8- قراءة السرد العربي القديم بين وهم المماثلة ومبدأ المغايرة
دراسة في بعض النماذج
توطئة
يصدر هذا البحث عن مبدأ نظري يقر بأن الأدب مفهوم مرتبط بالتاريخ والمجتمع والثقافة؛ أي أنه يشكل معاييره وأعرافه في ارتباطه بحاجيات الإنسان الجمالية والاجتماعية. وأن أي إخلال بهذا الشرط، قد ينجم عنه إخلال بقواعد قراءة الإنتاج الأدبي والإنساني في التاريخ، على نحو ما حصل في الثقافة الأدبية الحديثة التي أفرزت قراءات لم تراع مبدأ التمايز الذي يسم الإبداع الأدبي الإنساني، مما عرض أنواعا أدبية في تراثنا إلى التهوين، لكن التحولات التي حدثت في تصورات الدارسين العرب المحدثين لمفهوم ارتباط الأدب وأنواعه وأشكاله بالوعي الجمالي السائد في الحقب التاريخية، أعاد لتلك الأنواع الأدبية التراثية قيمتها الجمالية.
2-4 الرسالة القصصية
ويعد ما أسماه بعض الدارسين المعاصرين ب"الرسالة القصصية" جنسا أدبيا وسرديا قائما بذاته يمكن فحص مكوناته وسماته بصرف النظر عن أي مقارنة بينه وبين أجناس السرد الحديث. فالرسالة القصصية مزيج بين الرسالة الأدبية والسرد؛ وهي أحد نماذج الرسائل التي يمكن تصنيفها على أساس معيار حضور السرد في مقام الترسل. وقد رصد صالح بن رمضان ثلاثة منازع في التركيب بين الرسالة والسرد في التراث العربي:
-الرسائل التي تخبر عن حادثة أو واقعة فيعاد بناؤها في قالب قصصي.
-الرسائل التي تنفتح على "السرد الذاتي أو تصوير الوقائع زمن كتابة الرسالة. وبهذا المنزع تثري الرسائل أدب التحدث عن النفس أو الوقائع دون أن تأخذ شكل الخبر أو القصة، بل تظل الإحالة على المقام واضحة تمام الوضوح، وفي هذا الجنس تتناثر المقاطع السردية في غضون مخاطبة القارئ."
-الرسائل المنفتحة على أجناس سردية تكاد تختفي فيها الرسالة، وتجعل القارئ يبتعد عن المقام المحتضن لها، وقد مثل الباحث لهذا النوع برسالتي الغفران والتوابع والزوابع أو رسائل المقامات الأندلسية.
ليس توظيف الرسائل في أجناس السرد سوى وجه من وجوه ظاهرة التفاعل بين السرد وفنون النثر في الأدب العربي القديم؛ حيث نجد أعمالا استخدمت فيها "الرسالة شكلا فنيا يسهم في بناء القصة، والتقدم بأحداثها، ووصف أشخاصها، وتحليل مواقفها."
إن بين الرسالة الأدبية والقصة علاقتين متقابلتين من حيث التركيب الخارجي، متكاملتين من حيث دور الرسالة في تطوير القصة. فنحن إذن إزاء جنس مركب من الرسالة والقصة.
يرى صالح بن رمضان أن "القاعدة الأجناسية" "تطرح إشكالية الحدود بين الأجناس الأدبية"، وتتجلى هذه القضية بوضوح في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري حيث يتبين أن هناك تفاعلا بين القصة والرسالة. فأبو العلاء المعري عمد إلى تطوير الكتابة في مقام الترسل خروجا من الإخبار إلى التخييل، ومن التحدث عن شخص تاريخي إلى الحديث عن شخصية قصصية صنعها خياله. لكنه على الرغم من إخراجه الترسل إلى حقل الأجناس الخيالية "فإنه لم يغفل، في غضون القصة عن إدراج عناصر تذكر بمقام الترسل كالدعاء، والشروح اللغوية." لقد تحول ابن القارح من شخص حقيقي إلى شخص خيالي يتصرف فيه أبو العلاء كما يتصرف القصاص في الشخوص التي يصنعها في قصصه."وهكذا يتضح أن منزلة القصة من الرسالة هي منزلة النص المتخيل من النص الواقعي، فهي رسالة مكتوبة إلى ابن القارح كما تكتب سائر المراسلات بين الأدباء، ولكنها جاوزت وظائف الرسالة الحقيقية إلى وظائف الرسالة الخيالية التي يتخذ فيها الترسل مطية للكتابة في جنس أدبي خيالي. "
ومن الدارسين الذين خاضوا في تجنيس هذا النوع السردي؛ ألفت الروبي التي تناولت نصين هامين في تراثنا الأدبي، هما رسالة الغفران ورسالة التوابع والزوابع. فهي ترى في تحليلها لرسالة الغفران أن الوضعية الاجتماعية والفكرية للمجتمع العربي في عصر أبي العلاء حفزته إلى توليد نوع جديد(الرسالة-القصة) حاول أن يتجاوز به الأنواع التقليدية لا سيما الشعر. إنها مغامرة أدبية أراد بها أبو العلاء أن يتجاوز وضعيته بوصفه شاعرا إلى وضعية السارد الذي ينتج خيالا قصصيا. وقد ساعده على توليد هذا النوع وضعه الفردي الذي مكنه من استقراء كل ما يمكن الإفادة به قصصيا في التراث العربي القديم، وتوظيفه في توليد هذا الشكل القصصي، من شعر ونثر ولغة وأخبار.
وفي تحليلها لرسالة التوابع والزوابع وقفت الباحثة في سياق تجنيسها لهذا النص على أحد أبرز مكوناته وهو تعدد الأصوات؛ ففي النص تراسل عد أنواع: الشعر والرسائل والمقامات وقصص الحيوان؛ أي إن ابن شهيد اعتمد في صياغة نصه على "الموروث الشعري والنثري بعد أن استقر لديه إلى حد ما هذا الوعي القصصي. وقد تم تجاوز هذه الأنواع من خلال تعددية الأصوات المتمثلة في استحضار الأموات والأحياء (أحيانا) من شعراء وكتاب وغيرهم من المنتمين إلى عصور زمنية وأدبية مختلفة."
لقد استطاع الإطار القصصي في الرسالة أن يستوعب تعدد الأنواع معتمدا في ذلك على ثلاثة عناصر أساس تحققت في النص بشكل واضح وهي السرد والحوار والوصف. ولقد منح هذا التعدد إمكانات تجاوز الغنائية الشعرية التقليدية الرفيعة في هذا النص، حيث تشكلت اللغة النثرية في الرسالة من مستويات متعددة."
لقد ارتكزت قراءة ألفت الروبي للرسالة على إبراز تشكل نوع قصصي جديد في تراثنا قام على استيعاب جملة من الأنواع؛ وكأنها بذلك أرادت أن تؤكد تصور ميخائيل باختين الذي ألح على النثر السردي الحديث قام على تعدد الأصوات والأساليب.
خلاصة
ما نخلص إليه في هذه الدراسة هو تأكيد المبدأ النظري القائل بأن التحولات التي يخضع لها وعي القراء وحاجاتهم وتصوراتهم ورؤاهم، تؤثر في بنية النص المقروء وفي دلالاته ووظائفه وقيمه؛ فالأجناس السردية القديمة لم تكف عن التحقق في وعي قرائها وفي تمثلاتهم المختلفة لها. لقد اكتسبت المقامة والنادرة والخبر والرسالة القصصية وغيرها من أجناس السرد العربي القديم دلالات وقيما مختلفة عبر تاريخ التلقي؛ فقد خضعت في البداية إلى ضرب من المقارنة غير المتكافئة مع فنون السرد الحديث، مما عرضها للإدانة والتحقير، وفي أحيان أخرى كان القراء يستظلون بخبرتهم القصصية الحديثة بحثا عن نظائر تراثية في ضرب من الدفاع عن الذات والإعلاء من قيمتها مما جعل فنونا من سردنا القديم تتحول إلى نسخ أولية غير ناضجة لفنون السرد الحديث. ثم تشكَّل بعد ذلك وعي مغاير صدر عن رؤية استكشافية لا تدافع ولا تهاجم؛ إنه الوعي الذي تسلح به مجموعة من القراء الذين أسهموا في فهم تراثنا السردي والكشف عن هويته وخصوصيته بغض النظر عن علاقته بأجناس السرد الحديث. وفي جميع الأحوال ظل تراثنا السردي مرتهنا إلى تحولات سياقات القراءة وتبدلات وعي القراء.
د. عبدالواحد التهامي العلمي
الجزء الثامن من دراسة " السرد العربي القديم .. " لــ د. عبد الواحد التهامي العلمي . منشور في جريدة " الشمال " الزاهرة ، عدد يوم السبت 4 نوفمبر 2023 .
دراسة في بعض النماذج
توطئة
يصدر هذا البحث عن مبدأ نظري يقر بأن الأدب مفهوم مرتبط بالتاريخ والمجتمع والثقافة؛ أي أنه يشكل معاييره وأعرافه في ارتباطه بحاجيات الإنسان الجمالية والاجتماعية. وأن أي إخلال بهذا الشرط، قد ينجم عنه إخلال بقواعد قراءة الإنتاج الأدبي والإنساني في التاريخ، على نحو ما حصل في الثقافة الأدبية الحديثة التي أفرزت قراءات لم تراع مبدأ التمايز الذي يسم الإبداع الأدبي الإنساني، مما عرض أنواعا أدبية في تراثنا إلى التهوين، لكن التحولات التي حدثت في تصورات الدارسين العرب المحدثين لمفهوم ارتباط الأدب وأنواعه وأشكاله بالوعي الجمالي السائد في الحقب التاريخية، أعاد لتلك الأنواع الأدبية التراثية قيمتها الجمالية.
2-4 الرسالة القصصية
ويعد ما أسماه بعض الدارسين المعاصرين ب"الرسالة القصصية" جنسا أدبيا وسرديا قائما بذاته يمكن فحص مكوناته وسماته بصرف النظر عن أي مقارنة بينه وبين أجناس السرد الحديث. فالرسالة القصصية مزيج بين الرسالة الأدبية والسرد؛ وهي أحد نماذج الرسائل التي يمكن تصنيفها على أساس معيار حضور السرد في مقام الترسل. وقد رصد صالح بن رمضان ثلاثة منازع في التركيب بين الرسالة والسرد في التراث العربي:
-الرسائل التي تخبر عن حادثة أو واقعة فيعاد بناؤها في قالب قصصي.
-الرسائل التي تنفتح على "السرد الذاتي أو تصوير الوقائع زمن كتابة الرسالة. وبهذا المنزع تثري الرسائل أدب التحدث عن النفس أو الوقائع دون أن تأخذ شكل الخبر أو القصة، بل تظل الإحالة على المقام واضحة تمام الوضوح، وفي هذا الجنس تتناثر المقاطع السردية في غضون مخاطبة القارئ."
-الرسائل المنفتحة على أجناس سردية تكاد تختفي فيها الرسالة، وتجعل القارئ يبتعد عن المقام المحتضن لها، وقد مثل الباحث لهذا النوع برسالتي الغفران والتوابع والزوابع أو رسائل المقامات الأندلسية.
ليس توظيف الرسائل في أجناس السرد سوى وجه من وجوه ظاهرة التفاعل بين السرد وفنون النثر في الأدب العربي القديم؛ حيث نجد أعمالا استخدمت فيها "الرسالة شكلا فنيا يسهم في بناء القصة، والتقدم بأحداثها، ووصف أشخاصها، وتحليل مواقفها."
إن بين الرسالة الأدبية والقصة علاقتين متقابلتين من حيث التركيب الخارجي، متكاملتين من حيث دور الرسالة في تطوير القصة. فنحن إذن إزاء جنس مركب من الرسالة والقصة.
يرى صالح بن رمضان أن "القاعدة الأجناسية" "تطرح إشكالية الحدود بين الأجناس الأدبية"، وتتجلى هذه القضية بوضوح في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري حيث يتبين أن هناك تفاعلا بين القصة والرسالة. فأبو العلاء المعري عمد إلى تطوير الكتابة في مقام الترسل خروجا من الإخبار إلى التخييل، ومن التحدث عن شخص تاريخي إلى الحديث عن شخصية قصصية صنعها خياله. لكنه على الرغم من إخراجه الترسل إلى حقل الأجناس الخيالية "فإنه لم يغفل، في غضون القصة عن إدراج عناصر تذكر بمقام الترسل كالدعاء، والشروح اللغوية." لقد تحول ابن القارح من شخص حقيقي إلى شخص خيالي يتصرف فيه أبو العلاء كما يتصرف القصاص في الشخوص التي يصنعها في قصصه."وهكذا يتضح أن منزلة القصة من الرسالة هي منزلة النص المتخيل من النص الواقعي، فهي رسالة مكتوبة إلى ابن القارح كما تكتب سائر المراسلات بين الأدباء، ولكنها جاوزت وظائف الرسالة الحقيقية إلى وظائف الرسالة الخيالية التي يتخذ فيها الترسل مطية للكتابة في جنس أدبي خيالي. "
ومن الدارسين الذين خاضوا في تجنيس هذا النوع السردي؛ ألفت الروبي التي تناولت نصين هامين في تراثنا الأدبي، هما رسالة الغفران ورسالة التوابع والزوابع. فهي ترى في تحليلها لرسالة الغفران أن الوضعية الاجتماعية والفكرية للمجتمع العربي في عصر أبي العلاء حفزته إلى توليد نوع جديد(الرسالة-القصة) حاول أن يتجاوز به الأنواع التقليدية لا سيما الشعر. إنها مغامرة أدبية أراد بها أبو العلاء أن يتجاوز وضعيته بوصفه شاعرا إلى وضعية السارد الذي ينتج خيالا قصصيا. وقد ساعده على توليد هذا النوع وضعه الفردي الذي مكنه من استقراء كل ما يمكن الإفادة به قصصيا في التراث العربي القديم، وتوظيفه في توليد هذا الشكل القصصي، من شعر ونثر ولغة وأخبار.
وفي تحليلها لرسالة التوابع والزوابع وقفت الباحثة في سياق تجنيسها لهذا النص على أحد أبرز مكوناته وهو تعدد الأصوات؛ ففي النص تراسل عد أنواع: الشعر والرسائل والمقامات وقصص الحيوان؛ أي إن ابن شهيد اعتمد في صياغة نصه على "الموروث الشعري والنثري بعد أن استقر لديه إلى حد ما هذا الوعي القصصي. وقد تم تجاوز هذه الأنواع من خلال تعددية الأصوات المتمثلة في استحضار الأموات والأحياء (أحيانا) من شعراء وكتاب وغيرهم من المنتمين إلى عصور زمنية وأدبية مختلفة."
لقد استطاع الإطار القصصي في الرسالة أن يستوعب تعدد الأنواع معتمدا في ذلك على ثلاثة عناصر أساس تحققت في النص بشكل واضح وهي السرد والحوار والوصف. ولقد منح هذا التعدد إمكانات تجاوز الغنائية الشعرية التقليدية الرفيعة في هذا النص، حيث تشكلت اللغة النثرية في الرسالة من مستويات متعددة."
لقد ارتكزت قراءة ألفت الروبي للرسالة على إبراز تشكل نوع قصصي جديد في تراثنا قام على استيعاب جملة من الأنواع؛ وكأنها بذلك أرادت أن تؤكد تصور ميخائيل باختين الذي ألح على النثر السردي الحديث قام على تعدد الأصوات والأساليب.
خلاصة
ما نخلص إليه في هذه الدراسة هو تأكيد المبدأ النظري القائل بأن التحولات التي يخضع لها وعي القراء وحاجاتهم وتصوراتهم ورؤاهم، تؤثر في بنية النص المقروء وفي دلالاته ووظائفه وقيمه؛ فالأجناس السردية القديمة لم تكف عن التحقق في وعي قرائها وفي تمثلاتهم المختلفة لها. لقد اكتسبت المقامة والنادرة والخبر والرسالة القصصية وغيرها من أجناس السرد العربي القديم دلالات وقيما مختلفة عبر تاريخ التلقي؛ فقد خضعت في البداية إلى ضرب من المقارنة غير المتكافئة مع فنون السرد الحديث، مما عرضها للإدانة والتحقير، وفي أحيان أخرى كان القراء يستظلون بخبرتهم القصصية الحديثة بحثا عن نظائر تراثية في ضرب من الدفاع عن الذات والإعلاء من قيمتها مما جعل فنونا من سردنا القديم تتحول إلى نسخ أولية غير ناضجة لفنون السرد الحديث. ثم تشكَّل بعد ذلك وعي مغاير صدر عن رؤية استكشافية لا تدافع ولا تهاجم؛ إنه الوعي الذي تسلح به مجموعة من القراء الذين أسهموا في فهم تراثنا السردي والكشف عن هويته وخصوصيته بغض النظر عن علاقته بأجناس السرد الحديث. وفي جميع الأحوال ظل تراثنا السردي مرتهنا إلى تحولات سياقات القراءة وتبدلات وعي القراء.
د. عبدالواحد التهامي العلمي
الجزء الثامن من دراسة " السرد العربي القديم .. " لــ د. عبد الواحد التهامي العلمي . منشور في جريدة " الشمال " الزاهرة ، عدد يوم السبت 4 نوفمبر 2023 .