د. أحمد الحطاب - المنظومة التربوية والسياسة

لا معنى للسياسة إن لم يكن من بين أهدافها التنمية البشرية والاجتماعية. وهذا معناه أن هذه السياسة يجب أن تُحرِّكَها مبادئ أساسية تتجلى في نكران الذات وإعطاء الأسبقية القطعية للمصلحة العامة قبل المصلحة الشخصية. السياسة معترف بها ك"الطريقة التي يتم بها تسيير الشأن العام وتُدار بواسطتِها شؤونُ بلد ما".

فمن المفترض إذن أن يكرِّس السياسيون عملَهم لخدمة بلدِهم ويكون الصالح العام هو الخيط الناظم لأقوالهم وأعمالهم. غير أنه عندما تصبح السياسة وظيفةً سياسويةً، فإنها تنحرف عن معناها الأصيل، مُوجِّهةً في نفس الوقت ضربةً قويةً وقاضيةً للصالح العام. وهذا لا يعني أن السياسة لا يجب أن تتدخَّلَ في أمور المنظومة التربوية. بل من واجب السياسة أن تهتمَّ، من خلال أحزابها، ببناء وبتطوير وتحسين جودة وأداء هذه المنظومة.

وبعبارة أوضح، لا يجب على الإطلاق أن تُسجنَ المنظومة التَّربوية في حلَبة تطاحن إيديولوجياتِ الأحزاب السياسية خدمةً لمصالحها الضيقة. مصلحة البلاد وبناء مستقبلها رهينان بمنظومة تربوية عالية المستوى والجودة وفوق كل الإيديولوجيات الحزبية مهما كانت توجهاتُها. المنظومة التَّربوية أُنشِئَت لتقدِّمَ خدماتٍ لجميع المواطنات والمواطنين وليس لإرضاء إيديولوجؤات الأحزاب السياسية. ما هو مطلوب من الأحزاب السياسية هو تَركُ إيديولوجياتها جانبا وتقديم الحلول والمقترحات والبدائل للرُّقي بهذه المنظومة لتصبح رافعةً فعليةً للتنمية بجميع تجلياتها.

فإذا لم تساهم السياسة في تطوير المنظومة التربوية، وفي تحسينها ونجاحها في أداء مهامها، فإنها ليست سياسة مواطِنة. وإذا كانت هذه السياسة سيئة المقاصد، فإنها تسير نحو القضاء على روح الصالح العام وتدفع المواطنين إلى الانخراط في ثقافة الفردانية المادية. وهذا هو ما يجب تجنُّبُه عندما يتعلَّق الأمر بالمنظومة التربوية. وكنتيجةٍ لهذا السلوك السياسي غير المواطِن وغير المسئول، فإن المنظومةَ التَّربويةَ، كما هو الشأن بالنسبة للعديد من القطاعات العامة، تعاني من تدنِّي قيم المواطنة، الشيء الذي ينعكس على أدائها وجودتها وسمعتها واحتلالها مراتبَ متأخِّرة في التَّصنيفات العالمية. والدليل على ذلك، عدم الثقة الذي أصبح يخالج شريحةً كبيرةً من المواطنين إزاء المدرسة العمومية.

يجب أن تبقى المنظومة التربوية بعيدةً عن وفوق كل هذه التجاذبات السياسية. هدف المنظومة التربوية هو ضمان تعليم وتربية وتكوين ذريات progénitures المواطنين بصفتهم دافعو الضرائب contribuables. إنه حق يكفله دستور البلاد. والمؤسف في هذا الشأن، هو أن المنظومة التربوية، مند استقلال المغرب، كانت ولا تزال موضوع مزايدات مُضِرة آلت إلى إصلاحات لم تتصدَّ إلى عمق المشكلات. وفضلا عن ذلك، تاركة وراءها سلبياتٍٍ ورواسبَ تترسخ في الشأن التَّعليمي والتَّربوي وتنتقل من جيل إلى آخر.

في غالب الأحيان، كانت هذه الإصلاحات تتم على عجل بدون تشخيص مسبق ومعمَّق للوضع المراد إصلاحُه في المنظومة التَّربوية. من حينٍ لآخر، يتمُّ التَّركيزُ على لغة التدريس أو يتم استبدال مضامين التعليم بمضامين أخرى أو تؤلف مراجع مدرسية جديدة أو يتم الارتكاز على البداغوجيا أو يُعاد النظر في نظام الامتحانات، الخ. بدون تقييم مسبق. ولا داعي للقول أن أكبرَ ضحايا هذه التقلُّبات هم المتعلِّمون.

ما يمكن قولُه في هذا الصَّدد، هو أن مشكلات المنظومة التربوية لن يتمَّ التَّوصُّل إلى حلول لها في هذا النوع من الارتباك. بل بالعكس، لن يتم إلا تكديس المشكلات وإضافتها إلى تلك التي يُعتقَد أنه تم إيجاد حلول لها. المنظومة التربوية كل لا يتجزأ بمعنى أنها تشكل وحدة وظيفية unité fonctionnelle. كل محاولة لإصلاح هذه الأخيرة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الخاصية. بقاء واستمرار وجودة كل مكوِّن من مكوناتها رهين بوضع المكونات الأخرى. فإذا كان هذا المكون معطَّلا أو موضوعَ عجزٍ، فإن هذا التعطيل ينعكس على المكوِّنات الأخرى. المنظومة التربوية عبارة عن نظام بيئي يكون توازنه رهينا بسلامة وصحة العلاقات التي تربط بين مكوناته. دور السياسة هو تعزيز هذا التَّوازن وتقويتُه وتحصينُه من المُزايدات الإديولوجية الحزبية.

غير أن السياسيين وأحزابَهم، عوضَ أن يجعلوا من المنظومة التَّربوية عاملا من عوامل تقدُّم البلاد وازدهارها، فإنهم يغتنمونها فرصةً تصبح معها المنظومة التَّربوية عُرضةً للمزايدات والمساومات. كل حزبٍ يدَّعي بأنه من سيد العارفين ليُعزِّزَ مكانتَه في المشهد السياسي. وكل حزبٍ يدَّعي أنه أكثرَ مواطنةً من غيره لتبقى المنظومة التَّربوية رهينةَ سياسة سياسوية لا تغني ولا تُسمن من جوع. والدليل على ذلك أن منظومتنا التَّربوية خضعت، طيلةَ عقود ومنذ استقلال البلاد، لعدَّة إصلاحات ولا إصلاحٌ منها أتى أُكلَه. بل بالعكس، تعقَّدت الأمورُ وتراكمت المشاكل لتشكِّلَ حاليا غولا يصعب التَّصدِّي له. وما يُبيِّن ذلك، المراتب المتأخِّرة في التَّصنيفات العالمية ونتائج التَّحصيل المزرية التي يفصح عنها كل ثلاثة سنوات البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA.

وعوضَ أن تقودَ الأحزابُ السياسيةُ نقاشا فكريا، هادئا، رزينا ومسئولا، فإنها فضَّلت وتُفضٍّل، إلى يومنا هدا، أن تجعلَ من المنظومة التَّربوية وسيلةً لتحقيق أغراضٍ ضيِّقةٍ لا تفيد لا البلادَ ولا العبادَ ولا خروج المنظومة التَّربوية من ركودها المُزمن. وما يزيد في الطين بلَّةً هو أن الأحزابَ السياسيةَ، عن طريق وسائل إعلامها، عوضَ أن تبرزَ أهميةَ المنظومة التَّربوية بالنسبة للبلاد، فإنها تدافع عن وِجهة نظر أحزابها وتقدِمها على أنها هي الصواب. كل النقاشات السياسية حول إصلاح المنظومة التَّربوية ليست عقلانية، أي ليس للعقل فيها مكان، حيث أن هذا العقلَ، من المفروض، أن يبيِّنَ للسياسيين أن مصلحة البلاد فوق كل اعتبار مهما كان.

والدليل على ذلك أنه لم نرَ،إلى يومنا هذا، حزبا سياسيا واحدا قدَّم لنا مشروعَ مجتمعٍ projet de société يُبيٍّن فيه، من ضمن أشياء أخرى، رؤيتَه sa vision لمنظومةٍ تربويةٍ مندمجة في المجتمع ونابعةٌ منه، عالية الجودة والمردودية. كل ما نجحت ولا تزال تنجح فيه أحزابُنا السياسية هو تحويل المنظومة التَّربوية من قضيةٍ مرتبطٌ بها مستقبلُ البلاد، إلى قضية سياسوية.

وهذا لايعني أن المنظومة التَّربوية يجب أن تبقى بعيدةً عن السياسة. لا أبدا! لأن المنظومة التَّربوية، كباقي قطاعات البلاد، يخضع تسييرُها لتدبير الشأن العام، أي أنها لا يمكن أن تخرجَ عن هذا السِّياق. لكن إذا كان من اللازم تسييسُها، فهذا التَّسييسُ يجب أن ينبعَ من المواطنة وحبِّ الوطن، لا أقلَّ ولا أكثر!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى