د. أحمد الحطاب - المواطنة بين الأمس و اليوم

ما هي المواطنة؟ المواطنة citoyenneté مصدرُ فعل "وَاطَنَ". و عندما نقولُ : "فلانٌ واطنَ فلانا آخرَ"، فهذا يعني أن الفلانَ الأولَ يعيشُ مع الفلانِ الثاني في وطنٍ واحدٍ. أو حينما نقولُ أن "فلاناً واطَنً سكانَ بلدٍ ما"، فهذا يعني أن فلاناً يعيشُ مع هؤلاء السكان في وطنٍ واجدٍ. هذا من الناحية المكانية.

أما من الناحية السياسية، فالمواطنة تقتضي أن يتمتَّع مَن هو مواطنٌ بجنسية البلد الذي هو مُقِيمٌ فيه. حينها، يصبح للمواطنِ شعورٌ بالانتماء للوطن الذي يُقِيمُ فيه. وهو الشيء الذي يترتَّب عنه تمتُّعُه بالحقوق التي تضمنها له هذه المواطنة والتزامُه بأداء ما تفرضُه عليه هذه الأخيرة من واجبات.

ومن بين الحقوق التي تضمنها المواطنةُ، أذكرُ، على سبيل المثال مساهمة الفرد في تدبير شؤون الوطن الذي يحمل جنسيتَه، إما مباشرةً، بالانخراط في أسلاك الدولة عن طريق التَّوظيف أو عن طريق التَّرشيح للانتخابات، وإما بكيفية غير مباشرة، عن طريق التَّمثيلية الحزبية أو الأحزاب السياسية التي تصل إلى السلطة لتدبير الشأنين العام والمحلي.

وعندما نتحدثُ عن المواطن الصالح، فالأمرُ يتعلَّق بالمواطن الذي يحترم المسئولية التي يفرضُها عليه أداءُ الواجبات، وبالتالي، فإنه يُعطي الأولية، في افكاره وسلوكِه وأعمالِه للصالح العام. والصالحُ العام لا يمكن تحقيقُه إلا عن طريق العمل الجماعي الذي، بدوره يتطلَّبُ التَّعاونَ والتَّكاملَ والتَّآزر والتَّضامن…

السؤال الذي يتبادر للذهن، بعد هذا التَّوضيح، هو : "هل المواطنة، في هذا البلد السعيد، التي نسمع عنها حاليا في حديث وتصريحات وخُطَب الأحزاب السياسية والحكومات والبرلمانات، وفي وسائل الإعلام بشتى أنواعها، وفي الحملات الانتخابية… هي المواطنة التي حدَّدتها الأعرافُ والقواميس والدساتير والقوانين والمواثيق الدولية؟

بكل بساطة وبدون تردُّدٍ، الجواب هو لا ثم لا! وعندما أقولُ لا ثم لا، فهذا لا يعني، على الإطلاق، أننا انتقلنا من مستوى جيِّدٍ من المواطنة إلى مستوى أجود منه. لا، أبدا! المواطنة، بكل أسفٍ، في تدهورٍ مستمرٍّ! وهذا شيءٌ واضحٌ للعيان!

وفي هذا الصدد، ترجع بي الذاكرةُ شيئا ما إلى الوراء لأقولَ : الفترة الذهبية التي بلغت فيها المواطنة أوجَها هي فترةُ الحماية الفرنسية التي امتدَّت طيلةَ النصف الأول من القرن الماضي وطيلةَ الخمسينيات والستينيات وشيئا ما السبعينيات. كانت المواطنة، في تلك الفترات، تسكن وِجدانَ الناس الذين كانوا يعبِّرون عنها فكرا، سلوكا وعملا.
أثناء الحماية، كان القاسم المشترك بين الناس هو التَّحرُّر من الاستعمار والكفاح من أجل استقلال البلاد. لا حديثَ يروج بين الناس إلا حديثُ الحرية والاستقلال. بل كثير من الناس ضحوا بأرواحهم وبأنفسهم وأموالهم… من أجل تحرير البلاد من قبضة الاستعمار.

أما مباشرةً بعد الحماية، فكانت الأحزابُ السياسية والمواطنون متشبِّثين بخدمة الصالح العام، عملا بالمقولة الشهيرة التي جاءت على لسان المرحوم الملك محمد الخامس : "الانتقال من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" بعد عودته من المنفى. الجهاد الأصغر هو الكفاح من أجل نَيلِ استقلال البلاد. الجهاد الأكبر هو تعبئة الشعب المغربي من أجل تقدم البلاد وازدهارها اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا.

أما اليوم، فهذه الطينة من المواطنين ومن الأحزاب السياسية تكاد تكون في خبر "كان". وقد أقول إن الضربةَ القاضيةَ تلقَّتها المواطنةُ حينما تعفَّنت السياسة وحُرِّفت عن معناها النبيل. وما زاد ويزيد في الطين بلةً أن تعفُّنَ السياسة أدى إلى ظهور الفردانية و والوصولية وحب المصلحة الشخصية. وحينما تتعفَّن السياسةُ وتفسد، فإن هذين التَّعفُّنَ والفساد ينتشران كالوباء ويعطِّلأن مسيرةَ التنمية بجميع تجلياتها، إن على مستوى تدبير الشأن العام أو على مستوى تدبير الشأن المحلي. في هذه الحالة، لم تعد المواطنة إلا شعار تختبئ وراءه مصائب ومآرب لا حصرَ لها.

وحتى المؤسستان الاجتماعيتان، المدرسة والأسرة، اللتان، من المفروض، أن تتعاونا من أجل تنشئة اجتماعية تبني الأنسانَ وألمواطنَ المغربي، أصابهما التَّصدُّعُ الناتج عن تفكيك مفهومي "السياسة" و"الصالح العام". الأسرة، بصفة عامة، سائرة نحو التَّفكُّك تحت ضغط الماديات. الأسَرُ الميسورة لا يهمها من المدرسة، عمومية أو خصوصية، إلا حصول أبنائها وبناتها على نُقط عالية في الامتحانات. الأسر الفقيرة متروكة لحالها، و في نفس الوقت، هي أول ضحايا منظومة تربوية تخلَّت عن دورها الأساسي في بناء التنشئة الاجتماعية.

انظروا إلى ما يروج في البرلمان من نقاشاتٍ فارغة! لاحظوا التَّناقضات الصارخة بين أحزاب الأغلبية الحكومية قبل وبعد الوصول إلى السلطة! أليس من حق مَن يغيرُ على بلده أن يقولَ : "لقد أصبحنا قاب قوسين أو أدنى لنصلي صلاة الجنازة على المواطنة"!

وما لا يقبله العقلُ هو : لماذا تلقى المواطنةُ في أمصار أخرى اهتماماً بالغاً يكون فيها المواطن مكانَ احترام وتقدير ويتمتَّع بحقوقه كاملةً؟

الجواب على هذا السؤال بسيط للغاية. الجواب هو أن هذه الأمصار تولي اهتماماً بالغاً لبناء الإنسان الصالح أو المواطن الصالح الذي، كما سبق الذكرُ، يعطي الأولوية للصالح العام قبل المصلحة الخاصة. وبناء الإنسان الصالح يتم، أولا وقبل كل شيء، داخلَ الأسرة وداخلَ المدرسة علما أن السياسةَ يمكن أن تلعب دورا في هذا البناء.

لكن، هل هناك مؤشِّراتٌ ملموسة على أرض الواقع تبيِّن وجودَ إرادة سياسية تسعى لبناء المواطن المغربي؟

هل سمعتم في يوم من الأيام حزبا سياسيا انشغل ببناء المواطن المغربي؟

هل سمعتم برلمانا من البرلمانات، المتعاقبة على تدبير الشأن العام، أقام الدنيا وأقعدها من جراء غياب سياسات عمومية حكومية تسعى إلى النهوض ببناء المواطن المغربي؟

هل سمعتم أن سياسةً تعليمية/تربوية أعطت الأولوية لبناء المواطن المغربي؟

ما هو مؤكَّد هو أن المواطنين المغاربة، أكثر من ثُلُثِهم، أميون! وشريحة عريضة منهم تُعاني من الفقر والهشاشة والتَّهميش! وشريحةٌ أخرى بدون عمل وشريحةٌ أخرى تغادر مُكرهةً، المدرسةَ والجامعةَ بدون تأهيل وأخرى تُصارعُ أمواجَ البحر بحثاً عن غدٍ أفضل!... أين هي المواطنة وأين هي الحقوق التي تضمنُها؟

قد يقول قائلٌ إن المغاربة أبانوا عن مواطنة عالية المستوى على إثر زلزال الحوز. نعم وبكل تأكيد ولا أحدَ يُنكِر ذلك. لكننا في حاجةٍ إلى مواطنة يقِظةٍ تلازم المواطنين، على الدوام، في حياتهم اليومية، وليس مواطنة نائمة تستيقظ فقط وحصريا عند حدوث الكوارث وتختفي بعدها.
  • Like
التفاعلات: رائد الجحافي

تعليقات

أيضاً شيء ايجابي أن تحضر الروح الوطنية عند حاجة الوطن لمواطنيه كلما مرت عليه ظروف صعبة
 
أعلى