جمعي شايبي - الإراثة.. رشيد بوجدرة .

في قطار يقتحم الظلمات ويهرسها كغول معدني زاحف كان قابعا في جوف قاطرة من قاطراته النشوى باانزلاقاتها وتدافعها المجنون نابض القلب بحيرة مربكة.
لكأنه فأر محجوز في صندوق معدني متحرك . مسكونا بالتيه والضياع حتى أسحق أعماق ذاته المتعبة .
يمتص ذهنه في ذهول الرموز المتقطعة الوامضة وتغزو كتابات اليافطات الإشهارية الكاذبة عينيه المنبهرتين ..وفي أحايين يسلطهما خلسة على سحن الحشود الهائجة في محاولات فاشلة لاستقراء نظراتهم المبهمة ومعرفة أسباب لامبالاتهم المتقاسمة معززة حصاره بعزلة مهولة لا تطاق وصوم عن الكلام إلا مع نفسه المعذبة .
وفي محطات المترو المتشعبة كان يحث خطوه عبر الممرات الملتوية غارقا في متاهات المفترقات المتعددة والإتجاهات المتشابكة ذارعا ذات الأرصفة المتشابهة لكأنه يدور في حلقة مفرغة .
ورغم ذلك ظل مفتونا باتباع حلمه .. ومع آخر خطوة لاقى حتفه .
كان ضحية اغتيال عنصري على أيدي رعاع لا متعة لهم في الحياة غير لذة القتل بدماء باردة كالثلج وقلوب صلدة كالصوان محقونة مشحونة بالحقد على الغرباء مجبولة على التوحش والعدوانية ..
أولئك الهمج الملوثة عقولهم بلوثة العنصرية .
فأي حلم هذا الذي يأخذ شكل المصيدة ؟.
إنه حلم الكثير من الجزائريين التعساء الذين فروا من واقعهم الإجتماعي البائس وكانوا ضحية سهلة بطعم غواية الإنتماء إلى المجتمع الصناعي في الضفة الأخرى الذي أذاقهم جحيم الإحتراق أمام الأفران وعذابات الذوبان في أعماق المناجم في مهاوي الأرض السحيقة وظلمات بطونها .
حلم جاليتنا المغتربة التي استفاقت بعد فوات الأوان على كابوس يقظتها مدركين أن كل شيئ يظل في عواصم النور والضباب رخيصا حتى أرواح الغرباء .
وإذ لا تزال أسماء الجزائريين المغتالين بمرسيليا وغيرها من المدن تترى يؤرخ بوجدرة بنهاياتهم المؤلمة لتاريخ فرنسا الإجرامي الطويل الناضح بالوحشية والعنصرية والمبلط بالجثث .
رواية الإراثة كشف لحقيقة أدعياء التحضر والمدنية وتعريتهم تحت الشمس بكامل عدائهم المقيت للإنسانية .
والإراثة أيضا إدانة صريحة لمن صنعوا عن قصد ودون مبالاة حتوف أولئك المخدوعون بوعود حياة مثالية كاذبة .
أولئك الذين اختلقوا عوالم تلك الرحلات المتعبة حد التحطم والإنهاك والهلاك ونسجوا من الأحلام الخادعة أكفانا جاهزة للبؤساء في كل فاجعة .
الإراثة كشف للإغراء المتفشي بين جموع اليائسين الضائعين .. وكشف عن الأيادي الضليعة في إيقاد نيران غواية الهجرة بين الحالمين .
والإراثة أيضا هي المغامرة التي توارثها الطامحون ومقامرة خاسرة بأرواح المتعوسين .
الإراثة بكثافة دلالياتها وعقد رمزياتها مع لغتها السردية العليا والراقية جدا نص موجه للنخبة بامتياز إذ ستظل عصية على فهوم أصحاب القراءات السطحية والثقافة المستهلكة على شاكلة الأغذية المعلبة .
أخيرا أقول : الإراثة أوديسة نثرية مهداة لأرواح الجزائريين التي طالتهم العنصرية الآثمة .

جمعي شايبي.


1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى