كنتُ قد أشرتُ منذ بعض الوقت، في معرِض التمهيد لرأي الراحل الكبير عباس محمود العقّاد في" الشعرالحرّ"- وهو اسم غير دقيق لأكثر من لون شعريّ مُحدَث خرج بدرجة أو أخرى عمّا يُعرَف لدى النقّاد العرب القدماء بعمود الشعر-إلى أمرين اثنين، أوّلهما أنّ التطوّر سنّة من سُنن الحياة، وأنّ الآداب والفنون لا تشذُّ عن ذلك.
أمّا الأمر الثاني فيتجلّى في ضرورة أنْ يخضع هذا التطوّر في الشعر، كما هو الشأن مع الفنون الأخرى، إلى أسس وقواعد تنظّم حركة التجديد أو التحديث فيما ينطوي عليه هذا الشعر من خصائص ومقوّمات.
على أنّ استشهادي بأقوال العقّاد في هذا الشأن إنّما أتى في هذا السياق لا أكثر. هذا يعني أنّني لا أذهب إلى رفض التجديد الشعريّ، لكنّني أقرنُه بالضرورة بقواعد مناسبة تحفظ على الشعر جوهره، وتمنع الأدعياء من العبث بهذا الفنّ الأدبيّ الجميل تحت ذريعة التطوّر والتجديد.
يُجمِعُ المختصّون والنقاد على أنّ ما يميّز فنّ الشعر ويُضفي عليه خصوصيّته الأدبية إنّما يتأتّى من عناصر بعينها يمكن إجمالها فيما يلي:
١- المضمون الشعري الممتزِج بإحساس الشاعر وعاطفته، والصادر عن وجدانه ومَلَكاته النفسية الخاصّة بالشعر؛ ذلك أنَّ الشعر يخاطب الوجدان طَمَعاً في التأثير في مشاعر المتلقّي لكسب تعاطفه مع المضمون الشعريّ. وليس أمر النثر كذلك؛ إذ إنّه يعمد إلى تقديم ما يطرحه من أفكار ومضامين بصيغة تقريريّة مجرّدة صادرة عن مَلَكات عقلية خاصّة تخاطب العقل أملاً في إقناعه.
٢-الأسلوب الشعريّ المتمثِّل في عدد من العناصر، لعلّ من أهمّها حسن اختيار اللفظ الموحي والمعبِّر من المُعجم الشعريّ المناسب لمضمون القصيدة. على أنّ هذا لا يكفي وحده؛ إذ يسعى الشاعر أيضاً إلى وضع اللفظ المختار في مكانه الملائم من الجملة، ثُمَّ من النصّ الشعري كلّه. ومن خصائص الأسلوب الشعري كذلك هذا الميل الواضح إلى التصوير البيانيّ لبلورة الرؤى والأفكار وتجسيدها وتقديمها في صور حسّية تخاطب الحواسّ وتستدعيها.ولا ريب أنّ الخيال الخِصب بشتى أنواعه هو المنوط به لمّ شعث هذه الصور البيانية في إطار تصويريّ كلّيّ شامل.
٣- الموسيقا: وهي، في الواقع، تمثّل العنصر الأول من العناصر المكوّنة للنصّ الشعري، إلّا أنّني تقصّدت إرجاء الحديث عنها لأنّها تقع في صُلب الخلاف بين المحافظين والمجدّدين حول طبيعة الشعر.
لطالما تناهى إلى أسماعنا ذلك التعريف القديم للشعر بأنّه" كلام موزون مُقفّى" ،ويالَه من تعريف قاصر وظالم لا يرى في الشعر سوى أوزانه وموسيقاه، متعامياً عن خصائصه الجوهريّة الأخرى التي لايقوم الشعر بدونها.
على أنّ شعرنا العربي العريق، مَثَلُه في ذلك مَثَلُ سائر الآداب والفنون في العالم،
قد مرّ بلحَظات تاريخية مهمّة تمثّلتْ في محاولة تحقيق قدر أكبر من التفاعل الوجدانيّ الشعري مع متغيّرات ومستجدّات العصور المتلاحقة بما يتناسب وأحداثها وقضاياها الجديدة. لكنّ هيكل القصيدة وبنيانها الموسيقيّ في الشعر العربيّ ظلّ عصيّاً على التغيير، مع بعض الاستثناءات القليلة المتمثّلة خاصّة بالموشّحات الأندلسية وما تفرّع عنها
من أشكال شعرية مستحدثة.
أمّا في العصر الحديث فقد حقّق الشعر العربيّ قفَزَات نوعية تجلّتْ ابتداءً في إعادة الرواء والبريق إلى الشعر التقليدي مع شعراء عصر النهضة الكبار، بعد قرون طويلة من التّقهقر والاجترار. ثُمّ تلا ذلك محاولات عديدة للتمرّد على هيكل القصيدة الكلاسيكية ذاتها المستندة إلى البحور والأوزان الخليليّة؛ فكان من ذلك الشعر المرسَل وشعر التفعيلة، ثُمّ هذا المولود الجديد المسمّى" قصيدة النثر" التي تمثِّل انسلاخاً كاملاً عن عمود الشعر العربيّ بعامّة، وعن إطاره الموسيقيّ بخاصة . ولا ريب أنّ ازدهار الآداب والفنون العالمية الحديثة، ومنها الشعر، في ظلّ هيمنة الحضارة الغربية الثقافية والمادية على العالم قد ألقتْ بظلالها على الشعر العربي الحديث، وبخاصة قصيدة النثر.
غير أنّي لا أجازف كثيراً لو ذهبتُ إلى أنّ العامل الآخر المهمّ في ظهور هذا اللون الشعريّ الجديد إنّما يعود إلى انتشار التعليم في العالم العربيّ؛ ذلك أنّ الشعر العربي القديم كان يتوجّه في الغالب الأعمّ إلى متلقٍّ أميّ أو شبه أميّ فكانت حاسّة السمع هي قناة الاتّصال الأساسية مع الجمهور، ومن ثَمّ كانتْ موسيقا القصيدة الكلّية وإيقاعاتها الجزئية التي تصغي إليها الأذن من أهم عوامل التواصل بين الشاعر والمتلقّي.
في حين شكّل التّحوّل إلى قراءة الشعر بدلاً من الإصغاء إليه غالباً، انتقالاً نوعيّاً في وسيلة التواصل وطبيعته؛ فأخذتْ العين دور الأذن، وحلّ التمعّن والتّبصّر محلّ الإصغاء والتّرنّم إلى حدّ كبير.
على أنّي أرى أنّ قصيدة النثر مضطرّة إلى اعتماد بعض الأسس والقواعد الفنية التي لا بدَّ منها لكلّ عمل فنّيّ جادّ، وذلك لتأكيد مشروعيتها الفنيّة أوّلاً، ولقطع الطريق على أدعياء الشعر من المتشاعرين وأشباههم ثانياً.
وبدون ذلك سيبقى هذا المشروع الشعري عُرضة للمصادفات والأهواء.
أخيراً..ما مِن ضَير في أن تتعايش ألوان الشعر المتباينة كما تتعايش الفنون والمذاهب الأدبية المختلفة في عصر واحد؛ ذلك أنّ البقاء سيكون دائماً للأصلح حتى في الآداب والفنون.
لمزيد من المعلومات حول خصائص الشعر يمكن الرجوع إلى ما يلي:
١-الدكتور إحسان عبّاس، فنّ الشعر، دار بيروت للطباعة والنشر، ط٢، ١٩٥٩م.
٢-الدكتور محمّد مندور، الأدب وفنونه، دار نهضة مصر، القاهرة،د.ت
دكتور زياد العوف
أمّا الأمر الثاني فيتجلّى في ضرورة أنْ يخضع هذا التطوّر في الشعر، كما هو الشأن مع الفنون الأخرى، إلى أسس وقواعد تنظّم حركة التجديد أو التحديث فيما ينطوي عليه هذا الشعر من خصائص ومقوّمات.
على أنّ استشهادي بأقوال العقّاد في هذا الشأن إنّما أتى في هذا السياق لا أكثر. هذا يعني أنّني لا أذهب إلى رفض التجديد الشعريّ، لكنّني أقرنُه بالضرورة بقواعد مناسبة تحفظ على الشعر جوهره، وتمنع الأدعياء من العبث بهذا الفنّ الأدبيّ الجميل تحت ذريعة التطوّر والتجديد.
يُجمِعُ المختصّون والنقاد على أنّ ما يميّز فنّ الشعر ويُضفي عليه خصوصيّته الأدبية إنّما يتأتّى من عناصر بعينها يمكن إجمالها فيما يلي:
١- المضمون الشعري الممتزِج بإحساس الشاعر وعاطفته، والصادر عن وجدانه ومَلَكاته النفسية الخاصّة بالشعر؛ ذلك أنَّ الشعر يخاطب الوجدان طَمَعاً في التأثير في مشاعر المتلقّي لكسب تعاطفه مع المضمون الشعريّ. وليس أمر النثر كذلك؛ إذ إنّه يعمد إلى تقديم ما يطرحه من أفكار ومضامين بصيغة تقريريّة مجرّدة صادرة عن مَلَكات عقلية خاصّة تخاطب العقل أملاً في إقناعه.
٢-الأسلوب الشعريّ المتمثِّل في عدد من العناصر، لعلّ من أهمّها حسن اختيار اللفظ الموحي والمعبِّر من المُعجم الشعريّ المناسب لمضمون القصيدة. على أنّ هذا لا يكفي وحده؛ إذ يسعى الشاعر أيضاً إلى وضع اللفظ المختار في مكانه الملائم من الجملة، ثُمَّ من النصّ الشعري كلّه. ومن خصائص الأسلوب الشعري كذلك هذا الميل الواضح إلى التصوير البيانيّ لبلورة الرؤى والأفكار وتجسيدها وتقديمها في صور حسّية تخاطب الحواسّ وتستدعيها.ولا ريب أنّ الخيال الخِصب بشتى أنواعه هو المنوط به لمّ شعث هذه الصور البيانية في إطار تصويريّ كلّيّ شامل.
٣- الموسيقا: وهي، في الواقع، تمثّل العنصر الأول من العناصر المكوّنة للنصّ الشعري، إلّا أنّني تقصّدت إرجاء الحديث عنها لأنّها تقع في صُلب الخلاف بين المحافظين والمجدّدين حول طبيعة الشعر.
لطالما تناهى إلى أسماعنا ذلك التعريف القديم للشعر بأنّه" كلام موزون مُقفّى" ،ويالَه من تعريف قاصر وظالم لا يرى في الشعر سوى أوزانه وموسيقاه، متعامياً عن خصائصه الجوهريّة الأخرى التي لايقوم الشعر بدونها.
على أنّ شعرنا العربي العريق، مَثَلُه في ذلك مَثَلُ سائر الآداب والفنون في العالم،
قد مرّ بلحَظات تاريخية مهمّة تمثّلتْ في محاولة تحقيق قدر أكبر من التفاعل الوجدانيّ الشعري مع متغيّرات ومستجدّات العصور المتلاحقة بما يتناسب وأحداثها وقضاياها الجديدة. لكنّ هيكل القصيدة وبنيانها الموسيقيّ في الشعر العربيّ ظلّ عصيّاً على التغيير، مع بعض الاستثناءات القليلة المتمثّلة خاصّة بالموشّحات الأندلسية وما تفرّع عنها
من أشكال شعرية مستحدثة.
أمّا في العصر الحديث فقد حقّق الشعر العربيّ قفَزَات نوعية تجلّتْ ابتداءً في إعادة الرواء والبريق إلى الشعر التقليدي مع شعراء عصر النهضة الكبار، بعد قرون طويلة من التّقهقر والاجترار. ثُمّ تلا ذلك محاولات عديدة للتمرّد على هيكل القصيدة الكلاسيكية ذاتها المستندة إلى البحور والأوزان الخليليّة؛ فكان من ذلك الشعر المرسَل وشعر التفعيلة، ثُمّ هذا المولود الجديد المسمّى" قصيدة النثر" التي تمثِّل انسلاخاً كاملاً عن عمود الشعر العربيّ بعامّة، وعن إطاره الموسيقيّ بخاصة . ولا ريب أنّ ازدهار الآداب والفنون العالمية الحديثة، ومنها الشعر، في ظلّ هيمنة الحضارة الغربية الثقافية والمادية على العالم قد ألقتْ بظلالها على الشعر العربي الحديث، وبخاصة قصيدة النثر.
غير أنّي لا أجازف كثيراً لو ذهبتُ إلى أنّ العامل الآخر المهمّ في ظهور هذا اللون الشعريّ الجديد إنّما يعود إلى انتشار التعليم في العالم العربيّ؛ ذلك أنّ الشعر العربي القديم كان يتوجّه في الغالب الأعمّ إلى متلقٍّ أميّ أو شبه أميّ فكانت حاسّة السمع هي قناة الاتّصال الأساسية مع الجمهور، ومن ثَمّ كانتْ موسيقا القصيدة الكلّية وإيقاعاتها الجزئية التي تصغي إليها الأذن من أهم عوامل التواصل بين الشاعر والمتلقّي.
في حين شكّل التّحوّل إلى قراءة الشعر بدلاً من الإصغاء إليه غالباً، انتقالاً نوعيّاً في وسيلة التواصل وطبيعته؛ فأخذتْ العين دور الأذن، وحلّ التمعّن والتّبصّر محلّ الإصغاء والتّرنّم إلى حدّ كبير.
على أنّي أرى أنّ قصيدة النثر مضطرّة إلى اعتماد بعض الأسس والقواعد الفنية التي لا بدَّ منها لكلّ عمل فنّيّ جادّ، وذلك لتأكيد مشروعيتها الفنيّة أوّلاً، ولقطع الطريق على أدعياء الشعر من المتشاعرين وأشباههم ثانياً.
وبدون ذلك سيبقى هذا المشروع الشعري عُرضة للمصادفات والأهواء.
أخيراً..ما مِن ضَير في أن تتعايش ألوان الشعر المتباينة كما تتعايش الفنون والمذاهب الأدبية المختلفة في عصر واحد؛ ذلك أنّ البقاء سيكون دائماً للأصلح حتى في الآداب والفنون.
لمزيد من المعلومات حول خصائص الشعر يمكن الرجوع إلى ما يلي:
١-الدكتور إحسان عبّاس، فنّ الشعر، دار بيروت للطباعة والنشر، ط٢، ١٩٥٩م.
٢-الدكتور محمّد مندور، الأدب وفنونه، دار نهضة مصر، القاهرة،د.ت
دكتور زياد العوف