مدخل
1- العراق ولبنان والسودان
وسبب وضع هذا النموذج المعرفي
"ما كان يمكن أن يقبل الإنسان العربي أبدا بالاستلاب القيمي والحضاري للآخر إلا إذا تعرض للسلب والقهر على المستوى المادي، وتفككت أبنيته التي ممكن أن يتحقق من خلالها"
كانت هذه الجملة هي التي رددتها لنفسي وأنا أشاهد ما يحدث في لبنان بعد تفجير بيروت، ودعوات عودة الانتداب الفرنسي والاستلاب له، وكذلك وأنا أشاهد خيرة شباب العراق ومثقفيها الذي خرج في ثورة عظيمة، ينادي بالهجرة خارجها بعد مذابح إطلاق النار على المتظاهرين، وكذلك وأنا أشاهد الحكومة المحسوبة على الثورة السودانية، وهي تخضع لدعوات صفقة القرن والقبول بالاستلاب لرواية الآخر الصهيوني، تحت مظلة أمريكا/ ترامب، وبحجة رفع السودان من قائمة الإرهاب ودمجها في النظام الدولي مجددا.
كانتا لبنان والعراق لهما الحضور الأبرز في علاقة السلب المادي أو الخشن، بظهور الدافع الطبيعي لدى الناس في قبول الاستلاب الناعم أو القيمي أو الحضاري والبحث عن الحل عند الآخر، لتكون هذه الفكرة هي نقطة الانطلاق لكتابة هذه النموذج المعرفي عن العلاقة بين السلب الخشن أو المادي والاستلاب الناعم أو الحضاري في الحالة العربية.
سرعان ما اتسعت تلك الجملة -في أعلاه- عن العلاقة بين السلب الواقعي والاستلاب الحضاري؛ لتتحول لهذا النموذج المعرفي عن الفرضية النظرية لعلاقة الناعم والخشن في موضوع السلب والاستلاب، ليضم ثلاثة مباحث شملت أولا: الاستلاب والثورة: تدافع الذات والآخر، وتتكون من؛ الثورة: بين استعادة الذات أو الاستلاب للآخر - مثال تاريخي على موقف الثورات بين الاستعادة أو الاستلاب (ثورة روسيا الشيوعية وثورة مصر القومية ) - الثورة بين "تمثل الذات السلطوي" الداخلي و"تمثل الآخر المهيمن" الخارجي - آلية تفكيك الثورات و"الذوات التاريخية" بين تفعيل التناقضات والصدمات النفسية الجماعية.
ثانيا: ما قبل الاستلاب الخشن الجماعي.. النخب الثقافية وأسباب استلابها الناعم المبكر، ويتكون من؛ المثقف وسبب التحول العام من الاغتراب إلى الاستلاب - الأدب وتمثلات الاستلاب المضمرة في الحالة العربية - الإلحاد كتمثل للاستلاب الديني وغياب منطق كلي للحياة العربية - السياسة والاستلاب كـ"تصويت عكسي" ضد الذات العربية أو المنشقون ضحايا غسيل المخ الأيديولوجي.
ثالثا : الخروج الإيجابي على الرواية السائدة ويتكون من: الثورة كخروج إيجابي على "الرواية السلطوية السائدة للذات"، السؤال المركزي عن لحظة التحديث والقدرة على الخروج على السياق الخاص أو الاستلاب له، المعرفة كخروج إيجابي مستمر على جمود رواية الذات والنقد الذاتي والتصحيح المستمر لمسار سردية الذات.
2- التفرقة بين مفهومي السلب والاستلاب
وعلاقة "تراتيبة السلب والاستلاب"
بداية سوف أفرق بين مفهومي السلب ومفهوم الاستلاب، سوف أجعل السلب مرتبطا بما هو مادي وواقعي وخشن (بالمفهوم الذي يقابل مفهوم القوة الناعمة الذي تطور في الدراسات الثقافية)، حيث سوف أمنح السلب معنى خشنا أو ماديا مباشر أي افتقاد أو تعمد تغييب مقومات الحياة المادية أو الواقعية وشروطها، أما الاستلاب فسوف أمنحه معنى ناعما أو قيميا أو ثقافيا أو حضاريا (وكذلك روحيا أو نفسيا)، بمعنى انتقال تعلق الذات الإنسانية نحو نموذج حضاري قيمي آخر، والحقيقة أنني سوف أقدم فرضية نظرية في هذا النموذج المعرفي تقوم على التراتب بينهما، وأن أحدهما يجب أن يسبق الآخر أو ما يمكن تسميته بـ"تراتيبة السلب والاستلاب": أي أن الاستلاب الناعم أو القيمي (للآخر الحضاري) عند الإنسان الطبيعي، لا يحدث إلا إذا تعرض للسلب الخشن أو المادي وافتقد شروط الحياة (ذاتيا في حاضنته الحضارية)، حيث يجب أن يحدث السلب الخشن للإنسان أولا وتنعدم أو تضيق شروطه للحياه في ظل حاضنته الذات التاريخية ومستودع هويتها، حتي ينتقل إلى حالة الاستلاب الناعم والقيمي أو الحضاري للآخر و"مستودع هويته" حتى ولو كان ذلك الآخر خصما تاريخيا لذاته الحضارية، وهذه التراتبية في العلاقة بين السلب الحشن أو الواقعي والاستلاب الناعم أو الحضاري تتأكد أكثر على المستوى الجماعي للشعوب، مثلما في الحالة العربية.
أولا:
الاستلاب والثورة: تدافع الذات والآخر
وآليات تفكيك حلم الذات الجماعي في ثورتها
• الثورة: بين استعادة الذات أو الاستلاب للآخر
بداية هناك فرضية نظرية عن العلاقة بين الذات والآخر يشكلها واقع "دراسة الحالة" العربية في ثورات الموجة الأولى في بداية العقد الثاني من القرن الجديد والموجة الثانية قرب نهايته، وهي: أن الثورة لا تقف في المنتصف من الظاهرة الحضارية أبدا، أي هي إما تقدم نموذجا حضاريا جديدا وتستعيد ذاتها من سبات قديم، أو ستعمل النماذج الحضارية السائدة/ المهيمنة على ابتلاعها ويحدث لها عملية تكييف حضاري لتُستلب للآخر، وتؤكد على قيمه بدلا من محاولتها خلق منظومة قيم جديدة وتجديد الحالة الإنسانية عموما، والذي كان هو سمت الثورات عبر التاريخ.
فحقيقة هناك عدة وقائع وفرضيات تطرح نفسها في "دراسة الحالة" العربية الراهنة وتطوراتها، تؤكد على فرضية رئيسية باتت تتشكل الآن بوضوح، وهي: أن الثورة الشعبية في أي حاضنة بشرية لا تلفت فقط انتباه القوى التقليدية القديمة المسيطرة على السلطة في الحاضنة نفسها، إنما تلفت انتباه القوى الحضارية الخارجية المسيطرة في تلك الفترة التاريخية، لأنها تعتبر نموذجا حضاريا جديدا جاذبا وناعما على المستوى القيمي والإنساني ومنافسا لتلك القوى الحضارية التاريخية، حيث تكسر الثورات الشعبية معادلة العلاقات الحضارية/ الدولية المستقرة قبلها، بما يجعلها في صراع مع القوى التقليدية المحلية ومع القوى الدولية في الوقت نفسه، ولا توجد ثورة حققت تغييرا جزئيا مستمرا، هي إما تقوم بعملية "استعادة الذات" التاريخية الخاصة بها وما تحمله من قيم إنسانية عامة وعليا، وما تحمله من سمات ثقافية خاصة ارتبطت بها في مواجهة الآخر المتعدد وتقدم نموذجا حضاريا جديدا، أو تتعرض لعملية احتواء وتكييف وتسيطر عليها القوى الدولية المهيمنة، ويحدث لها عملية "استلاب للآخر".
• مثال تاريخي على موقف الثورات بين الاستعادة أو الاستلاب
(ثورة روسيا الشيوعية وثورة مصر القومية )
سوف نخرج بعيدا عن الحالة العربية الراهنة قليلا؛ لندلل على فرضية الثورة بين إما استعادة الذات أو الاستلاب للآخر، بمثالين الأول ينتمي للحالة العربية لكنه يعود للقرن الماضي في ثورة مصر القومية، والآخر يعود لثورة روسيا الشيوعية، لكي نضرب مثالا شارحا على أن الثورات تستعدي الآخر الحضاري بشكل تلقائي، وأنها إما تستعيد الذات أو يستلبها الآخر بطريقة أو بأخرى.
ثورة روسيا الشيوعية في مطلع القرن العشرين لم تنجح في استعادة الذات الروسية وتدهورت أحوال المواطن بها، من ثم أصبحت فريسة سهلة للآخر الحضاري/ الرأسمالي الذي استهدفها ورأي فيها نموجا حضاريا يهدد وجوده، وهذا الآخر الحضاري كان الغرب الرأسمالي، حتى انهارت الثورة الروسية قرب نهاية القرن العشرين، بعدما اتخذها الاخر الحضاري (الرأسمالي) منافسا له، وانهارت مع ميخائيل جورباتشوف.
أما الثورة المصرية القومية، فرغم محاولاتها استعادة الذات المصرية، وحضور الكثير من المشاكل في النقاط التي تتعلق بمؤسسات الدولة المدنية وتداول السلطة والحريات السياسية، إلا أنه تم استهدافها من قبل الآخر الحضاري الصهيوني والغربي، لأنها كانت تمثل نموذجا للحرية والثورة يهدد النفوذ الغربي في المنطقة، ويهدد صنيعته الصهيونية، من ثم تكالب الآخر الحضاري (الصهيوني/ الغربي) لحصار الثورة المصرية القومية، حتى انهارت وظهرت حركة الردة عليها مع السادات الذي تم استقطابه واستلابه لنموذج القيم الحضاري الخاص بالآخر الرأسمالي الغربي أيضا.
من ثم لكي يكون نموذج الثورات بين الاستعادة والاستلاب واضحا، علينا أن ندرس سلوك جورباتشوف والسادات، واستلاب كل منهما للنموذج الحضاري الذي قدمه الآخر/ الخصم المنافس، وهو ما تمثل في سياسة "الترويكا" في عهد جورباتشوف وسياسة "الانفتاح" في عهد السادات، التي مثلت كل منهما نموذج الردة على الثورة الشيوعية الروسية والثورة القومية المصرية.
مشكلة الثورات العربية الراهنة أعظم لأنها تتجاوز السياق الغربي كله يمينا ويسارا، وتحاول تقديم تمثل جديد للقيم في كافة ربوع الوطن العربي، في لحظة تاريخية كُشفت فيها سوءات الخطاب الليبرالي الغربي الأمريكي وأنها نموذج حضاري قائم على البحث عن عدو دائما.
• الثورة بين "تمثل الذات السلطوي" الداخلي
و"تمثل الآخر المهيمن" الخارجي
من ثم يمكن أن نقدم الفرضية السابقة عن استعادة الذات أو الاستلاب للآخر، بصياغة أخرى، وهي أن الثورة الشعبية تكون في تدافع مع تمثلين، الأول "تمثل الذات السلطوي" الداخلي القديم، والثاني "تمثل الآخر المهيمن" الخارجي، فحقيقة الثورة هي فعل خطير للغاية في الظاهرة البشرية، وتقوم بتجديد الدماء فيها كلما تكلست، لكنها تستعدي الجميع داخليا وخارجيا، داخليا في حاضنتها الحضارية تستعدي المستفيدين من منظومة القيم القديمة، أو ما يمكن تسميته "تمثل الذات السلطوي" الداخلي، وخارجيا أي من الحواضن الحضارية الأخري وتحديدا من الحواضن المهيمنة، تستعدي المستفيدين من هيمنة تلك الحواضن ومنظومة قيمها، أو ما يمكن تسميته "تمثل الآخر المهيمن" الخارجي.
إذن فالثورة الشعبية في أي مكان تتحول لعدو داخليا وخارجيا، تستعدي منظومة القيم الداخلية القديمة ومنظومة القيم الخارجية المهيمنة، لذا فهدف منظومة القيم الخارجية المهيمنة هو احتواء الثورة ومحاولة تذويبها، مهما حاولت ادعاء مساعدتها، لأن نجاح ثورة ما يمثل تهديدا للنموذج الحضاري الآخر/ المهمين، وتدير القوى المهيمنة العلاقة بين دعاة الثورة وبين سلطة النظام القديم، بهدف إدارة التناقضات لتفريغ اللحظة الثورية من احتشادها، وغالبا ما يلتقي هدف القوى الخارجية المهمينة مع القوى الداخلية المسيطرة، ويختبرا معا عدة تباديل وتوافيق متعددة لتفويت الفرصة على الثورات الشعبية من "استعادة الذات" القديمة، والتحول لـ"نموج حضاري عالمي" جديد.
• آلية تفكيك الثورات و"الذوات التاريخية"
بين تفعيل التناقضات والصدمات النفسية الجماعية
كما أن واقع دراسة "الحالة العربية" يخرج علينا بفرضية نظرية جديدة في مسيرة الثورات الشعبية أو دورة حياتها، خاصة مع قراءات الموجة الثانية من الثورات العربية، وهي أن الثورات تتعرض لآليتين رئيسيتين للتفكيك، الأولى هي تفعيل التناقضات الداخلية والثانية هي الصدمة النفسية الجماعية، بمعنى أن حيلة منظومة القيم القديمة السائدة في دول الوطن العربي، كانت تفعيل التناقضات بين القوى الداخلية، سواء التناقضات الخشنة أو الناعمة، أو المادية والقيمية عبر تفجير "مستودع الهوية" المتعايش داخليا ومكوناته، فمثلا التناقضات المادية الخشنة يتم تفجيرها داخليا عبر الصراع في بناء التراتب الاجتماعي السائد، ودفع التراتبات والرتب الاجتماعية للتنافس على الدور والمصالح في النظام الاجتماعي، كأن يتم تفجير الصراع بين مؤسسات الدولة على الاختصاصات والعوائد مثلا، أو توزيع عوائد الخدمات السيادية والأراضي، وكذلك تفعيل الصراع داخل "مستودع الهوية" الناعم سواء الطائفي أو المذهبي أو العرقي! أو الصراع السياسي بين الكتل الأيديولوجية المتنافسة تاريخيا، وأسوأ ما يكون مثلما حدث في النموذج اللبناني عندما كان الطائفي ممتزجا بالسياسي والاجتماعي، أي وجود تكتلات طائفية لها تمثيل سياسي ومساحة في التراتب الاجتماعي، حيث وصل الأمر بالحالة اللبنانية لمرحلة الانسداد، وعجز الحراك الثوري الشعبي عن تفكيك الأبنية الفوقية للمجتمع.
مما يدفعنا للوصول للآلية الثانية في تفكيك الثورات الشعبية، وهي آلية "الصدمة النفسية العامة، والتي حدثت في لبنان مع تفجير بيروت، وحدثت في العراق مع مذابح إطلاق النيرات على الثوار، وحدثت في السودان مع عملية فض الاعتصام الكبير بالقوة، قبل الوصول لنظام ما بعد الثورة السودانية وتركيبته المازومة الحالية.
النموذج المعرفي الواضح في الحالة العربية؛ أن نجاح تكتيك تفعيل التناقضات المتنوعة كحاجز في وجه المطالب الشعبية، في لبنان والعراق تحديدا، تبعه تكتيك "الصدمة النفسية الجماعية"، مما أدى في النهاية للفشل في "استعادة الذات"، من ثم لجأ البعض لبديل "الاستلاب للآخر" مع دعوات عودة الانتداب الفرنسي في لبنان، ودعوات الهجرة للآخر من خيرة الشباب المثقف العراقي الثائر، وظهر الاستلاب للآخر في الحالة العراقية على شكل دعوات للهجرة، لأن العراق لم يعد به ما يغري آخر غربي بالعودة له والمطالبة باستدائه كما في الحالة اللبنانية، بعد أن تم تفكيكه تماما وتفعيل التناقضات الطائفية والعرقية والاجتماعية والاقتصادية، أي بعد أن تم تفعيل التناقضات الناعمة والخشنة بـ"مستودع الهوية" العراقي. ليكون النموذج اللبناني هو أبرز مثال على تراتبية السلب الخشن الذي يليه السلب الناعم، السلب الخشن تم عبر الانسداد وتفعيل النتاقضات ثم "الصدمة النفسية الجماعية، بما ادى لظهور الاستلاب الناعم والدعوة لعودة الانتداب الفرنسي، وموجات هجرة جماعية للناس من بيروت ولبنان.
ثانيا:
ما قبل الاستلاب الخشن الجماعي
النخب الثقافية وأسباب استلابها الناعم المبكر
• المثقف وسبب التحول العام من الاغتراب إلى الاستلاب
سوف أستخدم هذه المرة لغة بسيطة مباشرة للربط بين استلاب المثقف العربي المبكر واستلاب المواطن العادي الذي قد يتأخر، في الأصل أن الإنسان يحلم دائما بالتحقق والسعادة وامتلاك أسباب الحياة، وغياب ذلك يؤدي لشعوره بالاغتراب وعدم التحقق، لكن يظل الأمل هو ما يدفع للاستمرار في الحياة، والتغلب على اغترابه والسعى لامتلاك أسباب السعادة والتحقق في محيطه الاجتماعي، والذات التاريخية التي ينتمي إليها.
لكن في بعض الأحيان غياب الأمل واليأس من امتلاك أسباب الحياة داخل المحيط الاجتماعي للإنسان وذاته التاريخية، يدفع البعض (كرد فعل من أصحاب الوعي والمعرفة تحديدا) للبحث عن بدائل أخرى يُستلب إليها ويرى فيها الأمل، هنا يتحول الاغتراب عن الذات إلى استلاب للآخر، وهو النموذج الذي تحقق عند كثير من المثقفين العرب حينما تحول الاغتراب والفشل في تجاوزه إلى حالة استلاب، خاصة وأن "الاغتراب" كمفهوم في سياقه المعرفي جاء كفكرة وافدة نتاجا وتأثرا بحالة المثاقفة ورد الفعل للتأثر بالمسألة الأوربية، حيث نشأ مصطلح الاغتراب هناك، لكن الاغتراب الأوربي كان يقوم على انتظار تحقق الإنسان وفق تصور: وجودي او ديني او مادي... ألخ، إنما المثقف العربي المبكر ومع شعوره بالعحز عن تحقق الذات العربية وفشلها وتفككها طوال القرن الماضي، شعر باليأس تجاهها، مع بقاء نموذج الآخر الحضاري، مما جعل الاغتراب عن الذات عنده يتحول لفكرة الاستلاب للآخر، وهي المقاربة التي استخدمتها لتفسير خطاب وسلوك بعض المثقفين العرب مؤخرا، وتبنيهم لخطاب الاستلاب للآخر الصهيوني والغربي عموما، سواء كان اليأس رد فعل لتجربة ذاتية أو تجربة ذات صلة بالشأن العام.
في حين عادة ما يكون استلاب المواطن العادي بحثا عن شروط الحياة المادية أو الخشنة عند الآخر بعد تعذر امتلاكها عند الذات، لكن قد لا يطور كل المواطنيين الذين اتجهوا للآخر وتركوا بلادهم خطاب استلاب ناعم مباشر للآخر، وفق مرارة التجربة الذاتية لكل منهم في علاقته التاريخية بوجوده في وطنه القديم، لكن المثقف الذي يملك بنية عقلية وعلاقة علنية بالشان العام، قد يطور بطبيعته خطابا للاستلاب للآخر وينتقي من مستودع هوية الآخر، ما يناسبه من تمثلات ناعمة يرفعها حلا يبرر تخليه عن التمثلات الناعمة لمستودع هويته الذاتي القديم.
• الأدب وتمثلات الاستلاب المضمرة في الحالة العربية
الحقيقة أن واقع "دراسة الحالة" التي قمت بها على مدى طويل، لدعاة خطاب الاستلاب والخروج على الذات العربية (حتى قبل ظهور الخطاب المباشر للاستلاب للآخر الصهيوني)، تجعلني أضع الأدب العربي في مصاف التمثلات المبكرة والمضمرة لفكرة الاستلاب الناعم والمبكر الحضاري للآخر، حيث ظهرت العديد من النماذج التي حققت شروط الاستلاب الناعم إلحاقا بوجود الاستلاب الخشن، وتمثل ذلك في عدة نماذج أدبية درستها في الفترة الأخيرة أطلقت عليها في حينه "نماذج الاستلاب للاحتلال الجديد"، وأقصد بها بعض الروايات التي كتبها العراقي سنان أنطون بعد احتلال أمريكا للعراق، والتي كتبها الروائي الباكستاني محسن حامد بعد تدخل أمريكا في شئون بلاده والتناقضات الإقليمية والداخلية التي فجرتها من أجل ذلك، لكن هنا سأضع ما يخص العراقي سنان أنطوان لعلاقته المباشرة بالذات العربية، والذي سبق وتناولته في لقاء تليفزيوني، وشملت سمات رواية الاستلاب للاحتلال الجديد كما أسميته في حينه عند أنطون سنان: غياب اليقين وعدم التجذر مع النسيج والموروث الشرقي ومستودع الهوية بطبقاته، حضور الأزمة الوجودية والبحث في مفاهيم القدر وحضور العبث واللاجدوي، حضور الحب والجنس بشدة كبديل عن الهزيمة والانسحاق الجماعي، لجوء البطل وحلمه إلى بلد المحتل/الغربي/ الآخر كبديل عن أزمة وطنه، والتداخل بين الرواية وواقع المؤلف الذى يهاجر عادة للحياة في الغرب جزئيا أو كليا.
الشاهد هنا أن التناقضات التي فجرها الاحتلال الأمريكي داخل العراق على المستوى الخشن ثم الناعم، انتهت بسنان أنطون في آخرة المطاف للبحث عن الحياة في بدائل أخرى والاستلاب لها، حتى ولو عند الذات الحضارية التي فجرت مستودع هويته الذاتي التاريخي! بيت القصيد هنا هو التمثل المبكر لفكرة الاستلاب للآخر وتراتب السلب الخشن وأسبقيته للاستلاب الناعم في حياة الإنسان العربي، وأن اليأس من منظومة قيم الذات العربية التي فجرها الاحتلال الأمريكي، دفع بطل أنطون سنان للاستلاب للآخر، واليأس من الأمل في التحقق وكسر الاغتراب الإنساني من خلال الذات العربية.
ذلك ما رصدته مؤخرا أيضا مع عودة الأمل المصحوب باستعادة الذات في النموذج العراقي في الموجة الثانية من الثورات العربية في نهاية العقد الثاني من القرن الجديد، عند مجموعة من أفضل الشباب العراقي المثقف، الذي حينما انتهى الأمر بمسار الثورة العراقية مؤخرا لحالة "الصدمة النفسية الجماعية" وإطلاق النيران العشوائي على الثوار (التناقضات متجذرة أصلا في بنية المجتمع العراقي)، مما أدى ذلك لظهور فكرة الاستلاب مجددا، وإعادة إنتاج مشروع انطون سنان عن الهجرة للخارج والآخر كحل بديل عن تناقضات الذات وفشلها في استعادة ذاتها.
• الإلحاد الفردي كتمثل للاستلاب الديني
وغياب منطق كلي للحياة العربية
كما أن هناك تمثل آخر لخروج لنخب الثقافية المبكر على الذات العربية، وتأثرا بفكرة السلب الخشن أو الواقعي الذي يليه ظهور اختيار الاستلاب الناعم أو الحضاري، على المستوى الفردي عندهم وبشكل سابق لحالة جماعية ما قد تحدث او لا تحدث، 1لك بسبب حدوث بعض الصدمات الواقعية أو الخشنة في حياة بعض المثقفين العرب الفردية، تؤدي لظهور اختيار الاستلاب الناعم أو الحضاري الفردي والمبكر في أقصى صوره تشددا، حيث في بعض الحالات تمثل السلب الواقعي في حوادث تتعلق بـ"التابو" أو المقدس أو المُحرم: الديني أو الجنسي، أو جمعت بعض الحوادث بين المقدس الديني/ الجنسي معا، في شكل اعتداء شخصي أو مشاهدة غير شخصية لفعل لاعتداء أو جنسي محرم صادر من شخصية دينية، أو حادثة تخالف المنطق الديني وقعت أيضا من شخصية دينية وكسرت الرمز الديني في أقدس صورة، أو على مستوى المُقدس والمُحرم الجنسي وقوع اعتداء شخصي أو مشاهدة تتعلق بالجنس المحرم داخل العائلة الواحدة.
كسر المُقدس الديني من رمز ديني، أو كسر المُقدس الجنسي في إطار العائلة، أو اجتماع المقدسين في واقعة واحدة، يؤدي لرد فعل عنيف من الأفرد أصحاب الوعي العالي والتفكير المنطقي، حيث يجعلهم ذلك يأخذون رد فعل قوي وعنيف تجاه المنطق الحاكم للمجتمع كل في أعلى مراكزه قداسة، وهو قرار الخروج على المنطق الديني نفسه (إسلامي أو مسيحي) وتقرير غياب وجود ذات كلية عليا مهيمنة على الحياة. هنا السلب الواقعي الفردي حدث على مستوى المقدس الجنسي أو الديني أو كليهما، بما كان يؤدي لظهور الاستلاب الناعم أو الحضاري الفردي في أشد صوره تطرفا، أو رفض مركز السردية العربية المتمثل في المقدس الديني وإعلان غياب منطق كلي مسيطر على الحياة أو الإلحاد.
الجدير بالذكر هنا هو الإشارة إلى فكرة حدوث "صدمة نفسية" خاصة او فردية تمثل استلابا خشنا، أدت أيضا لظهور استلاب ناعم مبكر وفردي عند الكثير من النخب الثقافية، وربما يمكن التعميم هنا قليلا للقول بأن الدافع الفردي الواقعي إذا تحقق لسبب قوي يرؤتبط بالمنطق العام، مسببا "صدمة نفسية" واقعية قوية، قد يؤدي أيضا لظهور وتطور الاستلاب الناعم على المستوى الكلي، الذي يعممه صاحبه على أقوى مراكز الذات العربية الناعمة وهو الدين (إسلامي أو مسيحي)، ويقرر سواء جهرا أو سرا بشكل مباشر او غير مباشر غياب ذات كلية منطقية مسيطرة على الحياة والعالم، كرد فعل لما واجهه من موقف يفتقد للمنطق الخشن او الصلب والحافز القيمي، ويعلن قرارا خاصا او فرديا بالإلحاد أو استنتاج غياب وجود منطق كلي ناعم وذات عليا مهيمنة على الحياة في السردية العربية.
كما يمكن القول أنه في العديد من ملاحظات على "دراسة الحالة" العربية عند النخب المثقفة، وجدت أن الدافع الأكبر لتبني خطاب الاستلاب والخروج على السردية العربية الكلية، هو دافع شخصي أو فردي يُغَلفُه الإنسان بدافع عام أ ويسقطه على الجماعة كلية، أو يسقطه على السردية العربية عموما كما في حالة الاستلاب الديني، فيقرر الإنسان اختزال كل تمثلات السردية العربية في المطلق الديني، ويعلن غياب مطلق ديني منطقي وعادل، كأثر لما شاهده أو تعرض له من "صدمة نفسية خاصة". وواضح هنا دور الصدمة النفسية في تبني خطاب الاستلاب العام جماعيا وفرديا والخاص، مع السياق والنتائج المختلفة لكل من "الصدمة النفسية الجماعية" و"الصدمة النفسية الفردية".
• السياسة والاستلاب كـ"تصويت عكسي" ضد الذات العربية
المنشقون ضحايا غسيل المخ الأيديولوجي
كما يضاف لنطاق استلاب النخب الثقافية أو النوعية المبكر؛ مجموعة جديدة سوف تُسقط على الذات العربية تجربتها السياسية أو الأيديولوجية الشخصية أو الفردية، بمعني أنها ستعمم موقفها من أيديولوجية صلبة أو خشنة معينة كانت تتبناها لحد التوحد، ثم انشقت عنها بعد تجربة مريرة على الذات العربية كلية في خروج كلي ناعم أو حضاري، وهذ النموذج نجده عند بعض المتطرفين الذين تم استقاطبهم لأيديولوجيات فرق الدين السياسي (مثل الإخوان المسلمين) أو ربما بعض المذاهب الدينية المتشددة (مثل القرآنيين)، بنية هذه النماذج الإنسانية النفسية أنها تشبعت وتطرفت في توحدها مع الأيديولوجيات الدينية التي تدعي امتلاك الحق المطلق، وانتظرت منها التحقق دينا ودنيا.
لكن حين يحدث الخلاف أو الصدام الواقعي أو الخشن من تلك الجماعة أو الانشقاق من جانب الشخص المتطرف فرديا، فهو يريد أن يمارس تطرفا ناعما أو حضاريا فرديا من نوع آخر يبرر له تطرفه القديم، لأنه أساسا شخصية غير معتدلة وغير متوازنة ويميل للتشدد في أي موضع، لذا كرد فعل على انسلاخه عن خطاب امتلاك المطلق الديني، يريد أن يتحدث باسم مطلق آخر ضده، فيقوم بعملية "تصويت عكسي" ويختار المطلق العلماني ويعتبر السردية العربية الدينية التاريخية هي التمثل لأيديولولجيته القديمة، ويسقط عليها موقفه النفسي الفردي المأزوم.
من ثم بعد أن كان يتبناها لحد تكفير الناس والمخالف لها، أصبح يتنكر لها لحد القطيعة والانسلاخ عنها والاستلاب للروايات المضادة لها داخل الحاضنة العربية، وخارج الحاضنة العربية، فكثيرا ما نلمح بعض الذين تم استقطابهم لأيديولوجية "الإخوان المسلمين"، وبعدما انشقوا عنهم أو لُفظوا منها لأسباب تنظيمية أو شخصية أو سياسية تتعلق بمسارات معينة، تجدهم لم ينقلبوا فقط على خطاب الجماعة بل ينقلبون على السردية الدينية العربية كلها، ويتبنون خطابا للقطيعة أو العلمانية المتشددة، وهي حالة رد فعل نفسي يقوم بها الإنسان لفصل تعلقه القديم بتجربة فكرية، أو سياسة ما، تشربها باختياره وتم غسل مخه بها لحد التشبع، فيمارس ضدها رد فعل نفسي بالنفي حتى لا يشعر بالهزيمة والتمزق النفسي الداخلي، هو يتشدد في التصويت العكسي ضد الذات العربية في محاولة منه للانتقام من التجربة التي كان يتبناها ولم يخرج منها منتصرا، وقد تزايدت هذه الحالات بعد ثورة 25 يناير وإزاحة نظام الإخوان في 2013.
ثالثا :
الخروج الإيجابي على الرواية السائدة للذات
• الثورة كخروج إيجابي على "الرواية السلطوية السائدة للذات"
على عكس مفهوم الاستلاب الذي يقوم على فقد الأمل وسيطرة قرار اليأس تجاة الراوية الكلية للذات العربية، فإن الثورة تقوم بفعل معاكس تماما وهو التأكيد على الأمل وقدرة الذات على استعادة نفسها من خلال مطالبتها بـ"سردية جديدة"، تخرج في الوقت نفسه على "الرواية السلطوية السائدة للذات" العربية، وهذا وجه الخلاف بين "الخروج الإيجابي" على الرواية العربية السائدة من جانب الثورات العربية، و"الخروج السلبي" من جانب دعاة الاستلاب على رواية الذات العربية.
الثورة تخرج على "رواية سلطوية للذات" العربية تراها تكلست ووصلت لحد العجز عن تلبية طموح الناس والتعبير عن حاضرهم وماضيهم ومستقبلهم، لكنه "خروج إيجابي" ليس نفيا للذات بل تأكيدا عليها وعلى الأمل في التحديث والتقدم والنهضة من خلالها، في حين خطاب الاستلاب يقوم على "الخروج السلبي" واليأس من الذات العربية ونفيها نفيا مطلقا والقول بفسادها العام، ويسعى للبحث عن سردية خارج الذات العربية عبر إلحاقها بذات أخرى، هي الذات الغربية في العموم أو تمثلها الصهيوني الذي ظهر مؤخرا مع خطاب الاستلاب الذي صاحب ظهور صفقة القرن، مع يوسف زيدان وبعده مراد وهبة وغيرههما.
• السؤال المركزي عن لحظة التحديث
والقدرة على الخروج على السياق الخاص أو الاستلاب له
يصبح السؤال الفيصل لدعاة الاستلاب باسم التحديث والتقدم والعلمية والموضوعية، وكذلك دعاة عدم احتكار الحديث باسم المطلق الديني في التنافس السياسي والحزبي والظاهرة البشرية عموما، ودعاة الضبط المؤسسي المعياري والعلمي لبنية الدولة، ودعاة إطلاق آليات "المجتمع الفعال" وفرز أفضل عناصر المجتمع ومواهبه.. يصبح السؤال الملح ما هو موقفهم تجاه ثورة ستنتج لحظة تحديث ذاتي، بعيدا عن شعارات اليمين واليسار العربيان نتاج تناقضات القرن الماضي وعلاقتهما بالمسألة الأوربية وتمثلاتها الفكرية والأيديولوجية، أو يصير السؤال أكثر وضوحا كالتالي ماذا إذا قدمت الذات العربيبة "لحظة تحديث" مفصلية أنتجت كل شروط التحديث وخطابه، ولكنها تجاوزت نخب الماضي واستقطابات القرن العشرين بمالا تحمله من تجارب ودوافع شخصية وعامة، وتجاوزت رغبة هؤلاء في القصاص من هؤلاء ورغبة أولئك في الاقتصاص من أولئك!!
أعتقد أن سيكولوجية البنية السياسية للنخب العربية الفكرية والسياسية والأيديولوجية يمينا ويسار، ومعهم "الرواية السلطوية السائدة للذات" العربية التي تمثلها "دولة ما بعد الاستقلال" عن الاحتلال الأجنبي في القرن الماضي بقلبها العسكري، أعتقد أن هذا الثالوث أي السلطة ويسارها ويمينها التاريخيان، يجتمعون ثلاثتهم في التصدي لظهور "لحظة تحديث" مفصلية تتجاوز النظام القديم برمته، تتجاوز السلطة والمعارضة يسارية ويمينية.
التاريخ عبارة عن مفاصل رئيسية بينهم محاولات وجهود للانتصار لـ"القيم الإنسانية الأعلى" وتمثلاتها، فلسفة حركة التاريخ وعلم اجتماع الشعوب تخبرنا بأن هناك مفاصل تعيد إنتاج كل ما قبلها، وتصبح هي مفصليات رئيسية في مسار الشعوب وحراكها التاريخي، وهذا هو سؤال التحديث! في كل فترة زمنية ينشط البشر من خلال دعاة لـ"القيم الإنسانية الأعلى" أو طليعة الحلة البشرية و"فرزها القيمي" الطبيعي، سعيا لينشروا مباديء تلك "القيم الإنسانية الأعلى"، ويصبح لكل منهم مذهبه أو فلسفته أو عقيدته او أيديولوجيته في الدعوة لتحقيق تلك القيم الأعلى، لكن عند "لحظة مفصلية" ما تتحقق شروط التغيير وظروفه بشكل موضوعي، هنا من يعي حركة التاريخ سيدرك أنه أمام "لحظة مفصلية" كاسحة للتحديث، وسيكون أمامه خياران لو كان بالنضج الكافي والفهم العميق لحركة التاريخ وفلسفته، سيتجه للاختيار الأول وهو دعم الظرف التاريخي العام والفكرة المركزية لـ"القيم الإنسانية العليا"، ويسمح لها بإنتاج خطاب جديد -ونخبة جديدة- يتحول هذا الخطاب إلى فلسفة أو عقيدة سياسية عامة، تصبح هي تمثل اللحظة التاريخية ومساراها.
لكن هذا الاختيار يتطلب قوة نفسية هائلة للانفصال عن السياق التاريخي الخاص بالإنسان والمراهنة على البدء من الصفر، والتخلي عن المكانة الخاصة والمكتسبات والدوافع الخاصة في العموم والخصوص. أما الاختيار الثاني فسيكون التمترس حول السياق التاريخي الخاص بدعاة "القيم الإنسانية الأعلى" أو ما يظنونه علاجا للمسار والأزمة الشخصية أو العامة التي قابلوها، ومحاولة تكييف اللحظة التاريخية وليّ عنقها لتصبح على مقاس الخطاب الخاص بكل جماعة تاريخية قديمة، قبل ظهور "اللحظة المفصلية" التاريخية، هنا سيتم توظيف تلك الجماعات السياسية من جانب النظام القديم المسيطر على تلك الجماعة البشرية، للهروب من استحقاقات "اللحظة المفصلية" التاريخية.
حيث في لحظة معينة إذا لم تدرك النخبة التاريخية لجماعة بشرية ما، أن طريق النجاة لبلادهم لابد أن يأتي من خارجهم، فإن هذه الجماعة البشرية تظل تدور في حلقات مفرغة، وتعيد اجترار الأخطاء ذاتها، لكن ذلك أيضا هو ما أخبرتنا به التجارب البشرية التاريخية، أن المعظم لا يستطيع أن يتجرد عن سياقه التاريخي الخاص، ويتعامل بتجرد مع اللحظة التاريخية المفصلية لجماعته البشرية.
• المعرفة كخروج إيجابي مستمر على جمود رواية الذات
النقد الذاتي والتصحيح المستمر لمسار سردية الذات
في مقابل وجود طليعة أو نخبة للاستلاب الناعم أو الفكري للآخر أيا كانت أسبابها أو دوافعها، يجب أن تكون هناك طليعة للنقد الذاتي الناعم أو الفكري بحثا عن "التحديث" من خلال الذات، ومشكلة الذات العربية هنا هو وقوفها على السطح الخارجي في معظم المعارف المتعلقة بالظاهرة الإنسانية، ودورانها في فلك المنتجات النهائية للمسألة الأوربية، وتمثلاتها في الفلسفة والسياسة والاجتماع وعلم النفس والأدب.. ألخ. في حين تكاد تغيب الدراسات التطبيقة وفق منهج "دراسة الحالة" العربية، والخروج بتصورات ومخرجات ذات صلة بالمدخلات العربية نفسها وظرفياتها. بما جعل هناك حالة من الاستلاب المعرفي المسكوت عنه عند الذات العربية، وغياب مناهج النقد الذاتي الحقيقية وفق "دراسات الحالة"، وحضور دعاة الاستلاب للآخر المعرفي الناعم للآخر بديلا عن ذلك.
كان الاستلاب المعرفي معظمه يعود لفكرة التوريث السلطوي أو المعارض، التوريث السلطوي الأكاديمي المعرفي جاء نتيجة لتقيد أجيال الباحثين بما وصل إليهم من أساتذة مندمجين في "رواية الممط السلطوي السائد" ويعتبرون الخروج على مساراتهم نوعا من الهرطقة، حيث الذي قيد الباحثين أكثر في الاتباع والتقليد والاستلاب و"التقييد الطوعي" للذات، هو البحث عن الصعود الذاتي. أما الاستلاب المعرفي المعارض فيعود أيضا لفكرة التوريث ولكن بشكل آخر حيث عملت الأبنية المعرفية للمعارضة السياسية العربية على تكريس مجموعة من الأفكار والترويج لها، دون فتح مساحات إعمال العقل والبحث في المناهج التي أنتجتها واختبارها على الحالة العربية، بما يسمح بضبطها بالحذف او الإافة حسب الظرفية الخاصة بالحالة العربية، فتشركت أبنية السلطة والمعارضة العربيان في استنساخ حالة استلاب معرفي وجمود منهجي. وكان للمعارضة السياسية اليسارية دورها الأبرز هنا، فلقد قدمت أمهات وكلاسيكات الفكر الأوربي التي تحولت لأيدولوجيات، بوصفها مقدسا جديدا أو تابو لا يمكن اختراقه، ولم تمنح اعترافات لأي محاولات للخروج على مسارها المقدس/ الدوجما/ التابو، كما أن المعارضة السياسية اليمينية العربية قدمت كلاسيكيات الفكر العربي ومنتجات بداية عصر الإسلام التي واكبت ظروفه ومستجداته في حينه، على أنها نهاية للعلوم الإنسانية والدينية، وحولتها لأبينة سياسية تستخدمها للمزايدة على الآخرين.
من ثم بين معيار الانتهازية والسير في إطار النمط السائد سلطويا للصعود الذاتي، والرغبة في عدم إغضاب الجوقة اليسارية أو الكهنة اليمينية، ظل التفاعل العربي المعرفي محصورا في المعظم في إطار المنتجات الأيديولوجية والاختيارات السياسية اليسارية أو الليبرالية المتطرفة، أو المقولات العامة الكلاسيكية لبواكير عصر الإسلام، ولم يظهر تيارا فاعلا للنقد الذاتي وتصحيح مسار الذات العربية، ولم تشتبك الحالة العربية مع التيارات الأوربية التي تجاوزت كلاسيكيات الفكر الأوربي، وكانت المعضلة الأبرز غياب الجسارة العلمية لإجراء الدراسات التطبيقية (الأمبيريقية) وفق واقع الحالة العربية (منهج دراسة الحالة)، بما جعل الطبقة المعرفية العربية عاجزة عن تطوير خطاب رافع للذات العربية من أزمتها و"نقدها ذاتيا"، وتحولت لأحد أبنية التقييد والعجز في المعظم، بدلا من أن تصبح قاطرة للمستقبل ترصف الطريق إليه وتستشرف مساراته.
خاتمة: اللحظة التاريخية في مواجهة السلب والاستلاب
بدأ هذا النموذج المعرفي بمحاولة إقامة علاقة بين السلب الواقعي أو الخشن والاستلاب الناعم أو الحضاري في الحالة العربية، ملخصها أن السلب الواقعي يجب أن يستبق الاستلاب الحضاري، ويحدث السلب الخشن أو الواقعي عن طريق تفجير التناقضات في الحالة العربية، ثم عن طريق الصدمة النفسية الجماعية للشعوب، ليقبل الناس بالانسلاخ عن الذات والتخلي عن ثوابتها التاريخية، ويشرعون في قبول الاستلاب للآخر بتمثلاته المختلفة، سواء في الدعوة لعودة الانتداب الفرنسي بعد صدمة الناس في لبنان بتفجير بيروت وموجة الهجرة التي بدات بعده أيضا، أو في فرض صفقة القرن على الناس فرضا من خلال تفعيل التناقضات في الحالة السودانية وقبولهم لمسار الاستلاب لصفقة القرن وروايتها، وذلك أيضا بعد الصدمة النفسية العامة لفض الاعتصام الكبير قبل تشكل النظام الحالي، وفي الحالة العراقية التي بعدما ارتفع سقف طموحاتها للسماء مع دخولها ضمن الموجة الثانية للثورات العربية، بدات تظهر دعوات اليأس والهجرة خارج العراق مع إطلاق النار العشوائي على المتظاهرين والثوار هناك..
هناك من يقول أيضا بأن ما يحدث في بعض البلدان العربية من دول الموجة الأولى من سياسات خشنة وواقعية للتضييق على الناس في حياتهم هو نوع من "الصدمة النفسية الجماعية" الجديدة، خاصة من دول الطوق المحيطة بالكيان الصهيوني "إسرائيل"، وهو التكتيك الأخير لفرض "صفقة القرن" وروايتها وتصورها للعلاقة العربية / الصهيونية على الجميع، ليقبلوا بالتخلي عن ثوابت الذات الحضارية العربية، وفق الفرضية النظرية التي وضعها هذا النموذج المعرفي والتي تقول: بأسبقية السلب الخشن أو الواقعي للذات الإنسانية، حتى تقبل بالاستلاب الناعم والحضاري للآخر وتخضع لروايته وهيمنته..
لكن الذي يقلق هذه الفرضية النظرية وقد يكسر قواعدها، هو وجود "لحظة مفصلية" تاريخية لتمدد الذات العربية خرجت مع ثورات العقد الثاني من القرن الجديد في موجتها الاولى ودولها، وموجتها الثانية ودولها، وأن دعاة "استعادة الذات" العربية الذين هم الآن "فرز طبيعي" منتشر في كل مكان، وليسوا مجتمعين في تنظيم او تراتب اجتماعي معين يمكن تفكيكه، أن هؤلاء "كامنون" وأنه على قدر الانكماش الذي يحدث ويجري فرضه عليهم، عبر تكتيك "تفعيل التناقضات" العربية وتكتيك "الصدمات النفسية الجماعية" وتضييق حياة الناس بشدة (الذي هو أحد تمثلات تكتيك الصدمة النفسية الجماعية)، على قدر ذلك الانكماش على قدر ما سترتد وتنتفض الذات العربية بقوة في لحظة معينة دفاعا عن ثوابتها التاريخية، وبحثا عن استراد وجودها المستلب من الأبنية السلطوية المتعلقة بالذات، والأبنية المهيمنة المتعلقة بالآخر.
حاتم الجوهرى
1- العراق ولبنان والسودان
وسبب وضع هذا النموذج المعرفي
"ما كان يمكن أن يقبل الإنسان العربي أبدا بالاستلاب القيمي والحضاري للآخر إلا إذا تعرض للسلب والقهر على المستوى المادي، وتفككت أبنيته التي ممكن أن يتحقق من خلالها"
كانت هذه الجملة هي التي رددتها لنفسي وأنا أشاهد ما يحدث في لبنان بعد تفجير بيروت، ودعوات عودة الانتداب الفرنسي والاستلاب له، وكذلك وأنا أشاهد خيرة شباب العراق ومثقفيها الذي خرج في ثورة عظيمة، ينادي بالهجرة خارجها بعد مذابح إطلاق النار على المتظاهرين، وكذلك وأنا أشاهد الحكومة المحسوبة على الثورة السودانية، وهي تخضع لدعوات صفقة القرن والقبول بالاستلاب لرواية الآخر الصهيوني، تحت مظلة أمريكا/ ترامب، وبحجة رفع السودان من قائمة الإرهاب ودمجها في النظام الدولي مجددا.
كانتا لبنان والعراق لهما الحضور الأبرز في علاقة السلب المادي أو الخشن، بظهور الدافع الطبيعي لدى الناس في قبول الاستلاب الناعم أو القيمي أو الحضاري والبحث عن الحل عند الآخر، لتكون هذه الفكرة هي نقطة الانطلاق لكتابة هذه النموذج المعرفي عن العلاقة بين السلب الخشن أو المادي والاستلاب الناعم أو الحضاري في الحالة العربية.
سرعان ما اتسعت تلك الجملة -في أعلاه- عن العلاقة بين السلب الواقعي والاستلاب الحضاري؛ لتتحول لهذا النموذج المعرفي عن الفرضية النظرية لعلاقة الناعم والخشن في موضوع السلب والاستلاب، ليضم ثلاثة مباحث شملت أولا: الاستلاب والثورة: تدافع الذات والآخر، وتتكون من؛ الثورة: بين استعادة الذات أو الاستلاب للآخر - مثال تاريخي على موقف الثورات بين الاستعادة أو الاستلاب (ثورة روسيا الشيوعية وثورة مصر القومية ) - الثورة بين "تمثل الذات السلطوي" الداخلي و"تمثل الآخر المهيمن" الخارجي - آلية تفكيك الثورات و"الذوات التاريخية" بين تفعيل التناقضات والصدمات النفسية الجماعية.
ثانيا: ما قبل الاستلاب الخشن الجماعي.. النخب الثقافية وأسباب استلابها الناعم المبكر، ويتكون من؛ المثقف وسبب التحول العام من الاغتراب إلى الاستلاب - الأدب وتمثلات الاستلاب المضمرة في الحالة العربية - الإلحاد كتمثل للاستلاب الديني وغياب منطق كلي للحياة العربية - السياسة والاستلاب كـ"تصويت عكسي" ضد الذات العربية أو المنشقون ضحايا غسيل المخ الأيديولوجي.
ثالثا : الخروج الإيجابي على الرواية السائدة ويتكون من: الثورة كخروج إيجابي على "الرواية السلطوية السائدة للذات"، السؤال المركزي عن لحظة التحديث والقدرة على الخروج على السياق الخاص أو الاستلاب له، المعرفة كخروج إيجابي مستمر على جمود رواية الذات والنقد الذاتي والتصحيح المستمر لمسار سردية الذات.
2- التفرقة بين مفهومي السلب والاستلاب
وعلاقة "تراتيبة السلب والاستلاب"
بداية سوف أفرق بين مفهومي السلب ومفهوم الاستلاب، سوف أجعل السلب مرتبطا بما هو مادي وواقعي وخشن (بالمفهوم الذي يقابل مفهوم القوة الناعمة الذي تطور في الدراسات الثقافية)، حيث سوف أمنح السلب معنى خشنا أو ماديا مباشر أي افتقاد أو تعمد تغييب مقومات الحياة المادية أو الواقعية وشروطها، أما الاستلاب فسوف أمنحه معنى ناعما أو قيميا أو ثقافيا أو حضاريا (وكذلك روحيا أو نفسيا)، بمعنى انتقال تعلق الذات الإنسانية نحو نموذج حضاري قيمي آخر، والحقيقة أنني سوف أقدم فرضية نظرية في هذا النموذج المعرفي تقوم على التراتب بينهما، وأن أحدهما يجب أن يسبق الآخر أو ما يمكن تسميته بـ"تراتيبة السلب والاستلاب": أي أن الاستلاب الناعم أو القيمي (للآخر الحضاري) عند الإنسان الطبيعي، لا يحدث إلا إذا تعرض للسلب الخشن أو المادي وافتقد شروط الحياة (ذاتيا في حاضنته الحضارية)، حيث يجب أن يحدث السلب الخشن للإنسان أولا وتنعدم أو تضيق شروطه للحياه في ظل حاضنته الذات التاريخية ومستودع هويتها، حتي ينتقل إلى حالة الاستلاب الناعم والقيمي أو الحضاري للآخر و"مستودع هويته" حتى ولو كان ذلك الآخر خصما تاريخيا لذاته الحضارية، وهذه التراتبية في العلاقة بين السلب الحشن أو الواقعي والاستلاب الناعم أو الحضاري تتأكد أكثر على المستوى الجماعي للشعوب، مثلما في الحالة العربية.
أولا:
الاستلاب والثورة: تدافع الذات والآخر
وآليات تفكيك حلم الذات الجماعي في ثورتها
• الثورة: بين استعادة الذات أو الاستلاب للآخر
بداية هناك فرضية نظرية عن العلاقة بين الذات والآخر يشكلها واقع "دراسة الحالة" العربية في ثورات الموجة الأولى في بداية العقد الثاني من القرن الجديد والموجة الثانية قرب نهايته، وهي: أن الثورة لا تقف في المنتصف من الظاهرة الحضارية أبدا، أي هي إما تقدم نموذجا حضاريا جديدا وتستعيد ذاتها من سبات قديم، أو ستعمل النماذج الحضارية السائدة/ المهيمنة على ابتلاعها ويحدث لها عملية تكييف حضاري لتُستلب للآخر، وتؤكد على قيمه بدلا من محاولتها خلق منظومة قيم جديدة وتجديد الحالة الإنسانية عموما، والذي كان هو سمت الثورات عبر التاريخ.
فحقيقة هناك عدة وقائع وفرضيات تطرح نفسها في "دراسة الحالة" العربية الراهنة وتطوراتها، تؤكد على فرضية رئيسية باتت تتشكل الآن بوضوح، وهي: أن الثورة الشعبية في أي حاضنة بشرية لا تلفت فقط انتباه القوى التقليدية القديمة المسيطرة على السلطة في الحاضنة نفسها، إنما تلفت انتباه القوى الحضارية الخارجية المسيطرة في تلك الفترة التاريخية، لأنها تعتبر نموذجا حضاريا جديدا جاذبا وناعما على المستوى القيمي والإنساني ومنافسا لتلك القوى الحضارية التاريخية، حيث تكسر الثورات الشعبية معادلة العلاقات الحضارية/ الدولية المستقرة قبلها، بما يجعلها في صراع مع القوى التقليدية المحلية ومع القوى الدولية في الوقت نفسه، ولا توجد ثورة حققت تغييرا جزئيا مستمرا، هي إما تقوم بعملية "استعادة الذات" التاريخية الخاصة بها وما تحمله من قيم إنسانية عامة وعليا، وما تحمله من سمات ثقافية خاصة ارتبطت بها في مواجهة الآخر المتعدد وتقدم نموذجا حضاريا جديدا، أو تتعرض لعملية احتواء وتكييف وتسيطر عليها القوى الدولية المهيمنة، ويحدث لها عملية "استلاب للآخر".
• مثال تاريخي على موقف الثورات بين الاستعادة أو الاستلاب
(ثورة روسيا الشيوعية وثورة مصر القومية )
سوف نخرج بعيدا عن الحالة العربية الراهنة قليلا؛ لندلل على فرضية الثورة بين إما استعادة الذات أو الاستلاب للآخر، بمثالين الأول ينتمي للحالة العربية لكنه يعود للقرن الماضي في ثورة مصر القومية، والآخر يعود لثورة روسيا الشيوعية، لكي نضرب مثالا شارحا على أن الثورات تستعدي الآخر الحضاري بشكل تلقائي، وأنها إما تستعيد الذات أو يستلبها الآخر بطريقة أو بأخرى.
ثورة روسيا الشيوعية في مطلع القرن العشرين لم تنجح في استعادة الذات الروسية وتدهورت أحوال المواطن بها، من ثم أصبحت فريسة سهلة للآخر الحضاري/ الرأسمالي الذي استهدفها ورأي فيها نموجا حضاريا يهدد وجوده، وهذا الآخر الحضاري كان الغرب الرأسمالي، حتى انهارت الثورة الروسية قرب نهاية القرن العشرين، بعدما اتخذها الاخر الحضاري (الرأسمالي) منافسا له، وانهارت مع ميخائيل جورباتشوف.
أما الثورة المصرية القومية، فرغم محاولاتها استعادة الذات المصرية، وحضور الكثير من المشاكل في النقاط التي تتعلق بمؤسسات الدولة المدنية وتداول السلطة والحريات السياسية، إلا أنه تم استهدافها من قبل الآخر الحضاري الصهيوني والغربي، لأنها كانت تمثل نموذجا للحرية والثورة يهدد النفوذ الغربي في المنطقة، ويهدد صنيعته الصهيونية، من ثم تكالب الآخر الحضاري (الصهيوني/ الغربي) لحصار الثورة المصرية القومية، حتى انهارت وظهرت حركة الردة عليها مع السادات الذي تم استقطابه واستلابه لنموذج القيم الحضاري الخاص بالآخر الرأسمالي الغربي أيضا.
من ثم لكي يكون نموذج الثورات بين الاستعادة والاستلاب واضحا، علينا أن ندرس سلوك جورباتشوف والسادات، واستلاب كل منهما للنموذج الحضاري الذي قدمه الآخر/ الخصم المنافس، وهو ما تمثل في سياسة "الترويكا" في عهد جورباتشوف وسياسة "الانفتاح" في عهد السادات، التي مثلت كل منهما نموذج الردة على الثورة الشيوعية الروسية والثورة القومية المصرية.
مشكلة الثورات العربية الراهنة أعظم لأنها تتجاوز السياق الغربي كله يمينا ويسارا، وتحاول تقديم تمثل جديد للقيم في كافة ربوع الوطن العربي، في لحظة تاريخية كُشفت فيها سوءات الخطاب الليبرالي الغربي الأمريكي وأنها نموذج حضاري قائم على البحث عن عدو دائما.
• الثورة بين "تمثل الذات السلطوي" الداخلي
و"تمثل الآخر المهيمن" الخارجي
من ثم يمكن أن نقدم الفرضية السابقة عن استعادة الذات أو الاستلاب للآخر، بصياغة أخرى، وهي أن الثورة الشعبية تكون في تدافع مع تمثلين، الأول "تمثل الذات السلطوي" الداخلي القديم، والثاني "تمثل الآخر المهيمن" الخارجي، فحقيقة الثورة هي فعل خطير للغاية في الظاهرة البشرية، وتقوم بتجديد الدماء فيها كلما تكلست، لكنها تستعدي الجميع داخليا وخارجيا، داخليا في حاضنتها الحضارية تستعدي المستفيدين من منظومة القيم القديمة، أو ما يمكن تسميته "تمثل الذات السلطوي" الداخلي، وخارجيا أي من الحواضن الحضارية الأخري وتحديدا من الحواضن المهيمنة، تستعدي المستفيدين من هيمنة تلك الحواضن ومنظومة قيمها، أو ما يمكن تسميته "تمثل الآخر المهيمن" الخارجي.
إذن فالثورة الشعبية في أي مكان تتحول لعدو داخليا وخارجيا، تستعدي منظومة القيم الداخلية القديمة ومنظومة القيم الخارجية المهيمنة، لذا فهدف منظومة القيم الخارجية المهيمنة هو احتواء الثورة ومحاولة تذويبها، مهما حاولت ادعاء مساعدتها، لأن نجاح ثورة ما يمثل تهديدا للنموذج الحضاري الآخر/ المهمين، وتدير القوى المهيمنة العلاقة بين دعاة الثورة وبين سلطة النظام القديم، بهدف إدارة التناقضات لتفريغ اللحظة الثورية من احتشادها، وغالبا ما يلتقي هدف القوى الخارجية المهمينة مع القوى الداخلية المسيطرة، ويختبرا معا عدة تباديل وتوافيق متعددة لتفويت الفرصة على الثورات الشعبية من "استعادة الذات" القديمة، والتحول لـ"نموج حضاري عالمي" جديد.
• آلية تفكيك الثورات و"الذوات التاريخية"
بين تفعيل التناقضات والصدمات النفسية الجماعية
كما أن واقع دراسة "الحالة العربية" يخرج علينا بفرضية نظرية جديدة في مسيرة الثورات الشعبية أو دورة حياتها، خاصة مع قراءات الموجة الثانية من الثورات العربية، وهي أن الثورات تتعرض لآليتين رئيسيتين للتفكيك، الأولى هي تفعيل التناقضات الداخلية والثانية هي الصدمة النفسية الجماعية، بمعنى أن حيلة منظومة القيم القديمة السائدة في دول الوطن العربي، كانت تفعيل التناقضات بين القوى الداخلية، سواء التناقضات الخشنة أو الناعمة، أو المادية والقيمية عبر تفجير "مستودع الهوية" المتعايش داخليا ومكوناته، فمثلا التناقضات المادية الخشنة يتم تفجيرها داخليا عبر الصراع في بناء التراتب الاجتماعي السائد، ودفع التراتبات والرتب الاجتماعية للتنافس على الدور والمصالح في النظام الاجتماعي، كأن يتم تفجير الصراع بين مؤسسات الدولة على الاختصاصات والعوائد مثلا، أو توزيع عوائد الخدمات السيادية والأراضي، وكذلك تفعيل الصراع داخل "مستودع الهوية" الناعم سواء الطائفي أو المذهبي أو العرقي! أو الصراع السياسي بين الكتل الأيديولوجية المتنافسة تاريخيا، وأسوأ ما يكون مثلما حدث في النموذج اللبناني عندما كان الطائفي ممتزجا بالسياسي والاجتماعي، أي وجود تكتلات طائفية لها تمثيل سياسي ومساحة في التراتب الاجتماعي، حيث وصل الأمر بالحالة اللبنانية لمرحلة الانسداد، وعجز الحراك الثوري الشعبي عن تفكيك الأبنية الفوقية للمجتمع.
مما يدفعنا للوصول للآلية الثانية في تفكيك الثورات الشعبية، وهي آلية "الصدمة النفسية العامة، والتي حدثت في لبنان مع تفجير بيروت، وحدثت في العراق مع مذابح إطلاق النيرات على الثوار، وحدثت في السودان مع عملية فض الاعتصام الكبير بالقوة، قبل الوصول لنظام ما بعد الثورة السودانية وتركيبته المازومة الحالية.
النموذج المعرفي الواضح في الحالة العربية؛ أن نجاح تكتيك تفعيل التناقضات المتنوعة كحاجز في وجه المطالب الشعبية، في لبنان والعراق تحديدا، تبعه تكتيك "الصدمة النفسية الجماعية"، مما أدى في النهاية للفشل في "استعادة الذات"، من ثم لجأ البعض لبديل "الاستلاب للآخر" مع دعوات عودة الانتداب الفرنسي في لبنان، ودعوات الهجرة للآخر من خيرة الشباب المثقف العراقي الثائر، وظهر الاستلاب للآخر في الحالة العراقية على شكل دعوات للهجرة، لأن العراق لم يعد به ما يغري آخر غربي بالعودة له والمطالبة باستدائه كما في الحالة اللبنانية، بعد أن تم تفكيكه تماما وتفعيل التناقضات الطائفية والعرقية والاجتماعية والاقتصادية، أي بعد أن تم تفعيل التناقضات الناعمة والخشنة بـ"مستودع الهوية" العراقي. ليكون النموذج اللبناني هو أبرز مثال على تراتبية السلب الخشن الذي يليه السلب الناعم، السلب الخشن تم عبر الانسداد وتفعيل النتاقضات ثم "الصدمة النفسية الجماعية، بما ادى لظهور الاستلاب الناعم والدعوة لعودة الانتداب الفرنسي، وموجات هجرة جماعية للناس من بيروت ولبنان.
ثانيا:
ما قبل الاستلاب الخشن الجماعي
النخب الثقافية وأسباب استلابها الناعم المبكر
• المثقف وسبب التحول العام من الاغتراب إلى الاستلاب
سوف أستخدم هذه المرة لغة بسيطة مباشرة للربط بين استلاب المثقف العربي المبكر واستلاب المواطن العادي الذي قد يتأخر، في الأصل أن الإنسان يحلم دائما بالتحقق والسعادة وامتلاك أسباب الحياة، وغياب ذلك يؤدي لشعوره بالاغتراب وعدم التحقق، لكن يظل الأمل هو ما يدفع للاستمرار في الحياة، والتغلب على اغترابه والسعى لامتلاك أسباب السعادة والتحقق في محيطه الاجتماعي، والذات التاريخية التي ينتمي إليها.
لكن في بعض الأحيان غياب الأمل واليأس من امتلاك أسباب الحياة داخل المحيط الاجتماعي للإنسان وذاته التاريخية، يدفع البعض (كرد فعل من أصحاب الوعي والمعرفة تحديدا) للبحث عن بدائل أخرى يُستلب إليها ويرى فيها الأمل، هنا يتحول الاغتراب عن الذات إلى استلاب للآخر، وهو النموذج الذي تحقق عند كثير من المثقفين العرب حينما تحول الاغتراب والفشل في تجاوزه إلى حالة استلاب، خاصة وأن "الاغتراب" كمفهوم في سياقه المعرفي جاء كفكرة وافدة نتاجا وتأثرا بحالة المثاقفة ورد الفعل للتأثر بالمسألة الأوربية، حيث نشأ مصطلح الاغتراب هناك، لكن الاغتراب الأوربي كان يقوم على انتظار تحقق الإنسان وفق تصور: وجودي او ديني او مادي... ألخ، إنما المثقف العربي المبكر ومع شعوره بالعحز عن تحقق الذات العربية وفشلها وتفككها طوال القرن الماضي، شعر باليأس تجاهها، مع بقاء نموذج الآخر الحضاري، مما جعل الاغتراب عن الذات عنده يتحول لفكرة الاستلاب للآخر، وهي المقاربة التي استخدمتها لتفسير خطاب وسلوك بعض المثقفين العرب مؤخرا، وتبنيهم لخطاب الاستلاب للآخر الصهيوني والغربي عموما، سواء كان اليأس رد فعل لتجربة ذاتية أو تجربة ذات صلة بالشأن العام.
في حين عادة ما يكون استلاب المواطن العادي بحثا عن شروط الحياة المادية أو الخشنة عند الآخر بعد تعذر امتلاكها عند الذات، لكن قد لا يطور كل المواطنيين الذين اتجهوا للآخر وتركوا بلادهم خطاب استلاب ناعم مباشر للآخر، وفق مرارة التجربة الذاتية لكل منهم في علاقته التاريخية بوجوده في وطنه القديم، لكن المثقف الذي يملك بنية عقلية وعلاقة علنية بالشان العام، قد يطور بطبيعته خطابا للاستلاب للآخر وينتقي من مستودع هوية الآخر، ما يناسبه من تمثلات ناعمة يرفعها حلا يبرر تخليه عن التمثلات الناعمة لمستودع هويته الذاتي القديم.
• الأدب وتمثلات الاستلاب المضمرة في الحالة العربية
الحقيقة أن واقع "دراسة الحالة" التي قمت بها على مدى طويل، لدعاة خطاب الاستلاب والخروج على الذات العربية (حتى قبل ظهور الخطاب المباشر للاستلاب للآخر الصهيوني)، تجعلني أضع الأدب العربي في مصاف التمثلات المبكرة والمضمرة لفكرة الاستلاب الناعم والمبكر الحضاري للآخر، حيث ظهرت العديد من النماذج التي حققت شروط الاستلاب الناعم إلحاقا بوجود الاستلاب الخشن، وتمثل ذلك في عدة نماذج أدبية درستها في الفترة الأخيرة أطلقت عليها في حينه "نماذج الاستلاب للاحتلال الجديد"، وأقصد بها بعض الروايات التي كتبها العراقي سنان أنطون بعد احتلال أمريكا للعراق، والتي كتبها الروائي الباكستاني محسن حامد بعد تدخل أمريكا في شئون بلاده والتناقضات الإقليمية والداخلية التي فجرتها من أجل ذلك، لكن هنا سأضع ما يخص العراقي سنان أنطوان لعلاقته المباشرة بالذات العربية، والذي سبق وتناولته في لقاء تليفزيوني، وشملت سمات رواية الاستلاب للاحتلال الجديد كما أسميته في حينه عند أنطون سنان: غياب اليقين وعدم التجذر مع النسيج والموروث الشرقي ومستودع الهوية بطبقاته، حضور الأزمة الوجودية والبحث في مفاهيم القدر وحضور العبث واللاجدوي، حضور الحب والجنس بشدة كبديل عن الهزيمة والانسحاق الجماعي، لجوء البطل وحلمه إلى بلد المحتل/الغربي/ الآخر كبديل عن أزمة وطنه، والتداخل بين الرواية وواقع المؤلف الذى يهاجر عادة للحياة في الغرب جزئيا أو كليا.
الشاهد هنا أن التناقضات التي فجرها الاحتلال الأمريكي داخل العراق على المستوى الخشن ثم الناعم، انتهت بسنان أنطون في آخرة المطاف للبحث عن الحياة في بدائل أخرى والاستلاب لها، حتى ولو عند الذات الحضارية التي فجرت مستودع هويته الذاتي التاريخي! بيت القصيد هنا هو التمثل المبكر لفكرة الاستلاب للآخر وتراتب السلب الخشن وأسبقيته للاستلاب الناعم في حياة الإنسان العربي، وأن اليأس من منظومة قيم الذات العربية التي فجرها الاحتلال الأمريكي، دفع بطل أنطون سنان للاستلاب للآخر، واليأس من الأمل في التحقق وكسر الاغتراب الإنساني من خلال الذات العربية.
ذلك ما رصدته مؤخرا أيضا مع عودة الأمل المصحوب باستعادة الذات في النموذج العراقي في الموجة الثانية من الثورات العربية في نهاية العقد الثاني من القرن الجديد، عند مجموعة من أفضل الشباب العراقي المثقف، الذي حينما انتهى الأمر بمسار الثورة العراقية مؤخرا لحالة "الصدمة النفسية الجماعية" وإطلاق النيران العشوائي على الثوار (التناقضات متجذرة أصلا في بنية المجتمع العراقي)، مما أدى ذلك لظهور فكرة الاستلاب مجددا، وإعادة إنتاج مشروع انطون سنان عن الهجرة للخارج والآخر كحل بديل عن تناقضات الذات وفشلها في استعادة ذاتها.
• الإلحاد الفردي كتمثل للاستلاب الديني
وغياب منطق كلي للحياة العربية
كما أن هناك تمثل آخر لخروج لنخب الثقافية المبكر على الذات العربية، وتأثرا بفكرة السلب الخشن أو الواقعي الذي يليه ظهور اختيار الاستلاب الناعم أو الحضاري، على المستوى الفردي عندهم وبشكل سابق لحالة جماعية ما قد تحدث او لا تحدث، 1لك بسبب حدوث بعض الصدمات الواقعية أو الخشنة في حياة بعض المثقفين العرب الفردية، تؤدي لظهور اختيار الاستلاب الناعم أو الحضاري الفردي والمبكر في أقصى صوره تشددا، حيث في بعض الحالات تمثل السلب الواقعي في حوادث تتعلق بـ"التابو" أو المقدس أو المُحرم: الديني أو الجنسي، أو جمعت بعض الحوادث بين المقدس الديني/ الجنسي معا، في شكل اعتداء شخصي أو مشاهدة غير شخصية لفعل لاعتداء أو جنسي محرم صادر من شخصية دينية، أو حادثة تخالف المنطق الديني وقعت أيضا من شخصية دينية وكسرت الرمز الديني في أقدس صورة، أو على مستوى المُقدس والمُحرم الجنسي وقوع اعتداء شخصي أو مشاهدة تتعلق بالجنس المحرم داخل العائلة الواحدة.
كسر المُقدس الديني من رمز ديني، أو كسر المُقدس الجنسي في إطار العائلة، أو اجتماع المقدسين في واقعة واحدة، يؤدي لرد فعل عنيف من الأفرد أصحاب الوعي العالي والتفكير المنطقي، حيث يجعلهم ذلك يأخذون رد فعل قوي وعنيف تجاه المنطق الحاكم للمجتمع كل في أعلى مراكزه قداسة، وهو قرار الخروج على المنطق الديني نفسه (إسلامي أو مسيحي) وتقرير غياب وجود ذات كلية عليا مهيمنة على الحياة. هنا السلب الواقعي الفردي حدث على مستوى المقدس الجنسي أو الديني أو كليهما، بما كان يؤدي لظهور الاستلاب الناعم أو الحضاري الفردي في أشد صوره تطرفا، أو رفض مركز السردية العربية المتمثل في المقدس الديني وإعلان غياب منطق كلي مسيطر على الحياة أو الإلحاد.
الجدير بالذكر هنا هو الإشارة إلى فكرة حدوث "صدمة نفسية" خاصة او فردية تمثل استلابا خشنا، أدت أيضا لظهور استلاب ناعم مبكر وفردي عند الكثير من النخب الثقافية، وربما يمكن التعميم هنا قليلا للقول بأن الدافع الفردي الواقعي إذا تحقق لسبب قوي يرؤتبط بالمنطق العام، مسببا "صدمة نفسية" واقعية قوية، قد يؤدي أيضا لظهور وتطور الاستلاب الناعم على المستوى الكلي، الذي يعممه صاحبه على أقوى مراكز الذات العربية الناعمة وهو الدين (إسلامي أو مسيحي)، ويقرر سواء جهرا أو سرا بشكل مباشر او غير مباشر غياب ذات كلية منطقية مسيطرة على الحياة والعالم، كرد فعل لما واجهه من موقف يفتقد للمنطق الخشن او الصلب والحافز القيمي، ويعلن قرارا خاصا او فرديا بالإلحاد أو استنتاج غياب وجود منطق كلي ناعم وذات عليا مهيمنة على الحياة في السردية العربية.
كما يمكن القول أنه في العديد من ملاحظات على "دراسة الحالة" العربية عند النخب المثقفة، وجدت أن الدافع الأكبر لتبني خطاب الاستلاب والخروج على السردية العربية الكلية، هو دافع شخصي أو فردي يُغَلفُه الإنسان بدافع عام أ ويسقطه على الجماعة كلية، أو يسقطه على السردية العربية عموما كما في حالة الاستلاب الديني، فيقرر الإنسان اختزال كل تمثلات السردية العربية في المطلق الديني، ويعلن غياب مطلق ديني منطقي وعادل، كأثر لما شاهده أو تعرض له من "صدمة نفسية خاصة". وواضح هنا دور الصدمة النفسية في تبني خطاب الاستلاب العام جماعيا وفرديا والخاص، مع السياق والنتائج المختلفة لكل من "الصدمة النفسية الجماعية" و"الصدمة النفسية الفردية".
• السياسة والاستلاب كـ"تصويت عكسي" ضد الذات العربية
المنشقون ضحايا غسيل المخ الأيديولوجي
كما يضاف لنطاق استلاب النخب الثقافية أو النوعية المبكر؛ مجموعة جديدة سوف تُسقط على الذات العربية تجربتها السياسية أو الأيديولوجية الشخصية أو الفردية، بمعني أنها ستعمم موقفها من أيديولوجية صلبة أو خشنة معينة كانت تتبناها لحد التوحد، ثم انشقت عنها بعد تجربة مريرة على الذات العربية كلية في خروج كلي ناعم أو حضاري، وهذ النموذج نجده عند بعض المتطرفين الذين تم استقاطبهم لأيديولوجيات فرق الدين السياسي (مثل الإخوان المسلمين) أو ربما بعض المذاهب الدينية المتشددة (مثل القرآنيين)، بنية هذه النماذج الإنسانية النفسية أنها تشبعت وتطرفت في توحدها مع الأيديولوجيات الدينية التي تدعي امتلاك الحق المطلق، وانتظرت منها التحقق دينا ودنيا.
لكن حين يحدث الخلاف أو الصدام الواقعي أو الخشن من تلك الجماعة أو الانشقاق من جانب الشخص المتطرف فرديا، فهو يريد أن يمارس تطرفا ناعما أو حضاريا فرديا من نوع آخر يبرر له تطرفه القديم، لأنه أساسا شخصية غير معتدلة وغير متوازنة ويميل للتشدد في أي موضع، لذا كرد فعل على انسلاخه عن خطاب امتلاك المطلق الديني، يريد أن يتحدث باسم مطلق آخر ضده، فيقوم بعملية "تصويت عكسي" ويختار المطلق العلماني ويعتبر السردية العربية الدينية التاريخية هي التمثل لأيديولولجيته القديمة، ويسقط عليها موقفه النفسي الفردي المأزوم.
من ثم بعد أن كان يتبناها لحد تكفير الناس والمخالف لها، أصبح يتنكر لها لحد القطيعة والانسلاخ عنها والاستلاب للروايات المضادة لها داخل الحاضنة العربية، وخارج الحاضنة العربية، فكثيرا ما نلمح بعض الذين تم استقطابهم لأيديولوجية "الإخوان المسلمين"، وبعدما انشقوا عنهم أو لُفظوا منها لأسباب تنظيمية أو شخصية أو سياسية تتعلق بمسارات معينة، تجدهم لم ينقلبوا فقط على خطاب الجماعة بل ينقلبون على السردية الدينية العربية كلها، ويتبنون خطابا للقطيعة أو العلمانية المتشددة، وهي حالة رد فعل نفسي يقوم بها الإنسان لفصل تعلقه القديم بتجربة فكرية، أو سياسة ما، تشربها باختياره وتم غسل مخه بها لحد التشبع، فيمارس ضدها رد فعل نفسي بالنفي حتى لا يشعر بالهزيمة والتمزق النفسي الداخلي، هو يتشدد في التصويت العكسي ضد الذات العربية في محاولة منه للانتقام من التجربة التي كان يتبناها ولم يخرج منها منتصرا، وقد تزايدت هذه الحالات بعد ثورة 25 يناير وإزاحة نظام الإخوان في 2013.
ثالثا :
الخروج الإيجابي على الرواية السائدة للذات
• الثورة كخروج إيجابي على "الرواية السلطوية السائدة للذات"
على عكس مفهوم الاستلاب الذي يقوم على فقد الأمل وسيطرة قرار اليأس تجاة الراوية الكلية للذات العربية، فإن الثورة تقوم بفعل معاكس تماما وهو التأكيد على الأمل وقدرة الذات على استعادة نفسها من خلال مطالبتها بـ"سردية جديدة"، تخرج في الوقت نفسه على "الرواية السلطوية السائدة للذات" العربية، وهذا وجه الخلاف بين "الخروج الإيجابي" على الرواية العربية السائدة من جانب الثورات العربية، و"الخروج السلبي" من جانب دعاة الاستلاب على رواية الذات العربية.
الثورة تخرج على "رواية سلطوية للذات" العربية تراها تكلست ووصلت لحد العجز عن تلبية طموح الناس والتعبير عن حاضرهم وماضيهم ومستقبلهم، لكنه "خروج إيجابي" ليس نفيا للذات بل تأكيدا عليها وعلى الأمل في التحديث والتقدم والنهضة من خلالها، في حين خطاب الاستلاب يقوم على "الخروج السلبي" واليأس من الذات العربية ونفيها نفيا مطلقا والقول بفسادها العام، ويسعى للبحث عن سردية خارج الذات العربية عبر إلحاقها بذات أخرى، هي الذات الغربية في العموم أو تمثلها الصهيوني الذي ظهر مؤخرا مع خطاب الاستلاب الذي صاحب ظهور صفقة القرن، مع يوسف زيدان وبعده مراد وهبة وغيرههما.
• السؤال المركزي عن لحظة التحديث
والقدرة على الخروج على السياق الخاص أو الاستلاب له
يصبح السؤال الفيصل لدعاة الاستلاب باسم التحديث والتقدم والعلمية والموضوعية، وكذلك دعاة عدم احتكار الحديث باسم المطلق الديني في التنافس السياسي والحزبي والظاهرة البشرية عموما، ودعاة الضبط المؤسسي المعياري والعلمي لبنية الدولة، ودعاة إطلاق آليات "المجتمع الفعال" وفرز أفضل عناصر المجتمع ومواهبه.. يصبح السؤال الملح ما هو موقفهم تجاه ثورة ستنتج لحظة تحديث ذاتي، بعيدا عن شعارات اليمين واليسار العربيان نتاج تناقضات القرن الماضي وعلاقتهما بالمسألة الأوربية وتمثلاتها الفكرية والأيديولوجية، أو يصير السؤال أكثر وضوحا كالتالي ماذا إذا قدمت الذات العربيبة "لحظة تحديث" مفصلية أنتجت كل شروط التحديث وخطابه، ولكنها تجاوزت نخب الماضي واستقطابات القرن العشرين بمالا تحمله من تجارب ودوافع شخصية وعامة، وتجاوزت رغبة هؤلاء في القصاص من هؤلاء ورغبة أولئك في الاقتصاص من أولئك!!
أعتقد أن سيكولوجية البنية السياسية للنخب العربية الفكرية والسياسية والأيديولوجية يمينا ويسار، ومعهم "الرواية السلطوية السائدة للذات" العربية التي تمثلها "دولة ما بعد الاستقلال" عن الاحتلال الأجنبي في القرن الماضي بقلبها العسكري، أعتقد أن هذا الثالوث أي السلطة ويسارها ويمينها التاريخيان، يجتمعون ثلاثتهم في التصدي لظهور "لحظة تحديث" مفصلية تتجاوز النظام القديم برمته، تتجاوز السلطة والمعارضة يسارية ويمينية.
التاريخ عبارة عن مفاصل رئيسية بينهم محاولات وجهود للانتصار لـ"القيم الإنسانية الأعلى" وتمثلاتها، فلسفة حركة التاريخ وعلم اجتماع الشعوب تخبرنا بأن هناك مفاصل تعيد إنتاج كل ما قبلها، وتصبح هي مفصليات رئيسية في مسار الشعوب وحراكها التاريخي، وهذا هو سؤال التحديث! في كل فترة زمنية ينشط البشر من خلال دعاة لـ"القيم الإنسانية الأعلى" أو طليعة الحلة البشرية و"فرزها القيمي" الطبيعي، سعيا لينشروا مباديء تلك "القيم الإنسانية الأعلى"، ويصبح لكل منهم مذهبه أو فلسفته أو عقيدته او أيديولوجيته في الدعوة لتحقيق تلك القيم الأعلى، لكن عند "لحظة مفصلية" ما تتحقق شروط التغيير وظروفه بشكل موضوعي، هنا من يعي حركة التاريخ سيدرك أنه أمام "لحظة مفصلية" كاسحة للتحديث، وسيكون أمامه خياران لو كان بالنضج الكافي والفهم العميق لحركة التاريخ وفلسفته، سيتجه للاختيار الأول وهو دعم الظرف التاريخي العام والفكرة المركزية لـ"القيم الإنسانية العليا"، ويسمح لها بإنتاج خطاب جديد -ونخبة جديدة- يتحول هذا الخطاب إلى فلسفة أو عقيدة سياسية عامة، تصبح هي تمثل اللحظة التاريخية ومساراها.
لكن هذا الاختيار يتطلب قوة نفسية هائلة للانفصال عن السياق التاريخي الخاص بالإنسان والمراهنة على البدء من الصفر، والتخلي عن المكانة الخاصة والمكتسبات والدوافع الخاصة في العموم والخصوص. أما الاختيار الثاني فسيكون التمترس حول السياق التاريخي الخاص بدعاة "القيم الإنسانية الأعلى" أو ما يظنونه علاجا للمسار والأزمة الشخصية أو العامة التي قابلوها، ومحاولة تكييف اللحظة التاريخية وليّ عنقها لتصبح على مقاس الخطاب الخاص بكل جماعة تاريخية قديمة، قبل ظهور "اللحظة المفصلية" التاريخية، هنا سيتم توظيف تلك الجماعات السياسية من جانب النظام القديم المسيطر على تلك الجماعة البشرية، للهروب من استحقاقات "اللحظة المفصلية" التاريخية.
حيث في لحظة معينة إذا لم تدرك النخبة التاريخية لجماعة بشرية ما، أن طريق النجاة لبلادهم لابد أن يأتي من خارجهم، فإن هذه الجماعة البشرية تظل تدور في حلقات مفرغة، وتعيد اجترار الأخطاء ذاتها، لكن ذلك أيضا هو ما أخبرتنا به التجارب البشرية التاريخية، أن المعظم لا يستطيع أن يتجرد عن سياقه التاريخي الخاص، ويتعامل بتجرد مع اللحظة التاريخية المفصلية لجماعته البشرية.
• المعرفة كخروج إيجابي مستمر على جمود رواية الذات
النقد الذاتي والتصحيح المستمر لمسار سردية الذات
في مقابل وجود طليعة أو نخبة للاستلاب الناعم أو الفكري للآخر أيا كانت أسبابها أو دوافعها، يجب أن تكون هناك طليعة للنقد الذاتي الناعم أو الفكري بحثا عن "التحديث" من خلال الذات، ومشكلة الذات العربية هنا هو وقوفها على السطح الخارجي في معظم المعارف المتعلقة بالظاهرة الإنسانية، ودورانها في فلك المنتجات النهائية للمسألة الأوربية، وتمثلاتها في الفلسفة والسياسة والاجتماع وعلم النفس والأدب.. ألخ. في حين تكاد تغيب الدراسات التطبيقة وفق منهج "دراسة الحالة" العربية، والخروج بتصورات ومخرجات ذات صلة بالمدخلات العربية نفسها وظرفياتها. بما جعل هناك حالة من الاستلاب المعرفي المسكوت عنه عند الذات العربية، وغياب مناهج النقد الذاتي الحقيقية وفق "دراسات الحالة"، وحضور دعاة الاستلاب للآخر المعرفي الناعم للآخر بديلا عن ذلك.
كان الاستلاب المعرفي معظمه يعود لفكرة التوريث السلطوي أو المعارض، التوريث السلطوي الأكاديمي المعرفي جاء نتيجة لتقيد أجيال الباحثين بما وصل إليهم من أساتذة مندمجين في "رواية الممط السلطوي السائد" ويعتبرون الخروج على مساراتهم نوعا من الهرطقة، حيث الذي قيد الباحثين أكثر في الاتباع والتقليد والاستلاب و"التقييد الطوعي" للذات، هو البحث عن الصعود الذاتي. أما الاستلاب المعرفي المعارض فيعود أيضا لفكرة التوريث ولكن بشكل آخر حيث عملت الأبنية المعرفية للمعارضة السياسية العربية على تكريس مجموعة من الأفكار والترويج لها، دون فتح مساحات إعمال العقل والبحث في المناهج التي أنتجتها واختبارها على الحالة العربية، بما يسمح بضبطها بالحذف او الإافة حسب الظرفية الخاصة بالحالة العربية، فتشركت أبنية السلطة والمعارضة العربيان في استنساخ حالة استلاب معرفي وجمود منهجي. وكان للمعارضة السياسية اليسارية دورها الأبرز هنا، فلقد قدمت أمهات وكلاسيكات الفكر الأوربي التي تحولت لأيدولوجيات، بوصفها مقدسا جديدا أو تابو لا يمكن اختراقه، ولم تمنح اعترافات لأي محاولات للخروج على مسارها المقدس/ الدوجما/ التابو، كما أن المعارضة السياسية اليمينية العربية قدمت كلاسيكيات الفكر العربي ومنتجات بداية عصر الإسلام التي واكبت ظروفه ومستجداته في حينه، على أنها نهاية للعلوم الإنسانية والدينية، وحولتها لأبينة سياسية تستخدمها للمزايدة على الآخرين.
من ثم بين معيار الانتهازية والسير في إطار النمط السائد سلطويا للصعود الذاتي، والرغبة في عدم إغضاب الجوقة اليسارية أو الكهنة اليمينية، ظل التفاعل العربي المعرفي محصورا في المعظم في إطار المنتجات الأيديولوجية والاختيارات السياسية اليسارية أو الليبرالية المتطرفة، أو المقولات العامة الكلاسيكية لبواكير عصر الإسلام، ولم يظهر تيارا فاعلا للنقد الذاتي وتصحيح مسار الذات العربية، ولم تشتبك الحالة العربية مع التيارات الأوربية التي تجاوزت كلاسيكيات الفكر الأوربي، وكانت المعضلة الأبرز غياب الجسارة العلمية لإجراء الدراسات التطبيقية (الأمبيريقية) وفق واقع الحالة العربية (منهج دراسة الحالة)، بما جعل الطبقة المعرفية العربية عاجزة عن تطوير خطاب رافع للذات العربية من أزمتها و"نقدها ذاتيا"، وتحولت لأحد أبنية التقييد والعجز في المعظم، بدلا من أن تصبح قاطرة للمستقبل ترصف الطريق إليه وتستشرف مساراته.
خاتمة: اللحظة التاريخية في مواجهة السلب والاستلاب
بدأ هذا النموذج المعرفي بمحاولة إقامة علاقة بين السلب الواقعي أو الخشن والاستلاب الناعم أو الحضاري في الحالة العربية، ملخصها أن السلب الواقعي يجب أن يستبق الاستلاب الحضاري، ويحدث السلب الخشن أو الواقعي عن طريق تفجير التناقضات في الحالة العربية، ثم عن طريق الصدمة النفسية الجماعية للشعوب، ليقبل الناس بالانسلاخ عن الذات والتخلي عن ثوابتها التاريخية، ويشرعون في قبول الاستلاب للآخر بتمثلاته المختلفة، سواء في الدعوة لعودة الانتداب الفرنسي بعد صدمة الناس في لبنان بتفجير بيروت وموجة الهجرة التي بدات بعده أيضا، أو في فرض صفقة القرن على الناس فرضا من خلال تفعيل التناقضات في الحالة السودانية وقبولهم لمسار الاستلاب لصفقة القرن وروايتها، وذلك أيضا بعد الصدمة النفسية العامة لفض الاعتصام الكبير قبل تشكل النظام الحالي، وفي الحالة العراقية التي بعدما ارتفع سقف طموحاتها للسماء مع دخولها ضمن الموجة الثانية للثورات العربية، بدات تظهر دعوات اليأس والهجرة خارج العراق مع إطلاق النار العشوائي على المتظاهرين والثوار هناك..
هناك من يقول أيضا بأن ما يحدث في بعض البلدان العربية من دول الموجة الأولى من سياسات خشنة وواقعية للتضييق على الناس في حياتهم هو نوع من "الصدمة النفسية الجماعية" الجديدة، خاصة من دول الطوق المحيطة بالكيان الصهيوني "إسرائيل"، وهو التكتيك الأخير لفرض "صفقة القرن" وروايتها وتصورها للعلاقة العربية / الصهيونية على الجميع، ليقبلوا بالتخلي عن ثوابت الذات الحضارية العربية، وفق الفرضية النظرية التي وضعها هذا النموذج المعرفي والتي تقول: بأسبقية السلب الخشن أو الواقعي للذات الإنسانية، حتى تقبل بالاستلاب الناعم والحضاري للآخر وتخضع لروايته وهيمنته..
لكن الذي يقلق هذه الفرضية النظرية وقد يكسر قواعدها، هو وجود "لحظة مفصلية" تاريخية لتمدد الذات العربية خرجت مع ثورات العقد الثاني من القرن الجديد في موجتها الاولى ودولها، وموجتها الثانية ودولها، وأن دعاة "استعادة الذات" العربية الذين هم الآن "فرز طبيعي" منتشر في كل مكان، وليسوا مجتمعين في تنظيم او تراتب اجتماعي معين يمكن تفكيكه، أن هؤلاء "كامنون" وأنه على قدر الانكماش الذي يحدث ويجري فرضه عليهم، عبر تكتيك "تفعيل التناقضات" العربية وتكتيك "الصدمات النفسية الجماعية" وتضييق حياة الناس بشدة (الذي هو أحد تمثلات تكتيك الصدمة النفسية الجماعية)، على قدر ذلك الانكماش على قدر ما سترتد وتنتفض الذات العربية بقوة في لحظة معينة دفاعا عن ثوابتها التاريخية، وبحثا عن استراد وجودها المستلب من الأبنية السلطوية المتعلقة بالذات، والأبنية المهيمنة المتعلقة بالآخر.
حاتم الجوهرى
حاتم الجوهرى - تفكيك الذات العربية: بين السلب الخشن والاستلاب الناعم
حاتم الجوهرى - تفكيك الذات العربية: بين السلب الخشن والاستلاب الناعم
www.ahewar.org