إنه يوم حزين ، كتب أوزفالد شبنجلر في دفتر يومياته ، وهو يسمع خبر وفاة فيلسوف المانيا الأكبر فريدريك نيتشه . كان في العشرين من عمره يدرس في الجامعة ويستعد لتقديم أطروحته عن هيرقليطس الذي كان معجباً بفلسفته ، لكنه في الثانوية كان قد التهم معظم كتب نيتشه التي وجد فيها مع صديقه توماس مان ، تعبيراً عن أزمة الإنسان المعاصر وقال عنها " أنها أفضل ما كتب باللغة الألمانية " .
كان نيتشه قد تنبأ بانفجار حروب فظيعة سوف تعصف بالناس، حروب لا مثيل لها في الأرض، هذا هو مصير الناس في القرن القادم: "عرض وطلب، ومن يستطيع ان يكون شجاعاً سينتصر، وسوف يعم النور في كل مكان، وابتداء مني ستكون هناك سياسة عظيمة ، وما اقوله سيكون تاريخ القرنين القادمين.
هذا هو نيتشه
قبل وفاته بعام 1889 خرج نيتشه من بيته ، كان مريضاً ومحبطاً ، شاهد سائق عربة يضرب حصانه بقوه فهرع إليه، الفيلسوف المريض كان يصرخ مدافعاً عن هذا الحيوان المسكين ، وفجأة سقط مغشياً عليه ، فحمله بعض المارّة الى المصحّة ، فحصه الأطباء فشخصوا الحالة بأنها تدهورعقلي خطير، وتقرر احتجازه في المصحة ، إلا أن الأم وشقيقته قررتا ان ينقلاه الى منزلهما ، حيث احتجز تحت المراقبة الدقيقة. الأطباء شخصوا حالته بداء جنون العظمة ، حيث كان مصراً على انه القيصر، وازدادت نوبات الصراخ. كان يعتقد ان حجزه في البيت جاء بأوامر من بسمارك شخصيا ، وفي أحد الأيام حطم النافذة ليهرب، واستمرت نوبات الغضب والصراخ الى ان مات عام 1900 . كانت اليزابيث فوستر ،شقيقة نيتشه، شديدة الاهتمام بتراثه ، كرست نفسها لرعاية شقيقها المريض ولتصبح الوصية عليه ، وكانت مصممة على ان لاتترك فلسفة شقيقها لتكون عرضة للنسيان ، مقتنعة ان السنوات القادمة هي سنوات نيتشه ، ولهذا قررت بعد وفاته بخمسة أعوام 1895 ان تؤسس متحفاً وأرشيفاً لأعماله ، كانت اليزابيث مصممة على ان تجعل الجميع يعترفون بشقيقها كأكبر عقلية فلسفية أنجبتها المانيا . في عام 1896 وصف الروائي الشهير توماس مان ، كتابات نيتشه بأنها ثورة فكرية على درجة كبيرة من الأهمية مثل نظرية كوبرنيكوس ، فيما يكتب شبنجلر في يومياته : "كانت الصحراء تحيط بنا ، وفجأة ظهر نيتشه مثل نبع اخضر" ، هكذا اصبح نيتشه بشاربه الكث ونظراته المجهدة هو الملصق الذي يعلقه الجيل الجديد من أدباء ومفكري العالم ، فكتب هيرمان هيسه يقول : " لقد أعاد نيتشه تقييم كل القيم التي كنا نؤمن بها " . وفي لندن يستلهم برنادشو أفكار الفيلسوف الألماني في مسرحية بعنوان "الانسان والسوبرمان" ، والتي اثارت اهتمام شبنجلر فكتب مقالا عنها . هذا هو "نيتشه" الذي أصرت شقيقته ان تطلق عليه لقب (نبي المانيا) وهو الذي سيلهم شبنجلر ويشكل رؤيته عن الغرب ويحفزه ليضع اهم كتبه "تدهور الحضارة الغربية". كان شبنجلر يرى ان الحضارة الغربية في طريقها الى الاندثار: "لكن اندثارها هو ايضا إيذان بفجر جديد قادم ، ستقوم اوروبا جديدة حتما"، هكذا كتب لصديقه توماس مان ، ليس على اساس القوى القديمة في فرنسا وبريطانيا والتي يرى شبنجلر انها متفسخة ، وانما عن طريق المانيا التي ستجمع بين الثقافة والانضباط العسكري وإرادة القوة النيتشوية ، سيتدفق دم كثير حتماً، هكذا كتب شبنجلر وهو يرى الحرب العالمية الاولى تشتعل ، لكن حتى بعد هزيمة ألمانيا فإن شبنجلر كان يؤمن ان الجنس الألماني يواجه مهمة صعبة، لكنه ند لها وسينتصر.
***
طفولة كئيبة
ولد أوزفالد شبنجلر عام 1880 ، امضى طفولة كئيبة مع أبوين متخاصمين ، يقول: "كان والدي بارداً عاطفياً حتى تجاه أولاده ، اما والدتي فكانت تعاني من أرق لاينتهي ." وفي محاولة للابتعاد عن هذا العالم الكئيب انطوى على نفسه ، ليمارس هوايته في القراءة التي استمدها من مراقبة عمِّه الصغير الذي كان يسميه "دودة كتب" ، بعد وفاة نيتشة بثلاثة أعوام توفى والده :"في وقت متأخر من الليل ، عاد والدي في جولة من جولاته اللامعقولة في المدينة بحثاً عن عمل جديد ، في ظل الازمة الاقتصادية ، انهار والدي أمام الباب ، سمعت والدتي الأنين لكنها لم تكن تتوقع انه صادر من الرجل الذي قضى عمره يخاصمها عاطفياً ، وحين فتحت الباب بعد ساعات كان قد توفى جراء نوبة قلبية داهمته ، كان في السابعة والخمسين من عمره ، بعدها تغيرت حياة امي ولم تسامح نفسها الى ان ماتت بعده بعامين : وقد كتبت لي قبل رحيلها ( هناك شيء انكسر في داخلي) ."
كان شبنجلر يكن إعجاباً شديداً لريتشارد فاجنر الذي سيطر على تفكيره في تلك الفترة ، وفي العام 1901 أكمل دراسته الجامعية، وفي هذا العام نفسه نشرت شقيقة نيتشه كتاب "إرادة القوة" ،وهو الكتاب الذي شن فيه الفيلسوف الراحل هجوماً لاذعاً على المجتمع البرجوازي الذي كان يراه يتفسخ . كان نيتشه يريد ان يقولها بصراحة ان هذا المجتمع يجب ان يزول وان "إرادة القوة يمكن ان تكون مثل مطرقة قوية تكسر وتزيل الأجناس المنحلة والمتفسخة لإفساح الطريق أمام نظام حياة جديد." ويكتب شبنجلر الى أستاذه جورج سيمل : " قرأت كتاب نيتشه ، انه يريد لنا السيادة على الارض كوسيلة لانتاج نوع أرقى." ويأتي جواب الأستاذ واضحاً : "المطلوب من أجل إنقاذ العالم هو عصيان متمرد من الأبناء على الآباء"، هذه الصورة أوحت لتوماس مان ان يكتب روايته الاولى (أسرة بودنبروك ) التي تتحدث عن سقوط المجتمع البرجوازي .
بعد حادثة وفاة أبيه حلت شبنجلر كارثة شخصية ، فبعد ان انهى دراسته في الفلسفة من جامعة ميونخ ذهب الى جامعة برلين لاستكمال اطروحة الدكتوراه ، وعندما تقدم بها خذلته لجنة المناقشه ولم تمنحه الشهادة، وكان السبب ان الرسالة تفتقر الى المصادر وان شبنجلر طرح فيها آراءه الخاصة. كان موضوع الرسالة عن الأثر الذي تركه هيرقليطس على الفكر العالمي ، وعلى إثرها أصيب شبلنجر بانهيارعصبي رافقه لمدة عام كامل قضاه بين المصحات الطبية ، بعد ذلك عيّن مدرساً في احدى المدارس المحلية . وبعد خمس سنوات غير مجدية في التدريس ، قرر شبنجلر ان يعود إلى ميونخ ، ليتفرغ للكتابة ، في ذلك الوقت كانت ميونخ مركزاً للحياة الفكرية في المانيا ، هناك التقى ثانية بصديقة النيتشوي توماس مان ، كانت روايته الأولى (أسرة بودنبروك) قد حققت نجاحاً هائلاً ، وحدثه عن روايته الجديدة التي ستصدر قريبا (موت في البندقية) ، وكان هناك الرسام بول كيلي الذي أرشد شبنجلر الى لوحات فان كوخ الذي انتهى به الحال الى ان يدخل مصحة في نفس السنة التي دخل فيها نيتشه ، وتوفي في نفس السنة التي توفي فيها صاحب "هكذا تكلم زرادشت"، لكن الرسام الهولندي قرر ان ينهي حياته بيده بعد حالة من اليأس والسوداوية رافقته طوال حياته: "ان صرخة أسى ترافقتي أينما ذهبت." وفي عام 1890خرج الى الحقول التي رسمها في العديد من اللوحات وهو يصرخ :"هذا محال ! هذا محال!" وعندما اخذت الشمس تغيب صوّب مسدسه الى صدره وضغط على الزناد ، ومع الرصاصة التي استقرت بالقرب من قلبه انتهى كل شيء : " لقد فعلت ما فيه خير للبشرية." واستهوت مأساة فان كوخ شبنجلر فكتب عنها بحثاً مطولاً بعنوان "إرادة النهاية" مستلهماً أفكار نيتشه :"الطوفان وحده الذي سيحقق السعادة على الأرض." .
***
هكذا ينتهي العالم
بدأ شبنجلر عام 1912 نشاطاً محموماً في مشروع ضخم يهدف الى اعادة تقييم التاريخ الأوروبي من وجهة نظر نيتشه ، كان عنوان الكتاب في البداية "المحافظ والليبرالي"، لكنه وجد ذات يوم عند بائع كتب قديمة مجلداً بعنوان "تدهور العصور القديمة"، هكذا جاء العنوان الجديد لكتاب "تدهور الحضارة الغربية" ، كان شبنجلر يؤمن ان الأقدار تخلت عن الغرب وان هناك ليلاً أسود سوف يرخي سدوله على معظم أوروبا ، الشعور بأن أوروبا تقف على حافة النهاية ، والتوق لأوروبا جديدة كان الهاجس لمعظم مفكري ذلك العصر. في تلك الأيام حضر الملازم هتلر مؤتمراً حاشداً للحركة الشبابية الألمانية ، داعياً الى تجديد روح المانيا ، بينما كان الطلاب الفرنسيون يطالبون بيقظة قومية لتغيير المجتمع الفرنسي .
كان الشاعر الانكليزي ت.س. إليوت وهو في الرابعة والعشرين من عمره يصرخ : "ارى حشوداً من الناس تدور حول حلقة
هكذا ينتهي العالم
هكذا ينتهي العالم
هكذا ينتهي العالم
لابِرجّة عنيفة ، وإنما بنواح خافت."
وكان توماس مان قد كتب : " نحن أبناء هذا القرن الجديد ، على وشك الإقلاع الى عالم آخر."
كل تلك الآمال والمخاوف دفعت شبنجلر لأن يكمل كتابه "تدهور الحضارة الغربية"، وكما اوضح في مقدمة الكتاب : " اريد ان اكتب تعليقاً على تلك اللحظة الحاسمة من الهياج والتوتر ، اريد ان اقدم نظرة جديدة إالى التاريخ وفلسفة المصير."
***
انهيار البرجوازية الاوربية
عندما بلغ السادسة عشرة من عمره توفي والده ، عمل في إحدى المهن الحرة ، لكن تأليف رواية تروي حكاية عائلته ، كان هاجسه الاكبر ، القصة ستدور عن الصبي "هانو" ابن العائلة البرجوازية اللامعة "بودنبروك" ، ان هذا الصبي كما يخبرنا توماس مان لم يخلق لهذه الحياة ، هانو سيكون محور الرواية والأشخاص الآخرون: العائلة ، الأقارب ، الأصدقاء سيكونون الخلفية والظلال ، هانو يشكل نهاية عائلة ، عائلة تحتضر ، تمحى من الأرض ، انه لشيء محزن بالنسبة للذي عاصر ازدهار هذه العائلة وتفتحها ، ومصير الصبي هانو هو مصير توماس مان وهو يشاهد ألمانيا تنهار ، سوف لن يروي توماس مان قصة "هانو " ، بل سيبدأ قبلها بكثير ، سينقب في التاريخ ، سيكون السؤال لماذا يرفض هانو فكرة الاستمرار في الحياة ، لقد وضع توماس مان لائحة بأسماء الشخصيات، أما صفاتها فسيأخذها من سجلات عائلته ، انه يؤلف رواية أشبه بالتاريخ ، صورة تولستوي يضعها على المكتب يؤطرها بالزهور والى جانبها نسخة من "الحرب والسلم" ، تحولت غرفته الى آرشيف لتاريخ المانيا ، انه يريد معرفة كل شيء ، سمع مثل صديقه شبنجلر بموت نيتشه ، كانت الرواية في طريقها الى النهاية ، لكن أسرة "بوندنبروك" لاتريد ان تنهار ، انها تقاوم مصيرها ، لكنها تشيخ ببطء ، كل مقومات اليأس موجودة . عام 1900 يكتب الصفحات الأخيرة ، يقوم بحزمها وإرسالها الى إحدى دور النشر ، في هذه الأثناء يتم استدعاؤه الى الخدمة العسكرية ، انه لايحب طريقة الجيش في الحياة ، المارشات العسكرية تثير فيه الاشمئزاز ، يصاب بالمرض ، اشبه بكآبة تخللتها حالات من الفرح حين أرسل اليه الناشر رسالة يقول فيها ان الرواية جميلة جداً لكنها طويلة ، ويقترح الناشر اختصارها الى النصف ، اقتراح مرفوض فهو أراد ان يكتب تاريخاً كاملاً لايمكن اختزاله ، قد يكون الناشر محقاً لكنه لن يرضخ لشروطه ، لايمكن الاستغناء عن اية صفحة من صفحات الرواية ، ويعفى توماس مان من الجيش بسبب مرضه ، الناشر يرضخ أمام إصرار المؤلف لتصدر "أسرة بودنبروك" عام 1901 مع عنوان فرعي "سقوط عائلة" ، ويقرأها الشاعر ريلكة فيكتب في إحدى الصحف :"هذه الرواية ستعيش مع الزمن" ، إلا أن الرواية لم تلق في البداية نجاحاً كبيراً في الأيام الأولى فلم تبع خلال أسابيع سوى نسختين ، وأقل من ألف في سنتها الأولى ، لكنها خلال الحرب العالمية الأولى ستكون على قائمة الأفضل مبيعاً لتصل مبيعاتها الى ثلاثة ملايين ، انها المانيا التي على وشك السقوط ، يكتب توماس مان بعد سنوات ليجيب على سؤال طرحه عليه شبنجلر حول نبوءته بتفسخ العالم القديم كما جاء في أسرة بودنبروك : " لم يخطر لي بأي حال ، اني في هذا الكتاب قد اعطيت شيئاً هاماً يتخطى حدود الفن وحدود السيرة الذاتية ، واني قد قدمت صورة للحياة في هذه المدينة في القرن التاسع عشر ، أي شيئاً من التاريخ ، ولم يخطر لي أن إنجاز هذا العمل يعود الى ما يتضمنه في نفسي الآن من التاريخ الذهني للبرجوازية الألمانية على وجه الإطلاق ، شيء ثالث لم أتخيله في اية صورة من الصور ، وهو ان الاهتمام بهذا الكتاب سيتجاوز موضوعياً وذهنياً حدود المانيا وان قصة انحلال عائلة قد يثير أشجان البرجوازية وانها قد تتعرف على نفسها في هذا الكتاب من جديد ، وبالاختصار لم اكن حين وضعت هذا الكتاب الالماني من حيث الشكل والموضوع اني ربما صورت شيئاً من القصة النفسية للبرجوازية الأوروبية".
***
انحسار الاشياء
أكمل شبنجلر كتابه "تدهور الحضارة الغربية" عام 1914، ولكن قيام الحرب العالمية الأولى اوقف نشر الكتاب ، في ذلك الوقت كتب هتلر : " الآن بدأ أعظم وقت ، الوقت الذي لايمكن ان ينسى على مدى وجودي في هذه الحياة ، سينحسر كل شيء ويمضي ويصبح لاشيء " .
وبسبب ضعف بصره ومرض القلب لم يلتحق شبنجلر بالجيش ، لكنه وجد نفسه منخرطاً في دعايتها فيكتب الى عمه : " انا متفائل .. سننتصر"، صدر الجزء الأول من الكتاب عام 1918 حين كانت المقاتلات الألمانية تمطر باريس بالقنابل ، كان على اقتناع من ان المانيا ستعود لتقيم امبراطورية جديدة ، لكن مع منتصف العام بدأت القوات الألمانية تتراجع ، وبنهاية تشرين الاول استسلم جميع حلفاء المانيا ، وكانت الجيوش البريطانية والفرنسية تقترب من الحدود الألمانية ، بدأت المدن الألمانية تتمرد، الامبراطور الألماني يتنازل عن العرش ، الأفكار الثورية تنتشر بسرعة ، العمال يريدون جمهورية مثل السوفيت ، ولم يكن أمام الجيش الذي عاد منكسراً إلا طريق واحد هو سحق التمرد في ميونخ وبرلين والمدن الاخرى ، الألوف قتلوا. كان شبنجلر يشاهد المأساة ويكتب : "لاشيء سوى الجوع والنهب والقذارة والخطر والنذالة التي لامثيل لها " ، وكان اول رد فعل عنده هو اليأس ، انه التدهور قادم كما تنبأ :" لقد انتهى كل ما كنت احترمه وأقدره ، لماذا يحل بنا هذا المصير؟ كل شيء مات في الخنادق"، يكتب الى أحد أصدقائه . كانت الفترة من 1918 -1919 كارثة بالنسبة لألمانيا ، لكنها صنعت شهرة شبنجلر الأستاذ الجامعي الذي تنبأ بأن تأثير "تدهور الحضارة الغربية " سيكون بمثابة "انهيار صخرة ضخمة في بحيرة ضحلة" ، توماس مان يحصل على نسخة من الكتاب عام 1919 ويمضي شهراً كاملاً في قراءته ويكتب :" انه اهم كتاب في مرحلتنا القلقلة هذه"، الفيلسوف المقيم في فينا "لودفيج فتجنشتين " يقرأ الكتاب فيكتب الى شبنجلر : "ايها المعلم لقد أصبتني بصاعقة"، ويوجه ماكس فيبر دعوة لشبنجلر ليشارك في ندوة عن الكتاب في جامعة ميونخ. كان فيبر يرى ان المؤلف ذكي ، لكن استنتاجاته غير دقيقة ، وفي أواخر عام 1919 تحصل اليزابيث نيتشه على نسخة من الكتاب ، وتتأثر به كثيرا، انه يعيد أمجاد شقيقي ، هكذا صرحت ، ورتبت ان يحصل شبنجلر على جائزة نيتشه ، ها هو الآن قد أصبح مشهوراً ، كتابه ينفد من المكتبات وتعاد طباعته بأكثر من لغة ، وحين قال له ماكس فيبر انه مروّج للكآبة والتشاؤم ، كان رد شبنجلر بأنه يسعى لنهوض قومي من اجل المانيا ، تختفي معه بقايا الغرب الفاسد . بعد نجاج الجزء الاول من الكتاب ، تفرغ لإنجاز الجزء الثاني الذي ستصدر طبعته الأولى عام 1922 ، وفيه يوجه سهام نقده للأفكار الليبرالية باعتبارها افكاراً تحتضر وبأن الديمقراطية مجرد لعبة تجارية : " بنفاق الجماهير ، بالكذب ، بالهدايا والتهديدات ، وقبل كل شيء بالأموال . المال هو الذي ينظم العملية لصالح من يملكونه ، وتصبح لعبة الانتخابات سابقة الإعداد ، وتقدم على انها تقرير مصير" .
واذا كان الجزء الاول من الكتاب يقدم التاريخ باعتباره قصة الشعوب والدول ، فإن الجزء الثاني يقدم المستقبل باعتباره صراع البشر وليس صراع المبادئ ، يكتب : " في عالمنا الجرماني ستعود أرواح الأبطال مرة اخرى لتكسر دكتاتورية المال وسلاحها السياسي : الديمقراطية ، سينتصر السيف على المال". كان يريد ان يجمع بين المساواة الاشتراكية والقومية الشعبية ، وكان لأفكاره تاثير كبير على اعضاء الحزب النازي من امثال غوبلز الذي كتب اليه رسالة طويلة معبرا عن إعجابه بكتاباته ، لكن شبنجلر لم يستهويه هتلر فيكتب:"الذي سيعيد المجد لألمانيا لابد ان يكون بطلاً ، وليس صوتاً يغني عن البطولة"، في اشارة الى خطب هتلر الحماسية. كان شبنجلر ضد آراء النازيين في مسألة العرق الألماني ، وكانت ردة فعل هتلر على آراء شبنجلر الأخيرة سريعة ومباشرة :" يتهمونني بأنني بربري، نعم نحن برابرة وانا فخور بذلك." وفي عام 1924 ينبه شبنجلر الى ان "السياسة القومية شراب مسكر" ويسخر من "المواكب والمسيرات التي حلت محل التفكير الجاد بمستقبل المانيا."
في عام 1932 يصعد هتلر الى السلطة وكان النازيون مصرين على اخضاع جامعات المانيا العريقة لسيطرتهم ، وكان شبنجلر يسعى لأن يحافظ على استقلاليته وعدم تأييده لحزب هتلر ، لكنه وتحت ضغط من اصدقاء كثيرين وافق ان يلتقي هتلر . كان المشهد غريباً ، هتلر حاول ان يمتدح الفيلسوف ، لكن الفيلسوف الذي يبدو عليه التعب والانزعاج لم تعجبه شخصية المستشار الالماني ، بعد عام اصدر كتابه "ساعة القرار" الذي اعتبره البعض دعوة للإطاحة بهتلر، وبالرغم من ان الناشر لم يوزع نسخا من الطبعة الاولى الا ان الكتاب تم منعه ، وسرعان ما بدأ الهجوم عليه في الصحف ، فاختار العزلة ، لم يعد قادرا على احتمال احد من الأصدقاء . في تشرين الثاني عام 1935 يتخلى عن منصبه الشرفي في مركز نيتشه ، كانت اليزابيث نيتشه في التاسعة والثمانين وكانت من اشد المؤيدين لهتلر ، وستكتب رسالة الى شبنجلر تعبر عن حيرتها لاختياره العزلة وتردده في تأييد هتلر :"الم يحقق الفوهر العظيم نفس الأهداف التي تكلمت عنها في كتبك " ، تكتب اليه لكنه لم يرد عليها . في اذار من عام 1936 يتعرض لأزمة قلبية حادة يموت على اثرها ، كان في السادسة والخمسين من عمره ، مر موته دون ان يلحظه احد ودفنه عدد قليل من اصدقائه ، كان توماس مان منفياً في زيورخ بعد ان سمع بوفاة صديقه القديم الذي اختلف معه فيما بعد ، كتب في يومياته: "مات صغيرا ، وأحسب انه مات في مرارة وندم ، ولكنه أتى أشياء مرعبة ليمهد الطريق لما هو قادم ، واطلق باكراً ، تلك الألحان التي تصيبنا اليوم بالصمم ."
ظل شبنجلر يشعر بان هناك تطابق بين الهزيمة الوطنية الألمانية، وانحطاط اوروبا. لكنه اصر على ان ان ما هزم إنما هو الحضارة وليس الثقافة ، منبهاً الى خطورة ان تجر الحضارة الثقافة معها في انحطاطها.
* نقلا عن المدى
كان نيتشه قد تنبأ بانفجار حروب فظيعة سوف تعصف بالناس، حروب لا مثيل لها في الأرض، هذا هو مصير الناس في القرن القادم: "عرض وطلب، ومن يستطيع ان يكون شجاعاً سينتصر، وسوف يعم النور في كل مكان، وابتداء مني ستكون هناك سياسة عظيمة ، وما اقوله سيكون تاريخ القرنين القادمين.
هذا هو نيتشه
قبل وفاته بعام 1889 خرج نيتشه من بيته ، كان مريضاً ومحبطاً ، شاهد سائق عربة يضرب حصانه بقوه فهرع إليه، الفيلسوف المريض كان يصرخ مدافعاً عن هذا الحيوان المسكين ، وفجأة سقط مغشياً عليه ، فحمله بعض المارّة الى المصحّة ، فحصه الأطباء فشخصوا الحالة بأنها تدهورعقلي خطير، وتقرر احتجازه في المصحة ، إلا أن الأم وشقيقته قررتا ان ينقلاه الى منزلهما ، حيث احتجز تحت المراقبة الدقيقة. الأطباء شخصوا حالته بداء جنون العظمة ، حيث كان مصراً على انه القيصر، وازدادت نوبات الصراخ. كان يعتقد ان حجزه في البيت جاء بأوامر من بسمارك شخصيا ، وفي أحد الأيام حطم النافذة ليهرب، واستمرت نوبات الغضب والصراخ الى ان مات عام 1900 . كانت اليزابيث فوستر ،شقيقة نيتشه، شديدة الاهتمام بتراثه ، كرست نفسها لرعاية شقيقها المريض ولتصبح الوصية عليه ، وكانت مصممة على ان لاتترك فلسفة شقيقها لتكون عرضة للنسيان ، مقتنعة ان السنوات القادمة هي سنوات نيتشه ، ولهذا قررت بعد وفاته بخمسة أعوام 1895 ان تؤسس متحفاً وأرشيفاً لأعماله ، كانت اليزابيث مصممة على ان تجعل الجميع يعترفون بشقيقها كأكبر عقلية فلسفية أنجبتها المانيا . في عام 1896 وصف الروائي الشهير توماس مان ، كتابات نيتشه بأنها ثورة فكرية على درجة كبيرة من الأهمية مثل نظرية كوبرنيكوس ، فيما يكتب شبنجلر في يومياته : "كانت الصحراء تحيط بنا ، وفجأة ظهر نيتشه مثل نبع اخضر" ، هكذا اصبح نيتشه بشاربه الكث ونظراته المجهدة هو الملصق الذي يعلقه الجيل الجديد من أدباء ومفكري العالم ، فكتب هيرمان هيسه يقول : " لقد أعاد نيتشه تقييم كل القيم التي كنا نؤمن بها " . وفي لندن يستلهم برنادشو أفكار الفيلسوف الألماني في مسرحية بعنوان "الانسان والسوبرمان" ، والتي اثارت اهتمام شبنجلر فكتب مقالا عنها . هذا هو "نيتشه" الذي أصرت شقيقته ان تطلق عليه لقب (نبي المانيا) وهو الذي سيلهم شبنجلر ويشكل رؤيته عن الغرب ويحفزه ليضع اهم كتبه "تدهور الحضارة الغربية". كان شبنجلر يرى ان الحضارة الغربية في طريقها الى الاندثار: "لكن اندثارها هو ايضا إيذان بفجر جديد قادم ، ستقوم اوروبا جديدة حتما"، هكذا كتب لصديقه توماس مان ، ليس على اساس القوى القديمة في فرنسا وبريطانيا والتي يرى شبنجلر انها متفسخة ، وانما عن طريق المانيا التي ستجمع بين الثقافة والانضباط العسكري وإرادة القوة النيتشوية ، سيتدفق دم كثير حتماً، هكذا كتب شبنجلر وهو يرى الحرب العالمية الاولى تشتعل ، لكن حتى بعد هزيمة ألمانيا فإن شبنجلر كان يؤمن ان الجنس الألماني يواجه مهمة صعبة، لكنه ند لها وسينتصر.
***
طفولة كئيبة
ولد أوزفالد شبنجلر عام 1880 ، امضى طفولة كئيبة مع أبوين متخاصمين ، يقول: "كان والدي بارداً عاطفياً حتى تجاه أولاده ، اما والدتي فكانت تعاني من أرق لاينتهي ." وفي محاولة للابتعاد عن هذا العالم الكئيب انطوى على نفسه ، ليمارس هوايته في القراءة التي استمدها من مراقبة عمِّه الصغير الذي كان يسميه "دودة كتب" ، بعد وفاة نيتشة بثلاثة أعوام توفى والده :"في وقت متأخر من الليل ، عاد والدي في جولة من جولاته اللامعقولة في المدينة بحثاً عن عمل جديد ، في ظل الازمة الاقتصادية ، انهار والدي أمام الباب ، سمعت والدتي الأنين لكنها لم تكن تتوقع انه صادر من الرجل الذي قضى عمره يخاصمها عاطفياً ، وحين فتحت الباب بعد ساعات كان قد توفى جراء نوبة قلبية داهمته ، كان في السابعة والخمسين من عمره ، بعدها تغيرت حياة امي ولم تسامح نفسها الى ان ماتت بعده بعامين : وقد كتبت لي قبل رحيلها ( هناك شيء انكسر في داخلي) ."
كان شبنجلر يكن إعجاباً شديداً لريتشارد فاجنر الذي سيطر على تفكيره في تلك الفترة ، وفي العام 1901 أكمل دراسته الجامعية، وفي هذا العام نفسه نشرت شقيقة نيتشه كتاب "إرادة القوة" ،وهو الكتاب الذي شن فيه الفيلسوف الراحل هجوماً لاذعاً على المجتمع البرجوازي الذي كان يراه يتفسخ . كان نيتشه يريد ان يقولها بصراحة ان هذا المجتمع يجب ان يزول وان "إرادة القوة يمكن ان تكون مثل مطرقة قوية تكسر وتزيل الأجناس المنحلة والمتفسخة لإفساح الطريق أمام نظام حياة جديد." ويكتب شبنجلر الى أستاذه جورج سيمل : " قرأت كتاب نيتشه ، انه يريد لنا السيادة على الارض كوسيلة لانتاج نوع أرقى." ويأتي جواب الأستاذ واضحاً : "المطلوب من أجل إنقاذ العالم هو عصيان متمرد من الأبناء على الآباء"، هذه الصورة أوحت لتوماس مان ان يكتب روايته الاولى (أسرة بودنبروك ) التي تتحدث عن سقوط المجتمع البرجوازي .
بعد حادثة وفاة أبيه حلت شبنجلر كارثة شخصية ، فبعد ان انهى دراسته في الفلسفة من جامعة ميونخ ذهب الى جامعة برلين لاستكمال اطروحة الدكتوراه ، وعندما تقدم بها خذلته لجنة المناقشه ولم تمنحه الشهادة، وكان السبب ان الرسالة تفتقر الى المصادر وان شبنجلر طرح فيها آراءه الخاصة. كان موضوع الرسالة عن الأثر الذي تركه هيرقليطس على الفكر العالمي ، وعلى إثرها أصيب شبلنجر بانهيارعصبي رافقه لمدة عام كامل قضاه بين المصحات الطبية ، بعد ذلك عيّن مدرساً في احدى المدارس المحلية . وبعد خمس سنوات غير مجدية في التدريس ، قرر شبنجلر ان يعود إلى ميونخ ، ليتفرغ للكتابة ، في ذلك الوقت كانت ميونخ مركزاً للحياة الفكرية في المانيا ، هناك التقى ثانية بصديقة النيتشوي توماس مان ، كانت روايته الأولى (أسرة بودنبروك) قد حققت نجاحاً هائلاً ، وحدثه عن روايته الجديدة التي ستصدر قريبا (موت في البندقية) ، وكان هناك الرسام بول كيلي الذي أرشد شبنجلر الى لوحات فان كوخ الذي انتهى به الحال الى ان يدخل مصحة في نفس السنة التي دخل فيها نيتشه ، وتوفي في نفس السنة التي توفي فيها صاحب "هكذا تكلم زرادشت"، لكن الرسام الهولندي قرر ان ينهي حياته بيده بعد حالة من اليأس والسوداوية رافقته طوال حياته: "ان صرخة أسى ترافقتي أينما ذهبت." وفي عام 1890خرج الى الحقول التي رسمها في العديد من اللوحات وهو يصرخ :"هذا محال ! هذا محال!" وعندما اخذت الشمس تغيب صوّب مسدسه الى صدره وضغط على الزناد ، ومع الرصاصة التي استقرت بالقرب من قلبه انتهى كل شيء : " لقد فعلت ما فيه خير للبشرية." واستهوت مأساة فان كوخ شبنجلر فكتب عنها بحثاً مطولاً بعنوان "إرادة النهاية" مستلهماً أفكار نيتشه :"الطوفان وحده الذي سيحقق السعادة على الأرض." .
***
هكذا ينتهي العالم
بدأ شبنجلر عام 1912 نشاطاً محموماً في مشروع ضخم يهدف الى اعادة تقييم التاريخ الأوروبي من وجهة نظر نيتشه ، كان عنوان الكتاب في البداية "المحافظ والليبرالي"، لكنه وجد ذات يوم عند بائع كتب قديمة مجلداً بعنوان "تدهور العصور القديمة"، هكذا جاء العنوان الجديد لكتاب "تدهور الحضارة الغربية" ، كان شبنجلر يؤمن ان الأقدار تخلت عن الغرب وان هناك ليلاً أسود سوف يرخي سدوله على معظم أوروبا ، الشعور بأن أوروبا تقف على حافة النهاية ، والتوق لأوروبا جديدة كان الهاجس لمعظم مفكري ذلك العصر. في تلك الأيام حضر الملازم هتلر مؤتمراً حاشداً للحركة الشبابية الألمانية ، داعياً الى تجديد روح المانيا ، بينما كان الطلاب الفرنسيون يطالبون بيقظة قومية لتغيير المجتمع الفرنسي .
كان الشاعر الانكليزي ت.س. إليوت وهو في الرابعة والعشرين من عمره يصرخ : "ارى حشوداً من الناس تدور حول حلقة
هكذا ينتهي العالم
هكذا ينتهي العالم
هكذا ينتهي العالم
لابِرجّة عنيفة ، وإنما بنواح خافت."
وكان توماس مان قد كتب : " نحن أبناء هذا القرن الجديد ، على وشك الإقلاع الى عالم آخر."
كل تلك الآمال والمخاوف دفعت شبنجلر لأن يكمل كتابه "تدهور الحضارة الغربية"، وكما اوضح في مقدمة الكتاب : " اريد ان اكتب تعليقاً على تلك اللحظة الحاسمة من الهياج والتوتر ، اريد ان اقدم نظرة جديدة إالى التاريخ وفلسفة المصير."
***
انهيار البرجوازية الاوربية
عندما بلغ السادسة عشرة من عمره توفي والده ، عمل في إحدى المهن الحرة ، لكن تأليف رواية تروي حكاية عائلته ، كان هاجسه الاكبر ، القصة ستدور عن الصبي "هانو" ابن العائلة البرجوازية اللامعة "بودنبروك" ، ان هذا الصبي كما يخبرنا توماس مان لم يخلق لهذه الحياة ، هانو سيكون محور الرواية والأشخاص الآخرون: العائلة ، الأقارب ، الأصدقاء سيكونون الخلفية والظلال ، هانو يشكل نهاية عائلة ، عائلة تحتضر ، تمحى من الأرض ، انه لشيء محزن بالنسبة للذي عاصر ازدهار هذه العائلة وتفتحها ، ومصير الصبي هانو هو مصير توماس مان وهو يشاهد ألمانيا تنهار ، سوف لن يروي توماس مان قصة "هانو " ، بل سيبدأ قبلها بكثير ، سينقب في التاريخ ، سيكون السؤال لماذا يرفض هانو فكرة الاستمرار في الحياة ، لقد وضع توماس مان لائحة بأسماء الشخصيات، أما صفاتها فسيأخذها من سجلات عائلته ، انه يؤلف رواية أشبه بالتاريخ ، صورة تولستوي يضعها على المكتب يؤطرها بالزهور والى جانبها نسخة من "الحرب والسلم" ، تحولت غرفته الى آرشيف لتاريخ المانيا ، انه يريد معرفة كل شيء ، سمع مثل صديقه شبنجلر بموت نيتشه ، كانت الرواية في طريقها الى النهاية ، لكن أسرة "بوندنبروك" لاتريد ان تنهار ، انها تقاوم مصيرها ، لكنها تشيخ ببطء ، كل مقومات اليأس موجودة . عام 1900 يكتب الصفحات الأخيرة ، يقوم بحزمها وإرسالها الى إحدى دور النشر ، في هذه الأثناء يتم استدعاؤه الى الخدمة العسكرية ، انه لايحب طريقة الجيش في الحياة ، المارشات العسكرية تثير فيه الاشمئزاز ، يصاب بالمرض ، اشبه بكآبة تخللتها حالات من الفرح حين أرسل اليه الناشر رسالة يقول فيها ان الرواية جميلة جداً لكنها طويلة ، ويقترح الناشر اختصارها الى النصف ، اقتراح مرفوض فهو أراد ان يكتب تاريخاً كاملاً لايمكن اختزاله ، قد يكون الناشر محقاً لكنه لن يرضخ لشروطه ، لايمكن الاستغناء عن اية صفحة من صفحات الرواية ، ويعفى توماس مان من الجيش بسبب مرضه ، الناشر يرضخ أمام إصرار المؤلف لتصدر "أسرة بودنبروك" عام 1901 مع عنوان فرعي "سقوط عائلة" ، ويقرأها الشاعر ريلكة فيكتب في إحدى الصحف :"هذه الرواية ستعيش مع الزمن" ، إلا أن الرواية لم تلق في البداية نجاحاً كبيراً في الأيام الأولى فلم تبع خلال أسابيع سوى نسختين ، وأقل من ألف في سنتها الأولى ، لكنها خلال الحرب العالمية الأولى ستكون على قائمة الأفضل مبيعاً لتصل مبيعاتها الى ثلاثة ملايين ، انها المانيا التي على وشك السقوط ، يكتب توماس مان بعد سنوات ليجيب على سؤال طرحه عليه شبنجلر حول نبوءته بتفسخ العالم القديم كما جاء في أسرة بودنبروك : " لم يخطر لي بأي حال ، اني في هذا الكتاب قد اعطيت شيئاً هاماً يتخطى حدود الفن وحدود السيرة الذاتية ، واني قد قدمت صورة للحياة في هذه المدينة في القرن التاسع عشر ، أي شيئاً من التاريخ ، ولم يخطر لي أن إنجاز هذا العمل يعود الى ما يتضمنه في نفسي الآن من التاريخ الذهني للبرجوازية الألمانية على وجه الإطلاق ، شيء ثالث لم أتخيله في اية صورة من الصور ، وهو ان الاهتمام بهذا الكتاب سيتجاوز موضوعياً وذهنياً حدود المانيا وان قصة انحلال عائلة قد يثير أشجان البرجوازية وانها قد تتعرف على نفسها في هذا الكتاب من جديد ، وبالاختصار لم اكن حين وضعت هذا الكتاب الالماني من حيث الشكل والموضوع اني ربما صورت شيئاً من القصة النفسية للبرجوازية الأوروبية".
***
انحسار الاشياء
أكمل شبنجلر كتابه "تدهور الحضارة الغربية" عام 1914، ولكن قيام الحرب العالمية الأولى اوقف نشر الكتاب ، في ذلك الوقت كتب هتلر : " الآن بدأ أعظم وقت ، الوقت الذي لايمكن ان ينسى على مدى وجودي في هذه الحياة ، سينحسر كل شيء ويمضي ويصبح لاشيء " .
وبسبب ضعف بصره ومرض القلب لم يلتحق شبنجلر بالجيش ، لكنه وجد نفسه منخرطاً في دعايتها فيكتب الى عمه : " انا متفائل .. سننتصر"، صدر الجزء الأول من الكتاب عام 1918 حين كانت المقاتلات الألمانية تمطر باريس بالقنابل ، كان على اقتناع من ان المانيا ستعود لتقيم امبراطورية جديدة ، لكن مع منتصف العام بدأت القوات الألمانية تتراجع ، وبنهاية تشرين الاول استسلم جميع حلفاء المانيا ، وكانت الجيوش البريطانية والفرنسية تقترب من الحدود الألمانية ، بدأت المدن الألمانية تتمرد، الامبراطور الألماني يتنازل عن العرش ، الأفكار الثورية تنتشر بسرعة ، العمال يريدون جمهورية مثل السوفيت ، ولم يكن أمام الجيش الذي عاد منكسراً إلا طريق واحد هو سحق التمرد في ميونخ وبرلين والمدن الاخرى ، الألوف قتلوا. كان شبنجلر يشاهد المأساة ويكتب : "لاشيء سوى الجوع والنهب والقذارة والخطر والنذالة التي لامثيل لها " ، وكان اول رد فعل عنده هو اليأس ، انه التدهور قادم كما تنبأ :" لقد انتهى كل ما كنت احترمه وأقدره ، لماذا يحل بنا هذا المصير؟ كل شيء مات في الخنادق"، يكتب الى أحد أصدقائه . كانت الفترة من 1918 -1919 كارثة بالنسبة لألمانيا ، لكنها صنعت شهرة شبنجلر الأستاذ الجامعي الذي تنبأ بأن تأثير "تدهور الحضارة الغربية " سيكون بمثابة "انهيار صخرة ضخمة في بحيرة ضحلة" ، توماس مان يحصل على نسخة من الكتاب عام 1919 ويمضي شهراً كاملاً في قراءته ويكتب :" انه اهم كتاب في مرحلتنا القلقلة هذه"، الفيلسوف المقيم في فينا "لودفيج فتجنشتين " يقرأ الكتاب فيكتب الى شبنجلر : "ايها المعلم لقد أصبتني بصاعقة"، ويوجه ماكس فيبر دعوة لشبنجلر ليشارك في ندوة عن الكتاب في جامعة ميونخ. كان فيبر يرى ان المؤلف ذكي ، لكن استنتاجاته غير دقيقة ، وفي أواخر عام 1919 تحصل اليزابيث نيتشه على نسخة من الكتاب ، وتتأثر به كثيرا، انه يعيد أمجاد شقيقي ، هكذا صرحت ، ورتبت ان يحصل شبنجلر على جائزة نيتشه ، ها هو الآن قد أصبح مشهوراً ، كتابه ينفد من المكتبات وتعاد طباعته بأكثر من لغة ، وحين قال له ماكس فيبر انه مروّج للكآبة والتشاؤم ، كان رد شبنجلر بأنه يسعى لنهوض قومي من اجل المانيا ، تختفي معه بقايا الغرب الفاسد . بعد نجاج الجزء الاول من الكتاب ، تفرغ لإنجاز الجزء الثاني الذي ستصدر طبعته الأولى عام 1922 ، وفيه يوجه سهام نقده للأفكار الليبرالية باعتبارها افكاراً تحتضر وبأن الديمقراطية مجرد لعبة تجارية : " بنفاق الجماهير ، بالكذب ، بالهدايا والتهديدات ، وقبل كل شيء بالأموال . المال هو الذي ينظم العملية لصالح من يملكونه ، وتصبح لعبة الانتخابات سابقة الإعداد ، وتقدم على انها تقرير مصير" .
واذا كان الجزء الاول من الكتاب يقدم التاريخ باعتباره قصة الشعوب والدول ، فإن الجزء الثاني يقدم المستقبل باعتباره صراع البشر وليس صراع المبادئ ، يكتب : " في عالمنا الجرماني ستعود أرواح الأبطال مرة اخرى لتكسر دكتاتورية المال وسلاحها السياسي : الديمقراطية ، سينتصر السيف على المال". كان يريد ان يجمع بين المساواة الاشتراكية والقومية الشعبية ، وكان لأفكاره تاثير كبير على اعضاء الحزب النازي من امثال غوبلز الذي كتب اليه رسالة طويلة معبرا عن إعجابه بكتاباته ، لكن شبنجلر لم يستهويه هتلر فيكتب:"الذي سيعيد المجد لألمانيا لابد ان يكون بطلاً ، وليس صوتاً يغني عن البطولة"، في اشارة الى خطب هتلر الحماسية. كان شبنجلر ضد آراء النازيين في مسألة العرق الألماني ، وكانت ردة فعل هتلر على آراء شبنجلر الأخيرة سريعة ومباشرة :" يتهمونني بأنني بربري، نعم نحن برابرة وانا فخور بذلك." وفي عام 1924 ينبه شبنجلر الى ان "السياسة القومية شراب مسكر" ويسخر من "المواكب والمسيرات التي حلت محل التفكير الجاد بمستقبل المانيا."
في عام 1932 يصعد هتلر الى السلطة وكان النازيون مصرين على اخضاع جامعات المانيا العريقة لسيطرتهم ، وكان شبنجلر يسعى لأن يحافظ على استقلاليته وعدم تأييده لحزب هتلر ، لكنه وتحت ضغط من اصدقاء كثيرين وافق ان يلتقي هتلر . كان المشهد غريباً ، هتلر حاول ان يمتدح الفيلسوف ، لكن الفيلسوف الذي يبدو عليه التعب والانزعاج لم تعجبه شخصية المستشار الالماني ، بعد عام اصدر كتابه "ساعة القرار" الذي اعتبره البعض دعوة للإطاحة بهتلر، وبالرغم من ان الناشر لم يوزع نسخا من الطبعة الاولى الا ان الكتاب تم منعه ، وسرعان ما بدأ الهجوم عليه في الصحف ، فاختار العزلة ، لم يعد قادرا على احتمال احد من الأصدقاء . في تشرين الثاني عام 1935 يتخلى عن منصبه الشرفي في مركز نيتشه ، كانت اليزابيث نيتشه في التاسعة والثمانين وكانت من اشد المؤيدين لهتلر ، وستكتب رسالة الى شبنجلر تعبر عن حيرتها لاختياره العزلة وتردده في تأييد هتلر :"الم يحقق الفوهر العظيم نفس الأهداف التي تكلمت عنها في كتبك " ، تكتب اليه لكنه لم يرد عليها . في اذار من عام 1936 يتعرض لأزمة قلبية حادة يموت على اثرها ، كان في السادسة والخمسين من عمره ، مر موته دون ان يلحظه احد ودفنه عدد قليل من اصدقائه ، كان توماس مان منفياً في زيورخ بعد ان سمع بوفاة صديقه القديم الذي اختلف معه فيما بعد ، كتب في يومياته: "مات صغيرا ، وأحسب انه مات في مرارة وندم ، ولكنه أتى أشياء مرعبة ليمهد الطريق لما هو قادم ، واطلق باكراً ، تلك الألحان التي تصيبنا اليوم بالصمم ."
ظل شبنجلر يشعر بان هناك تطابق بين الهزيمة الوطنية الألمانية، وانحطاط اوروبا. لكنه اصر على ان ان ما هزم إنما هو الحضارة وليس الثقافة ، منبهاً الى خطورة ان تجر الحضارة الثقافة معها في انحطاطها.
* نقلا عن المدى