إعداد وتقرير المحامي علي ابوحبله
اصطفاف أمريكي غربي غير مسبوق لإسرائيل بعد معركة طوفان الأقصى ضد الشعب الفلسطيني وشيك على بياض لإسرائيل لتمارس فيما تم تسميته حق الدفاع عن النفس ، وتقديم الدعم العسكري والسياسي من قبل أمريكا والغرب لإسرائيل ، كي تستمر في قصف المدنيين في غزة. وبالتوازي مع ذلك، سعى الخطاب الرسمي والإعلامي الغربي إلى نزع الشرعية عن عمل المقاومة الفلسطينية ووصفه بـ "الإرهاب".
وفي حين تكفل كافة المواثيق الدولية والقرارات الأممية حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، بشتى الطرق، بما فيها المقاومة المسلحة، تضع هذه المواثيق الغرب في موقف محرج، إذ يتباهون بأنفسهم كحماة للقوانين، في حين ينكرون على الفلسطينيين حقهم الشرعي ويغضون الطرف عن جرائم الحرب التي تقوم بها إسرائيل.
وتستند مشروعية المقاومة إلى مجموعة من المبادئ القانونية الثابتة، كحق المقاومة استناداً لعدم الولاء والطاعة لسلطة الاحتلال، واستناداً إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، والدفاع المشروع عن النفس، والاستناد إلى قرارات الأمم المتحدة والاتفاقيات الخاصة الدولية الخاصة بحماية المدنيين أثناء الحروب، ومن ذلك يتبين أن المقاومة عمل مشروع لتحقيق مصالح الشعوب التي تتعرض للعدوان والاحتلال، فيما الإرهاب يمثل اعتداء على حق الشعوب في الحياة والحرية وتقرير المصير.
وعلى ضوء ما ذكر أعلاه فانه لابد من الإقرار بحق كل الشعوب في تقرير مصيرها دون تدخل خارجي بما في ذلك تقرير وضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وان هذا يعد حقاً مكتسباً ومن يتعدى عليه لابد من مواجهته بكافة الصور والأساليب ولا يعد هذا إرهابا ولكن مقاومة مشروعة، وعلى هذا فان المقاومة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة تعد مشروعة في القانون الدولي.
الاستعمار هو احد أهم دوافع أعمال المقاومة التي يسميها المستعمرون والمحتلون بالإرهاب . وتشير مداولات الأمم المتحدة إلى أن أهم الأسباب الجوهرية لاستخدام العنف هو استمرار الاستعمار في السيطرة والهيمنة على الأقاليم التي كانت خاضعة له يوماً ما، وإنكار حق الشعوب في تقرير مصيرها.
بهذا تكون الأمم قد ميزت بين الإرهاب بوصفه جريمة دولية’ وبين الكفاح المسلح بوصفه نشاطاً من أنشطة حركات التحرر الوطني المشروعة.
وفي إطار هذا المفهوم عقدت الجمعية العامة ثلاث عشرة اتفاقية دولية، واستندت في موقفها هذا إلى العديد من القرارات والتوصيات الصادرة عنها، ولعل أولها توصيتها رقم 1514 لسنة 1960 الخاصة بمنح البلدان والشعوب المستعمرة استقلالها، والتي اشتهرت فيما بعد بقرار تصفية الاستعمار. وكذلك توصيتها رقم 3103 لسنة 1973 بشأن المبادئ المتعلقة بالمركز القانوني للمقاتلين الذين يكافحون ضد السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي والنظم العنصرية، لا بإضفاء المشروعية على عملهم فحسب، وإنما بشمول هؤلاء المقاتلين أيضا بقواعد القانون الدولي المعمول به في النزاعات المسلحة مثل اتفاقيات جنيف لسنة 1949 الخاصة بجرحى الحرب وأسراهم، وحماية المدنيين.
وفي هذا السياق اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة مراراً بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف مثل قرارها رقم 3236 لعام 1974 بند 1 و2 وقرارها رقم 39/17 لعام 1984 بند 3 وقرارها رقم 49/149 لعام 1995 في البند 1 و3 وبحقه في استرجاع حقوقه بالوسائل المتاحة كافة بما في ذلك الكفاح المسلح حسب قرار الجمعية العامة رقم 3236 لعام 1974 بند 5 رقم 39/17 لعام 1984 بند 2، كما ان القانون الدولي ومنذ قيام الأمم المتحدة قد حظر اللجوء إلى القوة المسلحة أو التهديد بها في إطار العلاقات الدولية غير أنه أجاز اللجوء إلى القوة بإشكالها المختلفة في حالات الدفاع الشرعي ضد الاحتلال، بوصفها وسيلة لممارسة حق تقرير المصير والوصول إلى الاستقلال الوطني.
ووفق ذلك فان مقاومة الاحتلال حق مشروع كفلته كافة الشرائع السماوية والقوانين والمواثيق الدولية ، ولهم الحق الفلسطينيون في ذلك، ليس فقط من المنطق الأخلاقي، بل من منطق القانون الدولي والقرارات الأممية.
يؤكد الصحفي والمؤرخ الفرنسي ألان غريش، بعد مسارعة الغرب لإدانة لعملية "طوفان الأقصى"، قائلاً: "في كل مرة ينتفض فيها الفلسطينيون، يستحضر الغرب الذي لا يتوانى عن تمجيد مقاومة الأوكرانيين، الإرهاب. لكن ما تؤكده الأحداث الجارية، مرة أخرى، هو أن الاحتلال يطلق العنان دائما لمقاومة يتحمل المحتل وحده مسؤوليتها".
ويخلص غريش إلى أنه "كما ورد في المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 أغسطس/آب 1989، فإن "مقاومة القمع هي حق أساسي، وللفلسطينيين حق المطالبة به".
ويشمل هذا الحق القضية الفلسطينية، وهو ما يؤكده القرار الأممي 3236، بتاريخ 22 نوفمبر/ تشرين الثاتي 1974، والذي نص على أن الأمم المتحدة "تعترف كذلك بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل وفقاً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه (...) وتناشد جميع الدول والمنظمات الدولية أن تمد بدعمها الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه، وفقاً للميثاق".
وقبل هذا، وفي عام 1970، أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 2649 بـ "إدانة إنكار حق تقرير المصير خصوصاً لشعوب جنوب افريقيا وفلسطين"، والذي ينص بالحرف على أن الجمعية العامة "تؤكد شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية، والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأية وسيلة في متناولها".
كما أكدت الجمعية العامة على شرعية المقاومة المسلحة الفلسطينية، وربطتها وقتها بما كانت تعيشه ناميبيا وجنوب إفريقيا من أنظمة فصل عنصري، أيضاً في قرارها بتاريخ 4 ديسمبر/ كانون الأول 1986، والذي ينص "على شرعية كفاح الشعوب من أجل استقلالها وسلامة أراضيها ووحدتها الوطنية، والتحرر من السيطرة الاستعمارية والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح".
وفي نفس السياق، تؤكد كل من اتفاقية لاهاي واتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بحماية أسرى الحرب، على شرعية حمل السلاح لمقاومة المحتل. وأضفت اتفاقية جنيف صفة "أسرى الحرب" على أعضاء حركات المقاومة المنظمة "التي تعمل داخل أرضها أو خارجها وحتى لو كانت هذه الأرض واقعة تحت الاحتلال"، وذلك بشروط، أولها أن يكون لهم رئيس مسئول، وأن يحملوا السلاح علناً، أن يحملوا علامة مميزة ظاهرة، وأن يلتزموا في نضالهم بقوانين الحرب وأعرافها، وهي كلها شروط تنطبق على المقاومة الفلسطينية.
كيف يفضح القانون الدولي الحرب على غزه ؟
وفي وقت تتنكر الدول الغربية الداعمة لإسرائيل لشرعية القانون الدولي بخصوص المقاومة الفلسطينية، يفضحها هذا القانون ويضعها أمام ازدواجية معاييرها ونفاقها، عندما تتجاهله ثانياً بصم آذانها عن جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل.
ومن الناحية القانونية، تعد جريمة الحرب الخرق المثبت لأحد وعدد من بنود اتفاقيات جنيف المحددة لقوانين وأعراف الحرب. وتحمي الاتفاقيات الثلاث الأولى من اتفاقيات جنيف المقاتلين وأسرى الحرب، بينما تحمي الاتفاقية الرابعة، التي تم تبنيها بعد الحرب العالمية الثانية، المدنيين في مناطق الحرب.
وتضاف إلى هذه الاتفاقيات، اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية، والتي تنص في مادتها الـ 25 على "حظر مهاجمة أو قصف المدن والقرى والأماكن السكنية أو المباني المجردة من وسائل الدفاع أيا كانت الوسيلة المستعملة"، وفي مادتها الـ 23 على "حظر استخدام الأسلحة والقذائف والموارد التي من شأنها إحداث إصابات وآلام لا مبرر لها".
كما يؤكد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية "يشكل جريمة حرب".
وقامت إسرائيل بخرق عدد من هذه القوانين الدولية خلال عدوانها على غزة، وكآخر جريمة (وليست الأخيرة) كان قصفها للمستشفى الأهلي المعمداني، حيث كان يحتمي به المئات من النازحين العزل، إضافة إلى عدد من الطواقم الطبية والمسعفين. وأدت هذه المذبحة إلى سقوط أكثر من 500 شهيد، حسب حصيلة وزارة الصحة الفلسطينية.
وكانت هيومن رايتس ووتش، قد كشفت في تقرير لها استخدام جيش الاحتلال قنابل الفسفور الأبيض المحرمة دولياً في قصف كل من غزة ولبنان. وقالت لما فقيه، مديرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "كل مرة يُستخدم فيها في مناطق مدنية مكتظة يشكّل الفسفور الأبيض خطراً كبيراً يتمثّل بإحداث حروق مؤلمة ومعاناة مدى الحياة".
وفي آخر تقاريره أيضاً قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بجنيف إن هجمات إسرائيل الجوية والمدفعية الدموية على قطاع غزة حولته إلى حفرة من الجحيم ينتشر فيها الموت والدمار في ظروف إنسانية بالغة التعقيد ومن دون أي خدمات أساسية للحياة.
ووثق المرصد أنه منذ الاندلاع الأحداث جرى قتل الفلسطينيين بمعدل 14 شخصاً كل ساعة، كما جرى تدمير 2650 مبنى سكنياً وتضرر نحو 70 ألف وحدة سكنية بشكل بالغ وجزئي، فيما جرى تدمير 65 مقراً حكومياً وما لا يقل عن 71 مدرسة و145 منشأة صناعية و61 مقراً إعلامياً، فضلاً عن هدم 18 مسجداً.
قانونية فرض الحصار: حرب أم جريمة حرب؟
وفقًا للقانون الدولي الإنساني، وعلى لسان المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، فإن فرض الحصار والذي من شأنه تهديد حياة المدنيين بحرمانهم من السلع والخدمات الأساسية الضرورية لبقائهم على قيد الحياة هو أمر مخالف للقانون الدولي الإنساني، وما لم يكن هناك ضرورة عسكرية تبرره، فإنه يصنف أحد مظاهر العقاب الجماعي والذي تجرمه اتفاقية جنيف للقانون الدولي في البروتوكول الثالث في المادة 87 والبروتوكول الرابع في المادة 33 وملحقها في المادة 50، والقاعدة رقم 103 من القانون الدولي الإنساني العرفي، كما أنها أشارت إلى أن فرض قيود على حركة الأفراد والبضائع الذي من شأنه تهديد حياة المدنيين هو أمر محظور بموجب القانون الدولي.
وبناء عليه، يعتبر الاستهداف الأخير لمعبر رفح انتهاكًا واضح للقانون الدولي، وما ترتب عليه من تراجع للشاحنات المصرية عن الوصول إلى غزة نتيجة الخطر الذي يعترضها في حال محاولة عبور المعبر.
الحصار وممارسات التجويع من الممارسات المشروعة في حالات النزاعات المسلحة وذلك تجاه العسكريين فقط، ولكن القانون الدولي الإنساني يمنع ممارسات التجويع ضد المدنيين. وعلى الرغم من أهمية تضمين هذا المبدأ في معاهدة جنيف، إلا أن صياغة المبدأ كانت غامضة وهو ما سمح للأطراف التي تفرض الحصار باستغلال هذه الثغرة، لأن النص القانوني يمنع التجويع ولكنه لا يحظر الحصار نفسه، كما أنه لا يضم أيضاً التجويع كنتيجة مستقبلية –وليس فعلاً متعمداً– خاصة وأنه يتزامن مع قصف للمناطق المحاصرة من أسواق تجارية وبنية تحتية ضرورية لاستمرار الحياة وقطع المياه.
وقد فتح ذلك الباب لتفسيرات قانونية مفادها أن المقصود هو السماح لبعثات الإغاثة الانسانية بالدخول بدون إدانة قانونية لفعل الحصار ذاته بما يسمح باتخاذ أى إجراء عسكري دولي لكسره، خاصة وأن أي دولة معتدية تمارس الحصار دائماً ما تتظاهر بأنها تتعرض لتهديد عسكري وأن هدفها ليس تجويع المدنيين.
ويضع ذلك عبئاً آخر على القانون الدولي الإنساني وهو ضرورة الحصول على الإذن من أي من الأطراف ذات المصلحة للسماح لبعثات الإغاثة الإنسانية. إضافة إلى أن "دليل أوكسفورد" لعمليات الإغاثة الإنسانية في حالات النزاعات المسلحة يصف الامتناع عن السماح بإدخال المساعدات الإنسانية بأنه أمر تعسفي، في حالة انتهاك الدولة لالتزاماتها تجاه المدنيين أمام القانون الدولي.
وفي حالة فرض الحصار على غزة الآن، نحن أمام حالة من الوضوح الشديد بسبب تصريحات المسئولين الإسرائيليين الواضحة والفجة في ذات الوقت والموجهة ضد المدنيين بدون أدنى خلط أو لبس، ومن ثم تدين إسرائيل إدانة مباشرة بارتكاب جريمة استخدام سلاح الـ "تجويع" بحق مدنيين دون تمييز. وذلك لأن الحصار المشروع بالمعني العسكري والقانوني وفقاً للقانون الدولي الإنساني، يجب أن يكون موجهاً لمسلحين في بقعة ما بهدف إجبارهم على الاستسلام، وهو أمر يختلف تماماً عن مفهوم تجويع المدنيين الذي لا يميز بينهم وبين المسلحين ويهدف إلى القضاء على البشر تماماً، وهو ما يظهر جلياً في تهديد ووعيد المسئولين وما تبعها من تنفيذ هذا التهديد. لذا، ما ترتكبه إسرائيل الآن، وبموجب القانون الدولي يمثل – بلا أدنى لبس-إبادة جماعية بحق شعب بعينه.
الإبادة الجماعية (Genocide) –كجريمة قانونية- تعرف بأنها: ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية، لجماعة ما على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين، مثل:
أ- قتل أعضاء الجماعة.
ب- إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة.
ج- إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كلياً أو جزئياً، منها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء لإهلاك السكان.
د- فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة.
هـ - نقل الأطفال بالإكراه من جماعة إلى أخرى.
وتعتبر الإبادة الجماعية إحدى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي نص عليها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهي الجرائم التي ترتكب في سياق نزاع دولي مسلح انتهاكاً لاتفاقيات جنيف والقوانين والأعراف السارية على النزاعات الدولية.
أما مفهوم العقاب الجماعي collective punishment فيعرف في القانون الدولي على النحو التالي: (عقاب يتم ممارسته تجاه كل الأشخاص بدون تمييز -بما فيهم المحميين بموجب القانون الدولي في حالة الحرب- نتيجة لأفعال بعض الأفراد أثناء الصراع المسلح). يعتبر فرض العقاب الجماعي جريمة حرب لأنه يعاقب الأفراد على أفعال لم يرتكبونها.
من جهة أخرى، واستناداً إلى المادة رقم 32 من اتفاقيات لاهاي 1907، التي تمنع هدم أو انتزاع المنازل والأراضي الزراعية والممتلكات الخاصة في حالات النزاعات المسلحة إلا لمقتضيات الضرورة في النزاعات المسلحة، تمثل الضربات الإسرائيلية الموجهة عمداً إلى المنازل والممتلكات الخاصة خرقاً لهذا القانون.
فضلًا عن أن المادة رقم 53 من معاهدة جنيف الرابعة تتضمن عدم أحقية "قوات الاحتلال" من تدمير الأملاك الخاصة بالمحتلين: (يحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتماً هذا التدمير). والقانون الدولي الانساني لا يترك مسألة الضرورة العسكرية بدون تنظيم، حتى لا يساء استخدامها، بل يضع ضوابط لهذه الضرورة. وتشدد اتفاقيات لاهاي وجنيف على ضرورة وجود تهديد حقيقي، وألا يكون إجراء هدم ونزع الملكية استباقياً أو انتقامياً لردع أو ترهيب المدنيين.
مما سبق يتضح أن القصف العشوائي والمستمر لقطاع غزة، وتعطيل مرافق الصحة والخدمات والصرف، فضلاً عن منع وصول الكهرباء والمياه النظيفة والغذاء، يمثل "عقاباً جماعياً" وجريمة حرب بحق 2.3 مليون شخص أغلبهم من الأطفال يعيشون محاصرين في غزة بين أراضٍ فلسطينية محتلة وبين معبر مغلق – بالقوة- في الجانب المصري وحاملتى طائرات أمريكيتين في البحر المتوسط.
ممرات الخروج من الحصار
- الممر الأول
يمثل العرض الأمريكي بالتفاوض حول ما أسمته الخارجية الأمريكية "ممراً آمناً"، عرضاً ما زال يحمل الكثير من الغموض، إلا أنها غالباً مشاوراتها تستهدف بشكل أساسي خروج الفلسطينيين من غزة إلى رفح المصرية لتلقي الرعاية الصحية، بدلاً من دخول المساعدات من مصر إلى غزة، وهو ما ترفضه مصر والفلسطينيون على حد سواء، لأنه يعني تفريغ القضية الفلسطينية من حقوق الفلسطينيين في البقاء داخل حدودهم المعترف بها دولياً.
- الممر الثاني
تفعيل القانون الدولي والدفع لإصدار قرار أممي بتأمين دخول المساعدات الإنسانية عبر المنظمات الدولية المسئولة، خاصة وأن البرازيل التي تترأس مجلس الأمن في هذه الدورة قد دعت لاجتماع عاجل في 13 أكتوبر لمناقشة الأوضاع في غزة. وعلى الرغم من أن الرئيس لولا دا سيلفا قد أدان هجمات حماس المباغتة على إسرائيل في نفس يوم انطلاقها 7 أكتوبر، إلا أن بيان الخارجية البرازيلية في الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن الذي دعت له البرازيل في 9 أكتوبر جاء متوازناً ومحملاً إسرائيل السبب في استمرار النزاع الفلسطيني الإسرائيلي واستمرار التضييق على قطاع غزة على مدار 16 عاماً.
- الممر الثالث
الوساطة المصرية لضمان تأمين تمرير المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح في مقابل إدارة الجانب المصري لملف الأسرى مزدوجي الجنسية لدى قوات حماس، وقيام مصر بدور تنسيقي مهم بين الأطراف الدولية الراغبة في إرسال المساعدات وبين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لتأمين عبورها بشكل آمن.
ختاماً، يتضح أن الصورة القاتمة في غزة لا تقف عند عدد القتلى والجرحى ولكنها صورة مكتملة الأركان لتوقف تام لمصادر الحياة والبقاء لملايين البشر داخل أرضهم، وأن الحصار على غزة أكثر قسوة وضرراً من الضربات الصاروخية، لأن الأحياء من الجرحى وغيرهم لن يتمكنوا من الاستمرار في العيش بلا مياه نظيفة أو كهرباء أو طعام، وبعد أيام قليلة أو ربما ساعات مع انقطاع الكهرباء وهدم شركات الاتصالات سيفقد العالم الاتصال بالمحاصرين داخل القطاع، ولن نعرف الكثير عن تفاقم التداعيات الإنسانية وتدهور الحياة هناك.
ومع الأخذ في الاعتبار أن النزوح يعد حلاً لا يملكه أهل غزة كما هو الحال في حالة نزوح أي من البشر في أماكن الصراعات المسلحة ثم عودتهم عقب نهاية الصراع، وذلك نظرا لالتزامهم التاريخي بالدفاع عن قضيتهم بالبقاء في أرضهم حتى لا يتحول الاحتلال إلى استيطان كامل ونهائي بلا حق للعودة للفلسطينيين، ومن ثم يصبح نزوح أهل غزة أحد الحقوق الإنسانية والقانونية غير المملوكة لهم أيضاً.
لذلك تأتي أهمية وحتمية وجود مخرج آمن للكارثة الإنسانية لسكان غزة أولاً، ثم حتمية إيجاد مخرج للصراع المسلح الدائر بين الطرفين ثانياً، ثم أخيراً أهمية تسوية الصراع السياسي الأكبر والأقدم حول إنهاء الاحتلال والرجوع إلى تفعيل قوانين الأمم المتحدة واحترام حدود 1967.
اصطفاف أمريكي غربي غير مسبوق لإسرائيل بعد معركة طوفان الأقصى ضد الشعب الفلسطيني وشيك على بياض لإسرائيل لتمارس فيما تم تسميته حق الدفاع عن النفس ، وتقديم الدعم العسكري والسياسي من قبل أمريكا والغرب لإسرائيل ، كي تستمر في قصف المدنيين في غزة. وبالتوازي مع ذلك، سعى الخطاب الرسمي والإعلامي الغربي إلى نزع الشرعية عن عمل المقاومة الفلسطينية ووصفه بـ "الإرهاب".
وفي حين تكفل كافة المواثيق الدولية والقرارات الأممية حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، بشتى الطرق، بما فيها المقاومة المسلحة، تضع هذه المواثيق الغرب في موقف محرج، إذ يتباهون بأنفسهم كحماة للقوانين، في حين ينكرون على الفلسطينيين حقهم الشرعي ويغضون الطرف عن جرائم الحرب التي تقوم بها إسرائيل.
وتستند مشروعية المقاومة إلى مجموعة من المبادئ القانونية الثابتة، كحق المقاومة استناداً لعدم الولاء والطاعة لسلطة الاحتلال، واستناداً إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، والدفاع المشروع عن النفس، والاستناد إلى قرارات الأمم المتحدة والاتفاقيات الخاصة الدولية الخاصة بحماية المدنيين أثناء الحروب، ومن ذلك يتبين أن المقاومة عمل مشروع لتحقيق مصالح الشعوب التي تتعرض للعدوان والاحتلال، فيما الإرهاب يمثل اعتداء على حق الشعوب في الحياة والحرية وتقرير المصير.
وعلى ضوء ما ذكر أعلاه فانه لابد من الإقرار بحق كل الشعوب في تقرير مصيرها دون تدخل خارجي بما في ذلك تقرير وضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وان هذا يعد حقاً مكتسباً ومن يتعدى عليه لابد من مواجهته بكافة الصور والأساليب ولا يعد هذا إرهابا ولكن مقاومة مشروعة، وعلى هذا فان المقاومة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة تعد مشروعة في القانون الدولي.
الاستعمار هو احد أهم دوافع أعمال المقاومة التي يسميها المستعمرون والمحتلون بالإرهاب . وتشير مداولات الأمم المتحدة إلى أن أهم الأسباب الجوهرية لاستخدام العنف هو استمرار الاستعمار في السيطرة والهيمنة على الأقاليم التي كانت خاضعة له يوماً ما، وإنكار حق الشعوب في تقرير مصيرها.
بهذا تكون الأمم قد ميزت بين الإرهاب بوصفه جريمة دولية’ وبين الكفاح المسلح بوصفه نشاطاً من أنشطة حركات التحرر الوطني المشروعة.
وفي إطار هذا المفهوم عقدت الجمعية العامة ثلاث عشرة اتفاقية دولية، واستندت في موقفها هذا إلى العديد من القرارات والتوصيات الصادرة عنها، ولعل أولها توصيتها رقم 1514 لسنة 1960 الخاصة بمنح البلدان والشعوب المستعمرة استقلالها، والتي اشتهرت فيما بعد بقرار تصفية الاستعمار. وكذلك توصيتها رقم 3103 لسنة 1973 بشأن المبادئ المتعلقة بالمركز القانوني للمقاتلين الذين يكافحون ضد السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي والنظم العنصرية، لا بإضفاء المشروعية على عملهم فحسب، وإنما بشمول هؤلاء المقاتلين أيضا بقواعد القانون الدولي المعمول به في النزاعات المسلحة مثل اتفاقيات جنيف لسنة 1949 الخاصة بجرحى الحرب وأسراهم، وحماية المدنيين.
وفي هذا السياق اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة مراراً بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف مثل قرارها رقم 3236 لعام 1974 بند 1 و2 وقرارها رقم 39/17 لعام 1984 بند 3 وقرارها رقم 49/149 لعام 1995 في البند 1 و3 وبحقه في استرجاع حقوقه بالوسائل المتاحة كافة بما في ذلك الكفاح المسلح حسب قرار الجمعية العامة رقم 3236 لعام 1974 بند 5 رقم 39/17 لعام 1984 بند 2، كما ان القانون الدولي ومنذ قيام الأمم المتحدة قد حظر اللجوء إلى القوة المسلحة أو التهديد بها في إطار العلاقات الدولية غير أنه أجاز اللجوء إلى القوة بإشكالها المختلفة في حالات الدفاع الشرعي ضد الاحتلال، بوصفها وسيلة لممارسة حق تقرير المصير والوصول إلى الاستقلال الوطني.
ووفق ذلك فان مقاومة الاحتلال حق مشروع كفلته كافة الشرائع السماوية والقوانين والمواثيق الدولية ، ولهم الحق الفلسطينيون في ذلك، ليس فقط من المنطق الأخلاقي، بل من منطق القانون الدولي والقرارات الأممية.
يؤكد الصحفي والمؤرخ الفرنسي ألان غريش، بعد مسارعة الغرب لإدانة لعملية "طوفان الأقصى"، قائلاً: "في كل مرة ينتفض فيها الفلسطينيون، يستحضر الغرب الذي لا يتوانى عن تمجيد مقاومة الأوكرانيين، الإرهاب. لكن ما تؤكده الأحداث الجارية، مرة أخرى، هو أن الاحتلال يطلق العنان دائما لمقاومة يتحمل المحتل وحده مسؤوليتها".
ويخلص غريش إلى أنه "كما ورد في المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 أغسطس/آب 1989، فإن "مقاومة القمع هي حق أساسي، وللفلسطينيين حق المطالبة به".
ويشمل هذا الحق القضية الفلسطينية، وهو ما يؤكده القرار الأممي 3236، بتاريخ 22 نوفمبر/ تشرين الثاتي 1974، والذي نص على أن الأمم المتحدة "تعترف كذلك بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل وفقاً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه (...) وتناشد جميع الدول والمنظمات الدولية أن تمد بدعمها الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه، وفقاً للميثاق".
وقبل هذا، وفي عام 1970، أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 2649 بـ "إدانة إنكار حق تقرير المصير خصوصاً لشعوب جنوب افريقيا وفلسطين"، والذي ينص بالحرف على أن الجمعية العامة "تؤكد شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية، والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأية وسيلة في متناولها".
كما أكدت الجمعية العامة على شرعية المقاومة المسلحة الفلسطينية، وربطتها وقتها بما كانت تعيشه ناميبيا وجنوب إفريقيا من أنظمة فصل عنصري، أيضاً في قرارها بتاريخ 4 ديسمبر/ كانون الأول 1986، والذي ينص "على شرعية كفاح الشعوب من أجل استقلالها وسلامة أراضيها ووحدتها الوطنية، والتحرر من السيطرة الاستعمارية والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح".
وفي نفس السياق، تؤكد كل من اتفاقية لاهاي واتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بحماية أسرى الحرب، على شرعية حمل السلاح لمقاومة المحتل. وأضفت اتفاقية جنيف صفة "أسرى الحرب" على أعضاء حركات المقاومة المنظمة "التي تعمل داخل أرضها أو خارجها وحتى لو كانت هذه الأرض واقعة تحت الاحتلال"، وذلك بشروط، أولها أن يكون لهم رئيس مسئول، وأن يحملوا السلاح علناً، أن يحملوا علامة مميزة ظاهرة، وأن يلتزموا في نضالهم بقوانين الحرب وأعرافها، وهي كلها شروط تنطبق على المقاومة الفلسطينية.
كيف يفضح القانون الدولي الحرب على غزه ؟
وفي وقت تتنكر الدول الغربية الداعمة لإسرائيل لشرعية القانون الدولي بخصوص المقاومة الفلسطينية، يفضحها هذا القانون ويضعها أمام ازدواجية معاييرها ونفاقها، عندما تتجاهله ثانياً بصم آذانها عن جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل.
ومن الناحية القانونية، تعد جريمة الحرب الخرق المثبت لأحد وعدد من بنود اتفاقيات جنيف المحددة لقوانين وأعراف الحرب. وتحمي الاتفاقيات الثلاث الأولى من اتفاقيات جنيف المقاتلين وأسرى الحرب، بينما تحمي الاتفاقية الرابعة، التي تم تبنيها بعد الحرب العالمية الثانية، المدنيين في مناطق الحرب.
وتضاف إلى هذه الاتفاقيات، اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية، والتي تنص في مادتها الـ 25 على "حظر مهاجمة أو قصف المدن والقرى والأماكن السكنية أو المباني المجردة من وسائل الدفاع أيا كانت الوسيلة المستعملة"، وفي مادتها الـ 23 على "حظر استخدام الأسلحة والقذائف والموارد التي من شأنها إحداث إصابات وآلام لا مبرر لها".
كما يؤكد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية "يشكل جريمة حرب".
وقامت إسرائيل بخرق عدد من هذه القوانين الدولية خلال عدوانها على غزة، وكآخر جريمة (وليست الأخيرة) كان قصفها للمستشفى الأهلي المعمداني، حيث كان يحتمي به المئات من النازحين العزل، إضافة إلى عدد من الطواقم الطبية والمسعفين. وأدت هذه المذبحة إلى سقوط أكثر من 500 شهيد، حسب حصيلة وزارة الصحة الفلسطينية.
وكانت هيومن رايتس ووتش، قد كشفت في تقرير لها استخدام جيش الاحتلال قنابل الفسفور الأبيض المحرمة دولياً في قصف كل من غزة ولبنان. وقالت لما فقيه، مديرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "كل مرة يُستخدم فيها في مناطق مدنية مكتظة يشكّل الفسفور الأبيض خطراً كبيراً يتمثّل بإحداث حروق مؤلمة ومعاناة مدى الحياة".
وفي آخر تقاريره أيضاً قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بجنيف إن هجمات إسرائيل الجوية والمدفعية الدموية على قطاع غزة حولته إلى حفرة من الجحيم ينتشر فيها الموت والدمار في ظروف إنسانية بالغة التعقيد ومن دون أي خدمات أساسية للحياة.
ووثق المرصد أنه منذ الاندلاع الأحداث جرى قتل الفلسطينيين بمعدل 14 شخصاً كل ساعة، كما جرى تدمير 2650 مبنى سكنياً وتضرر نحو 70 ألف وحدة سكنية بشكل بالغ وجزئي، فيما جرى تدمير 65 مقراً حكومياً وما لا يقل عن 71 مدرسة و145 منشأة صناعية و61 مقراً إعلامياً، فضلاً عن هدم 18 مسجداً.
قانونية فرض الحصار: حرب أم جريمة حرب؟
وفقًا للقانون الدولي الإنساني، وعلى لسان المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، فإن فرض الحصار والذي من شأنه تهديد حياة المدنيين بحرمانهم من السلع والخدمات الأساسية الضرورية لبقائهم على قيد الحياة هو أمر مخالف للقانون الدولي الإنساني، وما لم يكن هناك ضرورة عسكرية تبرره، فإنه يصنف أحد مظاهر العقاب الجماعي والذي تجرمه اتفاقية جنيف للقانون الدولي في البروتوكول الثالث في المادة 87 والبروتوكول الرابع في المادة 33 وملحقها في المادة 50، والقاعدة رقم 103 من القانون الدولي الإنساني العرفي، كما أنها أشارت إلى أن فرض قيود على حركة الأفراد والبضائع الذي من شأنه تهديد حياة المدنيين هو أمر محظور بموجب القانون الدولي.
وبناء عليه، يعتبر الاستهداف الأخير لمعبر رفح انتهاكًا واضح للقانون الدولي، وما ترتب عليه من تراجع للشاحنات المصرية عن الوصول إلى غزة نتيجة الخطر الذي يعترضها في حال محاولة عبور المعبر.
الحصار وممارسات التجويع من الممارسات المشروعة في حالات النزاعات المسلحة وذلك تجاه العسكريين فقط، ولكن القانون الدولي الإنساني يمنع ممارسات التجويع ضد المدنيين. وعلى الرغم من أهمية تضمين هذا المبدأ في معاهدة جنيف، إلا أن صياغة المبدأ كانت غامضة وهو ما سمح للأطراف التي تفرض الحصار باستغلال هذه الثغرة، لأن النص القانوني يمنع التجويع ولكنه لا يحظر الحصار نفسه، كما أنه لا يضم أيضاً التجويع كنتيجة مستقبلية –وليس فعلاً متعمداً– خاصة وأنه يتزامن مع قصف للمناطق المحاصرة من أسواق تجارية وبنية تحتية ضرورية لاستمرار الحياة وقطع المياه.
وقد فتح ذلك الباب لتفسيرات قانونية مفادها أن المقصود هو السماح لبعثات الإغاثة الانسانية بالدخول بدون إدانة قانونية لفعل الحصار ذاته بما يسمح باتخاذ أى إجراء عسكري دولي لكسره، خاصة وأن أي دولة معتدية تمارس الحصار دائماً ما تتظاهر بأنها تتعرض لتهديد عسكري وأن هدفها ليس تجويع المدنيين.
ويضع ذلك عبئاً آخر على القانون الدولي الإنساني وهو ضرورة الحصول على الإذن من أي من الأطراف ذات المصلحة للسماح لبعثات الإغاثة الإنسانية. إضافة إلى أن "دليل أوكسفورد" لعمليات الإغاثة الإنسانية في حالات النزاعات المسلحة يصف الامتناع عن السماح بإدخال المساعدات الإنسانية بأنه أمر تعسفي، في حالة انتهاك الدولة لالتزاماتها تجاه المدنيين أمام القانون الدولي.
وفي حالة فرض الحصار على غزة الآن، نحن أمام حالة من الوضوح الشديد بسبب تصريحات المسئولين الإسرائيليين الواضحة والفجة في ذات الوقت والموجهة ضد المدنيين بدون أدنى خلط أو لبس، ومن ثم تدين إسرائيل إدانة مباشرة بارتكاب جريمة استخدام سلاح الـ "تجويع" بحق مدنيين دون تمييز. وذلك لأن الحصار المشروع بالمعني العسكري والقانوني وفقاً للقانون الدولي الإنساني، يجب أن يكون موجهاً لمسلحين في بقعة ما بهدف إجبارهم على الاستسلام، وهو أمر يختلف تماماً عن مفهوم تجويع المدنيين الذي لا يميز بينهم وبين المسلحين ويهدف إلى القضاء على البشر تماماً، وهو ما يظهر جلياً في تهديد ووعيد المسئولين وما تبعها من تنفيذ هذا التهديد. لذا، ما ترتكبه إسرائيل الآن، وبموجب القانون الدولي يمثل – بلا أدنى لبس-إبادة جماعية بحق شعب بعينه.
الإبادة الجماعية (Genocide) –كجريمة قانونية- تعرف بأنها: ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية، لجماعة ما على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين، مثل:
أ- قتل أعضاء الجماعة.
ب- إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة.
ج- إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كلياً أو جزئياً، منها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء لإهلاك السكان.
د- فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة.
هـ - نقل الأطفال بالإكراه من جماعة إلى أخرى.
وتعتبر الإبادة الجماعية إحدى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي نص عليها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهي الجرائم التي ترتكب في سياق نزاع دولي مسلح انتهاكاً لاتفاقيات جنيف والقوانين والأعراف السارية على النزاعات الدولية.
أما مفهوم العقاب الجماعي collective punishment فيعرف في القانون الدولي على النحو التالي: (عقاب يتم ممارسته تجاه كل الأشخاص بدون تمييز -بما فيهم المحميين بموجب القانون الدولي في حالة الحرب- نتيجة لأفعال بعض الأفراد أثناء الصراع المسلح). يعتبر فرض العقاب الجماعي جريمة حرب لأنه يعاقب الأفراد على أفعال لم يرتكبونها.
من جهة أخرى، واستناداً إلى المادة رقم 32 من اتفاقيات لاهاي 1907، التي تمنع هدم أو انتزاع المنازل والأراضي الزراعية والممتلكات الخاصة في حالات النزاعات المسلحة إلا لمقتضيات الضرورة في النزاعات المسلحة، تمثل الضربات الإسرائيلية الموجهة عمداً إلى المنازل والممتلكات الخاصة خرقاً لهذا القانون.
فضلًا عن أن المادة رقم 53 من معاهدة جنيف الرابعة تتضمن عدم أحقية "قوات الاحتلال" من تدمير الأملاك الخاصة بالمحتلين: (يحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتماً هذا التدمير). والقانون الدولي الانساني لا يترك مسألة الضرورة العسكرية بدون تنظيم، حتى لا يساء استخدامها، بل يضع ضوابط لهذه الضرورة. وتشدد اتفاقيات لاهاي وجنيف على ضرورة وجود تهديد حقيقي، وألا يكون إجراء هدم ونزع الملكية استباقياً أو انتقامياً لردع أو ترهيب المدنيين.
مما سبق يتضح أن القصف العشوائي والمستمر لقطاع غزة، وتعطيل مرافق الصحة والخدمات والصرف، فضلاً عن منع وصول الكهرباء والمياه النظيفة والغذاء، يمثل "عقاباً جماعياً" وجريمة حرب بحق 2.3 مليون شخص أغلبهم من الأطفال يعيشون محاصرين في غزة بين أراضٍ فلسطينية محتلة وبين معبر مغلق – بالقوة- في الجانب المصري وحاملتى طائرات أمريكيتين في البحر المتوسط.
ممرات الخروج من الحصار
- الممر الأول
يمثل العرض الأمريكي بالتفاوض حول ما أسمته الخارجية الأمريكية "ممراً آمناً"، عرضاً ما زال يحمل الكثير من الغموض، إلا أنها غالباً مشاوراتها تستهدف بشكل أساسي خروج الفلسطينيين من غزة إلى رفح المصرية لتلقي الرعاية الصحية، بدلاً من دخول المساعدات من مصر إلى غزة، وهو ما ترفضه مصر والفلسطينيون على حد سواء، لأنه يعني تفريغ القضية الفلسطينية من حقوق الفلسطينيين في البقاء داخل حدودهم المعترف بها دولياً.
- الممر الثاني
تفعيل القانون الدولي والدفع لإصدار قرار أممي بتأمين دخول المساعدات الإنسانية عبر المنظمات الدولية المسئولة، خاصة وأن البرازيل التي تترأس مجلس الأمن في هذه الدورة قد دعت لاجتماع عاجل في 13 أكتوبر لمناقشة الأوضاع في غزة. وعلى الرغم من أن الرئيس لولا دا سيلفا قد أدان هجمات حماس المباغتة على إسرائيل في نفس يوم انطلاقها 7 أكتوبر، إلا أن بيان الخارجية البرازيلية في الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن الذي دعت له البرازيل في 9 أكتوبر جاء متوازناً ومحملاً إسرائيل السبب في استمرار النزاع الفلسطيني الإسرائيلي واستمرار التضييق على قطاع غزة على مدار 16 عاماً.
- الممر الثالث
الوساطة المصرية لضمان تأمين تمرير المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح في مقابل إدارة الجانب المصري لملف الأسرى مزدوجي الجنسية لدى قوات حماس، وقيام مصر بدور تنسيقي مهم بين الأطراف الدولية الراغبة في إرسال المساعدات وبين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لتأمين عبورها بشكل آمن.
ختاماً، يتضح أن الصورة القاتمة في غزة لا تقف عند عدد القتلى والجرحى ولكنها صورة مكتملة الأركان لتوقف تام لمصادر الحياة والبقاء لملايين البشر داخل أرضهم، وأن الحصار على غزة أكثر قسوة وضرراً من الضربات الصاروخية، لأن الأحياء من الجرحى وغيرهم لن يتمكنوا من الاستمرار في العيش بلا مياه نظيفة أو كهرباء أو طعام، وبعد أيام قليلة أو ربما ساعات مع انقطاع الكهرباء وهدم شركات الاتصالات سيفقد العالم الاتصال بالمحاصرين داخل القطاع، ولن نعرف الكثير عن تفاقم التداعيات الإنسانية وتدهور الحياة هناك.
ومع الأخذ في الاعتبار أن النزوح يعد حلاً لا يملكه أهل غزة كما هو الحال في حالة نزوح أي من البشر في أماكن الصراعات المسلحة ثم عودتهم عقب نهاية الصراع، وذلك نظرا لالتزامهم التاريخي بالدفاع عن قضيتهم بالبقاء في أرضهم حتى لا يتحول الاحتلال إلى استيطان كامل ونهائي بلا حق للعودة للفلسطينيين، ومن ثم يصبح نزوح أهل غزة أحد الحقوق الإنسانية والقانونية غير المملوكة لهم أيضاً.
لذلك تأتي أهمية وحتمية وجود مخرج آمن للكارثة الإنسانية لسكان غزة أولاً، ثم حتمية إيجاد مخرج للصراع المسلح الدائر بين الطرفين ثانياً، ثم أخيراً أهمية تسوية الصراع السياسي الأكبر والأقدم حول إنهاء الاحتلال والرجوع إلى تفعيل قوانين الأمم المتحدة واحترام حدود 1967.