*** هنيئا للمبدعة الطالبة النبيهة سلمى آيت سليمان من جامعة القاضي عياض، كلية اللغة العربية مسلك الإجازة للسنة الثانية على فوزها بالمرتبة الاولى عن نصها السردي "ادلب الموت" في مسابقة القصة القصيرة الخاصة بطلبة الجامعات والمعاهد الوطنية المنظمة من طرف (جمعية التواصل للثقافة والإبداع) في دورتها العاشرة المخصصة لرائدة الكتابة النسوية بالمغرب الفقيدة الدكتورة آمنة اللوه
########
إدلِبُ تَعبقُ بالمَوِّتِ ، تَذرِفُ السَّماءُ وَابِلًا دَمَوِيًّا، مَدينَةٌ شَيَّدَها الخَراب، وعَرَفَ القَصفُ طَريقَهُ لها، قَضَيِّتُ طُفولَتي بِالاِنتِقَالِ من بيّتٍ لِآخر، هَرَبًا من أسرابِ الطائِرات التي تَقصِفُ بيوتَنا على حينَ غرة، رُغمَ ذَلِكَ لمْ أنقَطِع عن دِرَاسَتِي إلّا لِفَترَةٍ لمْ تَتعَد الأُسبُوعَين.
غَدًا سَتَصدُرُ النّتائِج، كنتُ أتوقُ لِمَعرِفَةِ علَامَتِي التي أنهَكَتُ جَسدي الصَغير لِأحصُلَ عَليّها، وأُتَوِّجَ تَعَبِي بِهَدِيَّةٍ مِن والِدَيَّ، لمْ أنَمْ لَيِّلَتَها دَاعَبَتنِي أحلَامِي لِسَاعاتٍ عِدة، وصَلَّيّتُ أن يَحُلَّ الصَباحُ سَريعًا على رَمادِ مَدينَتِي، لَعلَّ فَرحَةَ غَد تَجعَلُنِي أرَى ألّوانًا أُخرى غيّرَ اللَوْنِ الرَمادِيّ القَاتِم الذي يُغَطي سماءَ مَدينَتي.
نحنُ بِوَطَنِ الأحّلامِ السَاقِطَة والأمَانِي العَاهِرَة، الدَعَواتُ هُنا تَبورُ بِمِحرابِ النُجوم لِتُرسِلَ سَيّلًا مِن القَنابِلِ تَفتِكُ بِجَسدِ الحَالِمينَ الصِّغار و الآمِلينَ بِالحَياةِ ، هُنا يَنتَشِرُ عَفَنُ المَّوتِ بَدلًا مِن أن يَفوحَ عَبقُ الياسَمين...
هذا مَصيرُ دَعواتِي تِلكَ اللَيّلة، بَعدَ أقلّ من سَاعةٍ عزفَت أوركسترا الدَمار بالحَيّ ، في طَريقِنا لإيجَادِ مَنجى مِن المَصيرِ المُهلِك - كَما اعتَقدنا وَقتَها - صَادفَنا بالطَريقِ شَوطٌا آخَرَ مِن شُهبٍ ما أدرَكنا مِنها مَفرًا غيرَ تَرتِيلِ الدَعواتِ لِنَنجوا، لكنَّ الموتَ لم يُبالِ بِما نحنُ عليه ، فقد مزَّقَ أجسادَ إخوَتي وبَدنَ أمي...
لا أزالُ أذكرُ تَفاصِيلَ تِلكَ اللّوحة الدّمويّة ، كأنَّها قد كانت صكوكَ غُفرانِ ذَنبٍ ما اقتَرَفتُه يَدا والِدَتي النَازِحَتين مِن جَسدِها، فمُ أختي شام المُدمى وفُستانُها العابِقُ بالبراءة والدَم ، أخي الأكبر الذي لَجمَتُ شَفَتي أمامَ رأسِه المُطِلِّ من أسفَلِ رُكامِ ذَلكَ البِناء، رَكضتُ نَحو والِدي بَعيّنَيّنِ نَضبَ مِنهُما الدَمع.. ما زالَ يَتنَفس، قد طَمسَ الدمُ الذي خَضّب وَجههُ ومَلامِحه.
حاولتُ مِرارًا جَعلهُ يَستيّقِظ، لِيُكَلِمَني أو لِيَضرِبَني لا فرقَ حينَها المُهمُ أن يَستيقِظ فقط، صرختُ في وَجهِه كيّ يَغضَب
- استَيّقِظ! لقد ضَربتُ شام هيّا عاقبني!
لكنَّهُ لم يَستيّقظ ولم أُعاقَب.. مَشيتُ ناحيَّة أجسادِهم الغارِقةِ بالدِماء، ثم وَقفتُ لِبُرهَةٍ أمامَ جَسدِ شام، ياسمينَةٌ أصابَها الموت، في الأمسِ أخذتُ مِنها دُميَتها وبَكتْ كَثيرًا بِسَببي واليوم أخَذتها الحياةُ مِني، قبَّلتُ رأسها هامِسًا:
- أنا آسفٌ يا شام...
ثم زَحفتُ لأتَحسسَ جَسدُ أمي الطاهر، عيونُها لا تَزالُ شَبِقَتينِ بالحنانِ رُغمَ الترابِ الذي إعتَلاهُما..
- إفتَقدتُكِ يا أمي أنهَضي لِتُشاهِدي ما حَلَّ بإخوَتي وأبي..
ثم قَبلّتُ جَبينَ أخي، كنتُ قد لَعبتُ كرةُ القدم معه في الأمس، وسمحَ لي بالفوزِ.. يا ليّتَكَ لم تَفعل وبَقينا معًا.
استَلقَيتُ بَيّنَهُم باكِيًا وأنا أسمَعُ أصواتَ سياراتِ الإسعافِ قادمةً من بعيد، لِأجِدَ نَفسي داخِلَ غُرفةٍ تَضُج بالجَرحى، أطفالٌ تَبكي ونِساءٌ تَصرخُ، رِجالٌ تَئِنُ من الوَجع.
كأنَّ القيامة قد قامَتْ بِرُقعةِ الوَطنِ هَذه، مَرَّت من أمَامِي امرأةٌ بِرداءٍ طِبيّ، ناديّتُها بِخُفوتٍ استَطاعَت سَماعه، جَلَسَت القُرفُصاءَ بِجانِبي، ومَرَّرت يَدها على شَعريَّ المُغَطى بالغُبار بِلطفٍ قائِلة:
- أنقَذّنا والِدكَ لا تَقلق..
- و شام والبَقيَّة؟!
لم أتَلقّ ردًا عن سُؤالي
سَألَتني بِهدوءٍ اهتزَّ لَهُ كَياني:
- بِمَ تَشعُر؟
أجبتُها بِرجفَة وخَنقَةٍ تَمنَعُني مِن لفظِ الأحرُف
- بِخير..
سَألَتني إن كنتُ بخيرٍ حقًا؟
بِخير!، وأنا أمُر بأيامٍ تَصرُخ فيها روحي وجعًا ويَنتَفِضُ بها قلبي، وأبكي دونَ دمع!
بِخير!، ماذا عن المشاهِد التي تَتصارَعُ داخِلي، عن الصمتِ الرَهيبِ الذي ألقى مِرسَاتَهُ بأعماقِ فُؤادي؟!
تُهتُ بِحُصونِ وَجعي، لِأستَفيقَ على يَدِ المُمَرِضَة تَسحَبُني إلى غُرفة، أفلَتَتْ يَدي عندَ بابِها وحَثَّتني على الدُخول، لِأجِدَ والدي مَبتُورَ الذِراعَيّن يُراقِبُني بِغرابة، تَقَدمتُ نحوَ سَريرِه المُسجّى بالدمِ قبلَ أن يَزجُرَني بِنَظرةٍ جَعلَتنِي أُشيحُ بنَظري عَنه وأَخرُجَ مِن الغُرفةِ راكِدًا أبحَثُ عن مَلجَأٍ يَحتَوي اِرتِجافَ أوّصَالِيَّ المُتعَبة، لِأجِدَ عُلبةَ سَجائِرَ مُلَطّخَةٌ بالدماءِ على قارعةِ الرَصيفِ أظُن أنَّها لِأحدِ ضَحايا القَصف، لا تزالُ تَحمِلُ في داخِلها سيجارَتين لم تُغرِقهُما الدماء، دَخنتُهُما مُتَغاضِيًا عن سُعالي المُتواصِل كيّ أعودَ مُحَملًا بِخيْباتي إلى غُرفةِ والِدي...
تأمّلتُ وَجه أبي مَليًا وقد غطَّ في النَومِ بعدَ أن حَقنَتهُ المُمرِضةُ ببعضَ المُسكنات ليَخف وجعُ الجرح.
كيفَ سَتمضي أيَامُنا بعدَ هَذه الفاجِعة؟
كيفَ سَأقضي حَياتي بعدَ فُراقِ أمي؟
كيفَ للشَّمسِ أن تُشرِقَ وضحكةُ شام لن تملأ فراغاتِ البيت؟
كيفَ سَأتأقلمُ مع غِيابِهم، ومَن سَيسُّدني كُلَّما جارَت على قلبي الحياة؟!
يوقِظُني من شُرودي سَماعُ أنينِ الجرحى يَصدحُ في الغُرفة، حاولتُ الاِبتعادَ والخروجَ للمشيِّ قليلًا، لكنَّ الحراسَ آلوا دون حُصولِ ذَلك، تفادِيًا لِسقوطِ ضَحايا جُدد، فَقصفُ المَدينةِ علىَ أشُدِّه.
مرَّت أسابيعٌ من الألمِ والأرق قبلَ أن يَسمحَ الطبيبُ لوالِدي بالخروجَ من المشفى، طارحَتني وَقتها الأسئِلة
إلى أينَ الرَحيل؟ فمَدينَتي أضحَت رُكامًا تَستوّطِنهُ القططُ والكلابُ الضالة..
في المُخيّم الذي انتَقلنا للعيّشِ فيهِ قبلَ مُدة، يَرتَطِمُ غَضبي بِقسوةِ الحياة، وتَنوحُ بِداخلي الطفولةُ كلَّما سِرّتُ بالشَوارعِ صباحَ مَساء، أبيعُ عُلبَ السَّجائرِ أو كما يُلقِبُها الناسُ هُنا، "عُلبَ الخيّبات".
أجولُ في الطُرقاتَ كلَّ يومٍ لِبيّعِ عُلبِ السَّجائِر؛ ذاتَ مَساءٍ اقتربَت مِني سيارةٌ يَقودُها رَجلٌ مُلَثمُ الوَجه، بِعيّنَيّن حادَتيّن و لِحية كَثيفة، سِرتُ نحوَ السيارةِ كَعادَتي أعرضُ عليّه عُلبة خيّباتٍ علَّهُ يَشتَري مِني، فَأحصُل على بعضِ اللَيّراتِ التي تُمكِنُني من سَدادِ ثَمنِ الخُبزِ الذي أتناوَلهُ ليّلًا؛ اقترَبتُ من سيّارتِه مُلوِّحًا لهُ بِعلبَةِ السَّجائِر لأتَلقى صفعةً تَطيحُ بِجَسدي أرضًا لِتُذرَفَ الدُموعُ داخِلي، حاوَلتُ النهوضَ لأتلَقى رَكلاتٍ بِبَدَني، ثمَ قالَ بِصوتٍ أجش:
- عاهرٌ يَبيعُ الحَرام بكلِّ بجاحَة ويُريدُ مِني أن اشتَريَّ مِنه، هذا عِقابٌ بَسيط كيّ لا تُخطِئ مع أسيادِكَ ثانيةً!
لَملَمتُ شَتاتَ كرامَتي وخيباتي، لأعودَ للمُخيّم مع رَغيفَيّ خُبز، لِيتَراءى لي دُخانٌ أسوَد يَخرُج من المُخيّم، هَروَلّتُ مُسرِعًا نَحوهُ، كُلما اقتَرَبتُ أكثرَ أدرِكُ أنَّ الحريقَ في خَيمَتِنا، هَمَمتُ بالدخولِ لكنَّ جسدَ رجُلٍ حالَ دونَ ذلك، سَحَبني للخَلفِ وشَلَّ حَركتي حتّى اُطفِئت بقيَّةُ النيران، شاهدتُ اِحتِراقَ والِدي أمامَ عينيّ وحَصلَ ما خَشيتُه طويلًا، أنا الآن سَأُقاسِي الأمَرّينِ، اليُتمُ وقَسوَّةُ الحياةِ معًا.
إنفَضَّ الجَميعُ مِن حَولي بعدَ أن رَدَّدوا على مَسامِعي عِباراتِ التَعازي...
سِرتُ هائِمَ الخُطى بالشَوارِع بعدَ أن يُسدِلَ اللَيّلُ رِداءَهُ، أردتُ عبورَ الشارع للعوّدةِ للمُخيّم قبلَ أن تَصطَدِمَ سيارةٌ بِجَسدي، تَطرَحُني أرضًا غارِقًا بِدمائي...
رأيتُ طيّفَ شام لِبرهَةٍ أمامي بِثغرِها المُبتَسِم، مَدَدّتُ يديَّ لِتلتَقِطَها أنامِلُها الصغيرة.
########
إدلِبُ تَعبقُ بالمَوِّتِ ، تَذرِفُ السَّماءُ وَابِلًا دَمَوِيًّا، مَدينَةٌ شَيَّدَها الخَراب، وعَرَفَ القَصفُ طَريقَهُ لها، قَضَيِّتُ طُفولَتي بِالاِنتِقَالِ من بيّتٍ لِآخر، هَرَبًا من أسرابِ الطائِرات التي تَقصِفُ بيوتَنا على حينَ غرة، رُغمَ ذَلِكَ لمْ أنقَطِع عن دِرَاسَتِي إلّا لِفَترَةٍ لمْ تَتعَد الأُسبُوعَين.
غَدًا سَتَصدُرُ النّتائِج، كنتُ أتوقُ لِمَعرِفَةِ علَامَتِي التي أنهَكَتُ جَسدي الصَغير لِأحصُلَ عَليّها، وأُتَوِّجَ تَعَبِي بِهَدِيَّةٍ مِن والِدَيَّ، لمْ أنَمْ لَيِّلَتَها دَاعَبَتنِي أحلَامِي لِسَاعاتٍ عِدة، وصَلَّيّتُ أن يَحُلَّ الصَباحُ سَريعًا على رَمادِ مَدينَتِي، لَعلَّ فَرحَةَ غَد تَجعَلُنِي أرَى ألّوانًا أُخرى غيّرَ اللَوْنِ الرَمادِيّ القَاتِم الذي يُغَطي سماءَ مَدينَتي.
نحنُ بِوَطَنِ الأحّلامِ السَاقِطَة والأمَانِي العَاهِرَة، الدَعَواتُ هُنا تَبورُ بِمِحرابِ النُجوم لِتُرسِلَ سَيّلًا مِن القَنابِلِ تَفتِكُ بِجَسدِ الحَالِمينَ الصِّغار و الآمِلينَ بِالحَياةِ ، هُنا يَنتَشِرُ عَفَنُ المَّوتِ بَدلًا مِن أن يَفوحَ عَبقُ الياسَمين...
هذا مَصيرُ دَعواتِي تِلكَ اللَيّلة، بَعدَ أقلّ من سَاعةٍ عزفَت أوركسترا الدَمار بالحَيّ ، في طَريقِنا لإيجَادِ مَنجى مِن المَصيرِ المُهلِك - كَما اعتَقدنا وَقتَها - صَادفَنا بالطَريقِ شَوطٌا آخَرَ مِن شُهبٍ ما أدرَكنا مِنها مَفرًا غيرَ تَرتِيلِ الدَعواتِ لِنَنجوا، لكنَّ الموتَ لم يُبالِ بِما نحنُ عليه ، فقد مزَّقَ أجسادَ إخوَتي وبَدنَ أمي...
لا أزالُ أذكرُ تَفاصِيلَ تِلكَ اللّوحة الدّمويّة ، كأنَّها قد كانت صكوكَ غُفرانِ ذَنبٍ ما اقتَرَفتُه يَدا والِدَتي النَازِحَتين مِن جَسدِها، فمُ أختي شام المُدمى وفُستانُها العابِقُ بالبراءة والدَم ، أخي الأكبر الذي لَجمَتُ شَفَتي أمامَ رأسِه المُطِلِّ من أسفَلِ رُكامِ ذَلكَ البِناء، رَكضتُ نَحو والِدي بَعيّنَيّنِ نَضبَ مِنهُما الدَمع.. ما زالَ يَتنَفس، قد طَمسَ الدمُ الذي خَضّب وَجههُ ومَلامِحه.
حاولتُ مِرارًا جَعلهُ يَستيّقِظ، لِيُكَلِمَني أو لِيَضرِبَني لا فرقَ حينَها المُهمُ أن يَستيقِظ فقط، صرختُ في وَجهِه كيّ يَغضَب
- استَيّقِظ! لقد ضَربتُ شام هيّا عاقبني!
لكنَّهُ لم يَستيّقظ ولم أُعاقَب.. مَشيتُ ناحيَّة أجسادِهم الغارِقةِ بالدِماء، ثم وَقفتُ لِبُرهَةٍ أمامَ جَسدِ شام، ياسمينَةٌ أصابَها الموت، في الأمسِ أخذتُ مِنها دُميَتها وبَكتْ كَثيرًا بِسَببي واليوم أخَذتها الحياةُ مِني، قبَّلتُ رأسها هامِسًا:
- أنا آسفٌ يا شام...
ثم زَحفتُ لأتَحسسَ جَسدُ أمي الطاهر، عيونُها لا تَزالُ شَبِقَتينِ بالحنانِ رُغمَ الترابِ الذي إعتَلاهُما..
- إفتَقدتُكِ يا أمي أنهَضي لِتُشاهِدي ما حَلَّ بإخوَتي وأبي..
ثم قَبلّتُ جَبينَ أخي، كنتُ قد لَعبتُ كرةُ القدم معه في الأمس، وسمحَ لي بالفوزِ.. يا ليّتَكَ لم تَفعل وبَقينا معًا.
استَلقَيتُ بَيّنَهُم باكِيًا وأنا أسمَعُ أصواتَ سياراتِ الإسعافِ قادمةً من بعيد، لِأجِدَ نَفسي داخِلَ غُرفةٍ تَضُج بالجَرحى، أطفالٌ تَبكي ونِساءٌ تَصرخُ، رِجالٌ تَئِنُ من الوَجع.
كأنَّ القيامة قد قامَتْ بِرُقعةِ الوَطنِ هَذه، مَرَّت من أمَامِي امرأةٌ بِرداءٍ طِبيّ، ناديّتُها بِخُفوتٍ استَطاعَت سَماعه، جَلَسَت القُرفُصاءَ بِجانِبي، ومَرَّرت يَدها على شَعريَّ المُغَطى بالغُبار بِلطفٍ قائِلة:
- أنقَذّنا والِدكَ لا تَقلق..
- و شام والبَقيَّة؟!
لم أتَلقّ ردًا عن سُؤالي
سَألَتني بِهدوءٍ اهتزَّ لَهُ كَياني:
- بِمَ تَشعُر؟
أجبتُها بِرجفَة وخَنقَةٍ تَمنَعُني مِن لفظِ الأحرُف
- بِخير..
سَألَتني إن كنتُ بخيرٍ حقًا؟
بِخير!، وأنا أمُر بأيامٍ تَصرُخ فيها روحي وجعًا ويَنتَفِضُ بها قلبي، وأبكي دونَ دمع!
بِخير!، ماذا عن المشاهِد التي تَتصارَعُ داخِلي، عن الصمتِ الرَهيبِ الذي ألقى مِرسَاتَهُ بأعماقِ فُؤادي؟!
تُهتُ بِحُصونِ وَجعي، لِأستَفيقَ على يَدِ المُمَرِضَة تَسحَبُني إلى غُرفة، أفلَتَتْ يَدي عندَ بابِها وحَثَّتني على الدُخول، لِأجِدَ والدي مَبتُورَ الذِراعَيّن يُراقِبُني بِغرابة، تَقَدمتُ نحوَ سَريرِه المُسجّى بالدمِ قبلَ أن يَزجُرَني بِنَظرةٍ جَعلَتنِي أُشيحُ بنَظري عَنه وأَخرُجَ مِن الغُرفةِ راكِدًا أبحَثُ عن مَلجَأٍ يَحتَوي اِرتِجافَ أوّصَالِيَّ المُتعَبة، لِأجِدَ عُلبةَ سَجائِرَ مُلَطّخَةٌ بالدماءِ على قارعةِ الرَصيفِ أظُن أنَّها لِأحدِ ضَحايا القَصف، لا تزالُ تَحمِلُ في داخِلها سيجارَتين لم تُغرِقهُما الدماء، دَخنتُهُما مُتَغاضِيًا عن سُعالي المُتواصِل كيّ أعودَ مُحَملًا بِخيْباتي إلى غُرفةِ والِدي...
تأمّلتُ وَجه أبي مَليًا وقد غطَّ في النَومِ بعدَ أن حَقنَتهُ المُمرِضةُ ببعضَ المُسكنات ليَخف وجعُ الجرح.
كيفَ سَتمضي أيَامُنا بعدَ هَذه الفاجِعة؟
كيفَ سَأقضي حَياتي بعدَ فُراقِ أمي؟
كيفَ للشَّمسِ أن تُشرِقَ وضحكةُ شام لن تملأ فراغاتِ البيت؟
كيفَ سَأتأقلمُ مع غِيابِهم، ومَن سَيسُّدني كُلَّما جارَت على قلبي الحياة؟!
يوقِظُني من شُرودي سَماعُ أنينِ الجرحى يَصدحُ في الغُرفة، حاولتُ الاِبتعادَ والخروجَ للمشيِّ قليلًا، لكنَّ الحراسَ آلوا دون حُصولِ ذَلك، تفادِيًا لِسقوطِ ضَحايا جُدد، فَقصفُ المَدينةِ علىَ أشُدِّه.
مرَّت أسابيعٌ من الألمِ والأرق قبلَ أن يَسمحَ الطبيبُ لوالِدي بالخروجَ من المشفى، طارحَتني وَقتها الأسئِلة
إلى أينَ الرَحيل؟ فمَدينَتي أضحَت رُكامًا تَستوّطِنهُ القططُ والكلابُ الضالة..
في المُخيّم الذي انتَقلنا للعيّشِ فيهِ قبلَ مُدة، يَرتَطِمُ غَضبي بِقسوةِ الحياة، وتَنوحُ بِداخلي الطفولةُ كلَّما سِرّتُ بالشَوارعِ صباحَ مَساء، أبيعُ عُلبَ السَّجائرِ أو كما يُلقِبُها الناسُ هُنا، "عُلبَ الخيّبات".
أجولُ في الطُرقاتَ كلَّ يومٍ لِبيّعِ عُلبِ السَّجائِر؛ ذاتَ مَساءٍ اقتربَت مِني سيارةٌ يَقودُها رَجلٌ مُلَثمُ الوَجه، بِعيّنَيّن حادَتيّن و لِحية كَثيفة، سِرتُ نحوَ السيارةِ كَعادَتي أعرضُ عليّه عُلبة خيّباتٍ علَّهُ يَشتَري مِني، فَأحصُل على بعضِ اللَيّراتِ التي تُمكِنُني من سَدادِ ثَمنِ الخُبزِ الذي أتناوَلهُ ليّلًا؛ اقترَبتُ من سيّارتِه مُلوِّحًا لهُ بِعلبَةِ السَّجائِر لأتَلقى صفعةً تَطيحُ بِجَسدي أرضًا لِتُذرَفَ الدُموعُ داخِلي، حاوَلتُ النهوضَ لأتلَقى رَكلاتٍ بِبَدَني، ثمَ قالَ بِصوتٍ أجش:
- عاهرٌ يَبيعُ الحَرام بكلِّ بجاحَة ويُريدُ مِني أن اشتَريَّ مِنه، هذا عِقابٌ بَسيط كيّ لا تُخطِئ مع أسيادِكَ ثانيةً!
لَملَمتُ شَتاتَ كرامَتي وخيباتي، لأعودَ للمُخيّم مع رَغيفَيّ خُبز، لِيتَراءى لي دُخانٌ أسوَد يَخرُج من المُخيّم، هَروَلّتُ مُسرِعًا نَحوهُ، كُلما اقتَرَبتُ أكثرَ أدرِكُ أنَّ الحريقَ في خَيمَتِنا، هَمَمتُ بالدخولِ لكنَّ جسدَ رجُلٍ حالَ دونَ ذلك، سَحَبني للخَلفِ وشَلَّ حَركتي حتّى اُطفِئت بقيَّةُ النيران، شاهدتُ اِحتِراقَ والِدي أمامَ عينيّ وحَصلَ ما خَشيتُه طويلًا، أنا الآن سَأُقاسِي الأمَرّينِ، اليُتمُ وقَسوَّةُ الحياةِ معًا.
إنفَضَّ الجَميعُ مِن حَولي بعدَ أن رَدَّدوا على مَسامِعي عِباراتِ التَعازي...
سِرتُ هائِمَ الخُطى بالشَوارِع بعدَ أن يُسدِلَ اللَيّلُ رِداءَهُ، أردتُ عبورَ الشارع للعوّدةِ للمُخيّم قبلَ أن تَصطَدِمَ سيارةٌ بِجَسدي، تَطرَحُني أرضًا غارِقًا بِدمائي...
رأيتُ طيّفَ شام لِبرهَةٍ أمامي بِثغرِها المُبتَسِم، مَدَدّتُ يديَّ لِتلتَقِطَها أنامِلُها الصغيرة.