البروفيسور لطفي منصور - عِلْمٌ بالصُّدْفَةِ

كنتُ قَبْلَ مُدَّةٍ يَسيرَةٍ أقْرَأُ في كتاب "منتهَى الطَّلَبْ إلى تُراثِ العَرَبْ"، تَأْليف الكاتبِ والأدِيبِ
جَمال الغيطاني (١٩٤٥-٢٠١٥) من كبار الإعلاميِّين المصريِّين. يشتملُ الكتابُ على ١٦٥ صفحة من الحجم العادي، وصدَرَ عن دار الشروق في الأردنٌ سنة ١٩٩٧م. موضوعُ الكتاب التَّعْريفُ بِكُتُبِ التُّراثِ العربي التي فُقِدَتْ من الأسواق ومن كثيرٍ من المكتبات، ولَم يعدْ لها أثر، أو ارتفعتْ أثمانُها، وأصبحَ مِنَ الصَّعبِ الحصولُ عليها.
أحَدُ هذه الكتُبِ التي تحدَّثَ عنها الغيطاني كتاب "الْمنازِلِ والدِّيارِ" للمؤرخِ الأديبِ الكبير ، الفارس المغوار الأمير المشهور أسامةُ بنُ مُنْقِذٍ (ت ١١٨٨م) صاحبِ حِصْنِ شَيْزَر في سوريا، ومقارِعِ الرّومِ والْحَمَلاتِ الصَّليبيَّةِ.
يروي الغيطاني قِصَّةً طريفَةً لطريقَةِ حصولِهِ على الكتاب. فقد كانَ منذُ دراسَتِهِ الجامعيَّةِ قد عَرَفَ اسمَ الكتابِ من بَيْنِ مُؤلَّفاتِ أسامَةَ بنِ مُنْقِذٍ الكثيرة، ومنها كتاب "الاعتبار" المعروف، وهو عبارَةٌ عن يوميّات الفارس الأمير أسامةَ. لكنّ الغيطاني لم يعرفْ أكثَرَ مَنِ اسْمِ الكتاب. فأخذَ يجولُ في المكتبات في البلدانِ العربيَّة ويسأَلُ الخبراء والمؤلِّفينَ عن الكتاب سنينَ عديدةً دُونَ أنْ يظفرَ بِشَيْءٍ يتَّصِلُ بالكتاب.
وفِي أحَدِ الأيّامِ اتَّصَلَ بِهِ صديقٌ، كانَ يدرُسُ في إحدى الجامعاتِ الأوْروبيَّةِ أنَّ نُسْخَةً مخطوطةً من الكتاب موجودَةٌ في مكتبةِ لينينغراد، ويُمْكِنُ أنْ تكونَ قد طُبِعَتْ.
وَمِنْ جميلِ الصُّدَفِ أنَّ الغيطاني كان صديقًا لمستشرِقَةٍ روسيَّةٍ كانت تُكثِرُ الزيارةَ إلى مصر، وفِي إحدى الزِّياراتِ قابلتْ الرّئيسَ جمال عبدِ النَّاصِر، وكان الغيطاني أحدَ الصّحفيِّين الذينَ غَطَّوا هذا اللِّقاءَ، وبعدَ انتهاءِ المقابلة طلبَ منها الغيطاني أنْ تبحثَ عن الكتابِ لتُرْسِلَ له نسخةً منه مهما كانَ ثمنُها.
وهنا يأتي دور الصَّدفة العظيمة. هذه المستشرقة هي الدّكتورة أولجا فرولوفا رئيسةُ قسمِ فقهِ اللُّغَةِ العربيَّة في جامعة لينينغراد. ولي أنا كاتبُ هذه السطور قصَّةٌ مهمَّةٌ معها، سأذكرُها ريثَما أنهي قصَّةِ كتاب "الْمنازِلِ والدِّيارِ".
حملت المستشرقةُ الأمانَةَ، وبحثتْ عن الكتابِ، وعرفتْ أنَّهُ طُبِعَ في الجامعة عن مخطوطةٍ يتيمَةٍ، غَيْرَ أنّ الإحباطَ أصابَها عندما أيقنتْ أنَّ النُّسَخَ قد نَفِدَتْ وَلَمْ يَبْقَ منها شيءٌ. وأرسلتِ الخَبَرَ إلى الغيطاني.
ومرَّتِ الأيّامُ، وفِي صباحِ يَوْمٍ دَقَّ الهاتِفُ في حجرةِ الغيطاني، وكانَ عَلَى الطَّرَفِ الآخر أحدُ أصدقائهِ يبشِّرُهُ بأنَّهُ قادِمٌ إلَيْهِ ومعهُ نسخةٌ من الكتاب وقدطُبِعَ في القاهرة بإشرافِ لجنَةِ إحياءِ التراث العربيِّ سنةَ ١٩٦٨م. ثمَّ طُبِعَ طبعة ثانية سنةَ ١٩٩٢م في القاهرةِ، وفِي هذه السَنة سافرْتُ إلى معرِضِ الْكِتَابِ الدَولي في مدينة نَصْر، وتمكنْتُ من الحصولِ على نسخَةٍ منه مُحَقَّقَةٍ
تحقيقًا عِلْميًا على يَدِ الباحث الأستاذ مصطفى حجازي.
هذا الكتاب من أهمِّ كتبِ أسامَةَ بن مُنقذ، يقع في ٥٩٠ صفحة من الحجم الكبير، وهو خزانَةٌ في العلوم النقليَّة، يشتمل على ستَّةَ عَشَرَ فصلًا بدَأَهُ في ذِكْرِ منازلِ العرَبِ، وذكرَ أسماءَها ومواقِعَها، والشِّعرَ الذي قالَه الشُّعراءُ فيها، وشرحِ غوامضهِ، ثمّ انتقل إلى وصفِ الدِّيارِ بالطريقَةِ نفسِها، وهكذا إلى آخرِ الفصول. وأختَتِمُ الحديثَ عن هذا الكتاب بالمقولَةِ المشهورَةِ " لَيْسَ الْخَبَرُ كالعِيان"، وهذا هو الكتابِ أمّامي في مكتبتي المفتوحَةِ للزّائِرين.
أمّا حكايتي مع المستشرقة الدكتورة أولجا فتعودُ إلى سنةَ ٢٠٠٢م، يَوْمَ تلقيْتُ دعوةً من جامعة سانبطرسبورغ بوساطة صديقي البروفسور عمر محاميد لتوقيع اتّفاقيَّةٍ لتبادُلِ المحاضرين والطُّلّاب، وكنتُ يومَها رئيسًا للمعهد الأكّاديمي لإعداد المعلمين العرب في بيت بيرل. وصلنا إلى الجامعة وأحسنوا استقبالَنا، كانَتْ المستشرقةُ المذكورةُ رفيقَتَنا المشرِفةَ في الزيارة، وبعد توقيع الاتِّفاقيّة أخذنا نتجوَّلُ في أقسامِ الجامعةِ، وكنتُ قد حملتُ بَعْضًا من كتبي هديّةً لقسمِ الدّراسات الشرقيّة، منها كتاب
"الهجرة إلى الحبشة والعلاقات الإسلامييّة والمسيحيّة في بدايةِ الإسلام" فوقعَ الكتابُ لديها موقعَ الإعجابِ والقَبولِ، فطلبت مِنِّي أن تكتب عنه دراسةً في الرّوسيَّة، فكانَ لها ما طلبت. هذه هي الصُّدَفُ العلميّةُ الجميلة، وحدَّثتني عن قصَّتِها مع الكاتب جمال الغيطاني.



ملحق:
- رسم فوتغرافي للمستشرقةِ أولجا.
- مصوّرَة الصفحة الأولى من الدراسة التي كتبتها المستشرقة عن كتابي المذكور أعلاه.
- مصوّرة الغلاف لكتاب " الْمنازِلِ والدِّيارِ".
- مصوّرة الغلاف لكتابي "الهجرة إلى الحبشة".



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى