أ. د. عادل الأسطة - تداعيات حرب ٢٠٢٣ : محمود درويش : " هدنة مع المغول "

في الحرب التي تخللتها هدنة منذ فجر ٢٤ / ١١ / ٢٠٢٣ حضرت أشعار محمود درويش في الحرب والهدنة معا كما لم تحضر أشعار شاعر فلسطيني وعربي آخر ، تلتها أشعار مظفر النواب . أشعار الأول لأنها عبرت عن المأساة الفلسطينية كما لم تعبر عنها أشعار شاعر ثان ، ولأنها الأكثر حضورا في الوجدان الفلسطيني أيضا ، وأشعار الثاني لأنها عبرت عن خيبة أمله المبكرة من الأنظمة العربية ، وخيبته هي الخيبة التي تلم بالجماهير العربية كلما تعرض جزء من الوطن العربي لحرب ولم تتخذ تلك الأنظمة موقفا تنشده تلك الجماهير . هذا لا يعني أن أشعار شعراء فلسطينيين أو عرب آخرين لم تحضر . فأنا استحضرت نصوصا شعرية لإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي ومعين بسيسو وأحمد دحبور ومريد البرغوثي ، وغيري استحضر مقطوعات لنزار قباني وأحمد مطر وتميم البرغوثي وغيرهم .
مقاطع درويش في غزة حضرت في بداية الحرب حضورا لافتا ووجدت صدى كبيرا ، كما حضر نصه " صمت من أجل غزة " الذي كتبه في العام ١٩٧٢ ونشره في كتابه " يوميات الحزن العادي " ( ١٩٧٣ ) ، وهو نص يستحضر كلما اشتعلت الحرب في غزة منذ ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ ويبدو كما لو أنه كتب للتو . كان الشاعر كتب عن غزة في بداية سبعينيات القرن ٢٠ شعرا ونثرا ، وحفظ أبناء جيلي مقاطع من ديوان " محاولة رقم ٧ " ( ١٩٧٤ ) وأهمها سطر " وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب " وقد اخترت في بداية الحرب المقاطع التي ظهر فيها دال غزة من قصيدة " الخروج من ساحل المتوسط " وأدرجتها معا ، ليعاد نشرها في مواقع إلكترونية كثيرة أبرزها موقع " مبدعون فلسطينيون " الذي تديره روض الدبس - وأكثرت بدورها من إدراج مقاطع كثيرة من شعر الشاعر - وحول غزة في شعر درويش كتب الروائي إلياس خوري مقاله الأسبوعي في " القدس العربي " وكان عنوانه " غزة لا تبيع دمها " ( ٧ / ١١ / ٢٠٢٣ ) .
ولم يكتف الناشطون بإدراج مقاطع من شعر الشاعر ، فقد أدرجوا أيضا أشرطة قصائده ملقاة بصوته ومغناة بصوت مارسيل خليفة مثل قصائد " أحمد الزعتر " و " عندما يذهب الشهداء إلى النوم " .
ومن المقاطع التي كثر إدراجها بعد توقف القتال وبدء سريان الهدنة المقطع الذي ترد فيه عبارة " ونرقص بين شهيدين " من قصيدة " ونحن نحب الحياة " ، وسبب ذلك أن الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين رافقه فرح أهلهم بأبنائهم ومشاركة الناس لهم فيه . لقد تم الفرح في فترة ارتقاء ١٥ ألف فلسطيني وجرح ما لا يقل عن ٥٠ ألف آخرين ونزوح ما لا يقل عن ٨٠٠ ألف من شمال غزة إلى جنوبها وتدمير حياتهم ومساكنهم . كما لو أن الفرحة غير مكتملة .
في الهدنة عدت إلى قصيدة " هدنة مع المغول أمام غابة السنديان " من ديوان " أرى ما أريد " ( ١٩٩٠ ) لأقرأها من جديد وأواصل كتابة يومياتي عن الحرب بما يتناسب والواقع الجديد ؛ يومياتي التي لم تخل من تضمينات من أشعار الشعراء الوارد ذكرهم آنفا . إنها القصيدة الأكثر انسجاما مع واقع الهدنة التي ذكرتها وأنا أكتب عن قصة غسان كنفاني " الصغير يذهب إلى المخيم " مميزا بين زمني الحرب والاشتباك .
" هدنة مع المغول أمام غابة السنديان " التي تتشكل من ستة عشر مقطعا ينتهي كل واحد منها بدال السنديان تستعير من التاريخ غزو المغول للبلاد الإسلامية وتوظف رموزا مغولية ولكن زمنها الشعري لم يخل من تأثير الزمن الكتابي حيث ترد فيها مفردات معاصرة لم يعرفها المغول مثل " البندقية " و " البنادق " مما يجعل القصيدة تجمع بين زمنين هما القرن ١٣ م والقرن ٢٠ ، ويجعل منها قصيدة ذات دلالات رمزية تقول الراهن من خلال الماضي ، ولأنني قرأتها في زمن لاحق - أي في العقد الثالث من القرن ٢١ ، فإنني بكل بساطة يمكن أن أضيف إليها زمنا ثالثا هو زمن القراءة فأرى فيها قصيدة تعبر عن اللحظة الراهنة أيضا وتقول ما أريد قوله .
والسنديان كما في معجم حسين حمزة " الموتيفات المركزية في شعر درويش " يدل على التجذر وعلى الماضي الممتد في الحاضر ، وهو رمز للثبات والصمود أمام المتغيرات ، وهو المأوى البديل في المرحلة الأولى بعد التشرد ، وهو شاهد على الضحية والقاتل . إنه حاضر في الذاكرة الفلسطينية ومكون من مشهد الريف الفلسطيني ( ص ٣٢٢ ) .
يتجسد الله في السنديان الذي يطيل الوقوف على التل ويصعد إليه الذين يتكلم الشاعر باسمهم كي يمدحوا الله ، فماذا سيحدث إن تركوا المكان ؟ يتطاول العشب إن لم يجد من يجزه وقد يهبط اللازورد السماوي من شجر السنديان إلى الظل فوق الحصون ، فمن سيملأ فخارنا بعدنا ؟
كل شيء يدل على عبث الريح والضحايا تمر من الجانبين " فلا بد من هدنة للشقائق في السهل كي تخفي الميتين على الجانبين " ، " والصدى واحد في الحروب الطويلة : أم ، أب ، ولد " ينتظرون ويسهرون عودة الخيول لعلها تحمل على ظهورها الابناء المقاتلين .
لا يمدح الشاعر الحرب ، علما بأنها تعلمنا أشياء إيجابية كثيرة ، وينشد السلام لنا ؛ للمرأة التي تنتظر زوجها وللأطفال ولهواة الحياة ولأولاد أعدائنا وأخيرا ؟؟
" وأخيرا صعدنا إلى التل . ها نحن نرتفع الآن
فوق جذوع الحكاية .. ينبت عشب جديد على دمنا وعلى دمهم " .
ومنذ ٧٥ والحرب لا تنتهي وماذا كانت النتيجة ؟
" ولم نجد أحدا يقبل السلم .. لا نحن نحن ولا غيرنا غيرنا
البنادق مكسورة .. والحمام يطير بعيدا بعيدا
لم نجد أحدا ههنا ..
لم نجد أحدا ..
لم نجد غابة السنديان ! " .
وماذا لو استخدمت إسرائيل قنبلة نووية وأطلق حزب الله صواريخه على مصانع كيماوية قرب حيفا ؟
لن نجد أحدا ؛ لا هم ولا نحن ولا شجر السنديان !!
صباح الجمعة ١ / ١٢ انتهت الهدنة واستؤنفت الحرب . الحرب التي لا تنتهي .
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ٣ / ١٢ / ٢٠٢٣ )
٢٨ / ١١ / إلى ١ / ١٢ / ٢٠٢٣

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى