د. أحمد الحطاب - هم البشر الذين حاولوا ويحاولون، في القرن الماضي، فَهمَ العالم بجميع تجلياته

أولا، يجب التَّذكير بأن التقدم العلمي والتكنولوجي، كما هو متعارف عليه اليوم، بدأ أوجَه، في القارة الأوروبية، بداية من القرن الثامن عشر بما كان يُعرَف آنذاك ب"الثورة الصناعية" révolution industrielle التي انطلقت من المملكة المتحدة وبالضبط من إنجلترا ثم من فرنسا، في بداية القرن التاسع عشر.

والثورة الصناعية، هي في الحقيقة، تحوُّلٌ اجتماعي عميق يتمثَّل أساسا في انتقال المجتمعات من طابَعِها الزراعي agraire إلى وضعٍ تكون فيه التِّجارةُ والتَّصنيعُ industrialisation هما المحركان الأساسيان للاقتصاد. وبعبارة أخرى، تصبح هذه المجتمعات تعتمد في اقتصادها على إنتاج المنتجات المُصنَّعة produits manufacturés وبيعِها في الأسواق المحلية أو الخارجية.

قبل الدخول في تفاصيل هذه المقالة، أريد أن أتقدَّم للقارئ بتوضيح أعتبره، أنا شخصيا، ذا أهمِّيةٍ كبيرة. يتمثَّل هذا التَّوضيح في كون المعرفة بجميع مشاربِها إِرثٌ إنساني محض وليس، على الإطلاق، مِلكا لبلد دون آخر أو لأشخاص دون آخرين. لماذا؟

لأن المعرفةَ هي من إنتاج العقل البشري. والعقل موزَّعٌ على البشر بالتَّساوي بغض النظر عن انتمائهم الاجتماعي والعقائدي. بمعنى أن موهبةَ العقل لا علاقةَ لها بالانتماء الاجتماعي والديني. والدليل على ذلك أن إنتاج المعرفة، عبر العصور، انتقل من حضارة إلى أخرى. وهذا يعني أن كل ما أنتجته حضارةٌ بشريةٌ ما من معارف قد ينتقل كليا أو جزئيا إلى حضارة أخرى وهكذا. وهو الشيء الذي يؤدي إلى نوعٍ من تراكم المعارف تشترك في إنتاجها عقولٌ بشريةٌ من شتى المشارب والانتماءات. فمتى تُصبِح العقول البشرية منتجةً للمعارف التي تُفيد البلادَ والعبادَ؟

تصبح العقولُ البشريةُ منتِجةً ومُبدِعةً وخلاقة ومبتكرةً وفعالةً عندما تتوفَّر لها الظروف الملائمة، المادية والمعنوية، التي تشجِّع وتُنشِّط العقلَ البشري وتُحفِّزه على الإبداع والاختراع. وهنا، بيتُ القصيد! لماذا؟

لأنه لا يكفي أن يكونَ العقل، كهبةٍ من الله، موزَّعا بالتَّساوي على البشر! فمن الأهمية بمكان أن يوجدَ هذا العقل في بيئة تساعده وتُشجِّعه على الإبداع والابتكار. وهنا، لا بدَّ من توضيح آخر. فإذا كان في الماضي إنتاجُ المعرفة مسألةً تخصُّ الافراد المنعزلين، فإن هذا الإنتاجَ أصبح اليوم مؤسسيا، أي له مؤسسات قائمة الذات متخصِّصة في إنتاج المعرفة بجميع مشاربها علما أن هذه المؤسسات يمكن أن تكونَ عمومية ويمكن أن تكون خاصة. فلماذا هذا التَّفاوتُ في إنتاج المعرفة من بلد إلى آخر أو حتى من قارة إلى أخرى؟

الجواب على هذا السؤال بسيط للغاية.: إنتاج المعرفة لم يعد، كما سبق الذكرُ، مسألةَ أفراد. بل إنه أصبح مؤسسيا، وبالتالي، أصبح قضيةً سياسيةً بامتياز. فكل بلد يطمح أن يكون رائدا في مجال إنتاج المعرفة، لا بد أن تتوفَّرَ لدى قادته إرادةٌ سياسيةٌ قوية، أي إرادة سياسية ليست عبارة عن شعارات فارغة لذرِّ الرماد على العيون، لكن إرادة سياسية لها انعكاسات، مادية ومعنوية، ملموسة على أرض الواقع.

من بين الانعكاسات الملموسة على أرض الواقع، يأتي على رأس القائمة الاعتناء بالعنصر البشري وتقديرُه معنويا وماديا، إضافةً إلى تمكينه من الوسائل المالية والمادية للقيام بأعمالِه على أحسن وجهٍ من أجل إنتاج المعارف التي من شأنها أن تكونَ رافعةً من رافعات التنمية بجميع مظاهرها. فكلما كانت الظروف المحيطة بالعنصر البشري المُعوَّل عليه في إنتاج المعرفة النافعة للبلاد والعباد، كلما كان هذا الإنتاجُ غزيرا ومفيدا.

وهنا، تظهر أهمِّيةُ الإرادة السياسة وترجمتُها على أرض الواقع. ولا داعيَ للشك، في هذا الصدد، أن أهمَّ عنصر في هذه الإرادة السياسية هو التمويل الذي تُخصِّصُه البلادُ أو، بالأحرى، الدولةُ لِما يُسمى البحثُ العلمي المؤسسي. وقد تمَّ الاتفاق دوليا على أن يُحسَبَ هذا التمويل بنسبة معيَّنة من الناتج الداخلي الخام Produit Interieur Brut. وهنا بيت قصيد آخر! لماذا؟

لأن الواقعَ يُبيِّن بوضوح أن إنتاجَ المعرفة بجميع مشاربِها يوجد في البلدان والقارات التي تُنفق على البحث العلمي نسبةً مهمَّةً من ناتجها الداخلي الخام!

فلا غرابةَ أن تتصدَّرَ إسرائيلُ بلدانَ العالم في مجال التَّطوُّر العلمي والتكنولوجي لأنها تُنفِق على البحث العلمي أكثر من 4% من ناتجها الداخلي الخام PIB متفوِّقةً على الولايات المتَّحدة والاتحاد الأوروبي وبلدان أسيوية (اليابان، الصين، كوريا الجنوبية…).

إلى يومنا هذا، إنتاج المعرفة الغزير، المتنوِّع والمُتعدِّد الأهداف والمُموَّل من طرف الحكومات أو المؤسسات الخاصة، يتموقع في العالم الغربي وعلى رأسِه البلدان الأنكلوساكسونية pays anglo-saxons إضافةً إلى بعض الدول الأسيوية كالصين وروسيا واليابان وكوريا الجنوبية وسنغفورة وماليزيا…

ولا غرابةَ أن يغيبَ عن قائمة البلدان المُنتِجة للمعرفة العالمُ العربي والإسلامي لسببين من الأهمِّية بمكان : غيابُ الإرادة السياسية وضعفُ التمويل.

وغيابُ الإرادة السياسية لا ينتج عنه فقط ضعفُ التَّمويل. بل إنه دليل قاطع على أن قادةَ البلدان العربية والإسلامية لا يعتبرون البحثَ العلمي كرافعة من رافعات التنمية بجميع مظاهرها. بل إن بلدانا عديدة من العالم العربي والإسلامي يعتبرون البحثَ العلمي تَرَفاً، أو بالأحرى، تهديدا لبقائهم في السلطة، وخصوصا ذلك البحث الذي يتناول القضايا الاجتماعية والثقافية، والذي قد يقود إلى مزيد من وعي الشعوب وتنويرِها وتفتُّحها فكريا وسياسيا!

والآن، آنَ الأوان لأُجيبَ عن السؤال الذي اتخذتُه كعنوانٍ لهذه المقالة : "مَن هم البشر الذين حاولوا ويحاولون، في القرن الماضي، فَهمَ العالم بجميع تجلياته"؟

مفهوم العالم، في هذه المقالة، يشمل الوسطَ الذي يعيش فيه الإنسانُ بأبعاده الطبيعية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، السياسية، الجغرافية، التكنولوجية، العلمية، الدينية، الاستراتيجية، الجيوسياسية…

بغض النظر عن الأهداف المُتوخَّاة من إنتاج المعرفة، هل هي في صالح البشرية أم هي عكسَ ذلك، فكيفما كان الحالُ، فنتائج الأبحاث العلمية مكَّنت وتُمكِّن البشرَ من فَهمِ العالم وحتى الكون وإدراك كيفية اشتغالِهما. وهذا شيء مهم اهتمَّ به البشرُ منذ القِدم وكرَّست له الحضارات المتتالية جُهدا كبيرا. كما أوصى به القرآنُ الكريمُ في البعض من آياتِه الكريمة، من بينها :

1."كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص، 29)
و
2."يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (البقرة، 269).

في هاتين الآيتين، أُلِحُّ على : "لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ" و "الحِكمة" إضافةً إلى "أُولُو الْأَلْبَابِ". فما هو المقصود من "لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ"؟ المقصود هو استعمالُ العقل استعمالاً سليما يقود إلى إنتاج المعارف ليعرف الناسُ ماهيةَ الكون وكيفيةَ اشتغاله. واستعمال العقل استعمالاً سليما يتطلَّب من صاحبه أن يتحلَّى ب"الحِكمة". والحِكمة هنا هي بُعد النظر والتَّبصُّر والتَّمعُّن والتَّأمُّل والخبرة والسداد والعقلانية والفِطنة والصواب والحصافة… أليست هذه هي الصفات التي يجب أن يتحلَّى بها كل باحثٍ يسعى إلى إنتاج معارف تنفع البلادَ والعباد؟

أَضِف إلى هذا أن عبارةَ "أولو الألباب" موجودة في الآيتين بينما الله سبحانه وتعالى لم يقل مَن هم هؤلاء أولو الألباب. بل "أولو الألباب" هم كل البشر الذين يتوفَّرون على عقول نيِّرة ومستنيرة. ثم في الآية الثانية، وردت عبارة "وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ" التي، فيها، "ومَن" تدلُّ على أن كل بشرٍ أوتيَ حكمةً، فقد حباه الله خيرا كثيرا.

أليست هذه أدلَّةٌ قاطعة على أن هبةَ العقل المنتج والمبدع والخلاق لا علاقةَ لها لا بالعقيدة ولا بالدين ولا بالانتماء الاجتماعي ولا بأي عِرق من الأعراق. إنها ميزةٌ وهبها اللهُ ويهبُها لمَن يشاء من عباده.

انطلاقا من كل هذه الاعتبارات، ف"مَن هم البشر الذين حاولوا ويحاولون، في القرن الماضي، فَهمَ العالم بجميع تجلياته"؟

إنهم، بكل أسف، غير المسلمين! إنهم بشرٌ متديِّنون بديانات سماوية غير الإسلام أو بديانات وَضعية. ما يُميِّزهم عن المسلمين هو توفُّر قادة بلدانهم على إرادة سياسية قوية تجعل منهم قادةً مرموقين ومهتمين بشتى مجالات إنتاج المعرفة.

فهل هذا الوضعُ يعني أن المسلمين لن يكونَ لهم باعٌ في إنتاج المعرفة، كما كانوا ما بين القرن الثامن والثالث عشر؟ لا، أبدا. إذا توفَّرت الإرادة، كل شيء ممكن مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ…" (الرعد، 11). والتَّغييرُ المرغوب فيه هو توفُّر الإرادة السياسية لدى قادة البلدان العربية والإسلامية. وهذه الإرادة هي التي ستجعل من عقول البلدان العربية والإسلامية عقولا منتِجة، مبدِعة وخلاقة في كل مجالات المعرفة شأنها شأنَ كل العقول المنتِجة للمعرفة عبر العالم!

أختم هذه المقالة بالسؤال التالي : "لماذا العقول العربية والإسلامية تُصبح، بقدرة قادرٍ، منتِجةً وخلاقةً، مثلُها مثل العقول الأخرى، عندما تهاجر إلى بلدان تحترم وتُقدِّر الإنسانَ، بصفة عامة، وتعتني بالباحثين والعلماء، بصفة خاصة"؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى