التاريخ قصة الإنسانية وحكاية ماضيها، يصف حياة الإنسان من قديم عهوده، وتقلب أحواله على مرور العصور، وكفاحه في سبيل التقدم والسعادة، ويعرض أعمال الأمم وعظائم الأفراد وتعاون الشعوب حينا وتعاديها أحيانا، ويشرح سريان الحضارة والثقافة من صقع إلى صقع، ومن جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أخرى، وما أضافته إليهما عبقرية كل شعب، من مستحدثات العلوم والفنون والصناعات؛ فالتاريخ سجل مليء بالعظات والدروس، حافل بالمتعات والطرائف، يمتع اللب سياقه القصصي، وينبه الخيال بعده الزمني، ويملا النفس أحيانا بالفخار الوطني، ويثقف الإنسان في حاضره ويبصره بما بين يديه، حين يعرض عليه أنباء الماضي ووقائعه
ولا يستمد التاريخ مما دونه المؤرخون في طروسهم فقط، بل يستمد بجانب ذلك من آثار الفنون المتخلفة عن الأمم، من عمارة ونحت وتصوير وأدب، ففي كل هاتيك صور من عقلياتها ومذاهبها ومجتمعاتها ومنازعها؛ فتاريخ الحضارة المصرية القديمة لا يستمد إلا أقله مما دونه المصريون أنفسهم أو من جاء بعد عهدهم من مؤرخي الأمم التالية، أما أكثر ما يعرف عن حياتهم الاجتماعية وتقاليدهم وديانتهم وعلومهم، فمستقى من مخلفاتهم في عالم البناء والنحت والنقش والصناعة، وقل مثل ذلك في تاريخ اليونان والرومان، وغيرهم من الأمم التي أنشأت الحضارات وكان لها في العلم والفن شأن يذكر
فتاريخ الأمة وفنونها متصلان أوثق اتصال، فالعوامل النفسية التي تسيطر على المجتمع والحكومة وتؤدي إلى الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية، هي هي العوامل النفسية التي تسيطر على فنون الأمة، فيميل أبناءها إلى فنون دون أخرى، وينحون بفنونهم أنحاء خاصة دون غيرها؛ فقدماء المصريين الذين كانوا يخضعون لملكية مطلقة دينية الصبغة ويؤلهون ملوكهم، نبغوا في علم العمارة في بناء المعابد والمقابر دون القصور، ونحتوا التماثيل للملوك والآلهة، لا للأبطال والزعماء والخطباء والرياضيين كما فعل الإغريق ولم يرتق فيهم الأدب الذي يترجم عن مشاعر الفرد، ويعبر عن خوالج المجتمع والأدب أشد الفنون اتصالا بتاريخ الأمة وارتباطا بتطورات المجتمع، إذ كان صدى ناطقاً دقيقاً لما يحس به الفرد والمجتمع، بل الأدب مصاحب في بدئه للتاريخ في ظهوره، يتمازجان لدى الجماعات البدائية في محاولتها تفسير ظواهر الكون والتغني بمفاخر أسلافها، ويشاب كل ذلك بالخرافات، ويظل الأدب والتاريخ مختلطين على ذلك النحو مادامت الأمة في عهد بداوتها، فإذا ما تحضرت ودونت الكتب بدأت العلوم تتفرق وتتميز ويستقل كل منها بنفسه، فظهر المؤرخون واستقلوا بأمرهم عن الأدباء، بيد أن الصلات بين الأدب والتاريخ تظل محكمة، إذ كان كل منها مرآة للمجتمع تعكس صورته من زاوية مختلفة
فالأديب لا غنى له عن درس تاريخ الماضين والتبصر في تاريخ عصره، كي يتثقف عقله ويحصف فكره لأحوال البشر، والمؤرخ لا غنى له عن النظر في كتب الأدباء ليفهم روح العصر الذي يؤرخ له ومثله العليا، ولا غنى له إذا أراد أن يجيء تاريخه كاملا عن أن يفرد جانباً منه لدرس الحياة الأدبية لذلك العصر، والمؤرخ للأدب لا ندحة له عن درس التاريخ السياسي للعصور الأدبية، والبيئات السياسية والاجتماعية التي عاش فيها الأدباء الذين يترجم لهم؛ وقد كان من عظماء اليونان والرومان أمثال ديموستين وتيوسيديد وقيصر وشيشرون من جمعوا بين البلاغة الأدبية والتأليف التاريخي، أو بين حرفة الأدب وحرفة السياسة وصنعة الحرب
إذا ما بلغت الأمة طور الحضارة والاستقرار والثقافة، ودخل الأدب في طوره الفني، تميز التاريخ وقام علما مستقلا بنفسه كما تقدم والتفت إليه الأدباء فوجدوا به مجالا لفنهم رحيباً ومرتعاً لابتكارهم خصيباً، فهم لا يكتفون باستيعاب حقائقه واجتناء فوائده، بل يتخذون من مشاهده وأحداثه ورجاله مادة وغذاء لأقلامهم، ومسارح لخيالهم ومنادح لبيان آرائهم في الإنسان والحياة، وشواهد لتدعيم حججهم في المذاهب والمشاكل، فيتخذ منه الشعراء موضوعات لقصيدهم، والقصصيون هياكل لقصصهم، ويجدون في عوالمه البعيدة وحوادثه القريبة وعظمائه النابهين مهربا للنفوس من عقال الحاضر القريب، وأحداثه العادية
كان الشعر في الجاهلية ديوان العرب لأنه - هو والقصص - كانا يحويان أخبار العرب، ويحفظان مشهور حوادثهم وأيامهم، ويحكيان أخبار رحلاتهم واستقرارهم، ويشيران إلى ما وراء ذلك من عوامل اقتصادية واجتماعية وعصبية، فلم يكن العرب إذ ذاك يعرفون من التاريخ إلا حفظ الأنساب، فلما تحضروا واستقروا في المدن تضاءل شأن النسابة وظهر التاريخ المدون، ظهر أولا لغرض عملي شأن كل العلوم والفنون، لحفظ أخبار الفتوح وسيرة النبي الكريم شيئاً فشيئاً وصارت له أغراض غير هذه وتناول موضوعات أخرى أرحب وأعم
بيد أن التاريخ لدى العرب - كالأدب - ترعرع في ظل الملكية المطلقة، فجاء كلاهما مشتملا على نفس النقائص: احتفى كلاهما بأمر الملوك وأغفل جانب الشعوب، واهتم بالأحداث السياسية والحروب وتجاهل التطورات الاجتماعية والاقتصادية، واتسم كلاهما بالمحافظة والتقليد والنقل في غير نقد، لأن وطأة الملكية كانت تضطر كلا منهما إلى الإطراق والإغضاء والتغافل عن مواطن الضعف ودواعي الإصلاح، وكما كان الشعراء يقرضون الشعر ليتقدموا به إلى الأمراء متزلفين، فيملاؤنه بالمدح المغالي فيه، كان بعض المؤرخين يصنفون أسفارهم ليرفعوها إلى بعض الخلائف والسلاطين بغية الثواب والحظوة، فيملاؤنها بمدحه ومدح أسرته وتعداد مآثره ومفاخر دولته، ويؤيدون دعواه وينحون على عداه، ويتغاضون عما عدا ذلك
وقد ظل الاتصال قائما بين الأدب والتاريخ بعد تدوين الكتب واستقلال علم التاريخ بنفسه، فظلت كتب الأدب تحوي كثيراً من أخبار الجاهلية والاسلام، بل كانت تلك السير والإخبار والشذرات والنوادر من أهم مواد كتب الأدب العربي، ووردت في أشعار الشعراء شتى الإشارات إلى أحداث الماضي ورجاله، كما أن المؤرخين وكتاب التراجم والمعاجم كثيراً ما كانوا يلجأون إلى الشعر مستشهدين لما هم بصدده من تحقيق حادثة، أو تصويب رواية؛ وكان بعضهم يعيرون الشعراء اهتمامهم فيترجمون حياتهم ترجمة موجزة، وكان بعض الشعراء ينظم في أحداث جيله، كما فعل ابن الرومي في ثورة الزنج وفي مقتل بعض العلويين الخارجين. وكان كتاب الأمراء يتناولون مسائل السياسة في رسائلهم، فيندرج أشعار أولئك وكتابات هؤلاء في تراث التاريخ اندماجها في كنوز الأدب
بيد أن الأدب العربي الذي أغفل كثيرا من موضوعات القول التي يتهافت عليها الأدب إذا ما بلغ طوره الفني، أهمل التاريخ إهمالا كبيرا، فلم يتخذ من حوادثه وحيا للنظم، ولا من أعاجيبه مدارا للقصص، ولا من أبطاله أمثلة للتمجيد، فليس من بين أدباء العربية الكبار من استهزه حادث تاريخي قرأه، أو أثر تاريخي وقف به، إلى نظم قصيدة أو إنشاء رسالة يستجلي فيها عبر التاريخ ويمجد قوة الإنسان، أو يندب ضعف حيلته إزاء جبروت المقادير. وليس من كتاب العربية ذوي الأساليب الجزلة من شمر عن ساعد الجد والبحث والاطلاع حتى كتب تاريخاً رفيعاً لبعض العصور أو الرجال، تاريخاً يعد تحفة في عالم الأدب كما قد يعد مرجعاً في عالم التاريخ، وإنما كان بعض الشعراء يتنصلون من الشؤون الاجتماعية والسياسية، ويتبرؤن من الاشتغال بمسائل التاريخ، كما قال ابن المعتز:
قليل هموم القلب إلا للذة ... ينعم نفسا آذنت بالتنقل
ولست تراه سائلا عن خليفة ... ولا قائلا: من يعزلون؟ ومن يلي؟
ولا صائحا كالعير في يوم لذة ... يناظر في تفضيل عثمان أو علي
أما في الإنجليزية حيث كان الأدباء والمؤرخون كغيرهم من أفراد الشعب يشاركون في الحياة الاجتماعية والسياسية بآرائهم ومذاهبهم، بل بأعمالهم ومساعيهم، فقد جاء كل من الأدب والتاريخ أكثر حرية وأقرب إلى جانب الشعب، وأكثر طروقاً لمواضيع المجتمع ومشاكل بنيه، وجاء الاتصال بين الأدب والتاريخ شديد التوثق، وجاء الأدب الإنجليزي أحفل بآثار المجتمع الذي قيل فيه من الأدب العربي، ومن ثم تدرس النصوص الأدبية الكثيرة في أثناء دراسة التاريخ في الجامعات، فتدرس آثار ملتون مثلا عند دراسة عهد المطهرين في إنجلترا
ووجد أدباء الإنجليزية في التاريخ مجالا واسعاً لفنهم وابتداعهم، فجال فيه شكسبير ومعاصروه جولات عديدة، واتخذوا مشاهد رواياتهم في بلاد اليونان أو إيطاليا أو دانيمركة أو إنجلترة القديمة، واشتق ملتون ودريدن موضوعات كثيرة من قصيدهم من تاريخ اليهود وأبناء ملوكهم وأنبيائهم، فلما ظهر النثر الفني بجوار الشعر لم يغفل التاريخ ولم يكن أقل لموضوعاته طرقا من الشعر، بل كان أحرى أن يشتمل على حقائقه ودقائقه ويعالج مسالكه ودروبه. بما يمتاز به على الشعر من رحب جوانبه ودقة تعبيره) فعالج جيبون وهيوم وآدم سميث وكارليل وغيرهم التاريخ والاجتماع وفلسفتيهما في أسلوب أدبي شائق، وجمع بعض الأدباء أمثال ماكولي وأرنولد بين الكتابة في الأدب والتأليف في التاريخ فكان الأدب والتاريخ لديهم كلا واحدا يجولون في نواحيه بلا تفريق، وبقيت كتاباتهم يدرسها طلاب الأدب كما يدرسها باحثو التاريخ
بل بلغ غرام بعض الأدباء بالماضي، وشغفهم بتقاليده وأزيائه ومحبتهم لأفذاذه وعظمائه حداً بعيدا، وقد كان سكوت من ذلك الضرب الذي يحيا في الماضي وبجلائله ولألائه وبطولته، ولا يكاد يلتفت إلى الحاضر أو يعنى بالمستقبل، وفي ذلك العالم السالف كتب سكوت أحسن قصصه. وممن كتب في الروايات والقصص التاريخية أيضا تنيسون وبروننج ودرنكور تروشو، وقد نرى موضوعاً تاريخياً حديثا كالثورة الفرنسية، وقد تناوله المؤلفون الإنجليز من شتى النواحي، فمحلل لحوادث الثورة وشخصياتها ككارليل، ومندد بمبادئها كبرك، ومرحب بتلك المبادئ مترنم بها كوردزورث، ومتخذ من قصة وليد تلك الثورة نابليون موضوعا لملحمة طويلة كهاردي، وهكذا تحيا حوادث التاريخ في أذهان مطالعي الأدب مصورة من شتى النواحي
ولا شك أن هذا التاريخ الأدبي، إذا سميناه كذلك، أجدر بالقراءة وأحق باهتمام المثقف من التاريخ المجرد، إذ في آثار الأدباء تحيا حقائق التاريخ وتدب فيها روح إنسانية جديدة وتمتلئ بالإمتاع، ويعود التاريخ والأدب وكلاهما مظهر لحياة الإنسان المطردة التطور والتغير، وتفكيره الدائب الحركة والتقلب، وفي هذا التاريخ الأدبي يرتبط الحاضر بالماضي، والقريب من الأمم بالبعيد، وتتقاصر مسافات الزمان والمكان، ولا يبقى إلا الإنسانية الشاملة، وهذه الإنسانية هي مجال كل فن صميم
هذا التاريخ الأدبي لم يعرف في العربية) فكان هناك المؤرخون وكان هناك الأدباء، ولكن كلا منهما كان مستقلا عن الآخر استقلالا كبيراً، ولم يكن الأدباء يعدون التاريخ مجالا من مجالات أدبهم، أو مطمحا من مطامح فنهم، يبتكرون في مجاله وينشئون، وما ذاك إلا لانشغالهم بالقريب الحاضر من شؤون العيش، عن البعيد المترامي من أمور الحياة وآفاق الفكر، لأن الأدب ظل أكثره بلاطياً يمدح الأمير ويحرر رسائله، وكان الفوز بتلك الخطوة مطمح الأديب ووسيلته الكبرى إلى الظهور فإذا ما بلغ ذلك المكان لازم ذلك الضرب الوحيد من القول، ولم يصرف أدبه إلى التأمل في شؤون الماضي والمستقبل، وهكذا أغفل الأدب العربي التاريخ فيما أغفل من موضوعات هي صميم الفن، لوثيق صلتها بالإنسانية فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 202
بتاريخ: 17 - 05 - 1937
ولا يستمد التاريخ مما دونه المؤرخون في طروسهم فقط، بل يستمد بجانب ذلك من آثار الفنون المتخلفة عن الأمم، من عمارة ونحت وتصوير وأدب، ففي كل هاتيك صور من عقلياتها ومذاهبها ومجتمعاتها ومنازعها؛ فتاريخ الحضارة المصرية القديمة لا يستمد إلا أقله مما دونه المصريون أنفسهم أو من جاء بعد عهدهم من مؤرخي الأمم التالية، أما أكثر ما يعرف عن حياتهم الاجتماعية وتقاليدهم وديانتهم وعلومهم، فمستقى من مخلفاتهم في عالم البناء والنحت والنقش والصناعة، وقل مثل ذلك في تاريخ اليونان والرومان، وغيرهم من الأمم التي أنشأت الحضارات وكان لها في العلم والفن شأن يذكر
فتاريخ الأمة وفنونها متصلان أوثق اتصال، فالعوامل النفسية التي تسيطر على المجتمع والحكومة وتؤدي إلى الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية، هي هي العوامل النفسية التي تسيطر على فنون الأمة، فيميل أبناءها إلى فنون دون أخرى، وينحون بفنونهم أنحاء خاصة دون غيرها؛ فقدماء المصريين الذين كانوا يخضعون لملكية مطلقة دينية الصبغة ويؤلهون ملوكهم، نبغوا في علم العمارة في بناء المعابد والمقابر دون القصور، ونحتوا التماثيل للملوك والآلهة، لا للأبطال والزعماء والخطباء والرياضيين كما فعل الإغريق ولم يرتق فيهم الأدب الذي يترجم عن مشاعر الفرد، ويعبر عن خوالج المجتمع والأدب أشد الفنون اتصالا بتاريخ الأمة وارتباطا بتطورات المجتمع، إذ كان صدى ناطقاً دقيقاً لما يحس به الفرد والمجتمع، بل الأدب مصاحب في بدئه للتاريخ في ظهوره، يتمازجان لدى الجماعات البدائية في محاولتها تفسير ظواهر الكون والتغني بمفاخر أسلافها، ويشاب كل ذلك بالخرافات، ويظل الأدب والتاريخ مختلطين على ذلك النحو مادامت الأمة في عهد بداوتها، فإذا ما تحضرت ودونت الكتب بدأت العلوم تتفرق وتتميز ويستقل كل منها بنفسه، فظهر المؤرخون واستقلوا بأمرهم عن الأدباء، بيد أن الصلات بين الأدب والتاريخ تظل محكمة، إذ كان كل منها مرآة للمجتمع تعكس صورته من زاوية مختلفة
فالأديب لا غنى له عن درس تاريخ الماضين والتبصر في تاريخ عصره، كي يتثقف عقله ويحصف فكره لأحوال البشر، والمؤرخ لا غنى له عن النظر في كتب الأدباء ليفهم روح العصر الذي يؤرخ له ومثله العليا، ولا غنى له إذا أراد أن يجيء تاريخه كاملا عن أن يفرد جانباً منه لدرس الحياة الأدبية لذلك العصر، والمؤرخ للأدب لا ندحة له عن درس التاريخ السياسي للعصور الأدبية، والبيئات السياسية والاجتماعية التي عاش فيها الأدباء الذين يترجم لهم؛ وقد كان من عظماء اليونان والرومان أمثال ديموستين وتيوسيديد وقيصر وشيشرون من جمعوا بين البلاغة الأدبية والتأليف التاريخي، أو بين حرفة الأدب وحرفة السياسة وصنعة الحرب
إذا ما بلغت الأمة طور الحضارة والاستقرار والثقافة، ودخل الأدب في طوره الفني، تميز التاريخ وقام علما مستقلا بنفسه كما تقدم والتفت إليه الأدباء فوجدوا به مجالا لفنهم رحيباً ومرتعاً لابتكارهم خصيباً، فهم لا يكتفون باستيعاب حقائقه واجتناء فوائده، بل يتخذون من مشاهده وأحداثه ورجاله مادة وغذاء لأقلامهم، ومسارح لخيالهم ومنادح لبيان آرائهم في الإنسان والحياة، وشواهد لتدعيم حججهم في المذاهب والمشاكل، فيتخذ منه الشعراء موضوعات لقصيدهم، والقصصيون هياكل لقصصهم، ويجدون في عوالمه البعيدة وحوادثه القريبة وعظمائه النابهين مهربا للنفوس من عقال الحاضر القريب، وأحداثه العادية
كان الشعر في الجاهلية ديوان العرب لأنه - هو والقصص - كانا يحويان أخبار العرب، ويحفظان مشهور حوادثهم وأيامهم، ويحكيان أخبار رحلاتهم واستقرارهم، ويشيران إلى ما وراء ذلك من عوامل اقتصادية واجتماعية وعصبية، فلم يكن العرب إذ ذاك يعرفون من التاريخ إلا حفظ الأنساب، فلما تحضروا واستقروا في المدن تضاءل شأن النسابة وظهر التاريخ المدون، ظهر أولا لغرض عملي شأن كل العلوم والفنون، لحفظ أخبار الفتوح وسيرة النبي الكريم شيئاً فشيئاً وصارت له أغراض غير هذه وتناول موضوعات أخرى أرحب وأعم
بيد أن التاريخ لدى العرب - كالأدب - ترعرع في ظل الملكية المطلقة، فجاء كلاهما مشتملا على نفس النقائص: احتفى كلاهما بأمر الملوك وأغفل جانب الشعوب، واهتم بالأحداث السياسية والحروب وتجاهل التطورات الاجتماعية والاقتصادية، واتسم كلاهما بالمحافظة والتقليد والنقل في غير نقد، لأن وطأة الملكية كانت تضطر كلا منهما إلى الإطراق والإغضاء والتغافل عن مواطن الضعف ودواعي الإصلاح، وكما كان الشعراء يقرضون الشعر ليتقدموا به إلى الأمراء متزلفين، فيملاؤنه بالمدح المغالي فيه، كان بعض المؤرخين يصنفون أسفارهم ليرفعوها إلى بعض الخلائف والسلاطين بغية الثواب والحظوة، فيملاؤنها بمدحه ومدح أسرته وتعداد مآثره ومفاخر دولته، ويؤيدون دعواه وينحون على عداه، ويتغاضون عما عدا ذلك
وقد ظل الاتصال قائما بين الأدب والتاريخ بعد تدوين الكتب واستقلال علم التاريخ بنفسه، فظلت كتب الأدب تحوي كثيراً من أخبار الجاهلية والاسلام، بل كانت تلك السير والإخبار والشذرات والنوادر من أهم مواد كتب الأدب العربي، ووردت في أشعار الشعراء شتى الإشارات إلى أحداث الماضي ورجاله، كما أن المؤرخين وكتاب التراجم والمعاجم كثيراً ما كانوا يلجأون إلى الشعر مستشهدين لما هم بصدده من تحقيق حادثة، أو تصويب رواية؛ وكان بعضهم يعيرون الشعراء اهتمامهم فيترجمون حياتهم ترجمة موجزة، وكان بعض الشعراء ينظم في أحداث جيله، كما فعل ابن الرومي في ثورة الزنج وفي مقتل بعض العلويين الخارجين. وكان كتاب الأمراء يتناولون مسائل السياسة في رسائلهم، فيندرج أشعار أولئك وكتابات هؤلاء في تراث التاريخ اندماجها في كنوز الأدب
بيد أن الأدب العربي الذي أغفل كثيرا من موضوعات القول التي يتهافت عليها الأدب إذا ما بلغ طوره الفني، أهمل التاريخ إهمالا كبيرا، فلم يتخذ من حوادثه وحيا للنظم، ولا من أعاجيبه مدارا للقصص، ولا من أبطاله أمثلة للتمجيد، فليس من بين أدباء العربية الكبار من استهزه حادث تاريخي قرأه، أو أثر تاريخي وقف به، إلى نظم قصيدة أو إنشاء رسالة يستجلي فيها عبر التاريخ ويمجد قوة الإنسان، أو يندب ضعف حيلته إزاء جبروت المقادير. وليس من كتاب العربية ذوي الأساليب الجزلة من شمر عن ساعد الجد والبحث والاطلاع حتى كتب تاريخاً رفيعاً لبعض العصور أو الرجال، تاريخاً يعد تحفة في عالم الأدب كما قد يعد مرجعاً في عالم التاريخ، وإنما كان بعض الشعراء يتنصلون من الشؤون الاجتماعية والسياسية، ويتبرؤن من الاشتغال بمسائل التاريخ، كما قال ابن المعتز:
قليل هموم القلب إلا للذة ... ينعم نفسا آذنت بالتنقل
ولست تراه سائلا عن خليفة ... ولا قائلا: من يعزلون؟ ومن يلي؟
ولا صائحا كالعير في يوم لذة ... يناظر في تفضيل عثمان أو علي
أما في الإنجليزية حيث كان الأدباء والمؤرخون كغيرهم من أفراد الشعب يشاركون في الحياة الاجتماعية والسياسية بآرائهم ومذاهبهم، بل بأعمالهم ومساعيهم، فقد جاء كل من الأدب والتاريخ أكثر حرية وأقرب إلى جانب الشعب، وأكثر طروقاً لمواضيع المجتمع ومشاكل بنيه، وجاء الاتصال بين الأدب والتاريخ شديد التوثق، وجاء الأدب الإنجليزي أحفل بآثار المجتمع الذي قيل فيه من الأدب العربي، ومن ثم تدرس النصوص الأدبية الكثيرة في أثناء دراسة التاريخ في الجامعات، فتدرس آثار ملتون مثلا عند دراسة عهد المطهرين في إنجلترا
ووجد أدباء الإنجليزية في التاريخ مجالا واسعاً لفنهم وابتداعهم، فجال فيه شكسبير ومعاصروه جولات عديدة، واتخذوا مشاهد رواياتهم في بلاد اليونان أو إيطاليا أو دانيمركة أو إنجلترة القديمة، واشتق ملتون ودريدن موضوعات كثيرة من قصيدهم من تاريخ اليهود وأبناء ملوكهم وأنبيائهم، فلما ظهر النثر الفني بجوار الشعر لم يغفل التاريخ ولم يكن أقل لموضوعاته طرقا من الشعر، بل كان أحرى أن يشتمل على حقائقه ودقائقه ويعالج مسالكه ودروبه. بما يمتاز به على الشعر من رحب جوانبه ودقة تعبيره) فعالج جيبون وهيوم وآدم سميث وكارليل وغيرهم التاريخ والاجتماع وفلسفتيهما في أسلوب أدبي شائق، وجمع بعض الأدباء أمثال ماكولي وأرنولد بين الكتابة في الأدب والتأليف في التاريخ فكان الأدب والتاريخ لديهم كلا واحدا يجولون في نواحيه بلا تفريق، وبقيت كتاباتهم يدرسها طلاب الأدب كما يدرسها باحثو التاريخ
بل بلغ غرام بعض الأدباء بالماضي، وشغفهم بتقاليده وأزيائه ومحبتهم لأفذاذه وعظمائه حداً بعيدا، وقد كان سكوت من ذلك الضرب الذي يحيا في الماضي وبجلائله ولألائه وبطولته، ولا يكاد يلتفت إلى الحاضر أو يعنى بالمستقبل، وفي ذلك العالم السالف كتب سكوت أحسن قصصه. وممن كتب في الروايات والقصص التاريخية أيضا تنيسون وبروننج ودرنكور تروشو، وقد نرى موضوعاً تاريخياً حديثا كالثورة الفرنسية، وقد تناوله المؤلفون الإنجليز من شتى النواحي، فمحلل لحوادث الثورة وشخصياتها ككارليل، ومندد بمبادئها كبرك، ومرحب بتلك المبادئ مترنم بها كوردزورث، ومتخذ من قصة وليد تلك الثورة نابليون موضوعا لملحمة طويلة كهاردي، وهكذا تحيا حوادث التاريخ في أذهان مطالعي الأدب مصورة من شتى النواحي
ولا شك أن هذا التاريخ الأدبي، إذا سميناه كذلك، أجدر بالقراءة وأحق باهتمام المثقف من التاريخ المجرد، إذ في آثار الأدباء تحيا حقائق التاريخ وتدب فيها روح إنسانية جديدة وتمتلئ بالإمتاع، ويعود التاريخ والأدب وكلاهما مظهر لحياة الإنسان المطردة التطور والتغير، وتفكيره الدائب الحركة والتقلب، وفي هذا التاريخ الأدبي يرتبط الحاضر بالماضي، والقريب من الأمم بالبعيد، وتتقاصر مسافات الزمان والمكان، ولا يبقى إلا الإنسانية الشاملة، وهذه الإنسانية هي مجال كل فن صميم
هذا التاريخ الأدبي لم يعرف في العربية) فكان هناك المؤرخون وكان هناك الأدباء، ولكن كلا منهما كان مستقلا عن الآخر استقلالا كبيراً، ولم يكن الأدباء يعدون التاريخ مجالا من مجالات أدبهم، أو مطمحا من مطامح فنهم، يبتكرون في مجاله وينشئون، وما ذاك إلا لانشغالهم بالقريب الحاضر من شؤون العيش، عن البعيد المترامي من أمور الحياة وآفاق الفكر، لأن الأدب ظل أكثره بلاطياً يمدح الأمير ويحرر رسائله، وكان الفوز بتلك الخطوة مطمح الأديب ووسيلته الكبرى إلى الظهور فإذا ما بلغ ذلك المكان لازم ذلك الضرب الوحيد من القول، ولم يصرف أدبه إلى التأمل في شؤون الماضي والمستقبل، وهكذا أغفل الأدب العربي التاريخ فيما أغفل من موضوعات هي صميم الفن، لوثيق صلتها بالإنسانية فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 202
بتاريخ: 17 - 05 - 1937