هى المجموعة القصصية الثانية للقاص صفوت فوزى فقد صدرت له من قبل مجموعة قصصية بعنوان الخوف القديم ، تتكون المجموعة من اثنين وعشرين قصة قصيرة فى مائة وثلاثين صفحة وقد صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بغلاف عليه لوحة تشكيلية لشخص بظهره جالس بهيئة متواضعة رث الملابس بجواره قبعة رثة ينظر إلى فضاء واسع ، بها بعض الطيور تحلق فى الفضاء ، وبعض قطع السحاب وتشكيل من جريد النخيل ، وربما يشير الغلاف إلى بؤس بطل القصص وتطلعه إلى الحرية والانعتاق من حياته الصعبة ، جاء إهداء القصص إلى والد الكاتب وكان لوالد السارد تأثير كبير فى سرد بعض القصص كما سنرى .
تطالعنا مفردة البصر من عنوان المجموعة وهو عنوان القصة الأولى ونرجح دلالة المفردة على البصيرة " ، وقد تكررت كلمة البصر فى عنوان القصة الأولى وفى الفقرة الاولى عدة مرات " أكتب كل ما ترى ، ولم أكن أرى شيئا ، فلما انداحت العتمة أبصرت كل شئ ، واختفى هو " والفقرة تشير إلى وصول الراوى إلى النضج والبصيرة عند خريف العمر وعند وفاة الاب وهو ما أشار إليه عنوان القصص .
الراوى هو الشخصية الرئيسية فى أكثر قصص المجموعة ويحكى بضمير المتكلم وهو غالبا شخص فقير بائس محبط أحلامه غير متحققة شغوف بالأسئلة لماذا؟ وأين؟ وكيف؟ ، "كنت أجتر خيباتى وإحباطى" ، فى قصة تشابه يصف شخص بأنه نحيل شاحب الوجه بملابسه الرثة فى الصباح البارد وتنتهى القصة بنهاية بارعة "حين أمعنت النظر فى ملامحه اندهشت. كان يشبهنى حد الإرتباك"ص29 ، فى قصة عزف منفرد "ها أنا الوحيد يسكننى الصمت ، أستشعر برد الليل وهو يتسلل إلى عظامى ، فى ذهنى كلمات فارغة ، وجوع لا يرتوى، يعود دائما بالذكريات إلى الطفولة يحكى من خلالها تجاربه الأولى وتطلعه إلى المرأة وشغفه بها وتلصصه عليها " تفترش صحن الدار أمام طشت الغسيل . ينحسر الثوب كاشفا عن فخذها المشدود بثنية الساق ..رفعت عينيها التقتا بعينىّ المندستين تبحران على جسدها الريان" ، ومع جارته " تلحق بى هند جارتنا ورفيقة صبايا ولعبى وسرى المكنون . تنثر مرحها وبهجتها على المكان تنظر إلىّ بعينين محلقتين اشتياقا ، حافلتين بأسرار البكارة والوعود والاحلام يسيل منها حنو أنثوى يغمر قلبى " ص78 وغالبا ما تنتهى تلك التجارب البكر بصفعة من أبيه .
المكان هو أبرز العناصر فى تشكيل القصص " هذا المكان أعرفه جيدا...أقوم أتجول فى البيت . قدماى تعرفان المكان . سقطت مرة من فوق هذا السلم ، بكيت فى الغرفة المظلمة . انتظرت أبى فوق هذه العتبة ، ومن فوق السطح كنت أراقب النجوم والسماء . هنا كانت كتبى ومجلاتى ، فى هذا الركن كنت أجترّ خيباتى وإحباطى "ص8 ، وللمكان دلالة على الشخصية ففى قصة يوم آخر يصف الغرفة التى يقيم فيها بطل القصة "عفلوك " الغرفة بائسة تقع فى الطابق الارضى .ضربت الرطوبة نصفها الأسفل فبان لحم الحيطان عاريا ..غرفة مخنوقة الضوء " عبرت عن ساكنها (عفلوك) وهو شخص غريب عن القرية وغريب الاطوار مهوش ، وللمكان دلالة على هيئته ، يصفه الراوى بأنه يرتدى فانلة حمالات متسخة ولباسه دمور مربوط حول خاصرتيه بحبل مجدول ولديه كتاب يقولون إنه كتاب للسحر والأعمال ، وفى قصة همس الحيطان كان للمكان دلالة على تغير الأحوال من الأحسن إلى الأسوء ، فيصف الراوى إحدى الكنائس والتى كان يزورها وهو صغير "مفتوحة على الفناء الداخلى ؛ حضن وسيع يبتسم فى وجوهنا ، شجرة الجميز العجوز تقف شامخة مورقة تفرش ظلها بساطا للونس والسكينة للعابرين اللائذين بحضنها من وقدة الظهيرة .. بهاء الاتساع وجلال العلو..قلوب وجلة تخفق خاشعة " ويمضى الراوى فى وصف المكان وعمارة الكنيسة وبهائها وجلالها ، وبعد عدة سنوات عاد إلى نفس المكان فيصفه بأنه "غبار فى الأفق وحر وكلاب تلهو ..ضاع الخَضَار فى الغبار وبيوت الأسمنت القبيحة . اختفت الهداهد والبلابل ..الأرض التى أمشى عليها لا تعرفنى . تنكرنى الأماكن ..أدرك الآن أنى كبرت ، وأن الأماكن أيضا تشيخ ، تمرض ، تحزن ، تبكى ولا أحد يسمع بكاها "ص107
كانت القرية هى الفضاء المكانى للقصص بما احتوته من تراث شعبى مثل الشغف بحكايات العفاريت والجن والغول والغولة " هذه العجوز ماكينة حكايات " ص17 حتى التهكم فى قول السارد " ماتت جدته وتركت له ميراثا لا يفنى من العفاريت والكائنات شائهة الخلقة " ص17 ، والإعتقاد فى السحر والأساطير والغرائب وإطلاق الشائعات والتشاؤم ، وفى قصة امرأة تسكن وحدها على اطراف القرية عشقها الرجال وغار منها النساء فاطلقوا عليها الإشاعات وألصقوا بها كل مصيبة بالقرية ، فعزموا على قتلها وحددوا القاتل ووقت القتل إلا أنهم سمعوا صرخة مدوية للقاتل ورأوه عاريا متقوسا على نفسه يتلوى ألما وعشر كلابات حديدية تمسك بيديه وخصيتيه حتى سقط متكورا على الأرض مغشيا عليه " أزاحته بقدمها .انتصبت فى مواجهتهم شامخة ، عارية تماما ، خلفها نخلة الدار ترتفع سامقة ، ساكنة ، لا تهزها ريح "42 ، ويفهم من السرد أن القاتل أراد إغتصاب المرأة قبل قتلها وكانت النتيجة مخزية وفاضحة للقاتل ولأهل القرية .
كان بالقصص إحتفاء بالطبيعة مثل وصف الفجر والطيور فى قصة والصبح إذا تنفس "زقزقت العصافير تستقبل الصبح الذى يتنفس الآن وشمس الله الوليدة تطل من خلف السحاب ، انفرطت دجاجات الدار تنبش الارض ، تلقط الحب فى حيوية بادية "ص27 ومثل مفردات موسم القصب ، جمل خرافى ، الطوب اللبن ، جرار ، أشجار الكافور والجميز ، الغيطان ، عديد المحزونين ، الترع والمساقى الصغيرة ، الديكة ، طيور أبو قردان النخلات العجائز ، حفيف الزرع وثغاء الحيوانات والاشجار العتيقة .
حفلت القصص بتناصات عديدة إسلامية ومسيحية وثقافية عبرت عن ثقافة موسوعية وعميقة للكاتب مثل "ليس على المريض حرج" تناص مع آية قرآنية بنصها "والصبح إذا تنفس " وهو عنوان القصة الثالثة إشارة إلى الآية القرآنية بسورة التكوير، "ولقد أتى على قريتنا حين من الدهر" تناص مع الآية الأولى من سورة الإنسان ، "كل الأنهار إلى البحر والبحر ليس بملآن " تناص مع آية بالإنجيل ، غواية الجنة الأولى ص73 تناص بتصرف مع قصة آدم وحواء بالكتب المقدسة ، "أبصرت كل شئ" ص7 تناص بتصرف مع السطر الاول بملحمة جلجامش "هو الذى رأى كل شئ " ، "ويتولى نشيجه المكتوم الجواب " تناص مع الشطر الثانى من بيت شعر، وكنت إذا سألت القلب يوما / تولى الدمع عن قلبى الجوابا، من قصيدة سلو قلبى لأحمد شوقى وقد غنتها أم كلثوم.
اتسم السرد بالمشهدية فقد حفل بالحركة واستخدام الفعل المضارع لإستحضار الحدث وكأن القارئ يرى مشهدا سينمائيا مثل وصف السارد مرض أبيه الأخير " يتساند علىّ متهالكا متكورا على نفسه خجلا فوق كرسى خشبى فى الحمام المتسخ البياض ...أصب الماء قيلا قليلا فوق الجسد الواهن "ص9 ومثل وصف غرف فقيرة فى أحد البيوت "غرف متتابعة تطل على المدخل ، مفتوحة أبوابها عن بوابير الجاز المتقدة تفح نارا وصهدا تحت الطبيخ والغسيل وساكنات الغرف يفترشن الأرض " ص77 .
اتسمت قصص المجموعة بكثير من الوصف وأبدع الكاتب كثيرًا فى وصف المرأة وكأنه يرسم لها بورتريها "عيناها النجلاوان السمراوان فى صفحة وجهها الرائق ، كانا أول ما لفت انتباهى ، أمواج شعرها الناعم مسرحا بعناية ، ينسدل فاحما على الظهر " ص73 ، كما أبدع فى وصف المكان " الغرفة بائسة تقع فى الطابق الارضى ، ضرب الرطوبة نصفها الأسفل فبان لحم الحيطان عاريا وسرحت الشروخ الرفيعة الدقيقة فى حوائطا الخشنة " ص13 .
كان للحواس نصيب ملحوظ فى بعض القصص ففى القصة الأولى الآن أبصر، فقد ذُكر مفردة البصرعدة مرات كما ذكرنا من قبل فى عنوان المجموعة ، وحاسة الشم يصف رائحة الزير" تغزونى رائحة عطن قديم ..على الارض المبلولة تفوح منها رائحة زخمة نفاذة "ص77 وحاسة اللمس"كان ملمس خدها أشبه بوسادة حريرية" ص79 وحاسة السمع فى قصة فات الميعاد " تملأ أذنى شقشقات العصاقير ، وصوت أم كلثوم منطلقا من المذياع الخشبى الكبير يشدو : فات الميعاد "ص47
لعب الخيال دورا بارزا فى التعويض عن حرمان وبؤس (عفلوك) بطل قصة يوم آخر فقد كان غريبا عن القرية وفى غاية الفقر والبؤس ، أفاض الراوى العليم فى بؤسه وبؤس الحجرة التى يقيم فيها وإذ بقطة سوداء تموء بشبق كأنها انثى فى موسم السفاد وتقفز على سريره ويتخيلها امرأة بضة جميلة ويتخيل معها لقاءً جنسيا ، مُحققا معها رغباته ومعوضا حرمانه وبؤسه " عنفوان الامتزاج الحميم الذى يهدم كل السدود والموانع المصنوعة ملبيا نداء الحياة" ص18 ، وسرعان ما تغير حاله فأصبحت الوسادة نظيفة وجديدة وسريره مرتب ونظيف والمائدة رصت عليها أطايب المأكولات وامتلأت حافظته بالنقود ، وعلى الارجح كان ذلك فى الخيال أيضا .
اتسمت لغة المجموعة بالحسية وبالجمال الفنى واقتربت كثيرا من لغة الشعر مثل " قبيل الغروب ، والشمس تلملم جدائلها وتنسحب مغادرة ، والنجوم تبدأ فى دق مسامرها فى الفضاء البعيد " ، " زقزقت عصافير تستقبل الصبح الذى يتنفس الآن وشمس الله الوليدة تطل من خلف السحاب " ص27 وغيرها مما ورد فى الشواهد أعلاه ، وكان السرد بالفصحى البسيطة ولكنها فنية ، وكان فى بعض المواضع عامية مفصحى مثل بداية قصة يوم آخر " لا أحد فى القرية كلها يعرف له أصلا أو فصلا " واتسم السرد بكثرة الوصف وقلة الأحداث فأضفى على القصص جوا من الشعرية ، وكان السرد فى أكثر القصص بضمير المفرد المتكلم وأقله بضمير الغائب ، كذلك كان الحوار قليلا وباللهجة العامية وبعبارات قصيرة عبرت عن الشخصية ودفعت الحدث إلى الأمام وطورته .
- من؟
- جاءنى من الداخل صوتها المشروخ بالعجز وطول فوات السنين(وصف للصوت)
- أنا "جميل" ياستى .ص25
وفى قصة رجع الصدى
- مالك يا نادية ؟
- مفيش يامّه .ص85
كانت المجموعة القصصية من طراز الفن الرفيع للقصة القصيرة كتبها الكاتب بإجادة تامة وبلغة فنية تقترب من الشعر ، وبتقنيات أسلوبية حديثة أنبأت عن كاتب ذى موهبة كبيرة ويمتلك مهارات وأسرار الكتابة الفنية الراقية للقصة القصيرة .
بقلم مصطفى فودة
All reactions:
6سمير الفيل, Fawzy Soliman and 4 others
تطالعنا مفردة البصر من عنوان المجموعة وهو عنوان القصة الأولى ونرجح دلالة المفردة على البصيرة " ، وقد تكررت كلمة البصر فى عنوان القصة الأولى وفى الفقرة الاولى عدة مرات " أكتب كل ما ترى ، ولم أكن أرى شيئا ، فلما انداحت العتمة أبصرت كل شئ ، واختفى هو " والفقرة تشير إلى وصول الراوى إلى النضج والبصيرة عند خريف العمر وعند وفاة الاب وهو ما أشار إليه عنوان القصص .
الراوى هو الشخصية الرئيسية فى أكثر قصص المجموعة ويحكى بضمير المتكلم وهو غالبا شخص فقير بائس محبط أحلامه غير متحققة شغوف بالأسئلة لماذا؟ وأين؟ وكيف؟ ، "كنت أجتر خيباتى وإحباطى" ، فى قصة تشابه يصف شخص بأنه نحيل شاحب الوجه بملابسه الرثة فى الصباح البارد وتنتهى القصة بنهاية بارعة "حين أمعنت النظر فى ملامحه اندهشت. كان يشبهنى حد الإرتباك"ص29 ، فى قصة عزف منفرد "ها أنا الوحيد يسكننى الصمت ، أستشعر برد الليل وهو يتسلل إلى عظامى ، فى ذهنى كلمات فارغة ، وجوع لا يرتوى، يعود دائما بالذكريات إلى الطفولة يحكى من خلالها تجاربه الأولى وتطلعه إلى المرأة وشغفه بها وتلصصه عليها " تفترش صحن الدار أمام طشت الغسيل . ينحسر الثوب كاشفا عن فخذها المشدود بثنية الساق ..رفعت عينيها التقتا بعينىّ المندستين تبحران على جسدها الريان" ، ومع جارته " تلحق بى هند جارتنا ورفيقة صبايا ولعبى وسرى المكنون . تنثر مرحها وبهجتها على المكان تنظر إلىّ بعينين محلقتين اشتياقا ، حافلتين بأسرار البكارة والوعود والاحلام يسيل منها حنو أنثوى يغمر قلبى " ص78 وغالبا ما تنتهى تلك التجارب البكر بصفعة من أبيه .
المكان هو أبرز العناصر فى تشكيل القصص " هذا المكان أعرفه جيدا...أقوم أتجول فى البيت . قدماى تعرفان المكان . سقطت مرة من فوق هذا السلم ، بكيت فى الغرفة المظلمة . انتظرت أبى فوق هذه العتبة ، ومن فوق السطح كنت أراقب النجوم والسماء . هنا كانت كتبى ومجلاتى ، فى هذا الركن كنت أجترّ خيباتى وإحباطى "ص8 ، وللمكان دلالة على الشخصية ففى قصة يوم آخر يصف الغرفة التى يقيم فيها بطل القصة "عفلوك " الغرفة بائسة تقع فى الطابق الارضى .ضربت الرطوبة نصفها الأسفل فبان لحم الحيطان عاريا ..غرفة مخنوقة الضوء " عبرت عن ساكنها (عفلوك) وهو شخص غريب عن القرية وغريب الاطوار مهوش ، وللمكان دلالة على هيئته ، يصفه الراوى بأنه يرتدى فانلة حمالات متسخة ولباسه دمور مربوط حول خاصرتيه بحبل مجدول ولديه كتاب يقولون إنه كتاب للسحر والأعمال ، وفى قصة همس الحيطان كان للمكان دلالة على تغير الأحوال من الأحسن إلى الأسوء ، فيصف الراوى إحدى الكنائس والتى كان يزورها وهو صغير "مفتوحة على الفناء الداخلى ؛ حضن وسيع يبتسم فى وجوهنا ، شجرة الجميز العجوز تقف شامخة مورقة تفرش ظلها بساطا للونس والسكينة للعابرين اللائذين بحضنها من وقدة الظهيرة .. بهاء الاتساع وجلال العلو..قلوب وجلة تخفق خاشعة " ويمضى الراوى فى وصف المكان وعمارة الكنيسة وبهائها وجلالها ، وبعد عدة سنوات عاد إلى نفس المكان فيصفه بأنه "غبار فى الأفق وحر وكلاب تلهو ..ضاع الخَضَار فى الغبار وبيوت الأسمنت القبيحة . اختفت الهداهد والبلابل ..الأرض التى أمشى عليها لا تعرفنى . تنكرنى الأماكن ..أدرك الآن أنى كبرت ، وأن الأماكن أيضا تشيخ ، تمرض ، تحزن ، تبكى ولا أحد يسمع بكاها "ص107
كانت القرية هى الفضاء المكانى للقصص بما احتوته من تراث شعبى مثل الشغف بحكايات العفاريت والجن والغول والغولة " هذه العجوز ماكينة حكايات " ص17 حتى التهكم فى قول السارد " ماتت جدته وتركت له ميراثا لا يفنى من العفاريت والكائنات شائهة الخلقة " ص17 ، والإعتقاد فى السحر والأساطير والغرائب وإطلاق الشائعات والتشاؤم ، وفى قصة امرأة تسكن وحدها على اطراف القرية عشقها الرجال وغار منها النساء فاطلقوا عليها الإشاعات وألصقوا بها كل مصيبة بالقرية ، فعزموا على قتلها وحددوا القاتل ووقت القتل إلا أنهم سمعوا صرخة مدوية للقاتل ورأوه عاريا متقوسا على نفسه يتلوى ألما وعشر كلابات حديدية تمسك بيديه وخصيتيه حتى سقط متكورا على الأرض مغشيا عليه " أزاحته بقدمها .انتصبت فى مواجهتهم شامخة ، عارية تماما ، خلفها نخلة الدار ترتفع سامقة ، ساكنة ، لا تهزها ريح "42 ، ويفهم من السرد أن القاتل أراد إغتصاب المرأة قبل قتلها وكانت النتيجة مخزية وفاضحة للقاتل ولأهل القرية .
كان بالقصص إحتفاء بالطبيعة مثل وصف الفجر والطيور فى قصة والصبح إذا تنفس "زقزقت العصافير تستقبل الصبح الذى يتنفس الآن وشمس الله الوليدة تطل من خلف السحاب ، انفرطت دجاجات الدار تنبش الارض ، تلقط الحب فى حيوية بادية "ص27 ومثل مفردات موسم القصب ، جمل خرافى ، الطوب اللبن ، جرار ، أشجار الكافور والجميز ، الغيطان ، عديد المحزونين ، الترع والمساقى الصغيرة ، الديكة ، طيور أبو قردان النخلات العجائز ، حفيف الزرع وثغاء الحيوانات والاشجار العتيقة .
حفلت القصص بتناصات عديدة إسلامية ومسيحية وثقافية عبرت عن ثقافة موسوعية وعميقة للكاتب مثل "ليس على المريض حرج" تناص مع آية قرآنية بنصها "والصبح إذا تنفس " وهو عنوان القصة الثالثة إشارة إلى الآية القرآنية بسورة التكوير، "ولقد أتى على قريتنا حين من الدهر" تناص مع الآية الأولى من سورة الإنسان ، "كل الأنهار إلى البحر والبحر ليس بملآن " تناص مع آية بالإنجيل ، غواية الجنة الأولى ص73 تناص بتصرف مع قصة آدم وحواء بالكتب المقدسة ، "أبصرت كل شئ" ص7 تناص بتصرف مع السطر الاول بملحمة جلجامش "هو الذى رأى كل شئ " ، "ويتولى نشيجه المكتوم الجواب " تناص مع الشطر الثانى من بيت شعر، وكنت إذا سألت القلب يوما / تولى الدمع عن قلبى الجوابا، من قصيدة سلو قلبى لأحمد شوقى وقد غنتها أم كلثوم.
اتسم السرد بالمشهدية فقد حفل بالحركة واستخدام الفعل المضارع لإستحضار الحدث وكأن القارئ يرى مشهدا سينمائيا مثل وصف السارد مرض أبيه الأخير " يتساند علىّ متهالكا متكورا على نفسه خجلا فوق كرسى خشبى فى الحمام المتسخ البياض ...أصب الماء قيلا قليلا فوق الجسد الواهن "ص9 ومثل وصف غرف فقيرة فى أحد البيوت "غرف متتابعة تطل على المدخل ، مفتوحة أبوابها عن بوابير الجاز المتقدة تفح نارا وصهدا تحت الطبيخ والغسيل وساكنات الغرف يفترشن الأرض " ص77 .
اتسمت قصص المجموعة بكثير من الوصف وأبدع الكاتب كثيرًا فى وصف المرأة وكأنه يرسم لها بورتريها "عيناها النجلاوان السمراوان فى صفحة وجهها الرائق ، كانا أول ما لفت انتباهى ، أمواج شعرها الناعم مسرحا بعناية ، ينسدل فاحما على الظهر " ص73 ، كما أبدع فى وصف المكان " الغرفة بائسة تقع فى الطابق الارضى ، ضرب الرطوبة نصفها الأسفل فبان لحم الحيطان عاريا وسرحت الشروخ الرفيعة الدقيقة فى حوائطا الخشنة " ص13 .
كان للحواس نصيب ملحوظ فى بعض القصص ففى القصة الأولى الآن أبصر، فقد ذُكر مفردة البصرعدة مرات كما ذكرنا من قبل فى عنوان المجموعة ، وحاسة الشم يصف رائحة الزير" تغزونى رائحة عطن قديم ..على الارض المبلولة تفوح منها رائحة زخمة نفاذة "ص77 وحاسة اللمس"كان ملمس خدها أشبه بوسادة حريرية" ص79 وحاسة السمع فى قصة فات الميعاد " تملأ أذنى شقشقات العصاقير ، وصوت أم كلثوم منطلقا من المذياع الخشبى الكبير يشدو : فات الميعاد "ص47
لعب الخيال دورا بارزا فى التعويض عن حرمان وبؤس (عفلوك) بطل قصة يوم آخر فقد كان غريبا عن القرية وفى غاية الفقر والبؤس ، أفاض الراوى العليم فى بؤسه وبؤس الحجرة التى يقيم فيها وإذ بقطة سوداء تموء بشبق كأنها انثى فى موسم السفاد وتقفز على سريره ويتخيلها امرأة بضة جميلة ويتخيل معها لقاءً جنسيا ، مُحققا معها رغباته ومعوضا حرمانه وبؤسه " عنفوان الامتزاج الحميم الذى يهدم كل السدود والموانع المصنوعة ملبيا نداء الحياة" ص18 ، وسرعان ما تغير حاله فأصبحت الوسادة نظيفة وجديدة وسريره مرتب ونظيف والمائدة رصت عليها أطايب المأكولات وامتلأت حافظته بالنقود ، وعلى الارجح كان ذلك فى الخيال أيضا .
اتسمت لغة المجموعة بالحسية وبالجمال الفنى واقتربت كثيرا من لغة الشعر مثل " قبيل الغروب ، والشمس تلملم جدائلها وتنسحب مغادرة ، والنجوم تبدأ فى دق مسامرها فى الفضاء البعيد " ، " زقزقت عصافير تستقبل الصبح الذى يتنفس الآن وشمس الله الوليدة تطل من خلف السحاب " ص27 وغيرها مما ورد فى الشواهد أعلاه ، وكان السرد بالفصحى البسيطة ولكنها فنية ، وكان فى بعض المواضع عامية مفصحى مثل بداية قصة يوم آخر " لا أحد فى القرية كلها يعرف له أصلا أو فصلا " واتسم السرد بكثرة الوصف وقلة الأحداث فأضفى على القصص جوا من الشعرية ، وكان السرد فى أكثر القصص بضمير المفرد المتكلم وأقله بضمير الغائب ، كذلك كان الحوار قليلا وباللهجة العامية وبعبارات قصيرة عبرت عن الشخصية ودفعت الحدث إلى الأمام وطورته .
- من؟
- جاءنى من الداخل صوتها المشروخ بالعجز وطول فوات السنين(وصف للصوت)
- أنا "جميل" ياستى .ص25
وفى قصة رجع الصدى
- مالك يا نادية ؟
- مفيش يامّه .ص85
كانت المجموعة القصصية من طراز الفن الرفيع للقصة القصيرة كتبها الكاتب بإجادة تامة وبلغة فنية تقترب من الشعر ، وبتقنيات أسلوبية حديثة أنبأت عن كاتب ذى موهبة كبيرة ويمتلك مهارات وأسرار الكتابة الفنية الراقية للقصة القصيرة .
بقلم مصطفى فودة
All reactions:
6سمير الفيل, Fawzy Soliman and 4 others