2-
سؤال القراءة والتفكيك :
إذا كان الوصول إلى معاني النص الخبيئة ، هو مبتغى التأويلية بامتياز ، فإن سعي هذا الوصول هو الذي شكل مسيرة تاريخ قراءات النصوص ، بداية من الشرح إلى التحليل إلى التأويل . والقراءات النصية مرت منذ تاريخها الطويل إلى الآن بثلاث مراحل تطورية متعاقبة ، ومتداخلة ، نسبيا إلى حد ما ، كان الشرح أولها ، والتحليل ثانيها ، والتأويل ثالثها . وهي في المراحل الثلاثة شدت بين أقطاب ثلاثة أيضا ؛ قطب يرى المعنى في مقصد الشاعر في نصه، فكان الشرح ، وقطب يرى المعنى في تلافيف النص بعيدا عن الشاعر ، فكان التحليل ، وقطب يرى المعنى في تلقي القارئ للنص وكيفية تعامله معه ، فكان التأويل .
لا غرابة تطورية إذا ، أن لا يحتوي – نسبيا - المحور الأول الذي هو الشرح على المحورين التاليين : التحليل والتأويل ، وأن لا يحتوى – نسبيا - المحور الثاني ، الذي هو التحليل ، على المحور التالي : التأويل ، وأن يشتمل – نسبيا - المحور الثاني ، الذي هو التحليل ، على المحور الأول ، الذي هو الشرح ، وأن يشتمل – نسبيا - المحور الثالث ، الذي هو التأويل ، على المحورين الأول والثاني ، اللذين هما ، الشرح والتحليل ( ) .
والملاحظ من سرد مراحل ما سبق أننا تغاضينا عن محور التفسير ، الذي لاشك أنه فاعل تطوري في مسيرة مقاربة النصوص ، وأنه لا ريب يقع في منطقة بينية بين الشرح والتحليل ، تجعله أحيانا يتأرجح للتطابق بهما ؛ وذلك لارتباطه بالنصوص الدينية ، ارتباط المتلازمات ، وعدم مبارحته لها كمصطلح ليلصق نفسه بنصوص أدبية ، وإن ترك مفهومه يمارس مع النصوص الأدبية ، بالإجراءات نفسها التي كان يصنعها مع النصوص الدينية ، تحت مسمى آخر هو الشرح ، الحال التي لم تحدث مع التأويل ، فبرغم ارتباط التأويل تلازميا – إلى حد كبير - أيضا بالنصوص الدينية في القديم ، وبرغم استمراره في فعل ذلك في الحديث أيضا ؛ إلا أنه استطاع أن يضيف إلى عمله معها عملا آخر ، هو مقاربة النصوص الأدبية ، بنفس شرط اسمه وفعله .
ولوضع عملنا في التأويل موضعه ضمن مسيرة تطور قراءات النصوص ، نتفق مع د.خليل الموسى في جعله الشكلية تمثل نقطة الارتكاز في ترسيم ذلك التطور ، فما قبلها مرحلة، وما بعدها مرحلة أخرى ، وهي نفسها مرحلة خاصة بذاتها . ومرحلة ما قبل الشكلية ، فترة كان يسود فيها المذهبان الكلاسي ، والرومانسي ، وما استتبعهما من مناهج تاريخية ، واجتماعية ، ونفسية ، ونقدية ، تسلط في الأغلب الأعم على المؤلف وسلطته ومن ثم تكون السيادة فيها للمؤلف ، ومرحلة الشكلية الثانية ، سادت فيها – حتى من اسمها - المناهج الشكلية ، كالشكلية الروسية والبنيوية والنقد الجديد وتكون السلطة فيها سائدة للنص ، ومرحلة ما بعد الشكلية ، المرحلة الثالثة ، تسود فيها مناهج كالتناصية والتفكيكية والسيميولوجية والتأويلية ، وتكون السلطة فيها سائدة للقارئ ( ) .
ومراحل تطور مقاربات النصوص الثلاثة : الشرح والتحليل والتأويل ، وأقطابها الجاذبة: المؤلف والنص والقارئ ، ومذاهبها ومناهجها التطورية أيضا : ما قبل الشكلية والشكلية وما بعد الشكلية ؛ في تعاملها مع النص الأدبي ، تقاربه بطريقتين ، الأولى مغلقة ، والثانية مفتوحة . النص الأول المغلق نص عادي ، لا يقول إلا ما يقوله في الظاهر ، وهذا يعني أن ظاهر النص هو كل النص ، أو هو نص بلا قعر ولا خلفية ، لا يصلح إلا لقراءة واحدة ، وهو أحادي الدلالة ، وقارئه مستهلك للنص ، يلجأ إلى مناهج ، تساعده على معرفة الدلالة ، من خلال المؤلف، أو العصر ، أو المجتمع ، الذي يعيش فيه صاحب النص ( ) ، وهو نص لا يصلح للتأويل ، يصلح للشرح والتفسير ، وللمناهج ما قبل الشكلية . والنص الثاني المفتوح ، نص غني ، ويتأتى غناه من صفات وملامح كثيرة ، أهمها أنه نص مستقل بحقيقته وقوته وجمالياته ، فهو واقعة مستقلة عن صاحبها ومجتمعها ، ولا مرجعية لهذا النص غير لغته ، ولذلك فإن حقيقته لا تأتيه من خارجه ، وإنما هي كائنة فيه ، فالإيديولوجيا فيه إيديولوجيا نصية ، والحقيقة فيه حقيقة نصية( )، " وقوة النص المفتوح في إخفاء استراتيجياته ومدلولاته، وهو لا يصرح بكل ما يريد ، فقوته في غناه ، وغناه في اختلافه بين مستويات الكلام وليس في تجانسها " ( ) ، وهو نص يصلح بامتياز للتحليل والتأويل ، وللمناهج الشكلية وما بعد الشكلية .
إن منهج فعلنا التأويلي إذا ، يهدف إلى البحث عن المعاني الدفينة وعلاقاتها الغائرة البينية التي يتشكل بها النص ، وينهض على قراءة النص المفتوح ، الذي لا شك يمثله نص معلقة امرئ القيس هنا ، ويندرج في مرحلة ما بعد الشكلية ؛ مرحلة سلطة القارئ ، الذي لا شك يمثله الباحث ؛ لذا فإن ما سيساق من تأويل لنص معلقة امرئ القيس المفتوح تأويل خاص بنا ، دون أدنى مسعى لتعميمه وفرضه على أحد ، وكأنه رؤية عامة تتطابق مع الموضوعية ، أو حتى تتماس معها ، وهذا هو صنيع التأويلية .
3-1
إذا كانت التفكيكية هي " عراب ما بعد البنيوية "( ) فإنه لا يمكن تجاهلها ، وعدم الاتكاء عليها عند ممارسة التأويلية ، إذ إنها تنهض على " تحليل الهوامش والفجوات والتوقفات والتناقضات والاستطرادات داخل النصوص ؛ بوصفها صياغات تسهم في الكشف عن ما ورائيات اللغة والتراكيب " ( ) ، وعلى " تفحص الخصائص البلاغية الموجودة في النصوص، وبيان أنها تعوض معاني النصوص ، ومرجعياتها المقررة ( ) ، وعلى إزاحة النقاب عن الافتراضات الميتافيزيقية المخبوءة في نصوص تبدو بريئة في الظاهر ( ) ، وهذا هو صنيع التأويلية أيضا .
على أننا حين نفكك معلقة امرئ القيس ، لا نفككها بغية " تهشيم منطق الهوية" ( ) ، ولا بعمل تعسفي ( ) ، ولا بطرح عبثي ( ) وإنما نفككها لننسج معنى آخر ( ) ولنفتح هوية أخرى، " تهدم استسلام نهائية المعنى الثابت أمام تغاير المعنى المتعدد اللانهائي " ( ) .
وفي تفكيكنا للمعلقة ، سوف نمارس إجراءاتها ، من خلال مصطلحاتها الأساسية ، وهي: علم الكتابة Grammatology ، ونقد التمركز Critique of Centricity ، والاختلاف Difference ، والحضور والغياب Presence and Absence ، ونظرية اللعب Theory of play .
وبعلم الكتابة Grammatology تتحول علامات الكتابة Signs عند دي سوسير إلى آثار كتابة Traces عند دريدا ، ومن ثم ينتقل التمركز في النص من رؤية العلامة الميتافيزيقية العاقلة التي تحيل إلى صوت مرجعي ، إلى رؤية الكتابة غير الميتافيزيقية الحرة التي تحيل إلى وحدات الكتابة ، والتي تشكل اللغة بذاتها ( ) .
وبذا فإن التحول من وضعية الكلام العلامي إلى الكتابة الآثارية يحقق نقد التمركز Critique of Centricity - تفكيكا - مما يعد - علاميا - " تهديدا لمركزية حضور العقـل ، ومركزية حضور السلطة " ( ) ، وتضحى الحقيقة حاضرة " في تفكيك الكتابة لكل هذه المراكز، لا لتكون مركزاً بديلاً ، ولكن لتكون قراءة قد يطل منها الغائب والممتنع ، وما لم يفكر فيه ، والهامشي ، والمنفي ، وما لم يتخلق جسداً على المحتمل والممكن " ( ) .
وفي تحويله مفردة : Difference التي تعني : الاختلاف أو التغاير ، إلى مفردة : Differance التي تعني : الإرجاء والتأجيل ؛ يتبدى – عمليا – مقصده في تحويل الفعل الدلالي من سلطة العلامة إلى سلطة الكتابة ؛ فمبجرد " تغيير الصائت (e) إلى الصائت (a) ، تغيرت بنية المدلول ، حيث تحول المعنى من الاختلاف والتغاير والضدية إلى الإخلاف والإرجاء والتأجيل . وهذا التحول الجزئي مهم في عملية إنتاج الاختلافــات ( ) .
ومسألة التحول الدلالي من الاختلاف إلى الإخلاف ، أو من المغايرة إلى التأجيل ، أو من الضدية إلى الإرجاء ، ليست عملية تلاعب بالمفردات أو الصوائت فحسب ، إنّما هي عملية اتساع في النسيج المفاهيمي الحامل لدلالات متغايرة ، ودور عملية الاتساع هذه في تقديم المعنى بصورته اللانهائية المؤجلة بصورة دائمة ( ) ، من خلال نظرية اللعب Theory of play " القاضية بإحالة الدال إلى دال آخر مع تغييب متعمّد للمدلول " ( ) . الفعل الذي يؤدي إلى اتسام التفكيكية " بحرية الرؤية " ( ) ، ومن ثم حرية المدلولات وتغييبها دائما حتى رغم حضور دوالها ، ومن ثم تميزت بالصفة : الحضور والغياب Presence and Absence ؛ وبذا انتقل مركز القراءة من ميتافيزيقا الحضور إلى ميتافيزيقا الغياب ، من العلامة إلى الاختلافات ، فلم يعد هنالك " حضور مادي للعلامة ، هناك لعبة اختلافات فحسب ، وهناك سعي وراء المغيب في اللغة ، والمعاني المؤجلة بشكل لا نهائي ( ) .
وإذا كانت التفكيكية تقوم بهدم الدلالة القائمة بين الدال والمدلول في المرجع ، وتعوِّم الدال حرا في فضاء النص ، فكيف لنا أن نقتنص مدلولا آخر للدال ، ونعيد بناءه في مادته ؟ سيتم ذلك بالربط بين صنيع التفكيك ، وصنيع القراءة ، وصنيع التأويلية ، فمن خلال التفكيك سنقوم بتحليل " الهوامش والفجوات والتوقفات والتناقضات والاستطرادات داخل النصوص ، بوصفها صياغات تسهم في الكشف عن ما ورائيات اللغة والتراكيب " ( ) ، ومن خلال القراءة سنصنع الصنيع نفسه ، عن طريق مفهوم عملية القراءة عند إيزر ، وهو مفهوم الفارغ . والفراغات " هي مفاصل النص الخفية " ( ) ، وهي التي تستفز القارئ لإملائها وإعادة كتابة النص ، وإضافة مايفهم مما لم يذكر من السطح ، فالمؤلف يخفي ما يريد أن يقوله في هذه الفراغات التي تتناثر هنا وهناك في جسد النص ، وهي التي تغري القارئ بالقراءة والحوار ، ويكون التواصل بين القارئ والنص من خلال هذه الفراغات ( ) ، أو كما يقول إيزر : " التواصل في الأدب عملية لا يحركها أو ينظمها قانون مسبق ، بل تفاعل مقيد وموسع متبادل بين المعنى الواضح والمعنى الضمني ، بين الكشف والخفاء ، إن الشيء الخفي يحرض القارئ على الفعل ، ويكون هذا الفعل مضبوطا بما هو ظاهر ، ويتغير الظاهر بدوره ، عندما يخرج المعنى الضمني إلى الوجود ، وكلما سد القارئ الثغرات بدأ التواصل ، وتعمل الثغرات كالمحور الذي تدور حوله العلاقة بين القارئ والنص كلها ، ومن هنا تثير فراغات النص المُركَّبة عملية التخيل التي يقوم بها القارئ بناء على شروط صنعها النص" ( ) . ومن خلال التأويلية أيضا سنصنع الفعل نفسه ، كما أشرنا .
والحق أن تفكيكنا لمعلقة امرئ القيس ، تم عبر تفكيك كل دوال المعلقة ؛ الحجم الذي لا يمكن سرده هنا ، لطول دوال المعلقة ، لكن ثمة أمورا أؤكدها هنا ، وهي :
1- أننا نفكك المعنى السطحي الذي عُرِض في دراسات القدماء للمعلقة ؛ لنبني مكانه معنى مغايرا .
2- أننا نستكمل قراءات المحدثين التأويلية الجزئية للمعلقة ، في قراءة تأويلية كلية .
3- أننا نعتمد معاني الدوال المرجعية ، دون قطع بات معها ؛ لتحقيق أولى خطوات التأويلية في الفهم والشرح والتفسير ، كما أشرنا سلفا .
4- أننا نضع على تلك الدوال ، بعد أن فُكَّت مرجعيتها ، ما نراه من معان تأويلية إضافية تشكل رؤيتنا التأويلية للمعلقة .
5- أننا نبدأ بالتفكيك ، ولا نسير به لنهاية صنيع تقويضي محض ، وإنما نُلْبِس بدايتنا به وفيه ومعه بالتأويلية المنتجة ؛ لرؤية مغايرة ، التي هي مشروع قراءتنا الأساس .
اتضح مما سبق إذا أن صنيع التأويلية ، ينهض في فهم المعلقة ، في هذا البحث ، على صنيع التفكيك ، وعلى صنيع القراءة .
وحسب فهم ما سبق ، نقدم قراءتنا التأويلية للمعلقة ، فيما يلي .
( يتبقى الجزء الثالث )
سؤال القراءة والتفكيك :
إذا كان الوصول إلى معاني النص الخبيئة ، هو مبتغى التأويلية بامتياز ، فإن سعي هذا الوصول هو الذي شكل مسيرة تاريخ قراءات النصوص ، بداية من الشرح إلى التحليل إلى التأويل . والقراءات النصية مرت منذ تاريخها الطويل إلى الآن بثلاث مراحل تطورية متعاقبة ، ومتداخلة ، نسبيا إلى حد ما ، كان الشرح أولها ، والتحليل ثانيها ، والتأويل ثالثها . وهي في المراحل الثلاثة شدت بين أقطاب ثلاثة أيضا ؛ قطب يرى المعنى في مقصد الشاعر في نصه، فكان الشرح ، وقطب يرى المعنى في تلافيف النص بعيدا عن الشاعر ، فكان التحليل ، وقطب يرى المعنى في تلقي القارئ للنص وكيفية تعامله معه ، فكان التأويل .
لا غرابة تطورية إذا ، أن لا يحتوي – نسبيا - المحور الأول الذي هو الشرح على المحورين التاليين : التحليل والتأويل ، وأن لا يحتوى – نسبيا - المحور الثاني ، الذي هو التحليل ، على المحور التالي : التأويل ، وأن يشتمل – نسبيا - المحور الثاني ، الذي هو التحليل ، على المحور الأول ، الذي هو الشرح ، وأن يشتمل – نسبيا - المحور الثالث ، الذي هو التأويل ، على المحورين الأول والثاني ، اللذين هما ، الشرح والتحليل ( ) .
والملاحظ من سرد مراحل ما سبق أننا تغاضينا عن محور التفسير ، الذي لاشك أنه فاعل تطوري في مسيرة مقاربة النصوص ، وأنه لا ريب يقع في منطقة بينية بين الشرح والتحليل ، تجعله أحيانا يتأرجح للتطابق بهما ؛ وذلك لارتباطه بالنصوص الدينية ، ارتباط المتلازمات ، وعدم مبارحته لها كمصطلح ليلصق نفسه بنصوص أدبية ، وإن ترك مفهومه يمارس مع النصوص الأدبية ، بالإجراءات نفسها التي كان يصنعها مع النصوص الدينية ، تحت مسمى آخر هو الشرح ، الحال التي لم تحدث مع التأويل ، فبرغم ارتباط التأويل تلازميا – إلى حد كبير - أيضا بالنصوص الدينية في القديم ، وبرغم استمراره في فعل ذلك في الحديث أيضا ؛ إلا أنه استطاع أن يضيف إلى عمله معها عملا آخر ، هو مقاربة النصوص الأدبية ، بنفس شرط اسمه وفعله .
ولوضع عملنا في التأويل موضعه ضمن مسيرة تطور قراءات النصوص ، نتفق مع د.خليل الموسى في جعله الشكلية تمثل نقطة الارتكاز في ترسيم ذلك التطور ، فما قبلها مرحلة، وما بعدها مرحلة أخرى ، وهي نفسها مرحلة خاصة بذاتها . ومرحلة ما قبل الشكلية ، فترة كان يسود فيها المذهبان الكلاسي ، والرومانسي ، وما استتبعهما من مناهج تاريخية ، واجتماعية ، ونفسية ، ونقدية ، تسلط في الأغلب الأعم على المؤلف وسلطته ومن ثم تكون السيادة فيها للمؤلف ، ومرحلة الشكلية الثانية ، سادت فيها – حتى من اسمها - المناهج الشكلية ، كالشكلية الروسية والبنيوية والنقد الجديد وتكون السلطة فيها سائدة للنص ، ومرحلة ما بعد الشكلية ، المرحلة الثالثة ، تسود فيها مناهج كالتناصية والتفكيكية والسيميولوجية والتأويلية ، وتكون السلطة فيها سائدة للقارئ ( ) .
ومراحل تطور مقاربات النصوص الثلاثة : الشرح والتحليل والتأويل ، وأقطابها الجاذبة: المؤلف والنص والقارئ ، ومذاهبها ومناهجها التطورية أيضا : ما قبل الشكلية والشكلية وما بعد الشكلية ؛ في تعاملها مع النص الأدبي ، تقاربه بطريقتين ، الأولى مغلقة ، والثانية مفتوحة . النص الأول المغلق نص عادي ، لا يقول إلا ما يقوله في الظاهر ، وهذا يعني أن ظاهر النص هو كل النص ، أو هو نص بلا قعر ولا خلفية ، لا يصلح إلا لقراءة واحدة ، وهو أحادي الدلالة ، وقارئه مستهلك للنص ، يلجأ إلى مناهج ، تساعده على معرفة الدلالة ، من خلال المؤلف، أو العصر ، أو المجتمع ، الذي يعيش فيه صاحب النص ( ) ، وهو نص لا يصلح للتأويل ، يصلح للشرح والتفسير ، وللمناهج ما قبل الشكلية . والنص الثاني المفتوح ، نص غني ، ويتأتى غناه من صفات وملامح كثيرة ، أهمها أنه نص مستقل بحقيقته وقوته وجمالياته ، فهو واقعة مستقلة عن صاحبها ومجتمعها ، ولا مرجعية لهذا النص غير لغته ، ولذلك فإن حقيقته لا تأتيه من خارجه ، وإنما هي كائنة فيه ، فالإيديولوجيا فيه إيديولوجيا نصية ، والحقيقة فيه حقيقة نصية( )، " وقوة النص المفتوح في إخفاء استراتيجياته ومدلولاته، وهو لا يصرح بكل ما يريد ، فقوته في غناه ، وغناه في اختلافه بين مستويات الكلام وليس في تجانسها " ( ) ، وهو نص يصلح بامتياز للتحليل والتأويل ، وللمناهج الشكلية وما بعد الشكلية .
إن منهج فعلنا التأويلي إذا ، يهدف إلى البحث عن المعاني الدفينة وعلاقاتها الغائرة البينية التي يتشكل بها النص ، وينهض على قراءة النص المفتوح ، الذي لا شك يمثله نص معلقة امرئ القيس هنا ، ويندرج في مرحلة ما بعد الشكلية ؛ مرحلة سلطة القارئ ، الذي لا شك يمثله الباحث ؛ لذا فإن ما سيساق من تأويل لنص معلقة امرئ القيس المفتوح تأويل خاص بنا ، دون أدنى مسعى لتعميمه وفرضه على أحد ، وكأنه رؤية عامة تتطابق مع الموضوعية ، أو حتى تتماس معها ، وهذا هو صنيع التأويلية .
3-1
إذا كانت التفكيكية هي " عراب ما بعد البنيوية "( ) فإنه لا يمكن تجاهلها ، وعدم الاتكاء عليها عند ممارسة التأويلية ، إذ إنها تنهض على " تحليل الهوامش والفجوات والتوقفات والتناقضات والاستطرادات داخل النصوص ؛ بوصفها صياغات تسهم في الكشف عن ما ورائيات اللغة والتراكيب " ( ) ، وعلى " تفحص الخصائص البلاغية الموجودة في النصوص، وبيان أنها تعوض معاني النصوص ، ومرجعياتها المقررة ( ) ، وعلى إزاحة النقاب عن الافتراضات الميتافيزيقية المخبوءة في نصوص تبدو بريئة في الظاهر ( ) ، وهذا هو صنيع التأويلية أيضا .
على أننا حين نفكك معلقة امرئ القيس ، لا نفككها بغية " تهشيم منطق الهوية" ( ) ، ولا بعمل تعسفي ( ) ، ولا بطرح عبثي ( ) وإنما نفككها لننسج معنى آخر ( ) ولنفتح هوية أخرى، " تهدم استسلام نهائية المعنى الثابت أمام تغاير المعنى المتعدد اللانهائي " ( ) .
وفي تفكيكنا للمعلقة ، سوف نمارس إجراءاتها ، من خلال مصطلحاتها الأساسية ، وهي: علم الكتابة Grammatology ، ونقد التمركز Critique of Centricity ، والاختلاف Difference ، والحضور والغياب Presence and Absence ، ونظرية اللعب Theory of play .
وبعلم الكتابة Grammatology تتحول علامات الكتابة Signs عند دي سوسير إلى آثار كتابة Traces عند دريدا ، ومن ثم ينتقل التمركز في النص من رؤية العلامة الميتافيزيقية العاقلة التي تحيل إلى صوت مرجعي ، إلى رؤية الكتابة غير الميتافيزيقية الحرة التي تحيل إلى وحدات الكتابة ، والتي تشكل اللغة بذاتها ( ) .
وبذا فإن التحول من وضعية الكلام العلامي إلى الكتابة الآثارية يحقق نقد التمركز Critique of Centricity - تفكيكا - مما يعد - علاميا - " تهديدا لمركزية حضور العقـل ، ومركزية حضور السلطة " ( ) ، وتضحى الحقيقة حاضرة " في تفكيك الكتابة لكل هذه المراكز، لا لتكون مركزاً بديلاً ، ولكن لتكون قراءة قد يطل منها الغائب والممتنع ، وما لم يفكر فيه ، والهامشي ، والمنفي ، وما لم يتخلق جسداً على المحتمل والممكن " ( ) .
وفي تحويله مفردة : Difference التي تعني : الاختلاف أو التغاير ، إلى مفردة : Differance التي تعني : الإرجاء والتأجيل ؛ يتبدى – عمليا – مقصده في تحويل الفعل الدلالي من سلطة العلامة إلى سلطة الكتابة ؛ فمبجرد " تغيير الصائت (e) إلى الصائت (a) ، تغيرت بنية المدلول ، حيث تحول المعنى من الاختلاف والتغاير والضدية إلى الإخلاف والإرجاء والتأجيل . وهذا التحول الجزئي مهم في عملية إنتاج الاختلافــات ( ) .
ومسألة التحول الدلالي من الاختلاف إلى الإخلاف ، أو من المغايرة إلى التأجيل ، أو من الضدية إلى الإرجاء ، ليست عملية تلاعب بالمفردات أو الصوائت فحسب ، إنّما هي عملية اتساع في النسيج المفاهيمي الحامل لدلالات متغايرة ، ودور عملية الاتساع هذه في تقديم المعنى بصورته اللانهائية المؤجلة بصورة دائمة ( ) ، من خلال نظرية اللعب Theory of play " القاضية بإحالة الدال إلى دال آخر مع تغييب متعمّد للمدلول " ( ) . الفعل الذي يؤدي إلى اتسام التفكيكية " بحرية الرؤية " ( ) ، ومن ثم حرية المدلولات وتغييبها دائما حتى رغم حضور دوالها ، ومن ثم تميزت بالصفة : الحضور والغياب Presence and Absence ؛ وبذا انتقل مركز القراءة من ميتافيزيقا الحضور إلى ميتافيزيقا الغياب ، من العلامة إلى الاختلافات ، فلم يعد هنالك " حضور مادي للعلامة ، هناك لعبة اختلافات فحسب ، وهناك سعي وراء المغيب في اللغة ، والمعاني المؤجلة بشكل لا نهائي ( ) .
وإذا كانت التفكيكية تقوم بهدم الدلالة القائمة بين الدال والمدلول في المرجع ، وتعوِّم الدال حرا في فضاء النص ، فكيف لنا أن نقتنص مدلولا آخر للدال ، ونعيد بناءه في مادته ؟ سيتم ذلك بالربط بين صنيع التفكيك ، وصنيع القراءة ، وصنيع التأويلية ، فمن خلال التفكيك سنقوم بتحليل " الهوامش والفجوات والتوقفات والتناقضات والاستطرادات داخل النصوص ، بوصفها صياغات تسهم في الكشف عن ما ورائيات اللغة والتراكيب " ( ) ، ومن خلال القراءة سنصنع الصنيع نفسه ، عن طريق مفهوم عملية القراءة عند إيزر ، وهو مفهوم الفارغ . والفراغات " هي مفاصل النص الخفية " ( ) ، وهي التي تستفز القارئ لإملائها وإعادة كتابة النص ، وإضافة مايفهم مما لم يذكر من السطح ، فالمؤلف يخفي ما يريد أن يقوله في هذه الفراغات التي تتناثر هنا وهناك في جسد النص ، وهي التي تغري القارئ بالقراءة والحوار ، ويكون التواصل بين القارئ والنص من خلال هذه الفراغات ( ) ، أو كما يقول إيزر : " التواصل في الأدب عملية لا يحركها أو ينظمها قانون مسبق ، بل تفاعل مقيد وموسع متبادل بين المعنى الواضح والمعنى الضمني ، بين الكشف والخفاء ، إن الشيء الخفي يحرض القارئ على الفعل ، ويكون هذا الفعل مضبوطا بما هو ظاهر ، ويتغير الظاهر بدوره ، عندما يخرج المعنى الضمني إلى الوجود ، وكلما سد القارئ الثغرات بدأ التواصل ، وتعمل الثغرات كالمحور الذي تدور حوله العلاقة بين القارئ والنص كلها ، ومن هنا تثير فراغات النص المُركَّبة عملية التخيل التي يقوم بها القارئ بناء على شروط صنعها النص" ( ) . ومن خلال التأويلية أيضا سنصنع الفعل نفسه ، كما أشرنا .
والحق أن تفكيكنا لمعلقة امرئ القيس ، تم عبر تفكيك كل دوال المعلقة ؛ الحجم الذي لا يمكن سرده هنا ، لطول دوال المعلقة ، لكن ثمة أمورا أؤكدها هنا ، وهي :
1- أننا نفكك المعنى السطحي الذي عُرِض في دراسات القدماء للمعلقة ؛ لنبني مكانه معنى مغايرا .
2- أننا نستكمل قراءات المحدثين التأويلية الجزئية للمعلقة ، في قراءة تأويلية كلية .
3- أننا نعتمد معاني الدوال المرجعية ، دون قطع بات معها ؛ لتحقيق أولى خطوات التأويلية في الفهم والشرح والتفسير ، كما أشرنا سلفا .
4- أننا نضع على تلك الدوال ، بعد أن فُكَّت مرجعيتها ، ما نراه من معان تأويلية إضافية تشكل رؤيتنا التأويلية للمعلقة .
5- أننا نبدأ بالتفكيك ، ولا نسير به لنهاية صنيع تقويضي محض ، وإنما نُلْبِس بدايتنا به وفيه ومعه بالتأويلية المنتجة ؛ لرؤية مغايرة ، التي هي مشروع قراءتنا الأساس .
اتضح مما سبق إذا أن صنيع التأويلية ، ينهض في فهم المعلقة ، في هذا البحث ، على صنيع التفكيك ، وعلى صنيع القراءة .
وحسب فهم ما سبق ، نقدم قراءتنا التأويلية للمعلقة ، فيما يلي .
( يتبقى الجزء الثالث )