عيسى الناعوري - الزهاوي في معاركه الأدبية

المعارك الأدبية المشهورة التي يعرفها المثقفون العرب هي المعارك التي كانت تدور في الصحف والمجلات المصرية , لأنها هي وحدها التي كانت منتشرة في العالم العربي كله , وكان المثقفون يتتبعونها ويتفاعلون معها باهتمام كبير , ولعل من أهمها , ومن بواكيرها معركة كتاب ( الشعر الجاهلي ) لطه حسين , وكانت من أوسع تلك المعارك وأشرسها وأبعدها أثراً . ثم تجيء معارك جماعة ( الديوان ) : العقاد والمازني . وتتلاحق المعارك والمعارك التي كان يثيرها قلم الدكتور زكي مبارك هنا وهناك .
أما المعارك التي كانت تدور خارج مصر فقل أن يسمع بها المثقفون العرب في غير البلد الذي كانت تدور فيه . وكانت المعارك كثيراً ما تدور في لبنان , والعراق , وسوريا , وغيرها , ولكنها كانت تدور في أجواء محدودة ضيقة .
لهذا كان سروري كبيراً في أن أتلقى كتاباً عنوانه ( الزهاوي في معاركه الأدبية والفكرية ) , للأستاذ عبد الرازق الهلالي . فأقبلت عليه أكاد ألتهمه التهاماً , وأود لو آتي على صفحاته الأربعمائة والتسعين في لحظة واحدة .
كان الزهاوي أدبياً وشاعراً عراقياً شهيراً , وكان حريصاً على أن يعرفه الناس ( عالماً وفيلسوفاً وشاعراً ) , وكان يسوؤه أن يخرج كاتب أو ناقد عن النظر إليه بغير الثلاثة معاً .
لقد جمع عبد الرازق الهلالي معارك الزهاوي الأدبية والفكرية كلها في هذا الكتاب ليقدم للقراء صورة عن المعارك الأدبية في تلك الفترة من عمر النهضة الأدبية في العراق , وهي فترة كان النقد الأدبي فيها يتميز بالعنف , والشراسة , والإهانات المتبادلة , فلا تناقش الفكرة بالفكرة - وهو غاية النقد - بل يتعارك الكاتب والكاتب , ويتشاتم القلم والقلم , وينتفي دور الضمير في هذه المعارك , وكأنها لا تصدر إلا عن أحقاد متوارثة بين الأدباء والكتاب , لا عن خلافات في الرأي فقط .
كذلك كان النقد الذي عرفناه لدى العقاد , والمازني , والرافعي , وزكي مبارك , - في مصر - وكذلك كان النقد الذي نجده على صفحات كتاب عبد الرازق الهلالي : بين الزهاوي والرصافي , ورفائيل بطي , ومحمد بهجت الأثري , وآخرين من العراقيين ، وبين الزهاوي والعقاد ، ونقد الزهاوي لأحمد شوقي .
لقد كان من أمانة الهلالي في عرض هذه المعارك أن جاء بها بكل تفاصيلها ووقائعها وردودها , من أي طرف كانت . وبهذا عرض المتعاركين على الحلبة أمام المتفرجين , بأشداقهم المنتفخة المزبدة , وقبضاتهم المشرعة في وجوه بعضهم البعض , وتركهم يتصارعون بكل ما في الصراع من شراسة وعنف وتجرُّد من تقاليد النقد والنقاش الفكري .
في البداية تأتي مقالات محمود أحمد السيد , ورفائيل بطي , في نقد رباعيات الزهاوي , تليها ردود الزهاوي متتابعة في كيل الصفعات لمنتقديه , وفي تفنيد آرائهم في شعره .
وأقدم للقراء هنا نماذج قليلة جداً مما قيل في هذه المساجلات البعيدة عن روح النقد وروح الأدب :
يقول محمود السيد : "نحن لم نقرأ الرباعيات , ولكن يعلم الراسخون في العلم أن ما نشر منها لم يكن جديراً بهذا الإدعاء الفارغ , ولم يكن فيها شيء جديد من هذا النوع الذي يدعى بالتفلسف - أضف إلى ذلك تفاهتها .." .
ثم يروح يتهم الزهاوي بسرقات شعرية كثيرة , لمجرد تشابه أبيات من شعر الزهاوي مع أبيات لشعراء آخرين . وهي طريقة عقيمة في النقد , تدل على الفراغ أكثر مما تدل على فهم النقد . وهي إن كانت صالحة في عصور سابقة , فليست من مفاهيم النقد اليوم .
ويقول رفائيل بطي بعده مدافعاً عن شعر الرصافي , ومهاجماً شعر الزهاوي : " إن الزهاوي لا يصلح لكثير من أنواع الشعر الزهاوي , ولا سيما ( شعر الأطفال ) , فيجيء نظمه غثاً ثقيلاً وتافهاً لا معنى له " .
ثم يروح بطي يبحث عن ( سرقات ) شعرية للزهاوي , كما فعل محمود أحمد السيد .
فتجيء ردود الزهاوي عنيفة قاسية . وفي الرد الأول يقول الزهاوي عن رفائيل بطي : " لا أريد في كتابتي هذه إفهام الملأ في بغداد أن الرجل دعي في الأدب , لأن الناس يعرفونه , وإنما لئلا تغرهم جعجعة رحاه فيظنون أن لها طحنا . أريد أن أفهمهم أنه خلو من الأدب , تهجَّمَ على صنعته الجميلة قبل أن يستعد لها " .
يلي ذلك مقال لأحمد حامد الصراف دفاعاً عن الزهاوي , بعنوان ( الزهاوي - أنصاره وخصومه ) .
بعد ذلك يثير الزهاوي نفسه معركة حول ( الشعر المرسل ) يهاجم فيه القافية في الشعر العربي , ويعتبرها ( قيداً ثقيلاً في أرجل الشعر العربي ) ويقول : " كم شاعر خسر المعنى لانصرافه إلى القافية , وأخذ يستخرج المعاني منها كأنها الحجر الأساسي لبناء أبياته , فهو لم يتحر القافية للمعنى , بل تحرى المعنى للقافية " . ويقول كذلك : "والقافية هي سبب فقدان الشعر القصصي عند العرب , وسبب قلة الابتكار , وتفاهة المعاني والموضوعات عند العرب , وباختصار هي آفة الشعر العربي , وعقبة الشاعر العربي الكأداء " .
نشر الزهاوي مقاله هذا في جريدة ( السياسة ) عام 1925 , فأيده شكري الفضلي بمقال عنوانه ( الشعر المرسل ) ,كما أيده سلمان الشيخ داود , وعبد الرازق الناصري . ولكن عبد الرازق الهلالي لم يورد مقالي الأخيرين , واكتفي بإيراد مقال شكري الفضلي . وقد هاجمه الشيخ محمد بهجت الأثري هجوماً عنيفاً , دافع فيه عن القافية في الشعر العربي , وهاجم الشعر المرسل , كما هاجم الزهاوي صاحب الدعوة إلى الشعر المرسل , فقال :
" فلا بدع إذا ما ثار بركان غضب ( المفحم الألكن ) , وصب جام لعانته على العربية وآدابها , وأصدر حكمه الصارم على عجز اللغة , وضيق عطن الآداب , ثم تناسى عجزه وجهله , ليبني حججه على مقدمات هي أفسد من أضغاث الأحلام .. " .
ثم يجيء ( رأي الرصافي في الشعر المرسل ) , في لقاء صحفي بين رفائيل بطي والرصافي , وهو لا يهاجم الزهاوي , ويبدي في الموضوع رأياً هادئاً .
فيثور الزهاوي ويرد على ناقديه , ويحمل من جديد على القافية , ويدعو إلى تخليص الشعر العربي منها , لينطلق من قيوده العسيرة , وأكد في رده أن " القافية سوف تزول من الشعر , كما زال السجع من النثر " .
وما أظن إلا أن دعوة الزهاوي هذه , التي جاءت في عام 1925 إنما كانت تهيئة لمدرسة ( الشعر الحر ) التي ظهرت في العراق عام 1947 , على يد نازك الملائكة , وإن تكن جاءت على غير ما دعا إليه الزهاوي , إلى حد ما .
المعركة التالية كانت معركة بين الصديقين القديمين : الزهاوي والرصافي . والذي أوقع بينهما هو أحمد حامد الصراف , فقد أهدى الزهاوي إلى الرصافي نسخة من رباعياته , فقرأها الرصافي وعلق على حواشيها تعليقا لا ترضي الزهاوي . وزاره الصراف يوماً , واطلع على هذه التعليقات , فطلب استعارتها , فلم يمنعها الرصافي عنه . فأخذها الصراف إلى الزهاوي ليطلعه على تعليقات الرصافي .
فغضب الزهاوي , وراح يهاجم الرصافي , ويطعن في شعره وفي ذوقه , فكانت القطيعة بين الصديقين الشاعرين , وكانت حملات متبادلة بينهما على صفحات الصحف . ومات الزهاوي عام 1936 والخصومة ما تزال على أشدها بين الرجلين .
هذا التناقد والمساجلات بين الزهاوي ومواطنيه من أدباء العراق وشعرائه لا أرى فيه كبير غناء , ولذلك سأقفز عنه إلى نقد الزهاوي لشوقي , ثم المعارك الحامية التي دارت بينه وبين العقاد , في صحف مصر , لا في صحف العراق , لأن هذه المعارك خرجت من دورها الإقليمي الضيق , ليقرأها العرب خارج العراق أيضاً . ولكنني قبل ذلك أحب أن أذكر أن أكثر المعارك التي أثارها الزهاوي وأثيرت عليه في العراق , كانت تعتمد على إبراز ما يُتوهم أنه سرقات , وأنه أخطاء لغوية , ولذلك كان مثل هذا النقد يبعث على الملل , ويدل على عقم فكري وسوء فهم للنقد الأدبي .
والمؤسف أن الزهاوي نقل هذه الطريقة العقيمة نفسها إلى مصر في معركته مع العقاد , واضطر العقاد - المصارع الفكري - إلى أن يرد بمثلها , إلى جانب ردوده العنيفة القاسية .
يقول عبد الرزق الهلالي في الصفحة 218 من الكتاب :
" لم يكن الزهاوي يعترف بشاعرية غيره , فكيف إذا كان هذا الشاعر قد أصبح ( أميراً للشعراء ) ... إن الزهاوي قد أغضبه هذا التنصيب , فهو أحق به من أحمد شوقي , كما يعتقد . أعرب الزهاوي عن رأيه هذا مراراً , إلا أنه تنازل شيئاً ما , فقبل أن يكون شوقي ( أميراً لشعراء مصر ) ... وقد سر الزهاوي كثيراً عندما بدأت ( جماعة الديوان ) تهاجم شعر أحمد شوقي وتحط من شاعريته ... وأخذ يتحين الفرص لنقد شعر شوقي " ..
وتجيئه الفرصة حين نشرت إحدى صحف بغداد مرثية شوقي لإسماعيل صبري , فراح الزهاوي ينتقد هذه القصيدة نقداً جارحاً .
يقول الهلالي إن هذا الأمر " أثار ضده عدداً من الكتاب الذين يخالفونه الرأي وفي طليعتهم الأستاذ محمد بهجت الأثري , فقد كتب خمس عشرة حلقة ... بينما رد الهاشمي على الأثري بتسع حلقات " .
ويصدر ديوان شوقي ( الشوقيات ) فيتناول الزهاوي بالنقد ثلاث قصائد منه , تماماً كما كان يفعل العقاد في اختيار بعض القصائد الهزيلات من شعر شوقي , ويروح يوسعها ويوسع شوقي تهكما وسخرية . غير أن الزهاوي يتناولها من الجانب اللغوي - وليته كان ضليعاً في اللغة ! - والغريب أن هذه المقالات نشرها الزهاوي - دون توقيع - في مجلة ( لغة العرب ) التي كان يصدرها في بغداد العلامة الأب أنستاس الكرملي . ولذلك ظل المعروف أن المتطوع لنقد القصائد الشوقية هو الكرملي نفسه , صاحب المجلة , وليس سواه .
وطبعاً لم يتنازل شوقي إلى الاكتراث بنقد الزهاوي , كما لم يتنازل قط من قبل إلى الاكتراث بنقد العقاد .
وأخيراً تقع الواقعة بين الزهاوي والعقاد . وهي واقعة حقاً , لأن العقاد لم يكن من نوع الناقدين العراقيين , بل كان يتميز بأعنف العنف , وأشرس الشراسة , فيوسع خصمه تمزيقاً ونهشاً , بالسخرية حيناً , وبالإهانة حيناً .

بدأت المعركة برأي قاله العقاد في الزهاوي رداً على سائل تونسي كتب إلى العقاد يسأله عن رأيه في الزهاوي . وهذا الرأي جاء في ختام مقال العقاد , وهو : " أن خير مكان للزهاوي هو بين رجال العلوم ورادة القضايا المنطقية , فهو لا يبلغ بين الفلاسفة والشعراء مثل ذلك المكان " .
نشر العقاد مقاله هذا في جريدة ( البلاغ ) المصرية عام 1927 واطلع عليه الزهاوي , فلم يعجبه هذا الرأي الذي يجرده من الشعر والفلسفة , ويضعه بين العلماء فقط , فرد عليه في جريدة ( السياسة الأسبوعية ) القاهرية .
لم يكن الزهاوي عنيفاً في رده , فهو يعرف مع من وقع . ولكنه راح يناقش مقال العقاد كله , متذرعا بأن العقل هو أساس كل تقدم وكل حضارة . ورد عليه العقاد في ( البلاغ ) يفند آراءه , ويؤكد أن الخيال والعاطفة - قبل العقل - هما اللذان صنعا كل الحضارات . وكان العقاد قوياً قي نقاشه , وفي رد الرأي العلمي بالرأي المنطقي .
الغريب في رد الزهاوي أنه لا يؤمن بغير العقل والمنطق , ويريد من الشعر أن يعتمد على العقل والمنطق . ولست أدري كيف يمكن أن يكون الشعر شعراً إن كان عقلاً كله ومنطقاً , ولم يعتمد على العاطفة والخيال . وأرى أن الزهاوي بهذا يجرد نفسه من الشاعرية وهو لا يدري .
وكعادة العقاد , لم يرحم الزهاوي من السخرية , والتهكم في رده عليه .
وهنا انحرف الزهاوي عن النقاش في العقل والخيال والعاطفة , وأخذ ديواناً للعقاد صدر حديثاً إذ ذاك , وراح ينتقده في مجلة ( لغة العرب ) في مقالات متلاحقة , دون توقيع أيضاً , كما فعل في نقده لشوقي .
وليس من عادة العقاد أن يسكت على نقد , وما كان يمكن أن يخرج هذه المرة على القاعدة التي اختطها لنفسه . وفي هذه المرة لم يعرف من كان صاحب النقد في ( لغة العرب ) وظنه الكرملي نفسه , فراح يهاجمه بكل عنف وقسوة , ويسخر من معرفته اللغوية , وهو لا يعرف أن الكرملي لا ذنب له في ما يرميه به من سخرية ونقد لاذع , وأنه من أسرة عربية عريقة تنتمي إلى بني مراد .
وعلى الرغم من أن المعركة طالت بين الزهاوي والعقاد , فإن الزهاوي لم يكشف عن اسمه , وصمت الكرملي عن البوح , وظل يتلقى الأذى من العقاد صابراً .
ومرت الأيام , ومات الزهاوي , ثم مات الكرملي , ثم مات العقاد , ولم يكتشف أن الذي كان ينتقد شعره في ( لغة العرب ) هو الزهاوي بأن يفصح عن نفسه , ويدفع الأذى عن رجل بريء أهين دون جريرة .
والذي كشف هذه الحقيقة - بعد فوات الأوان بكثير - هو عبد الرزاق الهلالي في كتابه هذا , ولم يكتف بالشهادة فحسب , بل نشر صوراً من مقالات الزهاوي بخطه . وقد مات الكرملي مظلوماً ولم يشأ أن يدفع عن نفسه التهمة , ومات العقاد ظالماً ولا يعرف أنه ظالم , ومات الزهاوي قبلهما , ولم يجعل الظالم يشعر بظلمه , ولا دفع التهمة عن المظلوم .
وأورد فيما يلي نموذجاً صغيراً من نقد العقاد للكرملي , وهو يحسبه المهاجم الذي يستحق العقاب :
" وفي ردنا على نقد هذه المجلة - أي لغة العرب - لديواننا فائدة قيمة , غير فائدة التصحيح وإظهار الأخطاء التي وقع فيها الناقد المغرور , وهي الكشف عن حقيقة الشهرة التي تُنال أحياناً في بلادنا الشرقية , فقد تُذاع عن بعض سمعة العلم بالعربية وهم يجهلون من أولياتها وأصولها ما يفترض علمه في صغار الشداة المبتدئين ! وترى هؤلاء المشهورين يبيحون لأنفسهم مقام الإفتاء والتحليل والتحريم في ألسنة العرب ، وهم لا يفقهون منها جائزا ولا ممنوعا ولا يقيمون فهم عبارات منها قلما تخفى على سواد الناس ! وفي طليعة هؤلاء صاحب مجلة ( لغة العرب ) . فالكشف عن حقيقة هذه الشهرة الزائفة باب من أبواب العبرة خليق أن يقصد لذاته , ويتخذ مثالا لغيره من ضروب السمعة التي لا تقوم على أساس ! " ( ص 383 – 384 ) .
العقاد يقول هذا عن الكرملي , في حين كان الكرملي من أبرز أعضاء المجمعين اللغويين في القاهرة ودمشق , ومن أكبر علماء اللغة العربية وأصولها وقواعد صرفها ونحوها , وما يجوز فيها وما لا يجوز .
ومع ذلك تحمل الكرملي الأذى إلى آخر مداه , ولم يقل شيئاً , لأن الزهاوي لم يشأ أن يقول الحقيقة , ولم يسعفه قلمه بشيء يدفع به التهمة عن المتهم .
هذه كانت نماذج من صنوف النقد الأدبي في ذلك الحين , فهل تغير النقاد اليوم ؟ وهل أصبح النقد أكثر عفة وترفعاً عن الولوغ في المهاترات بدل مقارعة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة , والرأي بالرأي ؟



ــــ
المصدر : مجلة الدوحة 4/1985 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى