ربما كانت العصور التي بنى فيها الحمار الحضارة عصور الربة الأم، فكانت الكلمة للنساء. والمرأة بطبعها بعيدة عن الحرب والضرب والقسوة والعنف. وكان عهدها عهد سلام وهدوء وطمأنينة، وهو العهد الذي برز فيه الحمار بطلا حضاريا. فالصفات النبيلة للحمار كلها من هذه الفترة التي تسيدت فيها المرأة السلطة. ولكن عندما ظهر الحصان سيطر الذكر. والمعروف أن الرجل أقرب إلى الحروب والأطماع والعدوان، فاحتلت المرأة مكانة ثانوية، وتراجع الحمار وحل محله الحصان في البلاغة رمزا للقوة والعدوان. وبعد ذلك صارت الصفات السيئة تلصق بالمرأة وبالحمار معا.
نرجح أن يكون هذا هو السبب، لأن عصر سيادة الذكر كان عصر انحدار للحمار. وراح البلاغيون يغيرون من بلاغتهم بما يتناسب والعصر الجديد، فصار الحمار أبله بليدا وغير قادر على التمييز. يقول توماس لوفيل بيدوس "لموت الملك أذنا حمار" أي لا يميز بين الأشياء. وجرت العادة أن يرتدي مهرجو الملوك زي حمار لإضحاكهم. وقد ضرب عصفورين بحجر جون ويلموت (إيرل روشستر) عندما قال:
تحب امرأة؟ أنت حمار
إنه أشد انفعال موح
لتختار من أجل سعادتك
أغبى شيء خلقه الله.
وبذلك يكون هذا الشاعر قد عبر عن سمة البلاغة الجديدة التي تنكرت للمرأة والحمار وسارت بركاب الرجل والحصان. إن عصرا جديدا غيّر البلاغة السابقة وخلق بلاغته الخاصة كما سوف نرى.
وقد شاركت الأمثال الشعبية في البلاغة المعادية لبلاغة الحمار كقولهم "الحمار حمار ولو حمل على ظهره السلطان" وقولهم "التكرار يعلم الحمار" مع أن الحمار لا يقع في الخطأ مرتين أبدا، و"الملك الجاهل حمار متوج" وبلغ الأمر بوليم تمبل temple أن يقول "ليس القرد ولا النمر في الإنسان ما يخيفني بل الحمار الذي في أعماقه" ويقصد أن الغباء هو ما يخيف في الإنسان. إنه يسيء الظن بهذا المخلوق ويجعله مدمرا بعد أن كان مثال التواضع والطيبة والرقة والذكاء.
يبدو أن كل شيء تغير بعد سيادة الذكر. حتى الميثولوجيا صار لها منحاها المختلف عن السابق. فقد جاء أن الإله أبولو تبارى مع بان رب الغابات. وكان ميداس حكما بينهما. عزف بان لحنا ميلوديا يتقنه حتى الرعاة، بينما عزف أبولو لحنا هرمونيا لا يجيده إلا الآلهة. ولكن المسكين ميداس، ذا الأصل الريفي، مال إلى موسيقى بان فغضب أبولو وجعل له أذني حمار.
ظل بعض المؤلفين يحتفظون ببقايا من المزايا النبيلة للحمار. فسرفانتس يجعل سانشو بانزا مرافق دون كيشوت، يبكي ويعول على ضياع أعز صديق له، حماره. ولو أنعمنا النظر فيما قاله لوجدنا أنه يستعيد ما كان يعزى للحمار من صفات كلها نبل وكلها سمو. إن الحمار كما يقول سانشو بانزا – خادم مجاني تسخره طيلة النهار دون أن تنفق عليه مليما واحدا. وفي "دون كيشوت" يبدو الحمار مثال الرزانة والهدوء، بينما يبدو الحصان مثال الرعونة والعنف. يقول سرفانتس "إن الحمار يسير بحمله، وليس بحمل مضاعف يركض به كالحصان الطليق إلى حتفه"
جعلت الميثولوجيا الذكرية بيغاسوس حصانا بجناحين يحلق في السماء بينما راحت تجعل من الحمار الذي بنى حضارة الصمت والهدوء والسكينة، مثالا للبلادة والغباء. ولكن نجد بعض من جعله مثالا للعفوية والسجية، وليس للبلادة الغباء. فبوريدان Buridan يختار الحمار لتجربته. يقول لو وضعنا جردل ماء وجردل طعام على بعد متساو من الحمار لاحتار: هل يروي الظمأ أم يشبع الجوع؟ إنه لم يختر إنسانا لأن الإنسان لم يملك يوما من الأيام طيبة الحمار وعفويته. ولو استبدلنا الحمار بإنسان لمد يمناه وتناول الجردل، إن كان يستخدم يمناه، أو تناول الجردل بيساره إن كان يستخدم يسراه. الحمار أفضل مخلوق لهذا الاختبار. وهذا يدل على رهافة في الحساسية. فحمار بوريدان مخلوق يعاني القلق الوجودي مثل أي إنسان حساس بعيدا عن الانفعالات الجامحة. كان بوريدان يعرف أن هذه التجربة لا يصلح لها إلا حمار: لا إنسان ولا ثور ولا حصان. . . ولا أي مخلوق من مخلوقات الكون الكثيرة.
وفي الوقت الذي صعد فيه بيغاسوس مجنحا إلى السماء وصارت له كوكبة خاصة، وشكل الثور برجا فلكيا في قبة السماء، حيل دون دخول الحمار إلى "الإنترنت" القديمة التي استوعبت الجدي والدلو والأسد. . . ولكنها ضاقت عن البطل الحضاري الصامت.
إن خدمات الحمار لا تعد. ومع أنه شق الطرقات الجبلية، إلا أنهم استخدموا ابنه البغل لأنه يحمل أضعاف ما يحمله، وسموا الطريق الجبلية "طريق البغالة". ولكن في كل لغات العالم تدل الصورة البلاغية "يعمل كالحمار" على العمل الشاق المخلص الذي لا ينال فيها الشغيل أجرا أو شكورا.
ونعرف النوايا الخبيثة للإنسان من البلاغة، فقد أطلق مئات الأسماء على الحصان والرمح والسيف (والناقة في البلاد الصحراوية) بينما لا يملك الحمار إلا اسمه واسم زوجته الأولى "الأتان" وابنه منها "الجحش" واسم ابنه "البغل" من زوجته الثانية (الفرس).
* حنا عبود: (البلاغة من الابتهال إلى العولمة)
#حناعبود
نرجح أن يكون هذا هو السبب، لأن عصر سيادة الذكر كان عصر انحدار للحمار. وراح البلاغيون يغيرون من بلاغتهم بما يتناسب والعصر الجديد، فصار الحمار أبله بليدا وغير قادر على التمييز. يقول توماس لوفيل بيدوس "لموت الملك أذنا حمار" أي لا يميز بين الأشياء. وجرت العادة أن يرتدي مهرجو الملوك زي حمار لإضحاكهم. وقد ضرب عصفورين بحجر جون ويلموت (إيرل روشستر) عندما قال:
تحب امرأة؟ أنت حمار
إنه أشد انفعال موح
لتختار من أجل سعادتك
أغبى شيء خلقه الله.
وبذلك يكون هذا الشاعر قد عبر عن سمة البلاغة الجديدة التي تنكرت للمرأة والحمار وسارت بركاب الرجل والحصان. إن عصرا جديدا غيّر البلاغة السابقة وخلق بلاغته الخاصة كما سوف نرى.
وقد شاركت الأمثال الشعبية في البلاغة المعادية لبلاغة الحمار كقولهم "الحمار حمار ولو حمل على ظهره السلطان" وقولهم "التكرار يعلم الحمار" مع أن الحمار لا يقع في الخطأ مرتين أبدا، و"الملك الجاهل حمار متوج" وبلغ الأمر بوليم تمبل temple أن يقول "ليس القرد ولا النمر في الإنسان ما يخيفني بل الحمار الذي في أعماقه" ويقصد أن الغباء هو ما يخيف في الإنسان. إنه يسيء الظن بهذا المخلوق ويجعله مدمرا بعد أن كان مثال التواضع والطيبة والرقة والذكاء.
يبدو أن كل شيء تغير بعد سيادة الذكر. حتى الميثولوجيا صار لها منحاها المختلف عن السابق. فقد جاء أن الإله أبولو تبارى مع بان رب الغابات. وكان ميداس حكما بينهما. عزف بان لحنا ميلوديا يتقنه حتى الرعاة، بينما عزف أبولو لحنا هرمونيا لا يجيده إلا الآلهة. ولكن المسكين ميداس، ذا الأصل الريفي، مال إلى موسيقى بان فغضب أبولو وجعل له أذني حمار.
ظل بعض المؤلفين يحتفظون ببقايا من المزايا النبيلة للحمار. فسرفانتس يجعل سانشو بانزا مرافق دون كيشوت، يبكي ويعول على ضياع أعز صديق له، حماره. ولو أنعمنا النظر فيما قاله لوجدنا أنه يستعيد ما كان يعزى للحمار من صفات كلها نبل وكلها سمو. إن الحمار كما يقول سانشو بانزا – خادم مجاني تسخره طيلة النهار دون أن تنفق عليه مليما واحدا. وفي "دون كيشوت" يبدو الحمار مثال الرزانة والهدوء، بينما يبدو الحصان مثال الرعونة والعنف. يقول سرفانتس "إن الحمار يسير بحمله، وليس بحمل مضاعف يركض به كالحصان الطليق إلى حتفه"
جعلت الميثولوجيا الذكرية بيغاسوس حصانا بجناحين يحلق في السماء بينما راحت تجعل من الحمار الذي بنى حضارة الصمت والهدوء والسكينة، مثالا للبلادة والغباء. ولكن نجد بعض من جعله مثالا للعفوية والسجية، وليس للبلادة الغباء. فبوريدان Buridan يختار الحمار لتجربته. يقول لو وضعنا جردل ماء وجردل طعام على بعد متساو من الحمار لاحتار: هل يروي الظمأ أم يشبع الجوع؟ إنه لم يختر إنسانا لأن الإنسان لم يملك يوما من الأيام طيبة الحمار وعفويته. ولو استبدلنا الحمار بإنسان لمد يمناه وتناول الجردل، إن كان يستخدم يمناه، أو تناول الجردل بيساره إن كان يستخدم يسراه. الحمار أفضل مخلوق لهذا الاختبار. وهذا يدل على رهافة في الحساسية. فحمار بوريدان مخلوق يعاني القلق الوجودي مثل أي إنسان حساس بعيدا عن الانفعالات الجامحة. كان بوريدان يعرف أن هذه التجربة لا يصلح لها إلا حمار: لا إنسان ولا ثور ولا حصان. . . ولا أي مخلوق من مخلوقات الكون الكثيرة.
وفي الوقت الذي صعد فيه بيغاسوس مجنحا إلى السماء وصارت له كوكبة خاصة، وشكل الثور برجا فلكيا في قبة السماء، حيل دون دخول الحمار إلى "الإنترنت" القديمة التي استوعبت الجدي والدلو والأسد. . . ولكنها ضاقت عن البطل الحضاري الصامت.
إن خدمات الحمار لا تعد. ومع أنه شق الطرقات الجبلية، إلا أنهم استخدموا ابنه البغل لأنه يحمل أضعاف ما يحمله، وسموا الطريق الجبلية "طريق البغالة". ولكن في كل لغات العالم تدل الصورة البلاغية "يعمل كالحمار" على العمل الشاق المخلص الذي لا ينال فيها الشغيل أجرا أو شكورا.
ونعرف النوايا الخبيثة للإنسان من البلاغة، فقد أطلق مئات الأسماء على الحصان والرمح والسيف (والناقة في البلاد الصحراوية) بينما لا يملك الحمار إلا اسمه واسم زوجته الأولى "الأتان" وابنه منها "الجحش" واسم ابنه "البغل" من زوجته الثانية (الفرس).
* حنا عبود: (البلاغة من الابتهال إلى العولمة)
#حناعبود