شايبي جمعي - قراءة في رواية الإنكار _ رشيد بوجدرة .

جائرا كنتني في بعض أحكامي المسبقة .
وقد آلت بعض اعتقاداتي العتيقة كنعالي البالية إلى مجرد تصورات واهية.
في محكمة الأدب مثلت أمام ضميري باعتباره قاضي قضاتها فأدانني بجهلي وتعجلي.
ولا دليل يبرؤني من جريمتي الشنعاء المقترفة غير اعترافي الكامل بأني واهما كنتني حينما جزمت بعد قراءتي لثلاثية الملهم نجيب محفوظ الخالدة ألا نص في مدرسة الأدب الواقعي باستطاعته محاكاتها واستحالة مصاولتها روائيا ومطاولتها ومجاراتها .
وهاهو الكاتب الكبير رشيد بوجدرة يحيل جزمي المزعوم إلى ضرب من ضروب الخطل.
وقد جاد علينا مخياله السخي الرحيب بنفيسة طوحت بأحكامي الجائرة.
واهبا إيانا تحفة من تحفه الأدبية الخالصة .. مثريا خزانة الأدب العالمي بواحدة من عيون الأدب النادرة .
رواية الإنكار المذهلة التي ترتقي باسم كاتبها إلى صفوة العمالقة والملهمين بعيدا عن صعاليك الثقافة وتجار الأدب.. وتشهد أبد التاريخ أن رشيد بوجدرة ليس إسم لكاتب مائز فحسب بل لنابغة.
لقد خلد التاريخ شهرزاد وتوجها ملكة وسيدة على عرش القص ومملكة الحكي متخذة لها من اللغة الغضة وسحر البلاغة والبيان سلاحا ومن فصاحة اللسان درعا ومن براعة القص مطية لتبقي لها على روحها وتضمن لذاتها النجاة من حكم إعدام نافذ على يد شهريار الذي مات واندثر دون أن يلهج بذكره بالكاد لسان لكأنه مجرد فقاعة صابون تافهة .
من خلال مااستقرأت ذائقتي من تناص عجيب بين ألف ليلة وليلة ورواية الإنكار لكأن بوجدرة قد قلب الأدوار بين شهرزاد وشهريار إذ قلد بطله رشيد وتوجه بدل سيلين ملكا وسيدا على مملكة القص وملكه سلطان الكلمة فاتخذها مطية لتفادي إعدامه بمقاصل الصمت وعذابات الجلد بسياط الوحدة وفرقعة طواحين العزلة الطاحنة وعذابات التيه في مدارات الفراغ القاتلة .
الإنكار تعرية للمجتمع التقليدي بنسج سردي محوك ببراعة واقتدار راسما بالكلمات صورة بينة لحقيقة ذلك المجتمع المتخم بالخرافات المشوب بنزعة الولع بالغطرسة والمدجج بأقنعته المزيفة وأوجه نفاقه المتعددة وهواجسه الجنسية الجامحة المتأججة تحت رماد تدينه المصطنع وحيائه المبتذل وتقاليده وعاداته البالية.
إنها مأساة النساء المقهورات تحت سلطة ذكورية جائرة .
أولئك الغارقات حتى آذانهن في أوحال العقائد القروسطية البائدة دون أن يجدن في بيئتهن المغلقة من يمدهن بحبل النجاة.
إنها قصة الزوجات القابعات أبد الدهر تحت إقامة جبرية لسلطة زوجية متغطرسة .
وقصة المطلقات اللواتي لا يمنحهن الطلاق غير المزيد من الإزدراء وانتقاص القدر وتحطيم للكبرياء وتشويها لكرامتهن الممتهنة .
ولا يمنحهن واقعهن الإجتماعي الموبوء غير المزيد من الإحتقار وأفضع أحقاد معاداة الأنوثة لكأنهن اخترنها اختيارا عن طواعية وارتضاء لا كونها قدرا محتوما عليهن وحكمة ربانية عادلة تسري عليهن سري باقي الأحكام على سائر الأرواح والأنسام .
ولكأن أنوثتهن جريرة لا تغتفر تلزمهن بالخضوع للإستعباد أبد الدهر إلزاما .
فلا يعشن إلا في ظل واقع مريع ولا تغدوا أرواحهن المعذبة إلا كخشب مأروض .
لتتواصل مأساتهن كسمفونية مدر وجزر أزلية يعزفها البحر في هدأته واصطخابه .
إلى رمقهن الأخير ليرمى بهن كالنفايات في أحشاء القبور وبطونها المتربة .
إن ما قصه علينا رشيد بطل نص بوجدرة لم يكن ثرثرة مبرقشة بالهذيان أو سيلا من الكلمات الجوفاء المفرغة من أي دلالة أو معنى .
ولا كانت حالة رشيد بلبلة فكرية ولا اضطرابا عقليا أو نوبات من الجنون المرضية التي تنتاب عقول ضحاياها على حين غرة .
فما جاء على لسان رشيد مأساة مروية بروية عن نساء مضطهدات انغلقن على أنفسهن من شدة القهر كالمحارات .. واغتيلت في مكامنهن الفطرة رغم مايخامرهن من الرغبات.. تبور فروجهن من الزهد في وطئها ومن طول النفور منها طالما كان لأولئك الذكور غنية عنها مسكونون بالرغبة واشتهاء غيرها.
أولئك الذين لا تعني لهم الحياة إلا ثقوبا بين أفخاذ النساء يتبجحون باقتحامها على شاكلة الفاتحين والغزاة .
وما الزوجات في نظرهم غير مرتهنات بحجة الزواج وانهن ملك أيمانهم كسائر ما ملكت من الأشياء وسقط المتاع ..لكأنهن متاع للمتعة .
والزواج عندهم صفقة تجارية تبرم يمنحهم عقدها الحق في تعذيبهن بمطلق الحرية .
الإنكار أيضا قصة البراءة المؤودة في مهد الطفولة ..
ورصد حثيث لتداعيات الطلاق ومايترتب عليه من صراع البحث المحتدم عن أبوة ضائعة مسروقة مستلبة .. وما يخلفه في أرواح الأسر من أحاسيس متلاطمة جراء طوفانه الجامح الأعمى الذي يكتسح العائلات جارفا وحدتها فاعلا فعلته في تمزقها وتفككها وتشظياتها مخلفا ذلك التشتت والشتات العصي على اللملمة والإئتلاف .
جاء أسلوب سرد النص مباشرا على لسان بطله المحوري رشيد .
مع إعتماد الكاتب في بنائه الفني على تقنية الإسترجاع كما عمل على توظيف مكثف للعديد من التيمات المتضادة المتضاربة كالحب والجنس والخيانة والحرية والإضطهاد والجشع والفقر والغنى كما كان ضليعا كعادته في في توظيفه للوصف بدقة متناهية في الإدهاش وجرأة تخطت المألوف في التطرق إلى كل ما سكت عنه بدواعي التحفظ عما يمس بالمقدسات وما من شأنه كسر منظومة المحتمعات الأخلاقية .
أخيرا أقول : إن رواية الإنكار ليست محض اختلاق من مخيال مريض .
إنها القصة الواقعية لمجتمع مغلول في أوهام الطهر والعفة .
وسرد بديع لتاريخ طويل من الجهل والتعنت والإستبداد والرجعية .
الإنكار بجرأتها المفرطة نص ينضح بحقائقنا المرة وأمراضنا الأيديولوجية المستعصية في غياب وعي جمعوي يحفظ للإنسان كرامته وحق الحرية .

شايبي جمعي .






1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى