مأساة ومعايير من جمال في رواية "الهوتة" للروائية نجاح إبراهيم
أيمن دراوشة
أيمن دراوشة
عن الهيئة العامة السورية للكتاب صدرت رواية (الهُوْتة)، الفائزة بجائزة حنا مينه للرواية "المركز الثالث" - العام 2021 للكاتبة السورية نجاح إبراهيم. وقبل حديثنا وتحليلنا للرواية كان لزامًا علينا مصافحة العنوان " الهوتة " ومعرفة خفايا هذا العنوان ومدلولاته والذي يبدو عنوانًا غريبًا ومنتقى بعناية حيث ورد في معجم المعاني أن الجمع هو هُوتٌ وهُوَتٌ والهُوتَةُ ما انخفض من الأرض أو الطريق المنحدر إلى الماء، أمَّا في رواية الكاتبة نجاح إبراهيم، فمصطلح "الهوتة" قد تم استخدامه للدلالة على الأحداث الساخنة أو الجريئة في الأدب سواء القصة أو الرواية أو المسرح... فالمصطلح يمكن أن يشمل المواضيع الغرامية أو العنف أو الرعب أو أية مواضيع أخرى تعد مثيرة أو جريئة. تأثير الهوتة في رواية الكاتبة يمكن أن يكون متنوعًا ويعتمد على السياق وكيفية تناولها في النص. وقد ساهمت الهوتة في جعل الرواية أكثر جاذبية وأكثر تحفيزا على متابعة الأحداث، وقد تمَّ استخدامها بدقة في رواية نجاح إبراهيم محققة في ذلك أهداف الرواية دون أي تجاوز أخلاقي أو ثقافي.
ورواية الأديبة نجاح إبراهيم هي آخر رواياتها التي تجسِّد فيها تداعيات الحرب الإرهابية على سورية والتحولات التي حدثت آنذاك، كما توضح الأثر السيء الذي خلَّفه ذلك الإرهاب المجرم من تهجير وقتل وخوف ومآسي لا حصر لها، وتناولت الكاتبة سرد الوقائع بكل شفافية مزامنة مع التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان وبالا على الشعب السوري.
واستطاعت الأديبة نجاح إبراهيم في مواطن عديدة أن تعقد مقارنة بين خونة الوطن وبين من أخلص له دون تشظي الحدث من خلال بنية تحتية محكمة.
وفي الرواية نرى كيف تم تهجير بطل الرواية حامد الذي غادر قريته قسرًا إلى دمشق هربا من طاغوت داعش وهمجيته؛ وفي دمشق يعيش حامد أحداثًا متغيرة ومتناقضة بعيدًا عن مسقط رأسه في فرية الحسكة وبعيدًا عن أهله وأصدقائه.
وقد عانى حامد من اتهامات مغرضة، ومن الماضي المؤلم والاختطاف وندبات الغربة ومواجعها فكان سفره إلى روسيا، لكن سوريا ودمشق ظلت ملازمة له في داخله كما لازم هذا الحب جارته بهار.
وصورت لنا الكاتبة إلى المستوى المعيشي المختلف بين الريف والمدينة من حيث العادات والتقاليد بين الناس، ولفتت الأديبة في روايتها إلى فروقات العيش بين الريف والمدينة واختلاف العادات والتقاليد بين الأفراد وكان ذلك من خلال ما تعرض إليه حامد الذي لازم لمياء حالة عاطفية وإنسانية متعددة، فكان هذا التصوير أشبه ببناء هندسي لا ندرك تركيبه إلا من خلال التجوال في أنحائه الممتدة واستيعاب تشكيله الكلي، كما تكتسب الرواية قيمتها من تمازجها الرهيف في بنية الأداء جميعه، وذلك بحسبانها ذات فعالية في الأداء الفني حيث تنفث الروح في الكيان السردي حيث تتداغم الصور وتترابط. “وقلت هذا الدّم المراق، والذي يورث الحداد في كل مكان، لا يليق بنا نحن السوريين المنفتحين على الحياة، والمشهود لنا بعشقنا لها نحن الحضاريين في مدن كان لها قصبة السبق في تواجدها، حاملي لواء الأبجديات والقلاع"
تركز الأديبة على الوحدة الوطنية، من خلال قصة حب هائمة بين بهار التي هاجرت إلى روسيا وبين حامد الذي هاجر هو الآخر إلى نفس المكان، لكن قصة الحب هذه تغرق في الألم والغربة والانتظار الموجع؛ لتنتهي مجهولة فتفتح الأديبة للقارئ فرصة التأويل والتفسير فهي تشبه النهاية المفتوحة.
وتبدَّى لي أنَّ رواية "الهوتة" لنجاح إبراهيم مثيرة ومعقدة، إضافة إلى تشعبها، ولعل ما يميز الرواية النظر إلى الشخصية وهي مقيدة في ظروف الواقع الأليم والعجز من التخلص من معاناتها.
هذه المعاناة التي تأبى الاستسلام وتتجاوز الخنوع والإحباط هو ما جمَّل الشخصية والأحداث، فالمعاناة تظل تشير إلينا وتقترح، فما نملكه قليل، وأننا عزل أمام أسلحة تتكاثر علينا.
"يا الله كيف يحمل واحدنا أطناناً من الألم ويبقى على قيد الحياة؟! كيف لم ننفجر من الوجع؟! غريبان نحن، شقيان. من بلاد الشمس جئنا، لنحط في بلاد الثلج أعزلين من كل شيء إلا من الرغبة في أن نعيش حياة كريمة نجد فيها الأمان والأمن. سمعت صوت المفتاح يدور في القفل، فأسرعت كالمجنون أفتح بابي فأراها ملاكاً مغتسلاً بوقت جميل لأقول: بهار أنتظرك
لا تتأخري. هزّت رأسها وهي ترسل إلى ابتسامة طفيفة، ثم نزلت الدرج تاركة عطرها في المكان". لقد أعطت قصة الحب بين بهار وحامد بعدًا إنسانيًا وعاطفيًا، مما يعزز الرواية ويجعل القارئ يشعر بالتأثر والتأثير، والاستناد إلى تجارب شخصية وأحداث واقعية، وهذا يمكن أن يجعلها تلقى استحسان القراء الذين يبحثون عن روايات تتناول قضايا معاصرة شائكة.
"قال حامد لنفسه: أي كلام تقوله هذه المترفة بالأنوثة؟ في بعض المساءات أقبض على ظلال اشتهاء في عينيها فأتغاضى عن ذلك احتراماً لسيدة قدّمت لي جميلاً.. تعساً لمن يمضي عازفاً عن قطف النجوم في وقت استثنائي. كانت ابتـسامتها شمساً تنير الوقت. كانت فالنتينا سيدة تناهز الخمسين من العمر، بيضاء جميلة طويلة، عميقة العينين، دافئة كشمس بلادي، وبيللا، أو ماري امرأة الماء والفرح والغموض توقظ حتى الحجر ليضاجعها"
هناك العديد من الجوانب التي يمكن استكشافها في الرواية، مثل تأثير الحرب والعنف على الأفراد والمجتمع، وكيف يمكن للأدب أن يعكس هذه التجارب ويعزز فهمنا لها.
إنّ مقاومة البطل في الرواية للمأساة هي التي تمثل روعة المأساة، فالهرب من الخوف ليس بالأمر المستحب، إلا أنَّ المأساة تكسبه جمالا فنيا عندما يشعر القارئ أنَّ البطل قد جاوز حد تحمل الألم، أو أنه لم تعد هناك طاقة أمام آلامه النفسية، فتكون نهايته مأساوية...إن تسليط الضوء على تجارب الشخصيات التي تعيش الغربة وتجربة الهجرة تعكس واقعًا مؤلمًا يعانيه الكثيرون في المنطقة، وهذا بسبب تأثير الإرهاب على الناس وحاجة المجتمع للتماسك والتضامن في مثل هذه الأوقات الصعبة.
رواية الهوتة تجمع بين الألم والأمل، وقد أعطت الكاتبة من خلال روايتها فرصة أعمق لتجارب الناس في سوريا خلال تلك الفترات الصعبة.
الأديبة إبراهيم تبدو واثقة من قدرتها على تقديم صورة معقدة للوضع من خلال شخصياتها التي تعيش تجارب مختلفة تسمح برؤى متعددة للأحداث والمشاعر وتجاوز الشكل إلى الجوهر فتكتمل معرفتنا المبتورة وتتم رؤيتنا القاصرة من خلال ما تملكه الكاتبة من طاقة إبداعية متدفقة من قدراتها الفنية والإبداعية.
وأخيرًا فالرواية غنية بالتفاصيل والعواطف والشخصيات التي وهبتها المؤلفة حرية الحركة، فلا تربطها أو تقيدها تجاه غرضها الخاص مع القدرة في الوقت ذاته على تحريك الشخوص والمراقبة الدقيقة ساحة الإمكانات المتاحة في مدى تأثير بعضهم على بعض.
الهوتة بما تملكه من وفرة وغزارة تتصل بالمكان والزمان والحوادث والشخوص جعلتنا كقراء نلهث في القبض على واحدة من تلك الإمكانات، ولكننا نسرع أمام إغواء آخر، فالوفرة والكثرة تدفعنا إلى متاهات وشعاب تذهب وتهرب بالرواية بها ومنها.