للشعرية معالم فى مدارجها الأولى الواضحة الجليّة تعوّد عليها الناس فى لغاتهم وألفوها فى حياتهم، وهناك سمات مائزة أخرى يدركها الجمهور بالحدس، لكنهم لا يفطنون إلى أسرارها ما لم تسعفهم المعرفة وتهديهم الخبرة والمراس. ومن الجلىّ أن قصيدة النثر التى شاعت وكثر عشاقها فى حياتنا العربية المعاصرة حتى توهم أنصارها أنها هى الشعر الحقيقى، هى الذئب الذى ينصبون له الفخاخ- على حد تعبير عماد فؤاد صاحب المختارات التى عرضنا لها من قبل- تحرص بشدة على الاكتفاء بالسمات الشعرية الخفية نسبيًا، مضحية بالمعالم الواضحة المعتادة فى جملتها.
هذه المعالم الأخيرة منها ما هو سمعى يرن فى الأذن حتى عند القراءة، وهى الأوزان المألوفة فى الشعر العمودى، والتى اكتفى شعر التفعيلة منها بالوحدة الأساسية المكررة وهجرتها قصيدة النثر سوى فى بعض ما سمّيته من قبل «فُتات التفاعيل»، فالوزن المكتمل مهجور عندهم، وهو المدخل الذى كان الناس يتعرفون منه على الشعر.
وقد اجتهدوا فى تحصيل ما سمّوه «الإيقاع الداخلى»، وهو شىء مبهم يختلط كثيرًا بإيقاع اللغة ذاتها، ولم ينجح أحد حتى الآن فى بلورته ووضع معاييره المتميزة، فيبدو الكلام نثرًا أدبيًا مهما بلغت درجته من الرقى والقوة والجمال، بالسمات الخفية التى سنعرض لها بعد قليل. أما المدخل الواضح الثانى للشعر فهو بصرى بامتياز، فالشعر يعطى لكل كلمة موقعها الأثير وفرادتها الخاصة، ويتوزع على السطور بنظام صارم فى الشعر العمودى، متسق الأطوال، مهندَس المسافات فى الأشطار، ومختوم دائمًا بقافية موحدة تنتظم القصيدة كلها دون خلل، مثل صفوف الجنود الذين يمضون فى تشكيلات منسقة لا يعتريها تفاوت أو اضطراب.
وقد حررت قصيدة التفعيلة هذه البنية الصارمة، فسمحت للسطور بالتفاوت فى الطول والقصر حسب عدد التفعيلات التى تقتضيها الدفقة الشعرية، وتسامحت فى القوافى، فحرصت حينًا على الختام بها ولم تلتزم بذلك أحيانًا أخرى تفاديًا للتكلف وحرصًا على العفوية.
واستغلت قصيدة النثر هذه الحرية فأعطت للكلمات حيزها الحيوى الكامل، ونثرت الجمل على بياض الصفحات بطريقة تبرز أهمية الكلمات فى ذاتها، محافظة بطريقة نسبية على الشكل البصرى للقصيدة، بعد أن ضيّعت رنينه الموسيقى بتجاهل الأوزان المألوفة، فمضت فى تحرير الشعر خطوات أبعد جعلت القارئ غير المتخصص يفقد مؤشرات الشعرية الظاهرة، ويفقد بالتالى أهم ميزاتها، وهى أن الأوزان هى التى تساعد الذاكرة على حفظ الأشعار بهياكلها الموسيقية، كما أنها هى التى تسعف المرء فى تذكرها عند محاولة استحضارها، من هنا تصبح الصعوبة الأولى فى قصيدة النثر ليست فى قابليتها للفهم كما يتوهم بعض القراء، ولكن فى عدم سهولة حفظها وصعوبة تذكرها، ومن ثَمَّ فإن هذه القصيدة قد خسرت حضورها المشع فى ذاكرة المتلقين، وظلت ساكنة على الأوراق دون أن يتمثل أحد بكلماتها أو يتغنى بها أو يأنس لترديدها فى سريرته كما نفعل عادة مع الأشعار الموزونة من عمودية وتفعيلية، وأحسب أن فقدان الحضور الحيوى هذا هو الذى أحدث القطيعة الموجعة بين الأجيال الجديدة والشعر المنثور.
لكن قصيدة النثر- مثل بقية الشعر الحداثى- تحافظ على السمات الخفية المائزة للشعرية، وهى تحقق ما يسمى جماليات الاختلاف، أى تحفيز القارئ المتلقى على اكتشاف الطاقة الكامنة فيها من أخيلة كثيفة مركبة فى صور لافتة، وتكوينات لغوية بديعة فى صياغتها المدهشة غير المألوفة، ورموز شفيفة أو مخاتلة توحى بأكثر مما تصرح به، وأهم من كل ذلك أبنية شعرية صغرى وكبرى تغرى بتعدد المعانى وتوالد الدلالات عند كل قراءة جديدة، ويتبلور كل ذلك فى أنساق نصية تحث المتلقى على أن يبحث بنفسه عن إشاراتها الثقافية وقيمها الإنسانية الكامنة، هذا النوع من الجماليات المختلفة يتطلب مشاركة المتلقى فى تمثل الحالة الشعرية وإعادة إنتاجها، وهناك شعراء كثيرون فى عصور الازدهار الإبداعى والثقافى حققوا درجات عالية من هذه السمات الشعرية فى جميع الأنماط والأشكال المتداولة، أما الشعر الذى يقتصر على المداخل الواضحة فهو أقرب إلى النظم الذى يخلو من الشعرية، وكنت أشبهه دائمًا بـ«خيال المآتة»، الذى ينصبه القرويون فى الحقول حتى تتوهم الطيور أنه إنسان فلا تقرب الثمار، هو يحقق الهيكل الخارجى دون أن تجرى فيه مياه الشعر وحيويته الدافقة، وبالأخص جمالياته الخفية التى ألمحنا إلى بعضها، وعلامة النص الشعرى الحقيقى أنه يُشعر متلقيه بالاكتمال، يشبع كل توقعاته ويفجؤه بما لا يتوقع أيضًا، يجعله فى حالة وجدانية مغايرة لما كان عليه قبل القراءة، فإذا كانت حساسيته يقظة هَزّه الشعر وجعل رؤيته للعالم مختلفة عما كانت من قبل.
وقد اجتهدت علوم النقد والبلاغة فى توصيف عوامل هذا التأثير الجمالى للشعر قديمًا، ولكن النقد الحداثى هو الذى استطاع تسميتها وبيان أبرز معالمها فى التحليل والتأويل، ولكى يكون حديثنا عن قصيدة النثر فى حضرة بعض نماذجها الجيدة وليس مجرد نميمة فى غيابها، أنتقى مقطوعة صغيرة- على قدر المساحة المتاحة لمقالى- لأول شاعر يرد ذكره فى المختارات التى أشرنا إليها من قبل، وهو الشاعر خالد أبوبكر، الذى يقول فى مقطوعة بعنوان «فى اتجاه هوة»- وأستسمح المحرر فى الإبقاء على شكل توزيع الكلمات على السطور، لأن هذا يبرز أهمية العنصر البصرى للشعر- يقول:
Nigeria the most popular African football team from 90s
00:00
% Buffered
00:14 / 01:20
Copy video url
Play / Pause
Mute / Unmute
Report a problem
Language
Share
Vidverto Player
«أتحد مع ذاتى
ضد شارع
لا يهرع للقاء قدمىّ
ضد يد
لا تفرح لمصافحتى»
هذا التوزيع للكلمات يحقق الملمح الأول من مداخل الشعر بغض النظر عن الإيقاع السمعى المتوارى، فنلاحظ النزوع الفردى المضاعف فى الاتحاد مع الذات، وكأن الشاعر كان بصدد الانفصال عنها، لكنه فى مواجهة الغير من الأشياء أو الأشخاص، اندمج فيها، فهو يقف ضد الشارع الذى لا يهرع للقاء قدميه، وضد اليد التى لا تفرح لمصافحته، هذه الاستعارات المكنية- كما كان يقول البلاغيون- تدهشنا بجدتها وطزاجتها، بعد أن يكون العنوان قد هددنا بالوقوع فى هوة مجهولة. ثم يمضى فى المقطع الثانى ليقول:
«عرس يتقدم باتجاه هوة
سحيقة
ماذا أفعل لأجلهم
عبث أن أصرخ محذرًا إياهم
ثم هناك احتمال:
ما الذى باستطاعته
أن يوقف كل هذا الفرح عن التقدم
فى النهاية: ثم اكتشافات متأخرة
لكنها أصيلة. وهذا ما يعنينا بالضرورة
لن أستطيع- على أية حال-
أن أبهج مدينة»
يلتقط الشاعر صورة موكب زفاف، عرس، ليجعله يتقدم نحو هوة، ثم يفرد وصفها فى سطر جديد، حتى نتأكد أنها «سحيقة» فى عمقها وهولها، ويلتفت ليخاطب نفسه بأنه وحده يعرف مصير الفشل الذى ينتظر هذا الزواج، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا ليوقف موكبه، فلا يزيد فى هجاء الزواج عما كان يقوله جحا بطريقة أظرف «لعن الله مَن تزوج قبلى لأنه لم يقل لى عن مشاكله، ومَن يتزوج بعدى لأنه لم يسألنى عنها»، لكن شاعرنا يقع فى النثرية الحقيقية عندما يقول: «ثم هناك احتمال أن تقف المسيرة لسبب ما»، فالذهنية الواضحة فى هذه العبارة مأخوذة من نتائج آلاف المشاهد الدرامية والسينمائية لحالات الزواج المحبطة، لكنه يلجأ إلى شىء من الإيجاز الذى يتظاهر بالحكمة عندما يقول «فى النهاية: ثمة اكتشافات متأخرة، لكنها أصيلة».
أين كثافة التخييل والترميز الشعرى فى هذا الكلام العادى جدًا؟، ثم يعود إلى النثرية التقريرية قائلًا: «وهذا ما يعنينا بالضرورة»، وهنا نلاحظ أن فصل الجمل إلى كلمات مفردة لم تعد له قيمة دلالية، فضممتها إلى بعضها فى الكتابة توفيرًا للسطور، ثم تكون الخاتمة بمثابة اعتراف بأنه مهما هجا الشكل الاجتماعى للزواج وأنذر أهل العرس بأن فرحهم موقوت، فليس بوسعه أن يمنح المدينة بهجة دائمة.
وهذه حكمة ضعيفة لا تملك البلاغة التى تدك رأس المتلقى، ولا الدهشة التى تهز وجدانه، ولا عنصر المباغتة والمفارقة الذى ينمو به الختام، أن يكون إجابة عن المطروح فى القصيدة من قبل.
صلاح فضل
هذه المعالم الأخيرة منها ما هو سمعى يرن فى الأذن حتى عند القراءة، وهى الأوزان المألوفة فى الشعر العمودى، والتى اكتفى شعر التفعيلة منها بالوحدة الأساسية المكررة وهجرتها قصيدة النثر سوى فى بعض ما سمّيته من قبل «فُتات التفاعيل»، فالوزن المكتمل مهجور عندهم، وهو المدخل الذى كان الناس يتعرفون منه على الشعر.
وقد اجتهدوا فى تحصيل ما سمّوه «الإيقاع الداخلى»، وهو شىء مبهم يختلط كثيرًا بإيقاع اللغة ذاتها، ولم ينجح أحد حتى الآن فى بلورته ووضع معاييره المتميزة، فيبدو الكلام نثرًا أدبيًا مهما بلغت درجته من الرقى والقوة والجمال، بالسمات الخفية التى سنعرض لها بعد قليل. أما المدخل الواضح الثانى للشعر فهو بصرى بامتياز، فالشعر يعطى لكل كلمة موقعها الأثير وفرادتها الخاصة، ويتوزع على السطور بنظام صارم فى الشعر العمودى، متسق الأطوال، مهندَس المسافات فى الأشطار، ومختوم دائمًا بقافية موحدة تنتظم القصيدة كلها دون خلل، مثل صفوف الجنود الذين يمضون فى تشكيلات منسقة لا يعتريها تفاوت أو اضطراب.
وقد حررت قصيدة التفعيلة هذه البنية الصارمة، فسمحت للسطور بالتفاوت فى الطول والقصر حسب عدد التفعيلات التى تقتضيها الدفقة الشعرية، وتسامحت فى القوافى، فحرصت حينًا على الختام بها ولم تلتزم بذلك أحيانًا أخرى تفاديًا للتكلف وحرصًا على العفوية.
واستغلت قصيدة النثر هذه الحرية فأعطت للكلمات حيزها الحيوى الكامل، ونثرت الجمل على بياض الصفحات بطريقة تبرز أهمية الكلمات فى ذاتها، محافظة بطريقة نسبية على الشكل البصرى للقصيدة، بعد أن ضيّعت رنينه الموسيقى بتجاهل الأوزان المألوفة، فمضت فى تحرير الشعر خطوات أبعد جعلت القارئ غير المتخصص يفقد مؤشرات الشعرية الظاهرة، ويفقد بالتالى أهم ميزاتها، وهى أن الأوزان هى التى تساعد الذاكرة على حفظ الأشعار بهياكلها الموسيقية، كما أنها هى التى تسعف المرء فى تذكرها عند محاولة استحضارها، من هنا تصبح الصعوبة الأولى فى قصيدة النثر ليست فى قابليتها للفهم كما يتوهم بعض القراء، ولكن فى عدم سهولة حفظها وصعوبة تذكرها، ومن ثَمَّ فإن هذه القصيدة قد خسرت حضورها المشع فى ذاكرة المتلقين، وظلت ساكنة على الأوراق دون أن يتمثل أحد بكلماتها أو يتغنى بها أو يأنس لترديدها فى سريرته كما نفعل عادة مع الأشعار الموزونة من عمودية وتفعيلية، وأحسب أن فقدان الحضور الحيوى هذا هو الذى أحدث القطيعة الموجعة بين الأجيال الجديدة والشعر المنثور.
لكن قصيدة النثر- مثل بقية الشعر الحداثى- تحافظ على السمات الخفية المائزة للشعرية، وهى تحقق ما يسمى جماليات الاختلاف، أى تحفيز القارئ المتلقى على اكتشاف الطاقة الكامنة فيها من أخيلة كثيفة مركبة فى صور لافتة، وتكوينات لغوية بديعة فى صياغتها المدهشة غير المألوفة، ورموز شفيفة أو مخاتلة توحى بأكثر مما تصرح به، وأهم من كل ذلك أبنية شعرية صغرى وكبرى تغرى بتعدد المعانى وتوالد الدلالات عند كل قراءة جديدة، ويتبلور كل ذلك فى أنساق نصية تحث المتلقى على أن يبحث بنفسه عن إشاراتها الثقافية وقيمها الإنسانية الكامنة، هذا النوع من الجماليات المختلفة يتطلب مشاركة المتلقى فى تمثل الحالة الشعرية وإعادة إنتاجها، وهناك شعراء كثيرون فى عصور الازدهار الإبداعى والثقافى حققوا درجات عالية من هذه السمات الشعرية فى جميع الأنماط والأشكال المتداولة، أما الشعر الذى يقتصر على المداخل الواضحة فهو أقرب إلى النظم الذى يخلو من الشعرية، وكنت أشبهه دائمًا بـ«خيال المآتة»، الذى ينصبه القرويون فى الحقول حتى تتوهم الطيور أنه إنسان فلا تقرب الثمار، هو يحقق الهيكل الخارجى دون أن تجرى فيه مياه الشعر وحيويته الدافقة، وبالأخص جمالياته الخفية التى ألمحنا إلى بعضها، وعلامة النص الشعرى الحقيقى أنه يُشعر متلقيه بالاكتمال، يشبع كل توقعاته ويفجؤه بما لا يتوقع أيضًا، يجعله فى حالة وجدانية مغايرة لما كان عليه قبل القراءة، فإذا كانت حساسيته يقظة هَزّه الشعر وجعل رؤيته للعالم مختلفة عما كانت من قبل.
وقد اجتهدت علوم النقد والبلاغة فى توصيف عوامل هذا التأثير الجمالى للشعر قديمًا، ولكن النقد الحداثى هو الذى استطاع تسميتها وبيان أبرز معالمها فى التحليل والتأويل، ولكى يكون حديثنا عن قصيدة النثر فى حضرة بعض نماذجها الجيدة وليس مجرد نميمة فى غيابها، أنتقى مقطوعة صغيرة- على قدر المساحة المتاحة لمقالى- لأول شاعر يرد ذكره فى المختارات التى أشرنا إليها من قبل، وهو الشاعر خالد أبوبكر، الذى يقول فى مقطوعة بعنوان «فى اتجاه هوة»- وأستسمح المحرر فى الإبقاء على شكل توزيع الكلمات على السطور، لأن هذا يبرز أهمية العنصر البصرى للشعر- يقول:
Nigeria the most popular African football team from 90s
00:00
% Buffered
00:14 / 01:20
Copy video url
Play / Pause
Mute / Unmute
Report a problem
Language
Share
Vidverto Player
«أتحد مع ذاتى
ضد شارع
لا يهرع للقاء قدمىّ
ضد يد
لا تفرح لمصافحتى»
هذا التوزيع للكلمات يحقق الملمح الأول من مداخل الشعر بغض النظر عن الإيقاع السمعى المتوارى، فنلاحظ النزوع الفردى المضاعف فى الاتحاد مع الذات، وكأن الشاعر كان بصدد الانفصال عنها، لكنه فى مواجهة الغير من الأشياء أو الأشخاص، اندمج فيها، فهو يقف ضد الشارع الذى لا يهرع للقاء قدميه، وضد اليد التى لا تفرح لمصافحته، هذه الاستعارات المكنية- كما كان يقول البلاغيون- تدهشنا بجدتها وطزاجتها، بعد أن يكون العنوان قد هددنا بالوقوع فى هوة مجهولة. ثم يمضى فى المقطع الثانى ليقول:
«عرس يتقدم باتجاه هوة
سحيقة
ماذا أفعل لأجلهم
عبث أن أصرخ محذرًا إياهم
ثم هناك احتمال:
ما الذى باستطاعته
أن يوقف كل هذا الفرح عن التقدم
فى النهاية: ثم اكتشافات متأخرة
لكنها أصيلة. وهذا ما يعنينا بالضرورة
لن أستطيع- على أية حال-
أن أبهج مدينة»
يلتقط الشاعر صورة موكب زفاف، عرس، ليجعله يتقدم نحو هوة، ثم يفرد وصفها فى سطر جديد، حتى نتأكد أنها «سحيقة» فى عمقها وهولها، ويلتفت ليخاطب نفسه بأنه وحده يعرف مصير الفشل الذى ينتظر هذا الزواج، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا ليوقف موكبه، فلا يزيد فى هجاء الزواج عما كان يقوله جحا بطريقة أظرف «لعن الله مَن تزوج قبلى لأنه لم يقل لى عن مشاكله، ومَن يتزوج بعدى لأنه لم يسألنى عنها»، لكن شاعرنا يقع فى النثرية الحقيقية عندما يقول: «ثم هناك احتمال أن تقف المسيرة لسبب ما»، فالذهنية الواضحة فى هذه العبارة مأخوذة من نتائج آلاف المشاهد الدرامية والسينمائية لحالات الزواج المحبطة، لكنه يلجأ إلى شىء من الإيجاز الذى يتظاهر بالحكمة عندما يقول «فى النهاية: ثمة اكتشافات متأخرة، لكنها أصيلة».
أين كثافة التخييل والترميز الشعرى فى هذا الكلام العادى جدًا؟، ثم يعود إلى النثرية التقريرية قائلًا: «وهذا ما يعنينا بالضرورة»، وهنا نلاحظ أن فصل الجمل إلى كلمات مفردة لم تعد له قيمة دلالية، فضممتها إلى بعضها فى الكتابة توفيرًا للسطور، ثم تكون الخاتمة بمثابة اعتراف بأنه مهما هجا الشكل الاجتماعى للزواج وأنذر أهل العرس بأن فرحهم موقوت، فليس بوسعه أن يمنح المدينة بهجة دائمة.
وهذه حكمة ضعيفة لا تملك البلاغة التى تدك رأس المتلقى، ولا الدهشة التى تهز وجدانه، ولا عنصر المباغتة والمفارقة الذى ينمو به الختام، أن يكون إجابة عن المطروح فى القصيدة من قبل.
صلاح فضل