د. محمد عباس محمد عرابي - ملامح التمسك بالأرض في شعر درويش الأسيوطي قصيدة (البيوت كأصحابها .. لا تموت) أنموذجًا

أما قبل نهى ديننا الحنيف عن كل ما ينال من كرامة الإنسان إذ لا يقبل
حر أن يُستباح عرضه أو يسلب وطنه وأرضه.
وقد أحسنت وزارة الأوقاف المصرية حين حددت موضوع خطبة
الجمعة اليوم 20 أكتوبر 2023، تحت عنوان الدفاع عن الأوطان
والأرض والعرض
؛ فالوطنية الحقيقية فداء، وتضحية، واعتزاز بالوطن والأرض والعرض
ولله در القائل:
بلاد مات فتيتها لتحيا
وزالوا دون قومهم ليبقوا
وقفتم بين موت أو حياة
وللأوطان في دم كل حر يَدُ سَلَقَت وَدَينُ مُتَحَقُ
وفي تراثنا المصري الأصيل رأينا كيف أن عواد لم يترك أرضه ،ومات
من أجل يأخذها أحد منه عكس ماهو سائد في الحكايات المنتشرة بين
الناس !!

وبعد

قبل أكثر من ربع قرن زرت مدينة البداري وبعض قراها الأصيلة مرات
عديدة، وشرفت بلقاء الشاعر القدير شاعرنا الكبير درويش الأسيوطي
مرات عديدة في أروقة الأدب والشعر والنقد في مدينة أسيوط مدينة العلم
والأدب، وقد رأيت في الجميع الأصالة في أجمل صورها نعم ولم لا ففي
أهل البداري عادات أهل أسيوط وأهل الصعيد وأهل مصر كافة :من
الشهامة والحمية والرجولة والعزة والإباء والشجاعة يموت المرء منهم
مدافعًا عن أرضه كما يموت مدافعًا عن عرضه

فمنذ فجر التاريخ منذ العصر الحجري قامت على أرض البداري أسيوط
وفي تاسا قامت أقدم حضارة في التاريخ؛ فالبداري تعني الأصالة والعراقة
والتاريخ المجيد، والتمسك بالقيم والإباء.
والإنسان ابن بيئته، فلقد اكتسب شاعرنا القدير درويش الأسيوطي من
بلدته البدراي كل هذه القيم العظيمة وأصقلها بفكره الأصيل من خلال
الاحتكاك بالمثقفين من خلال حياته بمدينة القاهرة وأسيوط وأسيوط الجديدة
وحله وترحاله في مدن مصر والدول العربية.
وتجلت قيم الأصالة والتمسك بالأرض بينة جلية في شعره فأنت تشعر
بأصالة يفوح أريجها في شعره حيث النخوة والإباء والتمسك بالأرض
فالبيوت كأصحابها .. لا تموت، ومن القصائد التي تفيض بالأصالة قصيدة
(البيوت كأصحابها .. لا تموت) التي كاتبها شاعرنا في ظل صورة حية
نشهدها للتمسك بالأرض والبيت وحتى لو كان الثمن الأرواح فالأرواح
ترخص أمام الأرض والعرض أصالة ما بعدها أصالة .
وكما هي السنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير: المحتل مهما طال أمد
احتلاله فمصيره إلى زوال لا تقبله أرض ولا زرع، والذي تقبلهم الأرض
هم أهلها باقون ببقائها فالأرض لأصحابها تتعانق جذورهم بجذورها
وجذور التاريخ وتلفظ كل معتد باغ البيوت لمن بناها بعرق جبينه بيديه
فكما قال شاعرنا الأسيوطي لا الموتُ يقتلُ فينَا البلادَ ويَبْقَى بذاكرةِ الطفلِ
بيتُ الجدودِ، وقوله على لسان أصحاب الأرض: تَشهدُ كلُّ البِنَايَاتْ، كل
المنارات .. أني بنيتُ بكفَّيْ هاتَينِ ..تِلْكَ الدِّيَارْ...
فالأرض تعرف كما نفسها من بناها ومن يسكنها ومن مر بها ومن أحضر
أثاثها وأحجارها: فـ(إيلْياءُ) تعرفُ مَنْ سَاكِنِيهَا. ومَنْ عَبرُوا دَرْبَهَا خِلسَةً
ومَنْ جَلَبُوا للبيوت القديمةِ أحجارَها الطاهرة. فمها قتل الغاصب فإن الدماءُ
البريئةُ لا تكتب له مجدا كيف يكون قاتل الأطفال ذا مجدا وحضارة إنها
كذبة يقول الأسيوطي على لسان أهل الأرض مخاطبين البغاة تًهْدِمَ البيتَ
فوقي وفوقَ الصِّغَارْ ..ولكنَّها لا تزيلُ عِنَ الرَّملِ رائحةَ الناسِماءَ التَّوَاريخِ،
بعضَ عبيرِ الصَّبَايَا وضحكَ الصغارِ ولا عطرَ زَيتُونَةٍ مُزْهِرَة وقوله
ربما ينحني تحت قصفِ القنابلِ ظلُّ البيوت، وتَحْنُو على أهلِهَا

السقُفُ الخائرةُ لكِنْ سَتَبقى بذاكرةِ البَحرِ أطيافُنَا ويَسْتجْمعُ الشَّجرُ المُتَفَحِّمُ
جلستَنا في الظلالِ.. وفي هدأةِ الهَاجِرَة(فالأرض لأصحابها. فالأرض
لأصحابها. فالأرض لأصحابها) سيهزم الجمع ويولون الدبر وتبقى
الأرض لأصحابها: يقول شاعرنا درويش الأسيوطي في قصيدة:
(البيوت كأصحابها .. لا تموت)
أنتَ أنتَ، كَمَا أنْتَ ..
تمضي كَمَا جِئْتَ،
وهمًا عَلَى ظَهْرِ طائِرِكَ (الرخِّ)،
تُنْسَى،
فَلا صخرةٌ في (الجليلِ) تَدُلُّ عَلَيكَ ..
ولا جذعُ زيتونةٍ بالجوَار ..
فلا الأرضُ ضمَّتْ جذورَك فَجْرًا،
ولا أمطرتْكَ السماءُ ضُحىً،
ولا شهدتْ بوجودِكَ
نافذةٌ أو جدارُ ...
وأنا ..مثلمَا كُنتُ
أبقَى كَمَا الأرضِ ..
جذرًا يعانقُ جذرَ التواريخِ،
تَشهدُ كلُّ البِنَايَاتْ،
كل المنارات ..
أني بنيتُ بكفَّيْ هاتَينِ ..
تِلْكَ الدِّيَارْ...
فـ(إيلْياءُ) تعرفُ مَنْ سَاكِنِيهَا.

ومَنْ عَبرُوا دَرْبَهَا خِلسَةً
ومَنْ جَلَبُوا للبيوت القديمةِ
أحجارَها الطاهرة.
الدماءُ البريئةُ
لا تكتبُ المجدَ للمجرمين ..
أتُعطيكَ هذي الدماءِ المُراقةِ
نافذةً للخلاصِ أو المغفرة؟
الجنازير لا تعرفُ البَيْتَ
لا تعرف الحضنَ،
دفءَ الرَّضَاعِ،
ولا يعرف الفاقدون لماء الحضارات ..
معنى البيوت القديمة والصَّابِرَة.
البيوتُ كأصحابها لا تموتُ
تدوسُ الجنازيرُ ظلَّ البيوتِ
وتدهسُ هدأتَها
والبيوتُ تصيرُ حُقولاً
وأرضًا لبيتٍ جديدٍ ..
و(بيَّارة )عامرة
وتمضي الجنودُ بأشواكِها
والمتاريس ،
والراجماتُ ..
ويَبْقَى بذاكرةِ الطفلِ بيتُ الجدودِ
وتبقى الخوابي وذاكرةُ الخبز

تبقى السواقي و ذاكرةُ الماء،
يبقى بسمعِ المحبينَ
نايُ المحبِّ بأنغامِهِ الساحرة.
أي شيءٍ تريدُ لتكتبَ تاريخَكَ الكذْبةَ العاهرة؟
تستطيعُ الأساطيلُ والراجماتُ الغبيةُ
أنْ تًهْدِمَ البيتَ
فوقي وفوقَ الصِّغَارْ ..
ولكنَّها لا تزيلُ عِنَ الرَّملِ رائحةَ الناسِ
ماءَ التَّوَاريخِ،
بعضَ عبيرِ الصَّبَايَا
وضحكَ الصغارِ
ولا عطرَ زَيتُونَةٍ مُزْهِرَة.
أيها المتشدقُ بالفخرِ والتُّرَّهاتِ
رويدكَ
لا الموتُ يقتلُ فينَا البلادَ
ولا النارُ تمحو عن الأرض أسماءها القاهرة.
ربما ينحني تحت قصفِ القنابلِ
ظلُّ البيوت،
وتَحْنُو على أهلِهَا
السقُفُ الخائرةُ
لكِنْ سَتَبقى بذاكرةِ البَحرِ أطيافُنَا
ويَسْتجْمعُ الشَّجرُ المُتَفَحِّمُ
جلستَنا في الظلالِ..

وفي هدأةِ الهَاجِرَة
ويقول أيضا في قصيدة " من ديوان الاعتراف الأخير" مبينا الأصالة
في أبهى صورها حيث يقول :
حين اشتد القلب،
وأدمن عشق الحق
تغيرت الألوان..!!
حين تسلل هم العشق إلى القلب الأبيض
شاخ الحرف ،
تخثر ماء القلب
تحجر ،
صار القلب اليافع قنبلة دخان..
من يجرؤ في هذا الزمن اللهب المتفجر
أن يحمل هذا الهم القاتل
في صدر أبلاه الكتمان. ؟!!
ويقول في قصيدة من الشعر العامي مشبها من يبيدون الشعوب ويقتلون
الشيوخ الركع والأطفال الرضع ويهدمون البيوت على أصحابها بالمغول،
في تشبيه ضمني يستنبط من المعاني في قصيدة المغول ولنا أن نسأل أين
هم المغول الآن ؟! يقول شاعرنا :
المغول
- بِخْ ...
- يَا حَفِيظْ .. مِينْ ؟ انتَ مِينْ ؟
- عِفْرِيتْ واسْمِي الشِّيخْ يَاسِينْ
- خَضِّيتْنِي يَآخِيْ مِشْ تِقُولْ
أصْلِي افْتَكَرْتَكْ مِ الْمَغُولْ ..

أصْلِ الْمَغُولْ - بِينِي وبِينَكْ _ مِنْ سَنَهْ
مِتْنَتْوَرِينْ هِنَا وْهِنَا
دَايْمَن تِلاقِي الشَّخْصِ مِنْهُمْ
ع الرَّصِيفْ أو فِ الطَّرِيقْ زَيْ الْوَتَدْ ..
يِنْزِلْ عَلِيكْ .. فِ إيدُه الْقَضَا
بِالْعَافْيَهْ رُحْتَ أوْ بِالرِّضَا
فِ السِّجْنِ عُمْرَكْ يِنْقَضّى ...
قُوللي صَحيِح يا شِيخْ يَاسِينْ
مَالْ وِشَّكْ أصْفَرْ حَبِّتِينْ؟!!
قَرَّب وبَسْ إيَّاكْ تِقُولْ
أنا شُفْتْ وَاحِدْ مِ الْمَغُولْ ..!!
[ من القصائد المنسيةالتي لم تنشر )
يسقط تخين المدب المقاول
وعبده الفلاتي اللي غللى الفلافل
وتسقط تجارة محمد عمارة
إللي خبى الصابونة
وغللي السيجاره
ويقطع لسان أم شوقي اللي نازل
يبلبط ف كل الدروب والمنازل
تقولشي إذاعة
تردد إشاعه
خلقها ف ساعة تجللي وصياعة
خيال أم شوقي ف ساعة رضاع

( من النصوص العامية ال(15) التي عثرت عليها أخيرا ) مارس
1972
وختامًا يقول شاعرنا :
فِدَا التُّرَابْ النَّبِيْ
مِيَّاتْ، أُلُوفْ، مَلايِيِنْ
وَلا تِنْكِسِرْشِي الرِّقَابْ
تِتْكَسَّرِ السَّكَاكِينْ
وأخيرا نردد مع الشاعر الكبير درويش الأسيوطي :البيوت كأصحابها ..
لا تموت. البيوت كأصحابها .. لا تموت
المراجع:
موقع الشاعر درويش الأسيوطي على فيس بوك
هدير أبو العلا: الدفاع عن الأوطان والأرض والعرض موضوعًا لخطبة
الجمعة اليوم | نص الخطبة، صحيفة القاهرة، الجمعة 20/أكتوبر/2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى