفه “دالميريا” الذي جاء للجزائر في زيارة حملت له كثيراً من المتاعب: “هل له أوشام على الذراع الأيسر؟[13]“.
أما “فاسكيس دي سرفانتس دالميريا” (“دون كيشوت” الحفيد) فيمكن اختصار ظهوره في الحدث الروائي بثلاث صوى رئيسية هي: وصوله إلى الجزائر ولقائه بـ “حسيسن”، وبحثه مع “حسيسن” عن ظلال جده “سرفانتس”، واعتقاله ثم إبعاده خارج الجزائر.
لقد كان ذنب “دالميريا” الأكبر أنّ والده “جعل من المحافظة على ذكرى هذا الشاعر التائه رهانه الحياتي”. ص28، وكان يرى فيه المنقذ لهذا الرهان بالإصرار المستميت على تحويله “بالقوة إلى أكبر كاتب شعبي في القرن[14]“؛ لذلك صرّح لـ “حسيسن” منذ اللقاء الأول عن هدفه قائلاً: “أنحدرُ من عائلة الكاتب الكبير ميغيل دي “سرفانتس”، وأنا هنا في مهمة إنجاز مشروع حياتي مهمّ[15]“.
وإمعاناً من “دالميريا” في الإيحاء بتداخل الظلال، فإنه يشير في مذكراته خلال حديثه عن جده “سرفانتس”: “هذا الجد المجنون الذي لم يفرّق بينه وبين بطله [دون كيشوت][16]“.. وتمكن ملاحظة أنّ هذا الجنون/ أو لنقل هذا التداخل انتقل إلى “حسيسن” الذي لم يميز في كثير من السياقات السردية بين “دالميريا” و”دون كيشوت”، بل راح يبحث في صورته عن ذلك البطل الأسطوري؛ إذ يقول “حسيسن”: “لم أكن قادراً على تصوّر الشخص الذي كان أمامي غير “دون كيشوت دي لامانشا”، في حالة يرثى لها، وهو يئن من جراحات حرب خاضها بدون هوادة ضدّ خيبات الدنيا[17]“.
كما أنه يدافع عن دونكيشوتية “دالميريا” في حوار بينه وبين أحد موظفي المديرية العامة للأمن الوطني:
“ـ هذا الرجل حتى اسمه ليس أمراً بديهياً. لماذا تصر على تسميته “دون كيشوت” بينما اسمه الحقيقي “فاسكيس دي سرفانتس دالميريا”؟
ـ كما لا يخفى عليكم يا سيدي أن “دون كيشوت” هو اسم رواية كتبها جدّه. وهذا يفسّر لماذا يناديه أصدقاؤه بهذا الاسم. هو مهبول شوية. كل حلمه أن يعيش الحالات العميقة التي عاشها جده[18]“.
ويبلغ التداخل بين ظلال الرجلين (الجد والحفيد) درجة يطلق فيها “حسيسن” اسم “دون كيشوت” ولقبه على “دالميريا”، كما يمكن أن نلمس في السياقات التالية:
· “استيقظ “دون كيشوت” مبكراً، وجدته منحنياً عى شرفة الطابق الخامس القديمة، يستمتع بالأدخنة الكثيفة التي بدأت تجتاح شيئاً فشيئاً حي باب الزوار…[19]“.
· “كانت هذه أول ليلة يقضيها “دون كيشوت” في الأسر[20]“.
· “في الرسالة كان الفارس ذو الوجه الحزين يتحدّث عن السجن كما يتحدث عن جولة فلسفية وعاطفية[21]“.
وها هو ذا “دالميريا” يعود، مطروداً من الجزائر، إلى بلده؛ ليكتشف ربما أنه كان يحارب مثل جدّه الأسطوري، طواحين الهواء في معركة اللاجدوى. وإذ نتحدث عن هذا التداخل بين “دالميريا” و”دون كيشوت”، فإننا نؤكد أنه تداخل مترع بالقصدية، لأنّ “واسيني الأعرج” يريد أن يقيم تداخلات أخرى موازية، من خلال تعرض كل من “دالميريا” و”حنّا” و”حسيسن” ـ بأشكال مختلفة ـ للشرب من كأس القمع ذاته، وكأنه يريد أن يقول: إن الحفاظ على التراث الثقافي الإسباني في الجزائر، هو الحفاظ على الجزائر ذاتها. لذلك فإن التراث الإنساني، وفقاً لهذا التداخل، يبدو كلاً لا يتجزّأ.
لقد أفاد “دالميريا” من “حسيسن” و”حنّا” في تظهير صورة الذاكرة البعيدة، ولعلنا نذكر الوصف الجسدي غير الواقعي الذي قدّمه “حسيسن” لجدته العمياء “حنّا” حين طلبت منه أن يصف ضيفه، دون أن يتوانى عن مساعدتها في تخيّل فضاء حكاياتها، إذ يصف لها “دالميريا” الذي تبحث فيه عن أجدادها الأندلسيين على النحو التالي: “آه يا “حنّا” لو كنت تشوفيه! من أين أبدأ؟ بنية قوية تحاذي المترين تقريباً ومئة كيلو من العضلات. هيئته مثل هيئة فارس خاض كل حروب جبال البشرات بالأندلس وخرج منتصراً. وجه مشع وعينان مليئتان بالنور والحب، مقرونتان بحاجبين مثل الهلال. قبضة قوية وخفيفة مثل الفولاذ. تنسدل من رأسه ضفيرة طويلة تختلط في النهاية بسبابات لباسه التي تملأ بدلته الأندلسية المذهبة بالحدائق والأنوار وأشجار الجنة. شامة تتوسط خدّه الأيسر بينما الخدّ الأيمن لم يشف بعد من جرح غائر أصيب به، بكل تأكيد، في حرب خاضها لوحده ضد أعداء مدينته[22]“.
ولم يكن هذا الوصف يداعب مخيلة “حنّا” فقط، بل يداعب أيضاً مخيلة “دالميريا”؛ لأنه يتوافق إلى حد بعيد مع “سرفانتس”/ أو مع السارد الأسير الذي روى سيرة أسره وهربه في رواية “دون كيشوت”: “وكان الرجل متين البنية رائع القوام، يناهز الأربعين من عمره، وبشرته برونزية، وشواربه طويلة، ولحيته مرتبة[23]“.
إن الوصفين الجسديين السابقين اللذين يحيلان على الفروسية في مظهرها الخارجي، ليسا شكل التعالق الوحيد بين “دالميريا” و”دون كيشوت”؛ إذ ثمّ تقاطعات نفسية بين الشخصيتين؛ فقد أخذ “دالميريا” من “دون كيشوت” الشجاعة والمثالية والحرية؛ ليجابه الواقعية والنفعية والرجعية في معركة خاسرة، مندفعاً في مواجهة ثقافة السلطة بسلطة الثقافة؛ ليكتشف أن قلمه يشبه تماماً رمح “دون كيشوت”، وأن معاركه ضدها تشبه معارك خاضها ضدّ طواحين الهواء الفارس ذو الوجه الحزين الذي “اندفع مغطى بترسه، ومشرعاً رمحه يركض بأقصى ما تستطيعه روثينانته في وجه أول طاحونة صادفته، لكن في اللّحظة التي خرق فيها الجناح بضربة قاصمة من رمحه دفعته الريح بعنف حطّم الرمح وساقت معه الفرس والفارس فراح يتدحرج على التراب[24]“.
وإذا كان “دون كيشوت” قد وجد نفسه متدحرجاً على التراب؛ فإن “دالميريا” وجد نفسه مطروداً خارج ساحة النزال؛ ليحصد خيبة مضاعفة تضاف إلى مجموعة حكايات الخيبة التي يجسدها الحاضر الروائي، وعلى رأسها خيبة “حسيسن” الذي أخفق في العثور على “دالميريا”، ليجد نفسه في مواجهة بلادة ساذجة تتحكم بالمصائر.
(4)
قضى “دالميريا” في السجن أياماً قليلة لا تقارن بالمدة التي قضاها “سرفانتس”؛ فهو يقول في رسالته إلى “حسيسن”: “خمسة أيام لا تساوي الشيء الكثير أمام الخمس سنوات التي قضاها جدي[25]“، ولكنه عانى فيها كثيراً، ليس فقط بسبب سجنه واتهامه بالجاسوسية، بل أيضاً بسبب محو معالم مهمة من ذاكرة مدينة الجزائر التي خسرت الشيء الكثير. يقول “دالميريا”: “المدينة هي الملامح التي تكتسبها عبر رحلتها التاريخية. خسارة كبيرة لا تعوض؛ لأن السنوات الخمس التي عاشها “سرفانتس” هنا صارت أبداً ملكاً للمدينة، ومحوها معناه محو جزء من ذاكرتها[26]“.
إن حكاية أسر “دالميريا” هي حكاية جزئية تدور في الإطار العام للرواية، أما حكاية أسر جده، فقد وردت في صيغتين، مرة على لسان “سرفانتس” (أو سارده الأسير)، ومرة على لسان “واسيني” (أو سارده السجين).
يسرد “سرفانتس” قصة أسره، في روايته، على لسان سارد خارجي، فيما يكون “دون كيشوت” مستمعاً بعد أن خاض مغامرة قارع فيها خابيتين من النبيذ؛ إذ يدخل عليه وعلى أصحابه “مسافر يدل ملبسه على أنه نصراني جاء حديثاً من بلاد المسلمين (…) وكانت معه امرأة تركب حماراً، وتلبس زيّاً مغربياً، وعليها خمار يغطي كلّ وجهها، وعلى رأسها طاقية من الديباج المذهب، وتلبس ملفّة تغطيها من الرأس حتى القدمين[27]“.
وعلى مدى ثلاثة فصول يروي لهم السارد العائد من الأسر القصة التي يرويها “دالميريا” مرة أخرى في “حارسة الظلال”، مع تعديلات دالة، نشير إليها لاحقاً، فقد تحدّث السارد في رواية “دون كيشوت” عن أسره في معركة “ليبانت” التي أوقفت تقدّم الأسطول العثماني، بما يمنح “سرفانتس” هيئة الفارس الشجاع الذي يدافع عن استسلامه للأسر:
· “ومن بين كل أولئك المحظوظين الذين يعدّ منهم أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمناً لتعلقهم بالدين، كنت أنا وحدي الشقي؛ إذ بدلاً من أن أتلقى إكليلاً بحرياً كما كانت الحال في زمان الرومان، وجدت نفسي في تلك الليلة التي تلت ذلك اليوم الرائع، مقيّداً بالسلاسل[28]“.
· “قمت بواجبي، ووثبت في السفينة المعادية، ولكن في اللحظة نفسها ابتعدت هذه السفينة عن تلك التي هاجمتها، بحيث لم يستطع جنودي اللحاق بي، فأصبحت وحدي في وسط أعدائي، واضطررت للتسليم أمام القوة العددية، وأنا مثخن بالجراح[29]“.
وقد تم إثر ذلك أسره ونقله للجزائر، لينتظر افتداءه بالمال، بعد محاولات مخفقة للهرب: “وهكذا قضيت حياتي في السجن بين الفرسان وعلية الناس المنتظَر فداؤهم بالمال[30]“. أما حكاية هربه من الجزائر فهي حكاية تليق بالفرسان؛ إذ تدلّ على مدى قدرة الحب والعقيدة الصحيحة (حسب رواية “سرفانتس” التي يحدّ “واسيني” من غلوائها) على تحقيق المعجزات، ويمكن أن نجد أثر تلك المعركة في “حارسة الظلال”، عندما يحاول الحفيد أن يدافع عن فروسية الجد في السياقين التاليين:
· “بدأت ألمس شيئاً فشيئاً وجوه ركاب لو صولاي في ذلك اليوم الخريفي الحزين 26 سبتمبر 1575. تساءلت في أعماقي بحنين: كم كان عددهم، وكيف واجهوا هجوم القراصنة المباغت؟[31]“.
· “في لحظة من اللحظات رأيت جدي “سرفانتس” وهو يحاول بما تبقى من شجاعة أن يدافع عن وجوده، لكن يده المهشمة في معركة ليبانت lepante لم تسعفه كثيراً[32]“.
تبدأ حكاية الهرب، كما يرويها الأسير، من العصا التي امتدّت من إحدى النوافذ الخلفية المطلة على السجن، والتي لم تترك إلا حين اقترب منها الأسير، بعد أن أخفق ثلاثة من زملائه: “وحاولت بدوري أن أجرب حظي، ولم أكد أقترب من العصا حتى تركوها، وسقطت عند قدمي في السجن، فأسرعت لحل قطعة القماش فوجدت فيها عشرة جنيهات[33]“.
وبعد تكرار الأمر، ووصول نقود أكثر، وصلت رسالة ممن وراء النافذة/ “زريد” (أو “ثريا” كما يسميها المترجم[34])، وهي فتاة موريسكية، علَّمتها جارية لأبيها الحاج مراد الصلاة المسيحية، ثم ماتت هذه الجاريةُ وزارت الفتاةَ في أحلامها مرتين: “وقالت لي اذهبي إلى بلاد النصارى. لتري “للا مريم” التي تحبني كثيراً[35]“. كما تعرض “زريد”/كاتبة الرسالة الزواجَ على الأسير، مغريةً إياه بالمال والجمال، بعد أن أغرته بنقاء العقيدة، فتقول: “إني شابة رائعة الجمال، وأستطيع أن آخذ معي كثيراً من المال، فانظر هل تستطيع أن تأخذني إلى هناك، وستكون أنت زوجاً[36]“.
ويرد الأسير برسالة، يعدها فيها بوضع خطة للخروج من الجزائر، وهي معهم، ويوافق على الزواج منها حين يصبحان في مكان أمين، ويستمر بعد ذلك تدفق المال، ويتم الاتفاق مع نصراني لبناء سفينة، واستئجار اثني عشر بحاراً أشداء، وتُنفَّذُ خطة الهرب التي اعترضتها صعوبات جمة؛ إذ يستيقظ والد “زريد”/ الحاج مراد، فيضطرون لأسره معهم إلى حين[37].
ويتفق سارد “واسيني”/ “دالميريا” في عدد من تفاصيل الحكاية التي أخذها أصلاً عن “دون كيشوت” مع حكاية الأسير، فنقرأ عنده، على سبيل التمثيل، السياق التالي: “عندما صعدتَ إلى سطيحة السجن مثلما كان يفعل أغلب السجناء الذين ينتظرون الفدية ليطلق سراحهم، كنتَ أول من اكتشف هذه المرأة (…) أول ما لمحت زريد وجهك حدث بينكما الذي كنت تبحث عنه. اخترقتكما الدهشة والذهول وغموض ما لم تفهمه أبداً. العصا الذهبية التي تركتها من النافذة كانت علامة على تعلقها بك[38]“.
ونذكر هنا أنّ كثيراً من هذه التفاصيل تتفق مع حياة “سرفانتس” نفسه إذ إنه اشترك في معركة ليبانت البحرية بين الأتراك من جهة، والبنادقة والإسبان وبعض الأوروبيين من جهة أخرى. وفي هذه المعركة أصيبت يد “سرفانتس” اليسرى، وظلّ يفخر بهذه الإصابة طوال حياته، كما اشترك في حملات بحرية مختلفة حتى عام 1575، وفي طريق عودته إلى إسبانيا أسرته السفن التركية، واقتيد أسيراً إلى الجزائر، وكاد يفقد حياته في أثناء محاولات هروبه، ولم يستطع الفكاك من الأسر إلا بعد خمس سنوات عام 1580[39]، وهذا سياق من رواية “حارسة الظلال”، يوضح الظلال التاريخية لـ “سرفانتس”، ويتحدث فيه “حسيسن” مع “دالميريا”/ “دون كيشوت” الحفيد عندما ذهبا معاً إلى الأميرالية؛ حيث وضع جدّه قدميه أول مرّة على أرض الجزائر:
“تعرف يا “دون كيشوت”، جدك عندما وصل إلى هذا المكان كان متعباً. ولهذا عند النزول، كما يقول بعض الوراقين، أُخلط بالسراق الذين كانوا يملؤون هذا الميناء الصغير، وبالمواشي، قبل أن يدرك القراصنة مكانته ويطالبوا بفدية من أجل إطلاق سراحه[40]“.
(5)
غير أن “دالميريا” (ومن وراءه “واسيني”) يريد أن يغيّر فكرة من أفكار جدّه “سرفانتس”، وتتعلق هذه الفكرة بكون “زريد” موريسكية مسلمة، وليست نصرانية كما أرادها جدّه أن تكون. وربما أراد “واسيني” أن يعطي قيمة أكبر للحب، فهو قيمة جديرة تجعل من “زريد” عاشقة تساعد من تحب على الهرب، لا مسيحية تفرّ بدينها من دار الإسلام. يقول “دالميريا”:
“لماذا كنت تصرّ دائماً أن “زريد” مسيحية أجبرت على أن ترتدّ لتصبح موريسكية وتظلّ داخلياً مسيحية نقية كالمعدن الصافي؟ يبدو أن الخوف وأحاسيسك الدينية الغامضة قد ضيعوك يا جدي. لم تر في خلوتك إلا الجزائر التي كنت تريد رؤيتها، وتركت “زريد” العاشقة تتسرب من بين يديك[41]“.
ها هنا يريد “دالميريا” أن يصحح نظرة “سرفانتس” ليس حول “زريد” فقط بل حول الجزائر، وحول حرية العقيدة أيضاً. ويستطيع قارئ “دون كيشوت” أن يلاحظ تواتر الفكرة ذاتها ليس في أثناء الحديث عن “زريد”، بل في كثير من السياقات التي تغص بها الرواية. فقبل أن يروي الأسير حكايته التي أشرنا إليها يُسأل عن مرافقته: أهي نصرانية أم مسلمة، فيجيب بما يرضي جمهور السامعين الذي لا تختلف نظرته عن نظرة الأسير تجاه الإسلام:
“فسألته دوروتيه: قل لي يا سيدي: هل هذه السيدة نصرانية أو مسلمة؟ إن ملبسها وصمتها يجعلاننا نخشى أن تكون ما لا نود أن تكونه.
فأجاب الأسير: إنها مسلمة زيّاً ومولداً، لكنها في داخل روحها نصرانية صميمة، وفيها رغبة شديدة في أن تصير كذلك[42]“.
وعندما تُسأل “زريد” (التي يسميها المترجم “ثريا”) عن اسمها تتخلى عنه بإصرار، لتختار اسماً آخر يقرّبها من الدين الجديد: “وسأل دون فرناندو الأسيرَ: ما اسمها فأجاب “للا ثريا”، لكنها وقد فهمت ما سألوا عنه صاحبها: لا “للا ثريا”، مارية، مارية[43]“.
وفي حكاية الأسير نفسه إشارة إلى “عذابات النصارى في بلاد المسلمين”؛ إذ يقول: “لم يحزننا شيء قدر أن نكون شهوداً على قساوات لم يُسمع بمثلها، كان سيّدي يسومها للنصارى، فلم يمض يوم دون أن يشنق أو يخوزق بعضهم، أو على الأقل يقطع آذانهم، وذلك كله لأسباب تافهة جداً[44]“.
ويمكن لنا أن نستعرض، خارج حكاية الأسير، كثيراً من مثل ذلك في المواقف الحكائية المختلفة، غير أننا سنشير إلى موقفين سريعين، أولهما عندما وجد السارد صبياً يعرض كتباً للبيع على تاجر أقمشة؛ إذ تناول إحدى هذه الكراسات: “فوجدتها مكتوبة بحروف عربية، ولما كنت لا أعرف قراءتها، وإن استطعت تمييز ما هي، ففكرت فيما إذا كنت أستطيع العثور على عربي متنصر أصبح من الأعاجم (الإسبان) يمكن أن يقرأها لي، ولم أجد مشقة في العثور على هذا الترجمان؛ لأني لو بحثت عن مترجم من لغة أقدس وأقدم لأمكنني العثور عليه أيضاً[45]“.
والثاني في إحدى مغامرات “دون كيشوت” الخيالية؛ حين يتوهم أنّ قطيعين من الضأن هما جيشان يتقاتلان، ويسرّب “سرفانتس” ميله (من خلال ميل “دون كيشوت” و”سانشو”) إلى المسيحية، وإلى تكفير المسلمين، حين يقرران انتصار جيش بنثابولين النصراني على جيش علي الفيّاش الكافر[46].
وبالطبع فإننا لا نود هنا أن تكون الدراسة مساجلة بين الأديان أو العقائد، بل نود أن نشير إلى أن الميل إلى فرض الدين أو المذهب بالقوة كان شائعاً في جميع العقائد والمذاهب، وليس تحويل من تبقى من المسلمين في إسبانيا بالقوة إلى مسيحيين إلا مثال على ذلك الميل.
(6)
ولأنّ العشق يعدّ سمة ملازمة للفارس، لا تكتمل فروسيته إلا بها، فقد بحث الجد، والحفيد عن عشقهما، وكما وجد الأسير عشقه في “زريد”، فقد وجده “دون كيشوت” في دلنثيا دل توبوسو، ووجده “دالميريا” في “مايا”/ ظلّ “زريد”.
لقد كانت المرأة شغلاً شاغلاً لـ “دون كيشوت”، وكان عشقه لها قراراً أكثر من كونه ميلاً عاطفياً، فلا فارس بلا معشوقة: “فلما نظّف سلاحه، وصنع من البصلة خوذة، وأعطى لبرذونه[47] اسماً، ولنفسه التأييد، اقتنع بأنه لم يعد ينقصه شيء إلا البحث عن سيدة ليعشقها[48]“؛ لذلك كان عليه، بجنونه العبقري أن يحول معشوقته من أي مركز اجتماعي، مهما كان وضيعاً، إلى مركز مرموق، تماماً كما حدث مع المرأتين اللتين أسهمتا في ترسيمه فارساً (وهما ابنة مرقّع ثياب، وابنة طحّان)؛ إذ حولهما من لاطولوسه ولامولينيرا إلى دونيا طولوسه ودونيا مولينيرا. أمّا العشيقة التي كانت جديرة بعشقه فهي الفاتنة دلثنيا دل توبوسو التي خاطب من أجلها الدون رودريغو دي نرفانث، في خياله طبعاً، في نهاية خطبة ألقاها أمام جاره الفلاح بدرو ألونسو، بعد أن كسر بغّالي أحد القوافل رمحه وأوسعه ضرباً: “اعلموا جنابكم يا سيدي الدون رودريغو دي نرفانث أن شريفة الجميلة هذه التي ذكرتها هي الآن دلثنيا دل توبوسو الحسناء التي من أجلها فعلت وأفعل وسأفعل أشهر أفعال الفروسية التي شاهدها الناس في الدنيا ويشهدونها وسيشهدونها[49]“.
وقد بقي حتى نهاية مغامراته يخاطبها بـ زهرة الجمال[50]، و”السيدة المبجّلة”، وينعت نفسه بالمخلص حتى الممات والفارس ذي الوجه الحزين[51]. حتى إن جواده روثيانته لم يخل من العشق، غير أن مغامراته أيضاً لقيت مصير مغامرات فارسه: “أحس روثينانته فجأة بالرغبة في مغازلة الأفراس السيدات (…) فاستقبلنه بالرفس والعض حتى مزقن أحزمة السرج وتركنه عارياً فوق العشب. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل كان ما هو أدهى؛ فإنّ البغالين وقد رأَوْا روثينانته يريد أن يهاجم أفراسهم أسرعوا بهراويهم وانهالوا عليه ضرباً حتى تركوه مرضوض العظام[52]“.
وفي المقابل يجد “دالميريا” في “مايا”، استناداً إلى الذاكرة الأدبية، حفيدةً لـ “زريد”؛ إذ تصبح، في معركة الظلال التي تخوضها الرواية ظلاً لها، وتقود كلٌّ منهما معركة الظلال نحو نهاية مفتوحة؛ فغياب “زريد” عن نظر “سرفانتس”/ أسير الحكاية وعن حياته الواقعية يمثل في واقع الأمر غياباً للظلال التي يبحث عنها “دالميريا”؛ لذلك راح يبحث عن ظلال أخرى تعيد لـ “زريد” الحياة من خلال شخصية “مايا” المترجمة التي كانت تدرك أنها جزء من لعبة الحضور والغياب، وأنها ليست سوى ظلّ يسعى “دالميريا” إلى حراسته:
– “أنت مدهشة. تذكرينني بشخصية نسائية عند “سرفانتس”..
– من؟ “زُريد”؟ “لالة مريم”؟ كما ترى لستُ جاهلة بجدك إلى هذا الحدّ[53]“.
لقد انتقلت “مايا” التي صادفها “دالميريا” في السجن منذ بداية ظهورها، بفعل الذاكرة الثقافية فقط، إلى “زريد”، ففي الرسالة الذي أرسلها إلى “حسيسن” عن طريق كباييرو، يكشف عن ذلك الرابط بين المرأتين منذ اللحظة الأولى:
“عندما نزعوا الغطاء من على عيني، أول شخص ملأ عينيّ امرأة بوجه مريح، شابة في مقتبل العمر، تتوسط شرطيين يرتديان الأزرق. تلقائياً ذكرتني بـ”زريد” الموريسيكية التي سحرت جدي من على سطيحة السجن[54]“.
حتّى إنه أطلق عليها اسم “زريد”، ففي الرسالة نفسها يقول: “البارحة عرفت من “مايا” السيدة النبيلة التي سميتها “زريد”، أنهم سيطلقون سراحي، استقامتها لا يمكن تصوّرها[55]“، حتى إنه في سياقات لاحقة صار يذكر ذلك الاسم بديلاً لـ “مايا” في أكثر من سياق، على نحو ما نجد في قوله: “زريد”، كما أسميتها، هي التي أعطت الأمر بالتوغل أكثر داخل النفق، لأول مرة وعلى العكس من السابق لم يعط أحد الامر بإغلاق عيني. تركوني تماماً حرّاً[56]“. وعلى الرغم من أنه يصف أحداثاً واقعية جرت معه؛ فإنه يستعين بالاسم لإضفاء ظلال سحرية خارج الواقع، من خلال تأكيده على الاسم الجديد الذي ارتضاه لـ “مايا”: “مشينا طويلاً. “زريد” تسبقنا بحركاتها المنضبطة، وخجلها الذي لم تستطع صرامتها أن تخبئه[57]“.
وإذ يخلط الحفيد “دالميريا” بين الفتاتين، فإنه يتحدث عن عشق صوفي يملأ قلبه بالضوء:
· “بعد خروج كباييرو عاد الصمت من جديد يملأ فراغات هذه الصالة الواسعة. حتى “زريد” (مايا) التي كانت تظهر من حين لآخر مثل الضوء الهارب غابت كلّية[58]“.
· “مايا.. أيتها الضوء المتسرّب بحلاوة عسلية، غيابك ترك فراغاً كبيراً، تمنّيت أن أقول لك.. “مايا”.. “زريد”.. لالة.. أينك أيتها السيدة العالية. أريد أن أفضي لك بما في القلب. أشعر بأنك الوحيدة القادرة على فهم هذا الجرح الفج الذي فُرض علي[59]“.
· “في حلمي المكسور رأيت “زريد” (مايا) كانت تلبس لباساً موريسكياً مثل الذي ترتديه “حنّا”. واسع ومزركش. كانت تبدو سعيدة في هندامها الذي كان يكشف عن معالم جسد فاتن[60]“.
ولا يحتاج المتلقي هنا إلى جهد كبير ليفهم من السياق الأخير أن “زريد” (مايا) ليست حزينة لكونها موريسيكية، بخلاف ما حاول “سرفانتس” أن يقول، وهي أيضاً، ليست حلماً أنتجه الخيال، بل هي ـ بخلاف ما يريد الحفيد نفسه ـ “زريد” ابنة الجزائر الحديثة وتفاصيلها اليومية:
“أرأيتَ يا صديقي؟ لستُ حتماً “زريد” التي تتشوق لإسقاطها عليّ، والتي كان جدّك قبلك يشتهيها لدرجة أنه خلق لها وجهاً آخر وديناً آخر. أنا “زريد” الحياة اليومية، البسيطة المعلقة على منقار عفريت[61]“.
وإذ تبلغه “مايا”/ “زريد” التي تعمل مترجمة في المديرية العامة للأمن الوطني آسفةً بضرورة مغادرة البلاد، فإنه ينام ليلتها بشكل سيئ؛ فقد أدرك أنه أضاع “زريد”/ التاريخ الذي لم يتمكن من الوصول إليه، و”زريد”/ الواقع التي لن يكون بمقدوره البقاء في بلادها:
“نمتُ بشكل سيّئ، حلمتُ بشكل أكثر سوءاً، لم أستطع لا التركيز ولا التفكير. حاولت أن أنسى وألا أفكّر إلا في وجه “مايا” الحزين، حارسة الظلال الضائعة في سراديب مدينة بلا روح، ولكنني لم أستطع[62]“.
ويجدر هنا بالقارئ أن ينتبه إلى أن حارسة الظلال هنا هي امتداد لحارسة الظلال/ “حنّا”: جدة “حسيسن” التي قابلها “دالميريا” في بداية الرواية، فأحب قصصها، لأنها “ليست مجرد قصص، ولكنها روح حية[63]“. لذلك كان “دالميريا” بالنسبة إلى “حنّا”، مثلما كانت هي بالنسبة إليه: ترى فيه ظلال أجدادها، ويرى في حكاياتها ظلال جدّه الذي جاء يبحث عن آثاره، فاكتشف اختفاء بعضها، ووجود بعضها في أماكن غير ملائمة، من مثل اللوحة الرخامية التي تخلد مرور “سرفانتس” من الجزائر؛ إذ وجدها في مزبلة وادي السمار التي تحولت إلى سوق لبيع الآثار:
· “خلال كل المسافة التي قطعناها لم يتحدث “دون كيشوت” عن شيء آخر إلا عن اللوحة الرخامية المخلدة لسرفانتس وعن المكان العجيب الذي سيقت إليه[64]“.
· “وكشف لنا [شفيق] عن اللوحة التذكارية بمناسبة تدشين مغارة “سرفانتس” كمعلم أثري للجالية الإسبانية (…) ركع “دون كيشوت” على ركبتيه باندهاش، وهو يفرك عينيه، لا يصدّق ما كان يراه[65]“.
(7)
لقد استعار “واسيني الأعرج” في “حارسة الظلال” قالب الشخصية الدونكيشوتية؛ ليس لينقل قالب الخيبة القائمة على لا واقعية الحرب التي تخاض ضد الشخصيات، بل عن واقعيتها، في ظل تخفّي صورة الأعداء في ألف لبوس ولبوس؛ وهذا ما يجعل حرب “دون كيشوت” الحفيد أكثر صعوبة:
“تخيّل إنساناً يخوض حرباً تراجيدية ضدّ الظلال. “دون كيشوت” واجه على الأقل طواحين هوائية موجودة[66]“.
لقد كان “حسيسن” مدركاً صعوبة معركته التي يخوضها إلى جانب صديقه “دالميريا”، ولكنه قرّر أن يخوضها منذ البداية: “كنتُ مدركاً للشطط الذي ينتظرني مع “دون كيشوت” وطبيعة مهمتي في ظروف أمنية أقل ما يقال عنها أنها تسير عكس التيار الذي كنت أسبح فيه[67]“.
وإذا كان “دالميريا” قد حمل خيباته وعاد إلى بلاده، ولو مطروداً، فإنه ترك خلفه “حسيسن” الذي كتب حكايته، وما زال مستعداً لمواجهة خيبات جديدة، يصارع فيها واقعية الواقع، بمثاليته التي تعيد إنتاج صورة “دون كيشوت” في نسخة عربية الملامح.
[1] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، دار المدى ـ دمشق، والمجمّع الثقافي ـ أبو ظبي، ط1، 1998.
[2] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط2، 2006.
[3] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج1/ ص34.
[4] المصدر نفسه، ج1/ ص39.
[5] نفسه، ج1/ ص35.
[6] نفسه، ج1/ ص189.
[7] نفسه، ج2/ ص70.
[8] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص25.
[9] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج1/ ص210.
[10] إميل حبيبي: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، دار ابن خلدون، بيروت، 1974.
[11] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص214.
[12] المصدر نفسه، ص21.
[13] نفسه، ص45.
[14] نفسه، ص28.
[15] نفسه، ص25.
[16] نفسه، 158.
[17] نفسه، ص25.
[18] نفسه، ص ص117ـ118.
[19]نفسه، ص55.
[20] نفسه، ص105.
[21] نفسه، ص141.
[22] نفسه، ص45.
[23] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج2/ ص52.
[24] المصدر نفسه، ج1/ ص84.
[25] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص142.
[26] المصدر نفسه، ص81.
[27] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج2/ ص ص51ـ52.
[28] المصدر نفسه، ج2/ ص63.
[29] نفسه، ج2/64.
[30] نفسه، ج2/ ص70.
[31] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص150.
[32] المصدر نفسه، ص152.
[33] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج2/ ص71.
[34] يشير المترجم هنا إلى أن الاسم الذي أورده سرفانتس هو (Zornida) وقد عرّبه ثريّا، ونظن أن “زريد” الذي اختاره واسيني الأعرج أكثر دقة وتعبيراً، وهو من روح البيئة الجزائرية.
[35] المصدر نفسه، ج2/ ص72.
[36] نفسه، ج2/ ص73.
[37] نفسه، ج2/ ص ص75ـ91.
[38] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص159.
[39] استفدنا هنا من مقدمة المترجم الوافية:
ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سبق، ج1/ ص ص5ـ8.
[40] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص79.
[41] المصدر نفسه، ص ص159ـ160.
[42] ثربانتس: دون كيخوته، (ترجمة: عبد الرحمن بدوي)، مصدر سابق، ج2/ ص52.
[43] المصدر نفسه، ج2/ ص52.
[44] نفسه، ج2/ ص70.
[45] نفسه، ج1/ ص94.
[46] نفسه، ج1/ ص ص160ـ162.
[47][47] البرذون: الدابة (لسان العرب ـ برذن)
[48] نفسه، ج1/ ص37.
[49] نفسه، ج1/ ص ص63ـ64.
[50] نفسه، ج1/ ص91.
[51] نفسه، ج1/ ص243.
[52] نفسه، ج1/ ص135.
[53] واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، مصدر سابق، ص184.
[54] المصدر نفسه، ص172.
[55] نفسه، ص142.
[56] نفسه، ص ص172ـ173.
[57] نفسه، ص173.
[58] نفسه، ص181.
[59] نفسه، ص182.
[60] نفسه، ص181.
[61] نفسه، ص192.
[62] نفسه ، ص194.
[63] نفسه، ص51.
[64] نفسه، ص57.
[65] نفسه، ص65.
[66] نفسه، ص ص192ـ193.
[67] نفسه، ص32.