مقدمة لنظرية الخبر عند الجاحظ
التعريف والتأسيس(1)
مقدمة:
تسعى هذه الدراسة إلى تناول الخبر ونقده في فكر الجاحظ ومنظومته. لا يتعلق الأمر هنا بدراسة أفكار الجاحظ ونظرياته في كل مظاهرها وأشكال تطورها، بل إننا سنحدد هدفنا بشكل متواضع في النظرة الشاملة إلى الخبر، وتتبعه نحو المقصد الذي يقودنا إليه، ثم تحديد بعض النتائج النظرية والتطبيقية المترتبة على ذلك في منهج الجاحظ. إن هدفنا تحديدا هو فحص بعض الاقتراحات التي غالبا ما تسند إلى الجاحظ، وذلك من خلال دراستنا لمجال مخصوص هو مجال الأخبار حتى نتأكد من مدى وجود انسجام منطقي في فكر الجاحظ ووحدته.
هناك حكم متفق عليه قديما وحديثا يقر بافتقار الجاحظ إلى الانسجام، ولعل حكم رجيس بلاشير أن يكون أكثر وضوحا ودلالة في هذا السياق. يقول: " في كل الأحوال، يظهر لنا الجاحظ في كتاب ابن الفقيه جماعا للنوادر المزيفة والمزورة في الغالب، وجماعا للحكايات الغريبة، والقصص التافهة والسخيفة التي أتيح له جمعها كيفما اتفق، وبشكل عشوائي يفتقر إلى النظام. إن هذه الخطة في التأليف -إذا أمكننا قول ذلك- هي الخطة المتبعة عند الجاحظ"1.
والواقع أنه يجب أن نميز بعناية كبيرة مفهومين يبدوان لنا أساسين: صيغة العرض أو طريقة التأليف من جهة، ومحتوى المعلومات وقيمة الأفكار من جهة ثانية.
بالنسبة إلى النقطة الأولى، وضح الجاحظ ذلك في مواضع متعددة من مؤلفاته: أي إنه اختار نمطا من التأليف النابع من جنس الأدب؛ وهو مزيج بين الأجناس يظهر جليا وباديا للعيان من خلال انعدام نسق منظم، ومن خلال الاستطرادات المتعددة التي تحجب فكره. وهذا يثير في نهاية الأمر المشكل العويص الذي يتجلى في العلاقات الموجودة بين الأدب وبين الفكر الفلسفي والعلمي في الأدب العربي الإسلامي، وبصفة خاصة عند الجاحظ.
أما من جهة المحتوى وجوهر رسالة الجاحظ فإننا نواجه ظاهرة الانحراف اللافت للنظر لدى كاتبنا. وستحاول دراستنا في مجملها أن تسهم في وضع مؤشرات الجواب.
في الواقع، هناك طريقتان لقراءة الجاحظ:
1- القراءة الخطية والخارجية والتجزيئية إذا صح القول. وهذا الشكل من المقاربة المقطعية يعدم كل فهم للجاحظ. ولعل هذا ما يفسر تلك التحقيقات المتباينة، والإسنادات الخاطئة، والتفاوت بين الناسخين؛ وبناء عليه، فإنه من الصعب إثبات نصوص كاتبنا والبرهنة على صحتها.
2- القراءة القائمة على التجميع النسقي لمختلف فقرات كتاباته المتجاوبة، حيث تسمح بإيجاد منطق داخلي في فكر الجاحظ. إن هذه القراءة، على الرغم من تنافرها وفجواتها في أحيان عديدة، ستساعدنا من دون شك في فهم آليات نظرية الجاحظ الشمولية وبعض المواقف التي يمكنها أن تكون مفاجئة، أو أحيانا صادمة. إن مفهوم الكلية يلعب هنا دورا حاسما.
والحق أن الخبر لم يستطع أن يكتسب في فكر الجاحظ معنى بالنسبة إلينا، إلا عندما تم إدماجه في مجموع مؤلفاته، وهذا ما يفسر اختيارنا في هذه الدراسة للتصميم الآتي:
- تعريف عام لمفهوم الخبر لأجل تحديده بكثير من الدقة وتبيين تضميناته.
- إدماج هذا التعريف في المنظومة الكلية لنظرية المعرفة عند الجاحظ ودراسة النتائج المترتبة عليها.
- تفعيل هذه المنظومة في الترجمة الكاملة لثلاثة مؤلفات للجاحظ، ونعني بذلك«حجج النبوة»، وهي مقتطفات عثر عليها ج. فان إيس ( J. VAN ESS) من »كتاب الأخبار وكيف تسيح . «وفي الختام، «كتاب المسائل والجوابات في المعرفة» عثر عليها وترجمها كذلك شارل بيلا.
وتكمن الأهمية القصوى لهذه النصوص بالنسبة إلى فكر الجاحظ في عدد من الأفكار الجوهرية التي تحتوي عليها، يعززها عرض نسقي مدعم بقضايا أثيرة عند الجاحظ.
وسنهتم في هذا المقام بالنقطة الأولى، وجزئيا بالنقطة الثانية؛ ذلك أن طول هذه الفصول يتجاوز ما تسمح به حدود المقال.
لقد اعتمدنا في دراسة الخبر مجموع أعمال الجاحظ، ذلك أن انتماء عمل ما لحقل معين مثل السياسة والأدب ليس معيارا للتمييز؛ فالأهم بالنسبة إلينا هو ما يميز بعض هذه الأعمال من غنى في الموضوع المدروس.
ما يهمنا هنا هو الجاحظ المفكر أكثر من الجاحظ الأديب، على الرغم من أن طريقة المعالجة فكريا ومنهجيا واحدة. فمنذ نشر النصوص الأساس للقاضي عبد الجبار وتلميذه أبي الحسين البصري (المغني، والمعتمد وشرح الأصول الخمسة والمحيط وتثبيت دلائل النبوة)، فتح الاهتمام بالفكر الاعتزالي آفاقا مهمة، ووضع الجاحظ والمفكرين الكبار المنتمين للقرن الثالث/ التاسع الميلادي فجأة في مقدمة اهتمامات المشهد الفكري للأبحاث المتعلقة بالفكر الإسلامي. إن أعمال م. ف. جدعان حول تأثير الرواقية في الفكر الإسلامي أولت اهتماما لا شك فيه لقضايا الجاحظ الفكرية والدينية. ويؤكد عبد الرحمن بدوي في كتابه «نقل الفلسفة اليونانية إلى العالم العربي» إلى أي درجة كان الجاحظ في خضم إشكالات الترجمة المثارة في عصره.
ولكننا بدلا من التركيز على مظهر واحد من إشكال الخبر ودراسته بعمق، عمدنا إلى طريقة أخرى تتمثل في التضحية بمجال معين في سبيل خطاطة شاملة تسمح لنا بفهم الكيفية التي يصاغ بها إشكال الخبر، مما سيؤدي إلى وضع خطاطة مجردة وواصفة، غير أنها ضرورية
التعريف والتأسيس(1)
مقدمة:
تسعى هذه الدراسة إلى تناول الخبر ونقده في فكر الجاحظ ومنظومته. لا يتعلق الأمر هنا بدراسة أفكار الجاحظ ونظرياته في كل مظاهرها وأشكال تطورها، بل إننا سنحدد هدفنا بشكل متواضع في النظرة الشاملة إلى الخبر، وتتبعه نحو المقصد الذي يقودنا إليه، ثم تحديد بعض النتائج النظرية والتطبيقية المترتبة على ذلك في منهج الجاحظ. إن هدفنا تحديدا هو فحص بعض الاقتراحات التي غالبا ما تسند إلى الجاحظ، وذلك من خلال دراستنا لمجال مخصوص هو مجال الأخبار حتى نتأكد من مدى وجود انسجام منطقي في فكر الجاحظ ووحدته.
هناك حكم متفق عليه قديما وحديثا يقر بافتقار الجاحظ إلى الانسجام، ولعل حكم رجيس بلاشير أن يكون أكثر وضوحا ودلالة في هذا السياق. يقول: " في كل الأحوال، يظهر لنا الجاحظ في كتاب ابن الفقيه جماعا للنوادر المزيفة والمزورة في الغالب، وجماعا للحكايات الغريبة، والقصص التافهة والسخيفة التي أتيح له جمعها كيفما اتفق، وبشكل عشوائي يفتقر إلى النظام. إن هذه الخطة في التأليف -إذا أمكننا قول ذلك- هي الخطة المتبعة عند الجاحظ"1.
والواقع أنه يجب أن نميز بعناية كبيرة مفهومين يبدوان لنا أساسين: صيغة العرض أو طريقة التأليف من جهة، ومحتوى المعلومات وقيمة الأفكار من جهة ثانية.
بالنسبة إلى النقطة الأولى، وضح الجاحظ ذلك في مواضع متعددة من مؤلفاته: أي إنه اختار نمطا من التأليف النابع من جنس الأدب؛ وهو مزيج بين الأجناس يظهر جليا وباديا للعيان من خلال انعدام نسق منظم، ومن خلال الاستطرادات المتعددة التي تحجب فكره. وهذا يثير في نهاية الأمر المشكل العويص الذي يتجلى في العلاقات الموجودة بين الأدب وبين الفكر الفلسفي والعلمي في الأدب العربي الإسلامي، وبصفة خاصة عند الجاحظ.
أما من جهة المحتوى وجوهر رسالة الجاحظ فإننا نواجه ظاهرة الانحراف اللافت للنظر لدى كاتبنا. وستحاول دراستنا في مجملها أن تسهم في وضع مؤشرات الجواب.
في الواقع، هناك طريقتان لقراءة الجاحظ:
1- القراءة الخطية والخارجية والتجزيئية إذا صح القول. وهذا الشكل من المقاربة المقطعية يعدم كل فهم للجاحظ. ولعل هذا ما يفسر تلك التحقيقات المتباينة، والإسنادات الخاطئة، والتفاوت بين الناسخين؛ وبناء عليه، فإنه من الصعب إثبات نصوص كاتبنا والبرهنة على صحتها.
2- القراءة القائمة على التجميع النسقي لمختلف فقرات كتاباته المتجاوبة، حيث تسمح بإيجاد منطق داخلي في فكر الجاحظ. إن هذه القراءة، على الرغم من تنافرها وفجواتها في أحيان عديدة، ستساعدنا من دون شك في فهم آليات نظرية الجاحظ الشمولية وبعض المواقف التي يمكنها أن تكون مفاجئة، أو أحيانا صادمة. إن مفهوم الكلية يلعب هنا دورا حاسما.
والحق أن الخبر لم يستطع أن يكتسب في فكر الجاحظ معنى بالنسبة إلينا، إلا عندما تم إدماجه في مجموع مؤلفاته، وهذا ما يفسر اختيارنا في هذه الدراسة للتصميم الآتي:
- تعريف عام لمفهوم الخبر لأجل تحديده بكثير من الدقة وتبيين تضميناته.
- إدماج هذا التعريف في المنظومة الكلية لنظرية المعرفة عند الجاحظ ودراسة النتائج المترتبة عليها.
- تفعيل هذه المنظومة في الترجمة الكاملة لثلاثة مؤلفات للجاحظ، ونعني بذلك«حجج النبوة»، وهي مقتطفات عثر عليها ج. فان إيس ( J. VAN ESS) من »كتاب الأخبار وكيف تسيح . «وفي الختام، «كتاب المسائل والجوابات في المعرفة» عثر عليها وترجمها كذلك شارل بيلا.
وتكمن الأهمية القصوى لهذه النصوص بالنسبة إلى فكر الجاحظ في عدد من الأفكار الجوهرية التي تحتوي عليها، يعززها عرض نسقي مدعم بقضايا أثيرة عند الجاحظ.
وسنهتم في هذا المقام بالنقطة الأولى، وجزئيا بالنقطة الثانية؛ ذلك أن طول هذه الفصول يتجاوز ما تسمح به حدود المقال.
لقد اعتمدنا في دراسة الخبر مجموع أعمال الجاحظ، ذلك أن انتماء عمل ما لحقل معين مثل السياسة والأدب ليس معيارا للتمييز؛ فالأهم بالنسبة إلينا هو ما يميز بعض هذه الأعمال من غنى في الموضوع المدروس.
ما يهمنا هنا هو الجاحظ المفكر أكثر من الجاحظ الأديب، على الرغم من أن طريقة المعالجة فكريا ومنهجيا واحدة. فمنذ نشر النصوص الأساس للقاضي عبد الجبار وتلميذه أبي الحسين البصري (المغني، والمعتمد وشرح الأصول الخمسة والمحيط وتثبيت دلائل النبوة)، فتح الاهتمام بالفكر الاعتزالي آفاقا مهمة، ووضع الجاحظ والمفكرين الكبار المنتمين للقرن الثالث/ التاسع الميلادي فجأة في مقدمة اهتمامات المشهد الفكري للأبحاث المتعلقة بالفكر الإسلامي. إن أعمال م. ف. جدعان حول تأثير الرواقية في الفكر الإسلامي أولت اهتماما لا شك فيه لقضايا الجاحظ الفكرية والدينية. ويؤكد عبد الرحمن بدوي في كتابه «نقل الفلسفة اليونانية إلى العالم العربي» إلى أي درجة كان الجاحظ في خضم إشكالات الترجمة المثارة في عصره.
ولكننا بدلا من التركيز على مظهر واحد من إشكال الخبر ودراسته بعمق، عمدنا إلى طريقة أخرى تتمثل في التضحية بمجال معين في سبيل خطاطة شاملة تسمح لنا بفهم الكيفية التي يصاغ بها إشكال الخبر، مما سيؤدي إلى وضع خطاطة مجردة وواصفة، غير أنها ضرورية
