المستشار بهاء المري - يوميات قاض -12- أسباب ما كان

12-


عامٌ مَرَّ على زواجهما لم يَهنأ خلالهُ بانسجام تام، كان يَشعُرُ أنَّ شيئًا هامًا لم يَزل ينقُصُهُ، حاول كثيرًا إفهامها ولكن من دون جدوى، صمَّمَت على قناعتها، في الوقت الذي كان يَنتظرُ فيه منها أن تفهمه.

قرَّر مُواجهة أُمّها بأمرها، ولكنَّ حَيرة شديدةً تملَّكت تفكيره، أإذا تجرَّأ وباحَ لها، فهل سيُمْكنُها استيعابَ ما يشكو منه، أم سَترى الأمرُ ضَربًا من ضُروب العبَث؟ وهل ستنظُرُ إليه نظرةَ استهجانٍ تعقُبها ابتسامةٍ ساخرة؟ أم ستَراه ترَفًا لا مَحلَّ له وسَطَ أجواءٍ قاسيةٍ من ماديات الحياة، بل خَشِىَ كثيرًا أن تَحسَبهُ مُتجاوزًا حدود الأدب.

جلسَ معها مَهمومًا تبدو عليه علامات الأسَى، لم يَعرفُ من أين يبدأ، ولكنه استطاع أن يُلمِّحَ إلى رؤية ابنتها لتلك المَسألة، وكيف إلى أيِّ حدٍ تراها عِبئًا، وإذا سلَّمَت بها مرَّة، رَاوَغَت وزاغت منها مرَّات، وعند حُصولها فكأنها غير مَوجودة، وكيف أنه كلما أفهمَها رمَقته بنظرة استنكار، بزعم أنها زوجته وليست من نِساء الهوَى.

ظهرَ على وجهها في التَّوِّ علامات الامتعاض، استنكرت ما يقولُ وأجابته باقتضاب: عَيبٌ هو الحديث في أمرٍ كهذا، ماذا تقول عنِّى بِنتي إذا تحدثتُ فيه معها.

يَنصحهُ أحدهم بأن يَتزوج بأخرى ويَدعها وشأنها، إحدى قريباته مُطلقة ولا تحتاج سوى زَوج، تملك شقتها ودَخلًا ماديًا كبيرًا، ولن تَطلب منه مَسكنًا ولا نفقات، وشرطها أن يكون زواجًا عُرفيًا.

وجد في اقتراح صديقه ملاذًا لمتاعبه، يُنفِّذُ فورًا دونما تفكير، يشيعُ النبأ، تثور ثائرة زوجته، لم تَتَوانَ عن رفع دعوى تطليق للضرر.

وفى جلسةٍ سريةٍ كان بَوْحها، ولكن بعد فَوات الأوان، تذرَّعَت بوصَايا جدتها العجوز ليلة ما قبل زفافها، لكي تحُطُ عن نفسها تُهمة التقصير.

قالت تسبقها دموعها: لا أراني قصَّرتُ معه في شَيء، كان يُريدني على نحو ما، مُتناسيًا أنِّي زوجته ولستُ بائعة هَوَى، ثم كيف يكون ذلك وقد عَلَّمتني جَدتي- ومن بعدها أمي- العِفَّة والتأدب ولو كان ذلك في أخص الخصوصيات.

تَسحبُ نفَسًا عميقًا تُخرجه زَفرةً حارَّة، تُسدِل رموش عينيها، تُطأطئ رأسها قليلًا، تَستكمل بصوتٍ خفيضٍ- يلفُهُ الخَجل - وهي لا تنظرُ إلى أحد: لازلتُ أذكرُ وصاياها، قالت: لا تُبدي أنكِ ترغبين، وإنْ احتجتهِ فحذارِ من أنْ تُظهرين، ذلك تأدُّب.

نظراتُ إشفاقٍ تُتابعها برفق، تَرفع وجهها وقد عَلَتْه حُمْرةٌ ظاهرة، تُوجِّه حديثها إلى القاضي بصوتٍ حزينٍ تهدَّج بالبكاء: هذا ما تربَّينا عليه، فماذا جَنَيْت، ليتزوج بأخرى؟!

بَلغَت الجلسة منتهاها، وأغلقَ الكاتب مَحضرهُ عقِب إثبات ما أمْلتهُ عليه؛ من دون أن تدري أنه، بعض أسباب ما كان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأدب القضائي - المحاكمات والمحاكمات الأدبية
المشاهدات
145
آخر تحديث
أعلى