د. أحمد الحطاب - متى يستفيق العالم الغربي من نفاقه؟

متى يستفيق العالمُ الغربي، وعلى رأسه، الولايات المتحدة الأمريكية، من نفاقه؟

يستفيق من نفاقه، لأن العالمَ الغربي يعرف، حق المعرفة، أن إسرائيل، كدولة، هي مجرَّد حادثة التاريخ un accident de l'histoire، وأنه، أي العالم الغربي، هو أول وآخِر مَن تسبَّب في وقوعها. ويعرف كذلك، حقَّ المعرفة، أنه هو مَن اختار مكان وقوعها، بل هو مَن تعمَّد هذا الاختيار وحاكَ خيوطَ هذه الحادثة. وحِياكتُه هذه هي التي حوَّلت مجرَّد حادثة التاريخ إلى حَدَثٍ أراد العالمُ الغربي أن يُرسِّخَه في هذا التاريخ. فسمَّاه دولة إسرائيل وفرضه على الوطن العربي، في فترةٍ فَقَدَ فيها هذا الأخيرُ، ولا يزال، كلَّ مقوِّمات القوة بجميع مظاهرِها. بل في فترة كان الوطنُ العربي يرزح تحت وطأة الاستعمار الأوروبي. وهذا يعني أن العالمَ الغربي، بجُبْنٍ مقيت، استغلَّ ضعفَ العالمِ العربي ليبثَّ فيه ذلك الدَّخيلَ المسمى "دولة إسرائيل". والعالم الغربي يعرف، كذلك حقَّ المعرفة، أن حادثةَ التاريخ هذه مصيرُها الزوال. فبعد فشله، طيلةَ 75 سنة في فرضِها على الوطن العربي بقوة القانون المزيف وبالخِداع والنفاق والتَّزوير والتَّحريف، لم يبق له إلا اللجوء إلى قوة السلاح للوصول إلى مبتغاه.

غير أن العالم الغربي نسي أو تناسى، ولا شك أنه تناسى أن الأرضَ التي أقام عليها دولةَ إسرائيل لا يمكلِها لا هو ولا كِيانُه المصطنع. هذه الأرض لها أصحابُها. والتاريخ، الذي أرادوا تزويرَه، يشهد، منذ القِدم، أن أصحابَ الأرض هم الفلسطينيون علما أن الدين لا علاقةَ له بالانتماء لأية بقعة من بِقاع الأرض. الدين موجَّهٌ لوِجدان البشر ولقلوبهم ولعقولهم أينما وُجِدوا. وبقاع الأرض مليئةٌ بالمتدينين وغير المتدينين. وكل متديِّن بإمكانه أن يُمارسَ طقوسَ دينه في جميع أماكِن الأرض. وكم هي كثيرة أماكن الأرض التي تعاقبت عليها الأديان السماوية والأديان الوضعية. وكم هي كثيرة أماكن الأرض التي تساكنت وتتساكن فيها الأديان السماوية والأديان الوضعية. فإدِّعاء العالم الغربي وإسرائيل أن أرضَ فلسطين هي "الأرضُ الموعودة" terre promise لليهود، حسب ما جاء في التَّوراة، فهو إدِّعاءٌ باطل، علما أن التوراةَ والإنجيلَ تعرَّضا للتَّحريف والتَّزوير. ولهذا، فزرع إسرائيل في قلب الوطن العربي، هو، قبل كل شيء، عملٌ سياسي مدروس ومحسوب. بل إنه تموقُعٌ جيوسياسي وجيواستراتيجي، يُريد من ورائه العالمُ الغربي وضعَ عينٍ على الوطن العربي وبثِّ الفتنة والتَّفرقة في صفوفِه. كيف ذلك؟

العالمُ الغربي بثَّ إسرائيل في قلب الوطن العربي، كما سبق الذكرُ، لأغراضٍ جيوسياسية وجيواستراتيجية. وحتى يُرسِّخَ هذا البثَّ (الجسم الغريب corps étranger)، لم يتوقَّف، منذ نشأة هذا الكِيان إلى يومنا هذا، عن دعمِه دعماً مطلقاً ولا مشروطاً وفي جميع المجالات وعلى رأسِها المجال الاقتصادي والتَّكنولوجي والعسكري. ولتقوية هذا الكِيان وجعلِ وجوده وبثِّه في قلب الوطن العربي أكثر متانةً وترسيخاً، أنشاَ العالمُ الغربي، وبالأحص، الولايات المتحدة، ما يُسمَّى ب"اتِّفاقيات أبراهام" les accords d'Abraham، التي، ليست، في الحقيقة، إلا خطواتٌ أو لِنَقُل أكذوبات مدروسة ومحسوبة لضمان تثبيت إسرائيل في قلب العالم العربي.

ولهذا، فإن العالمَ الغربي، وعلى رأسِه الولايات المتحدة، يتصرَّف بنفاقٍ لا مثيلَ له. فحينما أنشأَ إسرائيل في قلب الوطن العربي، لجأ إلى حُجَجٍ دينية واهية. وبحُكم هذه الحُجج الواهية، إدَّعى أن اليهودَ لهم الحق في إنشاء دولةٍ خاصة بهم. ولا يخفى على إحدٍ أن هذفَه الأول والأخير وغير المُعلن، هو بسط نفوذه على هذا الوطن. وحينما لجأ العالمُ الغربي إلى ما سمَّاه "إتِّفاقيات أبراهام"، فإنه، كذلك، أخفى نواياه الحقيقية المتمثِّلة في ترسيخ وجود إسرائيل في قلب الوطن العربي. وهذا يعني أن هذه الحُجَجُ ليست، في الحقيقة، إلا غطاء اختبأَ ويختبئ وراءه لتحقيق أهدافِه غير المُعلنة. والعالمُ الغربي، عندما يسعى إلى تحقيق مصالحِه، فإنه يختبئ كذلك وراء الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدل والإنصاف والمساواة والحضارة والحداثة والعِلمانية والمواثيق الدولية الإنسانية، وميثاق الأمم المتحدة…

والعالمُ الغربي، الذي يدَّعي بأنه رائد في ممارسة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، يزداد نفاقُه ويتمادى في تضليل البشر وباقي دول العالم. فأين هي هذه الممارسة وأين هو هذا الاحترام لَما يرى بعينيه إسرائيل تُبيد وتستأصِل الفلسطينيين من الوجود. ويرى إسرائيل تقتل المدنيين وتهدم منازلَهم وترمي القنابل على المستشفيات وتقتل الأطفالَ والشيوخَ والنساءَ وتحرمهم من أبسط متطلَّبات الحياة… فكيف يُضَلِّلُ العالمُ الغربي أو كيف تضلِّل الدولُ الغربية (أعني حكَّامَ هذه الدول) مواطنيهم وباقي دول العالم؟

بعد الهجوم البري العنيف الذي شنَّته إسرائيل على غزة، ظهَرَ فرقٌ شاسِعٌ بين حكَّام الدول الغربية ومواطنيهم فيما يتعلق بالتَّشبُّث بالديمقراطية وبحقوق الإنسان. فبقدر ما أبان هؤلاء المواطنون، بمختلف مشاربهم الاجتماعية، الدينية، اللادينية، الثقافية، العِلمانية… وفي كثيرٍ من أكبر مدُن المعمور، عن تشبُّثِهم بالديمقراطية وعن وقوفهم، باسم هذه الديمقراطية، إلى جانب أهل غزة وحقوق الإنسان والعدل والإنصاف، فبقدر ما أبان حكَّامُ الدول الغربية عن تخلِّيهم عن كل القِيم الإنسانية، وذلك بوقوفهم، المُطلق، إلى جانب إسرائيل وتشجيعها على التَّقتيل والإبادة والخراب والدمار. بل إن حكَّامَ الدول الغربية هم مَن رفض ويرفض وقفَ إطلاق النار.

أليس هذا التَّصرُّف نفاقا ما بعده نفاق؟ فكيف لعالمٍ غربي يظهَر لمواطنيه ولباقي دول العالم كواحد من أكبر الممارسين للديمقراطية ومن أشرس المدافعين عن حقوق الإنسان، وهو أول مَن يدوسها بأقدامه؟ فليس من الغريب أن يثورَ المواطنون الشرفاء، في جميع أنحاء العالم، ضد حكامهم ويقفون إلى جانب الحق والعدل والإنصاف. فكيف لدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية أن يكونَ شعارُها هو in God we trust، أي nous croyons en Dieu أو نؤمِن بالله، وهي تتصرَّف وتقترف الفواحش والجرائم والآثام بما لا يُرضي اللهَ؟ وكيف لدولة مثل فرنسا التي شعارُها هو liberté égalité fraternité، أي حرية مساواة أخوة أن تقفَ إلى جانب الباطل وهي مبنيةٌ على قيمٍ إنسانية سامية؟

يبدو أن العالمَ الغربي (حكَّامُه) يسبح في تناقض صارخٍ مع ما تبناه من قيمٍ إنسانيةٍ بما فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان. لماذا هذا التَّناقض؟ لأن القيمَ الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان… ليست إلا واجهة يختبئ وراءها العالم الغربي ليظهرَ لباقي بلدان العالم كقاطِرةٍ لهذه الحقوق وهذه القيم، وكمدافعٍ شرسٍ عنها، لكنه، في الحقيقة، يستغِلُّها لتحقيق مآربِه الدَّنيئة غير المعلنة. أليس هذا نفاق ما بعده نفاق؟ والنفاق هو الظهورُ للملأ بوجهين : وجهٌ يظهِرُ كل الخير لهذا الملأ، و وجهٌ مبطَّنٌ كله شرٌّ ومكرُ وخِداعٌ مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (البقرة، 146). في هذه الآية، كلامُ الله موجَّه لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين يعرفون، حق المعرفة، أن محمدا (ص)، رسول الله، لكنهم يُنكِرون الحقَّ لأنهم يضمِرون الشرَّ للإسلام ولهم مآربٌ غير معلنة.

لا أظن أن العالمَ الغربي (أهل الكتاب) سيستفيق من نفاقه لأن هذا النفاق صفةٌ وِراثية انتقلت وتنتقل من جيلٍ لآخرَ قبل، أثناء وبعد مجيء الإسلام. اللهمَّ إن استعاد العالمُ العربي والإسلامي قوَّتَه المفقودة في الزمان الراهن!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى