محمد طالب محمد - سِفر الخروج..

حيث يبني الضبابُ طلائعَ أوكاره ِ ،
من هنا انبثق العشق ،
حيث المعابر خالية ٌ ، والسكون يعمّ الذرى ،
والصنوبر مُحتفل ٌ بالثلوج التي تتهاوى ..
وكانت دروب المدينة خالية ً
تكتسي بهجة الوفر ، في صمته يتهاوى ..
ما الذي قد أتى بك مُنجرفاً من نخيل العراق ،
من البصرة المُستريحةِ في ظلّها ،
من هدوء صباح المقاهي
من الشاي يعبق بالهيل
من جلسةٍ عند مدخل سوق الأمير مع العصر ،
حيث تمرّ المدينة في زهوها الخجِلِ ،
الجالسون وراء زجاج المقاهي
تُسافر أعينهم في فضاء الغيوم الملول
وكان رداء المدينة رثّاً ، وأبنية السوقِ آيلة للتداعي ،
وأحلامنا تتطاول باحثة عن مدى ،
غير ذاك الجلوس بغير انتظار ،
وما وجهة الروح إلّا الى الغربِ ،
اسبانيا لم ترفق إليها ،
الجزائر .. هذي البلاد مُضرّجة بدماء الشهادة ، مسكونة ٌ
باليقين ، ورافعة رأسها ، فلتكن
إنك الآن ملقى على ساحلٍ في شمال الجزائر ،
تلقي بصنّارتين الى الماء ، منتظراً سمكة .. !!
هكذا تنتهي المعركة .



كان ذلك كوناً ضباباً ،
وما ألق الروح غير وميضٍ
طفا واختفى فجأة ً ..
في غضون السنين البعيدة
كانت مرامي الطفولة فيّاضة ً بالظلال وبالنخل ، فيّاضة ٌ
بالندى ، والنهارات وضّاءة ٌ
يستريح على جرفها حلُم ٌ قادم ٌ ،
من سرى الليلِ بين النعاس وبين التثاؤب ،
أمي بفوطتها تملأ الدار حبّاً
وبتنّورها تملأ الدار خبزاً ،
ومن سدرة الدار تهمي العصافير ُ
والنبق والورق المتساقط ، إذ
يتجمّع في الصفرة الساذجة ،
وفي الدار آثار ساقيةٍ رُدِمَت ،
وترامى الى أذني صوت أمّي : " تعال .. لقد أقبل الليل .. "
كان العشاء طيوراً من الهورِ
والتمّن العنبر المتربّع فوق الخوان
عابقاً بالبهاراتِ ، مُكتسياً بالزبيبِ وباللوز ،
والبال خالٍ ،
وفوضى من الضحكِ الثرّ ،
فالأمس ليس كيومك مكتسياً بالمشيب
بعد احتراب المنافي
وبعد رحيل الأحبّة ، كانت أزقّتنا الضيّقة
وطناً حالماً بالمسرّات والعبث الحلو
كان شمال محلتنا غابة ٌ
يتوحّد فيها اليمام مع السعف والرطب الحلو ،
تسرح فيها السواقي وتمرح ُ ،
ننهل منها البراءة والخوف ،
حيث الطناطل تسكنها والسعالي ،
في ليالي الزمان الذي ارتحلا
حاملاً كلّ أشيائه وأهاليه ،
ها قد نسيت الكثيرين ، واحتمل الأمس أشياءه وارتحل ..
كان بعض الأحبّة قد لفّهم وطواهم ظلام القبور ،
وبعض المقيمين في الذاكرة
وفدوا الآن ، ها أنذا أفرّ الى المائدة
بالكؤوس ، وأزرعها بالشموع واستحضر العائدين
من الوهم ، حيث تصير الحقيقة بين التلافيف ،
قابعة ً بانتظار انبعاثاتها ..
فأنا الآن وحدي على ساحلٍ في شمال الجزائر ،
ألقي بصنّارتين الى البحر ، منتظراً سمكة ..!
هكذا تنتهي المعركة .



لم أرَ البصرة المستريحةَ في القلب منذ ثلاثين عاماً ،
وحين أقمت بها مرّة ً
سنة ً
كنت أشبه بالغجريّ العجول ،
وغادرتها نحو هذي المنافي البعيدة ِ ،
عانقتها مرّة ً ، وانفلتّ ، وأحرقت كلّ السفن ..
كانت انتبهت من مدى حلُمٍ
فاستفاقت وقد فقدت جنحها
حيث " ساعة سورين " ألقت بها عاصفة
جرفت في المهبّات " سوقَ الأمير " و " نزل الخليج " و " مقهى حبش "
وانتهى كل ذاك المكان ،
ولم يزهر اليوم " جسر الهنود "
بغاباته السمر ،
كانت مقاصير تلك المقاهي مصوّحة ً
حيث تفنى المدينة مرحلة ً ..مرحلة
لم يعد سوقها غير مرأى خرائب مخسوفة الأسقفِ ،
إنقضّ " باب الزبير " على بعضه وهوت كل أبنية السوق ،
شقّت شوارعها داخل الأبنية
فشوّهتِ الإلفةَ الحانية ..
كلّ ذاك السكون قد انهار ، يدفن في قلب أطمارهِ
نجمة ً نائية .



قبل ذلك زالت مغاني الطفولةِ
وانفضّ سمّارنا فوق جسر المحلّةِ ،
و" السِيف " لم يأتِ مجلس مقهاه ، يضحك " صبري أفندي " ،
أبي سوف يأتي " بيشماغهِ " و " عقاله "
و" عبّود " * يجلس بالقرب مني ، ونحن نكركر بالضحِكِ الثرّ
" الزاير " * استغرق الآن ، في النوم ، : " هاتف " * ايقظه إنّا عطاشى
ويسعى إليه بهيبتهِ ووسامتهِ ، قد علا رأسَه الشيب ،
نسهر في ليلة العيد حتى الصباح ، ولا شيء غير الجذل ،
وها هو يمضي ، وتعصف بالماثلين المهبات
ها أنذا ، في شمال الجزائر
ألقي بصنّارتين الى الماء منتظراً سمكة ..
هكذا تنتهي المعركة !



آه .. كم كان ذاك العراق رحيباً
من أقاصيه ، من عمق أهوارهِ ،
من أعالي الجبال الى سبخة الفاو ،
بغداد كانت صدىً آتياً من مئات السنين ،
ودجلة تخفق في صدرها ، والرصافة والكرخ همس ٌ ونجوى ،
على الضفتين ، وإسراءة ٌ ، عبر كل القرون التي غبرت ،
جاءها السندباد من الموج واللجّج المظلمة ،
حاملاً ألمه ،
عابقاً بالأفاويه ، والندّ والعنبرِ ،
صارخاً بالدجى المتلاطمِ بالخوف إذ يزدري حلُمَه ،
تلك بغداد في ألق الكبرياء ، تناديه من زخم الملحمة ،
تلك بغداد تحنو على سرّها ،
وتنوء بأعبائها ، في خضمّ ، الجلال ، وفي ضنك الغدر ،
ها قد تنصّل عنك الأخلّاء والأدعياء ولم تركعي
عبثت بمصيركِ أيدي الرعونةِ طيشاً ولم تنتهي ،
أنتِ شامخة ٌ أبداً ،
هكذا يُصلب العنفوان ،
عد إليها ، تمرّغ على تربها
أنت في قلبها نبضة ٌ ، أنت في يدها صولجان
سيمرّ الرشيد أمام انبهارك في موكبٍ
حفّه المجد ، واحتملته اليدان
راكباً صافنات العِتاق ،
لابساً من لواء العلا طيلسان
شامخاً بالعراق
غير أنك قد لوّحت بك كلّ المرامي ،
وها ..أنت ملقى على ساحلٍ في شماليّ أفريقيا ،
حيث تلقي بصنّارتين الى البحر ، منتظراً سمكة
هكذا تنتهي المعركة !



في المرامي البعيدة حيث تقاذفك التيه ،
واعتصرتك الهموم
ورفّت على أفقك الجهم أجنحة ٌ شاردة
ودمشق بأشتهاءاتها المُكفهرّة تدعوك للتيه ،
كانت هناك أوائل خطوك ، حيث الشتاء
ينثّ بأمطاره الباردة ،
كان أوّل مطعمٍ من الغربة الصمت ، لا أحد يعرفك ،
مدخل الفندق المتراجع نحو الزقاق ، من الشارع العام ،
يسلم وجهك للغرفة الباردة .
وتداهمك البصرة المستريحة في القلب ،
كنت اشتريت لباساً جديداً ،
ومحمود سوف يعود من اللاذقية كيما تفرّان غرباً .
كنت تقضي النهارات بين المقاهي ،
ومن قاسيون تلوح الجبال ، التي سوف تستقبل الهاربين ،
من الشرق نحو المغارب ، تسلمك القاهرة ،
لمتاهاتها ، ويلوح المُقطّم في أفقها ،
حيث يجتمع الصوف بالمخمل الناعم
والمساجد بالهرم القائم
من عصورٍ ذوى قلبها ،
واستراحت على القارب العائم ،
حيث يسترسل النيل في صمته
من عصورٍ طوال .



يتقاذفك التيه ، نحو المغارب ، تلقي حقائبك المتعبة
في الجزائر ، هذي البلاد مكلّلة ٌ بالجبال ،
ومغسولة بالمياه ، تعانقها أبحر ٌ ، تلقي بأمواجها المُتعبة
على حلم شطآنها ، يتقاذفك التيه ،
تقطع أوربا التثاؤب من فرجها ، رائحاً غادياً ، بين بلدانها ،
من صقيع الشمال الى حلم المغرب ِ
من شرقها الاشتراكيّ ، حتى جنوب نوادي القمار ،
هنالك يجرفك الهول .
تلقى من العرب المستقرّة شتى الصنوف
من المترفين ، من المتخمين ، من اللاجئين الى النائمين على الأرصفة ،
وتلقى هناك العراقيَّ ، يبحث عن باب عشتار بين المنافي ،
عن العائدين من الموت والمستريحين فوق الرقيم
وتبحث في في وجه اسبانيا ، عن ملامح قد خبئت ،
في الشعور وفي سمرة الوجع والأغنية ،
في النخيل النحيلة تحدو بوجهك في مَرسيَه
وعن الهمبرا
حيث غرناطة الغربة احتضنته مصابيحها الكاشفة ،
وهو يحضن ماضيه وتهاويله ،
وهناك التجأت الى بونسيون
بتلك الأزقّة ، تطهو طعامك ، تنتظر الخاتمة .



عند مرأى الزقاق الجنوبيّ سبتة غائمة ٌ ،
.. ليل تطوان محتفل بالصداع ، وخاتمة الرحلة الواجمة ،
وعلى فجر أسوار فاس ، يصلّي المريَنيّ والعائدون من الأمس
بجلابيبهم ،
تلك وجدة تنتظر العابرين ، ووهران تدني خطاك الى الشرق
حيث السواحل ترقب صنّارتيك ، لتنتظر السمكة ،
هكذا تنتهي المعركة .



حيث تنأى السنون البعيدة حاملة كل أعبائها ومسرّاتها ،
حيث تجلس في الليل منطفئاً ،
ينقل التلفزيون أخبارَ ذاك الدمار ،
وتشهد أهلك يستصرخونك .
لكنّك الآن أدنى الى الجثّة الهامدة
قد علتك الغضون ، وداهمك الشيب واحتملتك المحطات نحو الأقاصي ،
وجفّت على مقلتيك الدموع ،
ولم يبق من ذلك العالم المُتألق غير الرؤى الجامدة
وتراميت من شاهقٍ ، نحو هذي الشواطئ ، تجلس في رفقة البحر ،
تلقي بصنّارتين الى الماء منتظراً سمكة ،
هكذا تنتهي المعركة !! .
.
.

محمد طالب البوسطجي
الجزائر
٣٠ / ١ / ١٩٩٣


__________________
* سوق الأمير : سوق في العشار على الضفة الشمالية لنهر العشار بالبصرة ، يتفرع من يمين جسر الهنود عند الجسر للدخول الى السوق وعلى تفرع اليسار تقع ساعة سورين وبهذا التفرع كان فندق الخليج وفي نهايته مقهى حبش ، وقد هدم كل ذلك لتوسيع الشارع .
* النبق : ثمر السدر .
التمّن : هو التسمية العراقية للرزّ .
الطناطل والسعالى : كائنات خرافية في الميثولوجيا العراقية .
باب الزبير والسِيف : من احياء البصرة القديمة
صبري أفندي : هو أمين صندوق البصرة أيام العثمانيين ، كان من رواد مقهى هاتف ، إسمه يرد في أغنية تغنيها المطربة صديقة الملاية
عبود : صديقي توفي شاباً .
الزاير : عامل في مقهى هاتف
مقهى هاتف : سميت على اسم صاحبها ، تقع في محلة السِيف بالبصرة القديمة ، تحول اسمها الى الشناشيل . وكنا نلتقي فيها يومياً مع مجموعة من الاصدقاء منهم : إسماعيل فهد اسماعيل ، جميل الشبيبي ، جعفر موسى عزيز ، عبدالكريم كاصد ، جليل المياح ، جاسم العايف ، محمد جاسم عيسى ، أسعد أحمد الباقر ، عبدالعزيز عسير ، حسين عبداللطيف - أحياناً - ، شاكر العاشور ، ومصطفى عبدالله ..وغيرهم .
محمود الكعبي : رفيق سفري عند خروجنا من العراق نهاية ١٩٧٦ .
المقطم : الجبل الوحيد قرب القاهرة ، وهو داخل فيها الان وهو مكان السياحة الصغرى للمتصوفة وفي سفحه القرافة التي دفن فيها إبن الفارض وكثير من الاولياء الصالحين وفيه أيضاً نوادٍ للقمار والقصف والملاهي .
.
محمد طالب
أعلى