بليغ حسب الله - "قرية كرمكول" ملهمة الطيب صالح.. تلال رملية تنام على ضفتي النيل

كانت الرحلة شاقة وممتعة في آن، تهادت خلالها سيارة النقل الصغيرة وهي تصارع تلال الرمال الذهبية العاتية التي تلهي بجمالها عن اشعة الشمس الحارقة التي رسمت نفسها بوضوح في تلك البقاع الجافة في شمال السودان، وبعد عناء توقفت بنا السيارة وسط منازل شاحبة شيدت من الطين تحفها اشجار نخيل عالية واشجار اخرى متفرقة انهكها الجفاف مع جحافل اطفال خرجت لتوها من تلك المنازل ليحيطوا بنا من كل مكان الى جانب مجموعة رجال جاءوا يستقبلون زائريهم.

من هنا من هذا المكان "قرية كرمكول" خرج على الدنيا نجم الرواية السوداني العالمي الطيب صالح، ومنها ايضاً استلهم جميع رواياته التي نالت اعجاب الكثيرين، وربما يعرف كثيرون صالح ورواياته ويحفونها باعجابهم لكن كثيرين ايضاً هم من لا يعرفون انها جزء لا يتجزأ من الواقع في تلك القرية الصغيرة والقريبة جداً من مدينة الدبة الواقعة عند انحناءة النيل في شمالي البلاد.

ولا يختلف نمط حياة السكان هناك عن حياة كل من يقطنون في الفرقان والقرى التي تتوسط ضفتي النيل شرقاً وغرباً، لذلك تبدو الروايات جزءا من الواقع هناك وان اختلف الزمن ونمط العيش الآن مع تلك السنوات التي عاش فيها شخوصها الذين لم يتبق منهم غير ثلاثة هم سيف الدين واحمد اسماعيل وعبدالحفيظ احدهم طاعن في السن طبقاً لعماد ابو شامة ابن اخت الطيب الذي قال ل"الرياض" ان القرية خرجت عن بكرة ابيها لاستقبال خاله الذي جاء اثناء زيارته الأخيرة قبل شهور بعد اكثر من ثلاثين عاماً من الانقطاع قضاها مهاجرا خارج السودان.

وكما بقي هؤلاء اطال الله اعمارهم بقيت ايضاً "دومة ودحامد" في مكانها معلما بارزا عند مدخل القرية من ناحية الشمال تصارع هي وتقاوم تلال الرمال الزاحفة من كل مكان، ولم تتأثر بتحولات ضربت القرية كغيرها من قرى المنطقة التي اصبحت منذ عهد قديم عرضة لفيضانات النيل وكوارثه المتلاحقة.

فقد تغيرت خارطة كرمكول التي تمتد مع امتداد النيل لأقل من ثلاثة كيلومترات او اكثر تقريباً من الجنوب الى الشمال عدة مرات، بيد انها مع ذلك كله خرجت من صدماتها، وما تزال شامخة تقاوم بقوة زحف الرمال من الناحية الغربية وظاهرة "الهدام" انجراف التربة على شاطئ النيل من الناحية الشرقية.

وسط هذه البيئة المعقدة ترعرع الطيب صالح وعاشت شخوص رواياته، قبل ان يجسد ويحول حياتهم الى أدب من نوع خاص هز العالم لدرجة ان كرمكول نفسها لم تكتسب كل هذه الاهمية والشهرة الا بعد بروز نجم صالح ومن خلفه الروائي السوداني الشهير هو الآخر ابن القرية أمير تاج السر.

تبدأ قرية كرمكول من الشمال الى الجنوب بمجموعة تلال رملية ومنازل متناثرة من الطين هجرها اهلها لتتحول مع الزمن الى مجموعة قطع حجرية متناثرة تحكي عن ذلك الماضي الجميل الذي صورته روايات عرس الزين ودومة ودحامد وموسم الهجرة الى الشمال، اذ تعتبر كرمكول القرية الاكثر هناك تأثراً بالهجرة التي اصبحت مشكلة عصية في الشمال بسبب ضيق ذات اليد والاهمال الشنيع من قبل الحكومات المتعاقبة، وتنتهي كرمكول بمجموعة قباب واشجار نخيل وسنط ونيم فعل فيها الجفاف فعلته.

وفي كرمكول مجموعة آثار قديمة من بينها قصر "المانجولوك" اسم نوبي ربما اقترن بالممالك القديمة في الشمال الذي ما تزال آثاره قائمة اضافة الى تركة العمد الذين شغلوا ايضاً جزءاً من روايات صالح التي غالباً ما تصور القرية في زمن الاستعمار الانجليزي للسودان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى