(تمرُّ وحدك إلى رئتَي)
يمرُّ الوقتُ في غيابكَ
كمقصلةٍ تحزُّ رؤوسَ
خِرافِ الحكاياتِ المبهجِةِ
التي كنتُ أرويها لكَ
أراها تسقطُ الآن
فوقَ غيم أفكاري
تعكِّرُ طعم الضحكات المشاكسة
التي مازال طعمُها
عالقًا بين أضراسي
أُغمض عينَيْ
قبل أن يشتدَّ الشوقُ
فتخرجَ من ألبوم الصور
متسللاً من تحت جلدي
أتملَّصُ من بين يدَيكَ
كطفلةٍ متمرِّدةٍ
على قوانين العشق
فتحاصرُني كفكرةٍ
لا تجيد وضع
أحمر الشفاه
ولا مساحيق التجميل
تزداد بريقًا
كلما نضجتْ
في إناء فكركَ
لا تجيدُ فنَّ الاختباء
يتجلى وجهها الخمريُّ
في كأس شايكَ
في رغيف خبزِكَ
في الصور المزدحمة
بأناس حياتِكَ
على حائطِ غرفتِكَ
التي كلما مسحتَها
رأيتَني رغم الغياب
ورأيتُكَ... رأيتُكَ
تبتلعُ الفراغ
وترسلُ لي في الحلم
نصَّكَ الأخيرَ لأستبدلَ
همزاتِ القطع فيه
بهمزات وصلٍ
فأفعل بابتسامةٍ حنون، وأكتب:
أفتقد نظرتكَ لهذا اليوم، أما نظرتك التي أرسلتها لي بالأمس، فقد كانت حزينةً رغم ابتسامتك التي غالباً ما أفتقدُها في صورِكَ
لأنها لا تخرج من قلبكَ كما كنت تقول لي، وبما أنك صادقٌ في كلِّ شيءٍ، ولا تزايد على ابتساماتٍ مصطنعةٍ، أدوزن كلماتي، فتسحبُ نفسًا عميقًا من سيجارتك، وتسجِّل عدد حيواتي التي أعيشها معك:
في النَّفَس الأول:
تبسطُ أوراقكَ
فوق تضاريس جسدي
فتنضجُ الكلمات
في النَّفَس الثاني:
تضبطُ نبضكَ
على مقياس أنفاسي
وأنت تلجُ الغابة بحذَرٍ
في النَّفس الثالث:
ينفرطُ ريقُ الشوقِ
فتَعلُق أصابعُكَ
بأزرار التفاصيل
في النَّفس الرابع:
يصير الهواء
باقات وردٍ وفلٍّ
وتمرُّ وحدك إلى رئتَيْ
عبر أثيره
وقبل أنْ أرسلَ
النَّفس الخامس
تكتب:
نحن مزيجٌ من نارٍ ونورٍ
يسكن في روحَين
فلا تنطفئي في غيابي
ولا تخمدُ ناري
حتى في التحامي بكِ
إيمان فجر السيد/ سوريا
**
رؤية نقدية:
عادةً لا أحبِّذ أن ينحوَ قلمي النقدي ليسطِّر رؤىً نقديةً أكاديميةً تنتمي للمدرسة الكلاسيكية ( التقليدية) للنقد، ليس إنكارًا لها، ولكنني فقط لا أحب ذلك؛ إذ أنَّ مدرستي النقدية - التي أتبعها في جلّ قراءاتي- تميل لانسيابية السرد النقدي صوب صياغة نصٍ نقديٍّ أدبيٍّ كقطعةٍ نثريةٍ أدبيةٍ مضافةٍ، وذلك مرجعه إلى أنني شاعرٌ وأقرأ أيَّ نصٍّ أدبيٍّ بروح شاعرٍ وليس بمشرط ناقدٍ.
يدهشني الحبك والسبك وطلاوة الحرف والمشهدية الكاملة للنص المؤتلفة من جمله المسرودة، ويستوقفني متأملًا الإدهاش فأندهش، كما يستوقفني الخلل فأستاء
تلك كانت مقدمةٌ اضطررت إليها، لا لشيءٍ إلا لأنني سأغادر قاعدتي النقدية التي ألفتُ السكن فيها، وأتمنى أن أعود إليها سالمًا.
العنوان: (تمر وحدك إلى رئتي)
عنوان خرج عن عمدٍ عن المألوف من عناوين القصائد ومال جزئيًا نحو المستحدث كعناوين للقص القصير الحديث وما بعد الحداثة ( العنوان جملة وليس كلمةً أو شبه جملةٍ ) والسؤال الملِّح قبل السؤال الواجب: لم هو؟!
هل تركت العنونة بلا شعرٍ وصاغتها نثرًا فقط؟
أقولها عن ثقةٍ، لا، بل أضفتِ الشعرية على العنوان إذ صاغته في صورٍ بلاغيةٍ مركبةٍ مكتملةٍ ( كنايةً )، انظروا معي:
"تمر وحدك إلى رئتي"
هو المار انسيابًا أو تسللاً إليها، هى كمشاعرَ مرسلةٍ لقلب يستقبل، شبهته بالهواء وكنَّتْ عن نفسها بالرئة في صورةٍ بلاغيةٍ جزئيةٍ ( المجاز/ الجزء عن الكل ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ) الآية.
الاستهلال : دخولٌ مباشرٌ للحدث المحكي عنه( الغياب) تمامًا كما ننتهج في الصياغة السردية، لكنها حولته ببراعةٍ إلى شعرٍ إذ صاغت توابع الغياب شعرًا.
البنية الهندسية للنص :
وقبل الولوج إليها، تستعيد ذاكرتنا العنوان المزيج من السرد والشعر في آنٍ معًا، وهنا نجيب عن السؤال الواجب، لم؟! والإجابة نراها جليةً في البنية الهندسية للنص، حين نرى أنه مكونٌ من ثلاثة مقاطعٍ:
الأول شعر، الثاني سرد، والأخير شعر
أي أنَّ الأديبة جمعت بين فنَّيِّن أدبيين ( الشعر والسرد) وبمعنىً آخرً:
مزجت بين القصيدة والقصة، فلم تُنشئ شعرًا حكائيًا، ولم تشعر قصيدةً نثريةً، وإنما أنشأت قصةً وغلَّفتها بقصيدة( شعر/ قصة/ شعر).
تعمدت الكاتبة ألا تبدو قطعتها النثرية أقرب إلى القصيدة النثرية، بل صاغتها سردًا منثورًا خلا من الموسيقى الداخلية المتميِّزة بها قصيدة النثر، إذ أدخلت أسم الوصل ( التي) وهى القادرة بذاتها على كسر أي موسيقى داخلية ( إحساسًا/ لأنها شارحة) وأي موسيقى خارجية ( إيقاع/ لأنها مستوقفةٌ للتناغم العروضي عادةً)
البراعة التصويرية:
تنوعت مصادر الصور البلاغية الجزئية المكونة للصورة الكلية بين تشبيهٍ ومشبهٍ به ( الوقت كمقصلةٍ)، واستعاراتٌ مكنيةٌ مباشرةٌ (خراف الحكايات المبهجة) واستعاراتٌ مكنيةٌ غير مباشرةٍ (تعكر طعم الضحكات المشاكسة) وكناياتٌ ( تخرج من ألبوم الصور)
ومن المحسنات البلاغية نجد رؤوس وأضراس، تسقط/ فوق، العشق الشوق، تبتلع/ ترسل، الفراغ/ الحلم...تلك كلها نماذج من جماليات بلاغية حفل بها النص واحتشد، وظَّفتها المبدعة ببراعة لخدمة الفكرة والتعبير عنها..فما هى فكرة النص؟
الفكرة :
الغياب، والغياب حالةٌ وحدثٌ، وتوابعه وجدانيةٌ معنويةٌ وماديةٌ، والحالة تستلزم دفقةً شعوريةً للتعبير عنها، لذا كان الشعر مبتغاها، والحدث يستوجب لزامًا قصة للتعبير عنه، لذا كان السرد طريقها.
البناء الدرامي :
من حالة غياب وتأثيرها المباشر على المغيب عنه، إلى حالة استرجاع ذكريات جمعت بين الطرفين، لتمهِّد الطريق لخاتمة النص الرائعة والموصفة في تصويرية ناطقةً مشتعلةً بل في أوج اشتعالها للقاء متخيَّلٍ بعد غيابٍ مضنٍ، زاوجت فيها المبدعة -بمهارةٍ أغبطها عليها- بين أنفاس سيجارةٍ مشتعلةٍ لذكر ينفث دخانها تباعًا في حلقاتٍ دائريةٍ متصاعدةٍ، يلاحق بها أنفاس أنثى حارة في أوج توهُجّها.
***
القراءة:
المشهد واحد والمقتطع ثلاثة، ثلاثة مقاطع متصلةً رغم أن بدايتها "مقصلة تحز الرؤوس" ونهايتها "نور ونار" لايطفئهما
إيمان
إيمان السيد
جذوة التحام، وكما يتردد بندول ساعةٍ حريصٍ على الرتابة الحركية من أولها لمنتهاها، تتردد المشاعر الوجدانية في كلا الاتجاهين، لا تتوقف عند اتجاهٍ إلا وغادرته إلى نقيضه، فالإبتسامة باعث بهجةٍ، لكنها مصطنعةٌ لا تُسمن ولا تُغني، والحكايات المبهجة تسقط من علٍ، فاقدةً بهجتها لتعكِّر ضحكات بريئة، ولتَعَلق فلا هى تلاشتْ ولا هى استقرَّتْ.
رأس / أفكار / ضحكات / أضراس
أربع كلماتٍ رئيسةً شكَّلت البنية الهندسيَّة للجزء الاول من المقطع الأول، تتصيدها مقصلة الغياب، فتلون طعم الضحكة، وحدُّ المقصلة قاطعٌ حادٌ يعقبه نزيف دمٍ، والعكارة تلوث الفكر وتشتته بين يأسٍ وأملٍ، والحكايات المبهجة تتحول إلى غيمٍ.
هو الغياب وتوابعه، وما يسببه من مواتٍ معنويٍّ وتردٍّ نفسي، فلا هو بالقطيعة الأبدية رغم شدته ( الوقت حينئذٍ مقصلةٌ)، ولا هو بالوصال السرمدي، ولا هو بالنصر المؤزَّر، ولا هو بالهزيمة الساحقة، إنما هو غيمٌ أفكارٍ عالقٌ بين سماءٍ وأرضٍ تمثلت في رأس، أناب عنه أضراسه
هكذا صورت الشاعرة الغياب وفعله في المغيب عنه، ولكن هل اكتفت بحيرته؟...لا بل واصلت ليمتدَّ أثره على العين المحرومة من رؤية غائب، وواصلت لترتعش منه شفاهٌ لا يجدي معها طلاء أحمر شفاهٍ، وواصلت تستمدُّ بريق أملٍ من ذكريات طفلةٍ متمردةٍ، تسلَّلت يومًا من تحت جلده، وتملَّصت من قبضة يديه، لكنها لا تجيد الاختباء، وإن كانت تجيده فلن تفعله، فالتمرد على قوانين العشق حالةٌ مؤقتةٌ، تلجأ لها الأنثى تدللاً وتمنعًا، إذ كيف تتمرد على عشقها، وهى القابعة في فنجان شايه، ومذاقها في رغيف خبزه؟!.
في المقطع الثاني من المشهد تشرع المُحبة في تدوين اللحظة بعدما أنهكها الغياب وغيم الفكر وألبوم الصور، تفتقده وابتسامته، تبثه لوعتها، وتتخيله يراها فتراها يشعل سيجارته، فتشتعل نار رغبتها، لتمده بأنفاسها الحارة تهيئةً وتوطئةً وإقدامًا واشتعالاً ...
في النفس الاول:
(التهيئة) ببسط الأوراق فتتجاوب الحروف لتنضح الكلمات.
في النفس الثاني: ( التوطئة)
( وقدموا لأنفسكم/ الآية ) ....
يتم ضبط الإيقاع النبض يتناغم مع الأنفاس، بينما الشوق يخطو ليعانق شوقًا
في النفس الثالث:( الإقدام )
يمدُّ الشوق أصابعه ليحرر التفاصيل من إزارها المقيِّد لإنطلاقتها.
في النفس الرابع: ( الاشتعال)
يصير الهواء باقات وردٍ وفلٍ ينساب إلى الرئة ناعمًا منتشيًا، يحمل بين يديه عبيره لتستكين ثورة الرئة
وقبل النفس الخامس: ( الختام)
تسلمه الراية، وهو الجدير باستلامها، فيرسلها نظرة رجاءٍ ألا تُطفئ النار والنور، ولتبقيهما في اشتعالٍ أبديٍّ
ذكرني هذا المقطع الأخير( الشعري) بمقطعٍ نثريٍّ قرأته منذ مدةٍ للمبدع المصري
(مجدي شعيشع)، وقلت له وقتئذٍ:"اقتطع هذه الفقرة من قصتك القصيرة، وضعها في إطارٍ مذهَّبٍ، وعلقها على حائط مكتبتك، ولو لم تكتب غيرها لكَفَتك"وها أنا أقول لكِ وبملء فمي أيتها الأديبة السورية:"لو لم تكتبِ غيره لكفاك مبدعةً"
أيُّ إذهالٍ هذا الذي حين قرأته استوقفني مذهولاً مغتطبًا مندهشًا ومنتشيًا أيضًا تصويرٌ بحروفٍ ناطقةٍ لا تكتب ولا تقرأ بل تتكلم وتبوح وتشي وتنضح!
أيُّ رقةٍ هذه وبلاغةٍ أبدعتها!هى اللحظة بكل تفاصيلها الحسية والوجدانية، هي البراعة والتمكن، هى المخيلة الخصبة التي أنعم الله بها عليها، فأجادت الاستفادة منها، لتنسج لنا ثوب عرسٍ لقصائدها، وتاجًا لإبداعاتها رصَّعته بأحرف ماسيةٍ، ولكنها في حقيقتها من نورٍ ونارٍ لا ينطفئان أبدًا.
محمد البنا... القاهرة في ١٨ يناير ٢٠٢٣
يمرُّ الوقتُ في غيابكَ
كمقصلةٍ تحزُّ رؤوسَ
خِرافِ الحكاياتِ المبهجِةِ
التي كنتُ أرويها لكَ
أراها تسقطُ الآن
فوقَ غيم أفكاري
تعكِّرُ طعم الضحكات المشاكسة
التي مازال طعمُها
عالقًا بين أضراسي
أُغمض عينَيْ
قبل أن يشتدَّ الشوقُ
فتخرجَ من ألبوم الصور
متسللاً من تحت جلدي
أتملَّصُ من بين يدَيكَ
كطفلةٍ متمرِّدةٍ
على قوانين العشق
فتحاصرُني كفكرةٍ
لا تجيد وضع
أحمر الشفاه
ولا مساحيق التجميل
تزداد بريقًا
كلما نضجتْ
في إناء فكركَ
لا تجيدُ فنَّ الاختباء
يتجلى وجهها الخمريُّ
في كأس شايكَ
في رغيف خبزِكَ
في الصور المزدحمة
بأناس حياتِكَ
على حائطِ غرفتِكَ
التي كلما مسحتَها
رأيتَني رغم الغياب
ورأيتُكَ... رأيتُكَ
تبتلعُ الفراغ
وترسلُ لي في الحلم
نصَّكَ الأخيرَ لأستبدلَ
همزاتِ القطع فيه
بهمزات وصلٍ
فأفعل بابتسامةٍ حنون، وأكتب:
أفتقد نظرتكَ لهذا اليوم، أما نظرتك التي أرسلتها لي بالأمس، فقد كانت حزينةً رغم ابتسامتك التي غالباً ما أفتقدُها في صورِكَ
لأنها لا تخرج من قلبكَ كما كنت تقول لي، وبما أنك صادقٌ في كلِّ شيءٍ، ولا تزايد على ابتساماتٍ مصطنعةٍ، أدوزن كلماتي، فتسحبُ نفسًا عميقًا من سيجارتك، وتسجِّل عدد حيواتي التي أعيشها معك:
في النَّفَس الأول:
تبسطُ أوراقكَ
فوق تضاريس جسدي
فتنضجُ الكلمات
في النَّفَس الثاني:
تضبطُ نبضكَ
على مقياس أنفاسي
وأنت تلجُ الغابة بحذَرٍ
في النَّفس الثالث:
ينفرطُ ريقُ الشوقِ
فتَعلُق أصابعُكَ
بأزرار التفاصيل
في النَّفس الرابع:
يصير الهواء
باقات وردٍ وفلٍّ
وتمرُّ وحدك إلى رئتَيْ
عبر أثيره
وقبل أنْ أرسلَ
النَّفس الخامس
تكتب:
نحن مزيجٌ من نارٍ ونورٍ
يسكن في روحَين
فلا تنطفئي في غيابي
ولا تخمدُ ناري
حتى في التحامي بكِ
إيمان فجر السيد/ سوريا
**
رؤية نقدية:
عادةً لا أحبِّذ أن ينحوَ قلمي النقدي ليسطِّر رؤىً نقديةً أكاديميةً تنتمي للمدرسة الكلاسيكية ( التقليدية) للنقد، ليس إنكارًا لها، ولكنني فقط لا أحب ذلك؛ إذ أنَّ مدرستي النقدية - التي أتبعها في جلّ قراءاتي- تميل لانسيابية السرد النقدي صوب صياغة نصٍ نقديٍّ أدبيٍّ كقطعةٍ نثريةٍ أدبيةٍ مضافةٍ، وذلك مرجعه إلى أنني شاعرٌ وأقرأ أيَّ نصٍّ أدبيٍّ بروح شاعرٍ وليس بمشرط ناقدٍ.
يدهشني الحبك والسبك وطلاوة الحرف والمشهدية الكاملة للنص المؤتلفة من جمله المسرودة، ويستوقفني متأملًا الإدهاش فأندهش، كما يستوقفني الخلل فأستاء
تلك كانت مقدمةٌ اضطررت إليها، لا لشيءٍ إلا لأنني سأغادر قاعدتي النقدية التي ألفتُ السكن فيها، وأتمنى أن أعود إليها سالمًا.
العنوان: (تمر وحدك إلى رئتي)
عنوان خرج عن عمدٍ عن المألوف من عناوين القصائد ومال جزئيًا نحو المستحدث كعناوين للقص القصير الحديث وما بعد الحداثة ( العنوان جملة وليس كلمةً أو شبه جملةٍ ) والسؤال الملِّح قبل السؤال الواجب: لم هو؟!
هل تركت العنونة بلا شعرٍ وصاغتها نثرًا فقط؟
أقولها عن ثقةٍ، لا، بل أضفتِ الشعرية على العنوان إذ صاغته في صورٍ بلاغيةٍ مركبةٍ مكتملةٍ ( كنايةً )، انظروا معي:
"تمر وحدك إلى رئتي"
هو المار انسيابًا أو تسللاً إليها، هى كمشاعرَ مرسلةٍ لقلب يستقبل، شبهته بالهواء وكنَّتْ عن نفسها بالرئة في صورةٍ بلاغيةٍ جزئيةٍ ( المجاز/ الجزء عن الكل ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ) الآية.
الاستهلال : دخولٌ مباشرٌ للحدث المحكي عنه( الغياب) تمامًا كما ننتهج في الصياغة السردية، لكنها حولته ببراعةٍ إلى شعرٍ إذ صاغت توابع الغياب شعرًا.
البنية الهندسية للنص :
وقبل الولوج إليها، تستعيد ذاكرتنا العنوان المزيج من السرد والشعر في آنٍ معًا، وهنا نجيب عن السؤال الواجب، لم؟! والإجابة نراها جليةً في البنية الهندسية للنص، حين نرى أنه مكونٌ من ثلاثة مقاطعٍ:
الأول شعر، الثاني سرد، والأخير شعر
أي أنَّ الأديبة جمعت بين فنَّيِّن أدبيين ( الشعر والسرد) وبمعنىً آخرً:
مزجت بين القصيدة والقصة، فلم تُنشئ شعرًا حكائيًا، ولم تشعر قصيدةً نثريةً، وإنما أنشأت قصةً وغلَّفتها بقصيدة( شعر/ قصة/ شعر).
تعمدت الكاتبة ألا تبدو قطعتها النثرية أقرب إلى القصيدة النثرية، بل صاغتها سردًا منثورًا خلا من الموسيقى الداخلية المتميِّزة بها قصيدة النثر، إذ أدخلت أسم الوصل ( التي) وهى القادرة بذاتها على كسر أي موسيقى داخلية ( إحساسًا/ لأنها شارحة) وأي موسيقى خارجية ( إيقاع/ لأنها مستوقفةٌ للتناغم العروضي عادةً)
البراعة التصويرية:
تنوعت مصادر الصور البلاغية الجزئية المكونة للصورة الكلية بين تشبيهٍ ومشبهٍ به ( الوقت كمقصلةٍ)، واستعاراتٌ مكنيةٌ مباشرةٌ (خراف الحكايات المبهجة) واستعاراتٌ مكنيةٌ غير مباشرةٍ (تعكر طعم الضحكات المشاكسة) وكناياتٌ ( تخرج من ألبوم الصور)
ومن المحسنات البلاغية نجد رؤوس وأضراس، تسقط/ فوق، العشق الشوق، تبتلع/ ترسل، الفراغ/ الحلم...تلك كلها نماذج من جماليات بلاغية حفل بها النص واحتشد، وظَّفتها المبدعة ببراعة لخدمة الفكرة والتعبير عنها..فما هى فكرة النص؟
الفكرة :
الغياب، والغياب حالةٌ وحدثٌ، وتوابعه وجدانيةٌ معنويةٌ وماديةٌ، والحالة تستلزم دفقةً شعوريةً للتعبير عنها، لذا كان الشعر مبتغاها، والحدث يستوجب لزامًا قصة للتعبير عنه، لذا كان السرد طريقها.
البناء الدرامي :
من حالة غياب وتأثيرها المباشر على المغيب عنه، إلى حالة استرجاع ذكريات جمعت بين الطرفين، لتمهِّد الطريق لخاتمة النص الرائعة والموصفة في تصويرية ناطقةً مشتعلةً بل في أوج اشتعالها للقاء متخيَّلٍ بعد غيابٍ مضنٍ، زاوجت فيها المبدعة -بمهارةٍ أغبطها عليها- بين أنفاس سيجارةٍ مشتعلةٍ لذكر ينفث دخانها تباعًا في حلقاتٍ دائريةٍ متصاعدةٍ، يلاحق بها أنفاس أنثى حارة في أوج توهُجّها.
***
القراءة:
المشهد واحد والمقتطع ثلاثة، ثلاثة مقاطع متصلةً رغم أن بدايتها "مقصلة تحز الرؤوس" ونهايتها "نور ونار" لايطفئهما
إيمان
إيمان السيد
جذوة التحام، وكما يتردد بندول ساعةٍ حريصٍ على الرتابة الحركية من أولها لمنتهاها، تتردد المشاعر الوجدانية في كلا الاتجاهين، لا تتوقف عند اتجاهٍ إلا وغادرته إلى نقيضه، فالإبتسامة باعث بهجةٍ، لكنها مصطنعةٌ لا تُسمن ولا تُغني، والحكايات المبهجة تسقط من علٍ، فاقدةً بهجتها لتعكِّر ضحكات بريئة، ولتَعَلق فلا هى تلاشتْ ولا هى استقرَّتْ.
رأس / أفكار / ضحكات / أضراس
أربع كلماتٍ رئيسةً شكَّلت البنية الهندسيَّة للجزء الاول من المقطع الأول، تتصيدها مقصلة الغياب، فتلون طعم الضحكة، وحدُّ المقصلة قاطعٌ حادٌ يعقبه نزيف دمٍ، والعكارة تلوث الفكر وتشتته بين يأسٍ وأملٍ، والحكايات المبهجة تتحول إلى غيمٍ.
هو الغياب وتوابعه، وما يسببه من مواتٍ معنويٍّ وتردٍّ نفسي، فلا هو بالقطيعة الأبدية رغم شدته ( الوقت حينئذٍ مقصلةٌ)، ولا هو بالوصال السرمدي، ولا هو بالنصر المؤزَّر، ولا هو بالهزيمة الساحقة، إنما هو غيمٌ أفكارٍ عالقٌ بين سماءٍ وأرضٍ تمثلت في رأس، أناب عنه أضراسه
هكذا صورت الشاعرة الغياب وفعله في المغيب عنه، ولكن هل اكتفت بحيرته؟...لا بل واصلت ليمتدَّ أثره على العين المحرومة من رؤية غائب، وواصلت لترتعش منه شفاهٌ لا يجدي معها طلاء أحمر شفاهٍ، وواصلت تستمدُّ بريق أملٍ من ذكريات طفلةٍ متمردةٍ، تسلَّلت يومًا من تحت جلده، وتملَّصت من قبضة يديه، لكنها لا تجيد الاختباء، وإن كانت تجيده فلن تفعله، فالتمرد على قوانين العشق حالةٌ مؤقتةٌ، تلجأ لها الأنثى تدللاً وتمنعًا، إذ كيف تتمرد على عشقها، وهى القابعة في فنجان شايه، ومذاقها في رغيف خبزه؟!.
في المقطع الثاني من المشهد تشرع المُحبة في تدوين اللحظة بعدما أنهكها الغياب وغيم الفكر وألبوم الصور، تفتقده وابتسامته، تبثه لوعتها، وتتخيله يراها فتراها يشعل سيجارته، فتشتعل نار رغبتها، لتمده بأنفاسها الحارة تهيئةً وتوطئةً وإقدامًا واشتعالاً ...
في النفس الاول:
(التهيئة) ببسط الأوراق فتتجاوب الحروف لتنضح الكلمات.
في النفس الثاني: ( التوطئة)
( وقدموا لأنفسكم/ الآية ) ....
يتم ضبط الإيقاع النبض يتناغم مع الأنفاس، بينما الشوق يخطو ليعانق شوقًا
في النفس الثالث:( الإقدام )
يمدُّ الشوق أصابعه ليحرر التفاصيل من إزارها المقيِّد لإنطلاقتها.
في النفس الرابع: ( الاشتعال)
يصير الهواء باقات وردٍ وفلٍ ينساب إلى الرئة ناعمًا منتشيًا، يحمل بين يديه عبيره لتستكين ثورة الرئة
وقبل النفس الخامس: ( الختام)
تسلمه الراية، وهو الجدير باستلامها، فيرسلها نظرة رجاءٍ ألا تُطفئ النار والنور، ولتبقيهما في اشتعالٍ أبديٍّ
ذكرني هذا المقطع الأخير( الشعري) بمقطعٍ نثريٍّ قرأته منذ مدةٍ للمبدع المصري
(مجدي شعيشع)، وقلت له وقتئذٍ:"اقتطع هذه الفقرة من قصتك القصيرة، وضعها في إطارٍ مذهَّبٍ، وعلقها على حائط مكتبتك، ولو لم تكتب غيرها لكَفَتك"وها أنا أقول لكِ وبملء فمي أيتها الأديبة السورية:"لو لم تكتبِ غيره لكفاك مبدعةً"
أيُّ إذهالٍ هذا الذي حين قرأته استوقفني مذهولاً مغتطبًا مندهشًا ومنتشيًا أيضًا تصويرٌ بحروفٍ ناطقةٍ لا تكتب ولا تقرأ بل تتكلم وتبوح وتشي وتنضح!
أيُّ رقةٍ هذه وبلاغةٍ أبدعتها!هى اللحظة بكل تفاصيلها الحسية والوجدانية، هي البراعة والتمكن، هى المخيلة الخصبة التي أنعم الله بها عليها، فأجادت الاستفادة منها، لتنسج لنا ثوب عرسٍ لقصائدها، وتاجًا لإبداعاتها رصَّعته بأحرف ماسيةٍ، ولكنها في حقيقتها من نورٍ ونارٍ لا ينطفئان أبدًا.
محمد البنا... القاهرة في ١٨ يناير ٢٠٢٣