شرخ في الأعماق

اهداء الى الشعب الفلسطيني وإلى أهل غزة بشكل خاص..


لن يعود شيء كما كان..
فهذه المرة ليست ككل مرة..
نفث الليل دخانه في وجهي وقال.. أرأيت ؟؟..
مسح دموعه وأعطاني منديلاً.. فهم أنني فهمت أكثر مما يجب بعد أن شعرت أكثر مما يجب، سطعت أضوائه المثيرة وتوالت الضحكات الماجنة من بين ظلماته، وشم على جلدي خريطة فلسطين ورسم غزة منحورةً من الوريد إلى الوريد لكنها لا زالت تبتسم، وفي كل مرةٍ كانت تبتسم فيها كانت أسناني تتساقط وصوتي يضمحل، يستحيل اللعاب في فمي إلي دم أتقأيأه كالكثير من مشاعري وانسانيتي التي بت أخجل منها..

تتساقط دموعي رماديةً وغزيرة.. تختلط بالتراب والغبار الذي يغطي ثيابي النظيفة التي باتت بمثابة لعنةٍ علي.. فلا هي تدفئني ولا تخفي ندبتي..

رأيت عورتي ورأيت الكون يغرق في عريٌه بين نظراتٍ تحترف الصمت واصطناع الخجل والحزن.. لم تعد هناك من حروف أو لغات.. كل شيء تحول إلى (جسد) بين أشلاءٍ مبعثرة جفت دماؤها ولحمٍ عارٍ يتبارى على عرضه في طابورٍ طويلٍ لا يكاد نرى له من نهاية.. ماتت الجمل الموسيقية على وقع الصرخات وأصوات الدبابات والقذائف.. هرب (الأصدقاء) بحثاً عن (صديق) يحترف الكذب ولا يتقن الشجن و(يُصَدِّقُ) كل ما يقولونه له..

فعرفت أن الطريق موحش وأنني سأمشيه وحدي كما فعلت مراراً.. وأن وطني لم يغير حياتي فحسب.. بل غير معناها في عيني وأعين الكثيرين إلى الأبد.. وأسقط معه حفنةً من الوجوه والأكاذيب التي لم تكن لتسقط إلاّ في امتحانٍ من نوعٍ خاص.. يجيب فيه الجميع ببساطة على نفس الأسئلة، بعد أن يأخذ وقته كاملاً ودون أن تحجب عنه الإجابات.. كلٌ على طريقته.. حاول البعض الهروب لكنه لم ينجح مع أن الأبواب مفتوحة على مصراعيها.. وعندما استطاع ذلك ترك خلفه (حقيقته) التي ظن أنها مجهولة..

وبين (حقيقةٍ) وأخرى بزغ فجرٌ من الألم الذي أذاب معه كل ما خطه البشر وقالوه منذ بدء الخليقة.. ليتهاوى أمام بكاء يتيم ترقد ساقه بجواره بدلاً من دميته، أمام جوعٍ ينحت بأظافره عميقاً في الأحشاء والصخر، أمام عطشٍ لا ترويه بحار العالم، أمام مرضٍ وخوفٍ وموتٍ يعجز الطب عن مداواته، أمام رائحة الجثامين التي لا تجد من يدفنها ودموعٍ هي الشيء الوحيد الذي بقي لأصحابها دون أن يعيد لهم لحظةً من الأمان.. خلف جدارٍ متهدم أو بين أنقاض عائلة أو تحت سقفٍ لا يعرفون متى يطبق على (ما تبقى منهم وما تبقى لهم)..

أنفاسٌ مزدحمة تنام بين الأشباح، جزءٌ من العالم لا يشبه العالم، بعضهم (كان) هنا وبعضهم يوجد هناك وبعضهم ترك جزءًا من (بعضه) بين (الهنا) وبين (الهناك)، لا مكان سوى لبعضٍ من (حياة) يمارسونها على عجلٍ وقهر بين نزوحٍ وآخر، فللموت ألوانٌ وأشكالٌ وأرقام مختلفة رغم حتميته، سيأتي الشتاء قريباً.. لكن أقسى من كل مرة.. قد يغسل الطرقات من بعض أهوالها لكن كل الجراح ستظل مفتوحة.. وسيحتفل العالم بعيد الميلاد فيما (أرض الميلاد) لا تعرف شيئاً عن العيد أو الهدايا، تنزل عن صليبها.. تمسح دمها لتواجه العدو والبرد وحيدةً وهي تعرف.. أن هناك شرخاً سيبقى في أعماقها إلى الأبد..


خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى