9-
قالت العمة "نهلة":
"يومَ أطلقوا سراح شقيقي "نديم" من الحجز، الذي دام تسعة أشهر، بسبب انتمائه للحزب الشيوعي".
صَحبْتُ ابنه "صفاء" إلى بيته الذي لا يبعد عن بيتنا سوى عبور الضفة الأخرى من نهر "خريسان"، حيث هللّ بقدومنا الكلب "دوبر" بنباحه المعهود، فنهره "بهاء" شقيق "صفاء" من النافذة، اخرسه.
كانت سعادتنا غامرة، بخروجه هذه المرة من الحجز، فهي لم تكن المرة الأولى، ولكنها الثالثة، أو الرابعة التي يحتجزونه للتحقيق معه.. لكنها كانت المرة الوحيدة التي بانت آثار التعذيب واضحة على جسده، وجدته نائماً، وتركت "صفاء" يجادل أمه في رسوبه في مرحلة الأول متوسط، وكأنها تحملني أسباب عدم نجاحه، لأن أباه ترك مسؤولية متابعته ما دام يعيش بيننا.
بقينا ثلاث عمّات مع جدّة نعيش وحيدات في بيت والدنا، اتخذنا "صفاء" رجل البيت المدلل بيننا يشاركنا العيش، لم يطلب منا شيئاً إلا وفرناه له. استطعتُ أن أعيل الجميع من مهنة الخياطة لنساء المحلة، وكسبهن زبونات دائمات منذ أكثر من عشرين عاماً، وخاصة بعد ترك شقيقي "نديم" مهنة الصيد وتحوله إلى التعليم، وبعدها صار مُهتمًّا،ومُتهمًّا بالسياسةِ. ضاقتْ علينا الدنيا، وما بقيت لنا سوى ماكينة الخياطة نعتاشَ عليها، كما ساعدني معرفة شقيقتي "نجلة" بالتضميد وزَرِق الإبر للنساءِ بدلا من الذهاب الى المستشفى.. صار بيتنا أشبهً بنقطة تلتقي فيها أغلب نسوة المحلة، وصارت أخبار المحلة كلها بيننا تتبادلها النسوة عند التقائهن ببعض، نعرف كل ما حصل هناك أو هنا، اسرارٌتأتي من أغلب البيوت، تستبقُالمصادر الأخرى..
وصلتُ الخمسين من عمري، ولم يأتِ إليّ أيّ نصيب بالزواج، وصار همي منصبّاً على تربية ابن شقيقي، فكنت أحرص عليه، وأتابعه أينما يذهب، ويلعب، ومع من يلعب.. حتى ضاق بي ذرعاً كلما تابعته في مكان لعبه.. عندما أفقد أثره، صار أولاد المحلة كلهم يرشدوني أين يكون ملعب هذا الولد الشقيّ..
عندما أفتتح "أورزدي باك "(38) في بعقوبة اشتريت له آلة "جيتار"، وصار بعدها أكثر ألفة للبيت، ولا يخرج إلا مجبراً، وصار يتمرّن على العزف عليها في أغلب أوقاته.. حتى الأولاد صاروا يتجمّعون حول ابننا في بيتنا. كنتُ أحسّ بسعادة غامرة كلما وجدته قريبا مني، وتحت بصري.
لم يستطع الصبر أن يبقى حتى يستيقظ أبوه من النوم، وبلمحة خرج عائداً إلى بيتنا.. هربًا من مَلامَةِ أمهِ التي تحجب عنه سعادته.
ذكرت عنه إحدى جاراتنا:
- "بأنه معجب بابنة جارنا ويلاحقها كل يوم أحد إلى الكنيسة"، ووصفت ابننا بالمؤدب، الخجول. الذي لم يكلّمها أصلا، ولكنه يحاول أن يشاغِلها بعينيه وليس أكثر. حبّ من طرف واحد.. (ياه كبر أولادنا يعني اننا كبرنا). تقصيّتُ عنها وقالوا لي بأنها ستعود إلى أحد الأديرة في "الموصل" وتصبح راهبة.. قلت مع نفسي: "لم يعرف الاختيار الصحيح".. بقيت تقول بحسرة: (على الأقل نربي أولاده بدلاً من تربية القطط.).
***** ***** *****
ذاتَ يومٍ من أيام شهر رمضان سألتُ "أمي" بافتراض بريء؛ لو ذهب "سوبرمان " إلى كوكب "المريخ"، أو إلى كوكب "زحل"، وبقيّ مشغولاً هناك دون أن يعود إلى الأرض، وحلّ عليه شهر رمضان.. على أي قمر يعتمد صومه.. فقالت: - "ربما يستخدم ساعته"..
فقلت لها "لا أظنها تتوافق ساعته مع ساعة أهل الأرض التي تعتمد توقيتات خطوط الطول". احتارت بافتراضاتي البريئة، وأرادت أن تجد جواباً شافياً يغطي قناعتها، فلم تجده، فضلت ان تنزل قدرها من على النار، بينما بقيت انا أحدث نفسي: "عليّ أن أكون أرضياً بأسئلتي حتى أجد أجوبة أرضية"..
***** ***** *****
كلما نظرت إليه، تذكرتُ خيبتي التي صار عمرها خمس عشرة سنة. بِكْرِها يصغُرَ "صفاء" ابن أخي بعامٍ واحد.. لو كان قد وافق "نديم" تزويجي من "ابراهيم دندي".. لكان "محمد" ابنهُ مني.
... كنت أرى "إبراهيم" رجلا وسيماً، أنيقاً، لم يتطلّع إلى شبابيك بيوت المحلّة، يمرًّ بصحبةِ أحد أشقائه، أو مع صديقه الحميم "يهوده"، بـ"سِدارة" كبقية الأفندية، ويحرص على ان يظهر جديده بنطلوناً من القماش الانكليزي الخالص، وقميصاً غالباً ما يكون لونه ابيض.
لم يوافق شقيقي على زواجي منه بحجّة أن تتزوج قبلي أختي "نهلة" الأكبر مني بخمسة أعوام، وفي قرارة نفسه يخفي سببا آخر لم يكشفه، (من المستحيل أن يناسبه واحدٌ من بيت "دندي"، لأنهم من عائلة تنحدر من أصل يهودي، "مُسلِمانيّة " قد أخفى عني، وعن الآخرين الاسباب الحقيقية الموجبة لرفضه. كانت مبرراته الظاهرة واهيّة.. سكت حتى عندما حاججتْهُ عمتي "رجيّة":
- "أمنا تنحدر من الأصل نفسه"؟!.
لكنه بقيَ مصراً على عدمِ الموافقة، وأسبابهُ الحقيقية التي كانت مخفيّة وراء أسباب بلا تبرير. لم يكتف بسكوته حتى جابه الرجل حتى بنفسه بالرفض. وفي اليوم التالي تزوّج "ابراهيم دندي" من ابنة خالهِ "طليلة"[39].. في غضون أيام، ونفس الأسبوع، تمّ زواجه وسط حفل شاركهُ فيه كلّ أهلِ المحلة حتى "ميخائيل" رقص في عرسه.
وترك لي الرجل دون تعمّد جرحاً لم يندمل في داخلي، يكبر مع الأيام، وخصوصاً بعد أن أنجبت له زوجته ولداً أسمته "مُحمَّد"، صرت أعدّ السنين التي يكبر بها ابن "ابراهيم دندي"، مقارب لعمر "صفاء"، يذكرني بخيبتي.
ولم يتقدم لي أحد بعدها، وكلما يذكر اسمه أمامي، يخفق قلبي لذكره، لأنه أول رجل استطاع أن يفتح قلبي، وبقيت أحب سماع أخباره، أولاً بأول. ودائما أمني النفس به. كنت أراه رجلاً أنيقا بالرغم من السلبيات التي كان يؤاخذه عليها شقيقي "نديم".. إذ كان يقول عنه بأنه "مطيرجي" هو وبقية عائلته..
كان "إبراهيم" الوحيد بين عائلته "دندي" يرتدي لباس الأفندية، ولكنه كان لا يضع على رأسه "سدارة" الا في بعض المناسبات الرسمية، وكانت له هيّبة بين رجال المحلة، وحظوّة كبيرة بين عائلة "ناجي"، اعتمدوا عليه بكل ثقة في إدارة أملاكهم، وخاصة إدارة السينما التي كان إيرادها الأسبوعي يفوقُ المئات من الدنانير. كان مشهورا بعزّة النفس، ويذكرون عندما جاء "حسقيال" الى بيتهم جاء متنكراً، وأراد منه أن يقبل تسجيل البيت باسمه "ملك طابو "[40] رفض ذلك، وبقيَ يؤدي لهم الإيجار حاله حال صديقه "مناتي" شريكه في مكان العمل..
أيامها كان الحبّ بين اثنين، لا يتجاوز الرؤية من خلال الشباك، أو ملاقاة عابرة في سوق، أو طريق. ولا تتجاوز بينّنا الإشارة، أو إلقاء التحيّة، ولم أكن أذكر باني قد رأيتهُ ذات يوم، قبل أن يرسل لي شقيقته "صبيحة". أخبرتني:
- "اخترناكِ.. ماذا تقولين"؟
تغيّر لوني، واضطربت أوصالي، وافقتُ مبدئيا. ورحت أحلم ببيت، وزوج، وعائلة.. لكن شقيقيّ "نديم" أوقف ذلك الحلم برفضه القاطع. كانت تلك الفرصة الوحيدة التي جاءتني للزواج، ولم يتقدم ليّ بعدها أي خاطب.
بقيتُ أراه فارس أحلامي، وبقية كوابيسي.. ولم أشعر بالغيّظ من "طليلة"، فلم تذنب المرأة معي، وأنا من أضاعت فرصتها.. كانت تصغرني بعدّة سنوات. أوقفها عن إكمال دراستها المتوسطة، تزوجها في عرسٍ مهيبٍ.
كما بقيتُ أواجه الحياة بين النسوة، أساعدهنَّ في كلّ ما يتعلق بأمور التطبيب.. حتى علمت بأن الأخوين "يهوده"، "حسقيال" تكفلا في إرسال "إبراهيم" إلى "ايطاليا"، لقضاء شهر العسل. كتمتُ حالة الغيظ الذي لمَّت بيّ. بقيتُ في خصام مع شقيقي، لا أتكلم معه أية كلمة طوال فترة عسلهما، وامتدّت إلى أكثر من أحدَ عشرَ شهراً.. حَبَلتْ زوجته هناك، وولَدَتْ هناك، وعادَتْ تحمل ابنها، وعمره شهر واحد، أو أكثر. تعايشتُ مع الوحدة، وشراييني يضرمُ بها الجفاف يوماً بعد يوم.
***** ***** *****
بمرور الوقت؛ لم يَعُدْ يُثيرني لغز "مَكابيوس" كما كان في السابق، بدأ اهتمامي به يقلّ تدريجياً خصوصاً بعد أن اختفى عني دفتر المعلومات، الذي كنت أجمع فيه كلّ مُستَجَد عن ابن "يهودا"، وكلُّ تشابك مثير للجدل، (كأني أنّى توجهتُ، ألتقي عند بوابة مغلقة اسمها "إبراهيم دندي).
فما عدتُ قادراً على تحدي إرادته، ورغبته، بدوت أول الأمر أتظاهر بعدمِ أهميّة ذلك الأمر، ولكن بقيّ الموضوع يشغلني، وكأني المحقق العظيم، الذي أظنُّه. فقدت جميع أدلتي المادية الملموسة، وعليّ أن أبحث من جديد عن أدلة أخرى، لكنها شبه مستحيلة. كذلك أخذ الموضوع يلقي ضلاله المُعتِمة على "أمي"..
صارت تتوجس مني أي سؤال أسألهُ إياها. وتحولت أجوبتها لي، وكأنها – أيضاً - بوابة مستحيل لا يمكنني عبورها بأيّ سؤال، بريء آخر. بات اللغز يُشكل لي متاعب، كنت في غنى عنها. وليست مسألة أرغب في حلّها، فأبرهن بأني استطعت حلّ قصة لغز حقيقي، في حياتي الحقيقية، كما تحلّ الغاز القصص التي قرأتها، وعشتُ معها بكلّ جوارحي.
تيقنتُ أن اختفاء الدفتر كان بفعلِ فاعلٍ عارفٍ بمحتوى سطوره، وصرت قلقاً من أن يكشفَ ذلك، فآثرت البحث عنه جيدا والصمت دون السؤال عنه، متظاهراً بنسيانه، أو عدم أهميته؛ كأنه لم يشكل ليّ همّاً..
يومها شككتُ ان "فؤاد" أخفاهُ عني مؤقتاً، وعلى يقينٍ مؤكدٍ، بأنه ينوي أن يساومني على مسالة ما، حاجة، أو خدمة، أو أمر آخر أجهله. وسيعلن عنه في أقرب فرصة، ولا أظنه بقدر من الذكاء والصبر. لن يتحمل يومسيمضي. وحتما سوف يأتي إلى كاشفا عما يحتوىفي جعبة، او نيّته. ولكني بعد ذلك الانتظار تيقنت بأنه لا يعلم عن مصير الدفتر، الذي لم يعد له إي أثر.. بالرغم من أني كنت أخفيه عن الأنظار، وكنت أخاف من أن يقع في يد "أمي" فهي الوحيدة التي تجيد القراءة، والكتابة بين محيطي كله، ومن الممكن أن تخبر "أبي" بمحتواه، وتكون كارثة.. بالرغم من أنه عدلَ عن ضربي منذ أن دخلت المتوسطة، ولكن بقيّ مكتفياً بتوبيخي الشديد.
ذلك التقصي بذلك الدفتر بمرور الوقت لم يعد مهماً. ولأني بدأت أصل إلى طريق مسدود، لشحّة التفاصيل في أي مستجد يخص ابن "يهوده"، ربما تصير عواقب أي سؤال صريح مكلفة، وبدأت اتعايش مع الموضوع الذي يشغلني حيث لمْ يكن سوى نزوّة عبث وبالتأكيد لن يعني لي ان اعرفه او لا اعرف، وحتما سوف تلحق بي اخباره قبل أن ألحق بها. خصوصاً بعد أن دخلت إلى قائمة اهتماماتي الموسيقى، والتمرّن على لعبة "الشطرنج".. بعد أن وجدت "صفاء" قد أُولع بهما معي، بتنا نتحدى بعضنا. كنت اقارعه في براعة لعبة الشطرنج، وكان يبارعني في مهارة العزف على الغيتار. توافقنا لم يكن متكاملاً، حيث لم يكن "صفاء" محبّاً للكتب، فلم يشاركني مشوارها، واستعارة الكتب من المكتبة العامة، بالرغم من أني حاولت أن أستعير كتباً في تاريخ الموسيقى، وفشلت في تحبيبه للكتب، اذ كان قليل الصبر مع كل شيء، لا يطيق القراءة، إلا أنه كان يميل إلى آلته، يعزف عليها معظم فترة جلوسي معه. كنت أقرأ، وألخّص له أثناء تمرينه مما قرأته من أغلب الكتب المُبسَّطة الخاصّة بالموسيقى، وجدني المّ له ُ بتفاصيل كانت تثيره، كان يجيد الإصغاء، ويتفاخر بما يسمعه مني ويحكي بها الى بقية اصدقائنا كما لو أنه هو الذي قد استخرجها من متون الكتب، ويرغي بها الى كل الذين يَصحبون أمهاتهم المترددات على عماته الثلاث كزبونات وصديقات.
بقيّ يعيش في بيت "عماته الثلاث" اللاتي كنَّ يوفرن له كل متطلباته، فالأولى اشترت له آلة الجيتار، والثانية تُغدُق عليه مصروفاً يوميا يفوق مصروفي مرتين، وعمته الثالثة جاءت له بعلبة شطرنج مُجَسَّمَة، أجمل من علبتي التي اشترتها لي "أمي".
صرنا نحظى بفرصة اللعب بالشطرنج مع الآخرين، وصرنا نشرح طريقة اللعب الى كل من يريد تعلّمها.. كنت اتفاخر بالفوز على جميع اللاعبين بلا استثناء، كنت أجدها لعبة ألغاز مثيرة، لم يستطع أحد أن يتفوّق عليّ بها، فاللعبة تحتاج دوماً إلى لاعبين ماهرين حتى يتقدم المرء في أدائها. مرة سمعت العمُّ يهودا يقول: - (هذه اللعبة غيرت مجرى تاريخ العالم).. كما رحت مُستنجدا بالمكتبة العامة حول المعرفة بتاريخ الشطرنج، تعلمت كيفية قراءة، وتسجيل الدسوت الشطرنجية[41].
رحت أفترش رقعة الشطرنج، كمن يلعب لوحده، وأتعلم الافتتاحيات الشهيرة، وأسماءها، واستطعت أن أميّز في قوتها، وضعفها ورحت احفظها وافهمها جيدا بغرض تطبيقها أثناء لعبي مع الآخرين.
وكان صفاء يحتضن آلته ولا يفارقها، وكان يلبي لي ما أطلب منه أن يعيد أغلب المعزوفات الشهيرة التي كان يحفظها من أغاني "عبد الحليم حافظ"، وأحياناً أوجهه بحنجرتي إلى تصحيح ما يحفظ، وبقيّ مؤمناً بأني أجيد الحفظ الموسيقي أكثر منه، واتفاخر أمامه (أني أجعله يعيد العزف حتى يتقنه).. بالشكل الذي يطابق مع كنا نسمعه سويا عبر المذياع، والأشرطة المسجلة، على الرغم من أنه لا يدعني ألمس جيتاره، وليس لدي آلة حتى أستطيع العزف عليها كل الوقت الكاف، الموسيقى تحتاج الى مرانٍّ كثير حتى يجيد المرء منا العزف، والى تمرين مستمر لأصابع اليد لذلك بقيت لا أجيد العزف كما هو يجيده..
أما "فؤاد" لم يقرب من صفاء منذ ذلك اليوم، بقيّ في هَوَس تربية طيور الحمام الداجنة، وابتعد مساره، عن مساريّنا، ولم تعد بيننا أية هواية مشتركة، لم يستهويني الحمام الزاجل، ولم ألمّ بتفاصيلها. ولم تتوافق مع اهتماماتنا، فشل أكثر من مرة في مرحلة السادس الابتدائي. كما فشل "صفاء" في مرحلة الأول والثاني من الدراسة المتوسطة، وكان ذلك بداية الفرقة اذ عبرت الى مرحلة الثالث متوسط، وكان عليًّ الاستعداد لعبور "البكلوريا" وما بعدها. ولم يتخل عني جهاز المذياع البسيط الذي بقيّ يجول بي إذاعات العالم، ولا يتوقف لي إلا حيث ما أجد موسيقاي..
***** ***** *****
كنّ يعشقن تربية القطط. وتعيش في بيتهم أكثر من ثماني قطط.. وعندما أسألهنّ عن القطة السيامية "سنونة"، كأنما المفتاح الذي افتح به سيرة بيت "يهوده". حيث يُسهِبنَ بحسرّة عن صداقات الجيرة، وبراءة الأيام: (عليَّتدويّن المَخفي غير المعلن من التاريخ الذي تحكمهُ الآلة الأيدلوجية)..
***** ***** *****
تعودتُ أضع أوراقاً بيضاء في الآلة الكاتبة، وأبدأ بالرقنِّ عليها، فلا تظهر الكلمات التي أكتبها بها، لأنها بدون شريط طباعي. يدقّهُ نابضٌ بقوة فيحفر صورته على الورقة، دون أن يظهر بلون له على الورقة، فأتمكن من قراءتها بتضليل الورقة بقلم الرصاص حتى تبين الكلمات المحفورة بقوة الضربة كأنها مطبوعة على الورق. بهذه الطريقة عاودتُ تدوين أغلب ملاحظاتي الجديدة عن اللغز "مكابيوس" الذي بات يمثل لي تحدياً، وعناداً، ونزوة تؤرقني، كونُ الموضوع حُظِرَ عليّ من قبل أهلي. دون ان أستطع إيجاد حلٍّ له... خصوصاً بعد ان لاحظت نتفاً من غلاف الدفتر، الذي ضاع مني عالقة في قعر سلة المهملات. فتيقنت بأن الدفتر لم يضع مني، ولكن احداً من بين الذين حولي قد أتلفَه، متعمّداً، ولم يكشف لي ذلك.
تُلِفَ ذلك الدفتر إلى الأبد، وكان عليّ أَلّا أضيّع ملاحظاتي مرة أخرى، تكتمت على طريقة الكتابة المخفية، ولا أريد أن أكشف طريقة طباعتي السريّة. وما كتبته بها، لن يستطع حتى الشيطان الاطلاع عليه، بقيت الحروف مخفيةً لا يقرؤها أحد غيري.. كتابي السريّ، الذي لا يشبهه أي كتاب على الاطلاق، الكتاب المستحيل والذي سوف أقرأهُ وحدي، وان بقيّ القدر تحديهكي لا يكتمل..
***** ***** *****
كانت عمتي "صبيحة" تندبُ حظّها، برغم توترها، ولكنها كعادتها تعبّر عن ذلك بكلمات قاسية، تدمدم مع نفسها، وكأنها تحكي مع قدور بيتها وأوانيها. مع الحيطان والكلب. تكلم نفسها بصوت مسموع مما يؤدي انعكاسها على مشاكل يومية بينها وبين "جدتي"، وكذلك مع "أمي".
في ذلك اليوم التي كسرت فيه برواز الصورة، لم يتنبّه أحد أني شاهدت صورة مخفيّة تحت الصورة، وتظاهرتُ بعدم الملاحظة وأني لم أُعِرْ الأمر أهمية، بحضور "أمي"، لأني على يقين أن عمتي بكل أحوالها سوف تطلب مني مساعدتها في إصلاح ذلك الإطار، وإعادته إلى حاله الأول. فأعددت نفسي لتلك المغامرة الجديدة والدخول في تفاصيل المستجدّ الذي يسهل عليّ حل اللغز... لأول مرة عرفت ان "أبي" و"أمي" سبق لهما المكوث مؤقتا في دولة اجنبية اسمها "إيطاليا" وكان معهما العم "حسقيال"، كشفت لي ذلك.. تلك الصورةُ، كدليل قاطعُ أخفيَّ بعمدٍ تحت صورة "آدم وحواء". ولم يعلم أحد من ان ذلك اشعرني بالفخر، تمنيتُ أن يحدثني أحد عن مدينة أخرى بعيدة، لم اعرف عنها شيئاً خاصة الأمكنة التي كنت أسمع عنها بأنها إحدى العواصم الكبيرة، درسنا عنها في درس الجغرافية. لولا الصورة، فأنا لم أصدق ان أحداً من عائلتي قد عاش هناك، لو كنت قد سمعتها من صديق لقلتُ له "أغبطك يا صديقي الحالم، هات حدّثني عن المزيد".. أردتُ أن أستعير من عمتي تلك الصورة وأريها اصدقائي، بدواعي التباهي، وأعيدها بعد ذلك.. إلا أن تلك المرة الأولى التي شاهدتها، ومن حسن الحظ أنى تمَعَنتُ بها جيدا، ولكنها كانت المرة الأخيرة، وبعدها اختفت تلك الصورة إلى الأبد[42].
عندما ساءت علاقة "أمي" بـ"عمتي" أكثر، استثمرتُ تلك القطيعَةَ، بالحصول على الكثيرمن الأجوبة.
***** ***** *****
أغلبُ الجيران كانوا مولعين بتربية الحمام الزاجل، وجمعه بأنواعه بعضهم من يتسلى به ويضعه في قفص، والبعض الآخر كان يتاجر به، حيث بمكاثرة الأنواع النادرة، والتي لها تصرفات خاصة لا تشبه أخرى من صنوف الحمام. البعض منها يعود الى عشه الأول، ولو بعد عشرة أعوام، وهو الذي كان يستخدم في نقل الرسائل المضمونة بين الأمكنة البعيدة، وغالباً تلك لا تحتاج الى وضعها في قفص، بل يصنعون له سلّة خاصة لها فتحة دخول واحدة، ثم يثبتونها في أماكن ظليلة عادة ما تكون قرب الشبابيك، لها وعاء ماء، ولها وعاء حبوب قريب، ثم يأتون بذكر وانثى من تلك الفصيلة ويغلقون عليهما فتحة السلة لمدة يوم كامل، بغرض تزاوجهما، وبعد ذلك، ينزعون عنه ريش جناح الانثى (فقط) كي لا تستطيع الطيران بعيدا، وتأخذ معها الذكر الذي تزاوجت معه حتى موطن عشّها الأول (غريزة الذكر يتبع انثاه). بعد ذلك يوفرون للطير الاعشاب المناسبة التي يفضلّها حتى يظفر منها العش الجديد داخل تلك السلة الآمنة، حتى تبيض الأنثى ويفقس. من طبائع هذا النوع من الطيور بعد التزاوّج يقوم الذكر بنقل الماء والطعام الكاف لأنثاه اذ يخزنه لها في حوصلته، ويلقمها إياه بمنقاره بينما هي لا تخرج من العش حتى تبيض، وبعد أن تبيض يبدأ ريشها المنزوع بالنموِّ السريع حتى تساعد الذكر في جلب المزيد من الطعام لصغارهما. والغريب انهم عندما يبلغون اشدهم، يطردون ابويهما من العش القديم، وتكون السلة موطنا لتزاوج جديد.
وعندما يسافر صاحب الدار في رحلة ما الى مكان بعيد، يصطحب معه الطير، وعند وصوله يطلقه ليعود الى سلته التي حوت عشه، وتعود أصحابه ان يشكلوا رسائلهم بإحدى رجليه.
- كنت أظنها هواية لا تحتاج إلى أي مهارة، سوى أن يُحبس الحمام في قفص لمدة من الزمن حتى تتعود عليه، ويكوّن في القفص اعشاش، وبعد أن تتزاوج تعزل الذكور عن الإناث، ويطلق الحمام حتى يدور في الفضاء حول عشه..
- (تعلم الصفير العالي، وذلك بعمل غرفة هوائية ما بين الفمّ وأصابع اليد، والنفخ فيها بقوة، فيخرج الصوت عالياً، وكلما تحرك أحد الأصوات ليصدر نغمة، ذلك الصفير يميّز كل هاوٍحمام عن الآخر، وغالباً ما تكون لكل واحد نغمة تميّزه عن الآخر، وأحيانا تتشكل بالصفير تواصل حوار بين اثنين.
ثمة هواة يستخدمون الصفير لإخافة الطيور كي تبتعد عاليا موسعة من قطر دائرتها في الفضاء، غالبا ما يطير الحمام في سرب واحد، ويدور حول فضاء عشه، والحمام الذي يتخلف عن السرب، وينظمّ إلى سرب آخر، حمام ليس عليه الاعتماد وغالبا ما تكون الحمامة التائهة غنيمة لصاحب السرب الثاني الذي التحقت اليه)..
كل ذلك انعكس على العلاقات الشخصية، اذ تكون الغنيمة الطائرة سببا في تغيّر تلك العلاقات من حال إلى حال،وحسب مشيئة أحوال الحمام..
***** ***** *****
تعودت معظم نسوة المحلة في اغلب ليالي الصيف قضاء السهرة على سطح بيت العمّات الثلاث، لان ذلك البيت الوحيد الذي كان يشرف على شاشة عرض السينما، واغلب الجيرة، يجتمعن منذ المغرب استعدادا لمشاهدة مجانية للفيلم المعروض، وذلك لا يكلفهن سوى بعض التودد لاحداهنّ. موقع البيت بجانب صالة السينما الصيفية، وبينهما شارع ضيق، من زاوية تبين الشاشة البيضاء المستخدمة للعرض، بسبب ارتفاعها، وتكون المشاهدة واضحة لكن الصوت أحيانا لا يصل بسبب مكبرات الصوت التي كانت بمستوى المتفرجين، وموجهة الى داخل الصالة، قريبة من الأرض، خلف الشاشة. وأحيان أخرى تكون الصالة مكتظّة بالجمهور، فلا يصلهم الصوت الا غمغمة غير مفهومة. النسوة تراقب حركة الصورة، ومعظمهن يبدين الفهم.. حضور وحوار وتلخيص أو تلفيق كلام، بحجّة انهم سمعنَ ما قاله الأبطال. المهمُ حضورهن الى سهرة جميلة تلمّ طيبة الأمهات وحلاوة اللقاء ببعض، من بعد مشاوير أعمال بيتية متعددة، محطة استراحة يفرغنَّ فيها نكدُ العيش وظنكُ الأيام. ثم يعودن الى بيوتهن القريبة بعد انتهاء العرض في العاشرة ليلا..
- (نيالهن كأنما السينما على سطح بيتهم).. غير متناسيات ان ذلك يكلف العمات تحضيرات اولها ترطيب المكان بالماء عصراً، وتحضير قارورة ماء باردة، وتحمل سماع المزيد من الثرثرة حول من جاء ومن رحل.
***** ***** *****
كانت "أمي" غالبًا ما تنسى ويأخذها الزهو، فتحكي لبعض صديقاتها اللائي يحضرن لزيارتها، وتستجيب لنشاط ذاكرتها حول ما شاهدت اثناء سفرتها الى ايطاليا، كأنما تؤكد لي انها كانت تختلق قصة في غير محلها..
****** ****** *******
قالت طُليْلَّة: بقيت رغبة كامنة في الأعماق أن أنجب كبقيّة النسوة. حتى أنجبت "خليل"، حتى عاهدت الله ونفسي أن أعاملهما معاملة واحدة.
****** ****** *******
قالت "أمي": عادت مواصلة لي "صديقةُ عمري "جنان"، بعد غياب عادت بأشواقها إليّ، ملهوفة تودّ الحكي، فحكت لي همساً كل ما جرى لها في فترة غيابي عنها، وأنها تطلقت، بعد يوم واحد من زواج فاشل، لتعيشفي بيت أهلها، الذي لم يبتعد عن بيتنا. ذلك الحدث جعل "ابراهيم"، ويطلب مني عدم مواصلة علاقتي بهذه المرأة، وقطع الصلة بها.. (أعادها زوجها الى أهلها، بعد أناكتشف انها لم تكن بِكراً)، نقل لي ما قاله زوجها. (امرأة حتى والدها يكذبولم يتصرّف بالأمر). وبقي "إبراهيم" يحكي لي عن سيرة عائلتها.. (من بيت الأستاذ "رحيمو المسلماني".. كان مدير الاعدادية الوحيدة في مركز "المتصرفية"[43]، أستمع جيداً الى كلام الزوج، ثم استمع الى كلام ابنته الوحيدة، وكانت "القابلة مارغريت"، هي الفاصل الأهم بهذا الموضوع، لأنها صاحبة الخبرة الواسعة في تلك الأمور النسائية الدقيقة، تبيّنت الموضع، واستعادت لـ"جنان" حياتها. بقيّ الزوج في غيّهِ متظاهراً بعدم التصديق، على عكس أبيها فكان الأب الحنون، وطردَ ذلك الرجل من حياتها، وتمّ الطلاق.
أما "ماركريت" المخلصة الطيبة، أكدتْبانها كانت أمام عيب خلقي، وحسب. امرأة طاهرةٌ، غشاء بكارتها (مطاط)[44] لا يتمزّق، ألا بعملية جراحية، لم ينزل دمها، ونصحتهم بمراجعة الطبيبة "وجيهة"، المتخصصة بالجراحة والأمراض النسائية. وبعد الفحص الثاني تطوّعت "الطبيبة" بتسليمهم تقرير له حسم ذلك الشأن، الحساس، ودليل البراءة.. يحميها ويبعد عنها كل ظن.أهل المحلة استنكروا بشدّة بكل ما ادعاه "الطليق" فاعتبروه نذلاً لا يفرق بين الحرة وغيرها..
***** ***** *****
اعتبر "ابي" أصرار "أمي" على تعاطفها مع صديقتها "جنان"، معصيّة، (لا دخان من غير نار) تهمّهُ السمعة ومقاطعة صديقتها لأنها مدانة، يجب أن تتفهّم، (خوفاً عليها تلك السليمة تجربُ) ويشدد بالأمروهو يلفظ حرف الباء الأخير..
[38]* الأسواق المركزية وبمثابة "ماركت" كبير بأسعار مدعومة تابع للدولة.
[39]* مُسلمانية: الذين اظهروا اسلامهم تقيّة وتمارس طقوس دينها السابق في السر.
[40]* ملك طابو: نقل ملكية صرف بواسطة عقد رسمي
[41]* الدسوت مفردها دست ومعناها جولة شطرنجية..
[42] * (لأول مرة رأيت فيها "أبي" مبتسماً ويضع يده على خصرِ "أمي"، وبجانبهما يقف "حسقيال" ملوِّح بالسلام. صار حدسي أن من صورّهما شخصٌ رابعٌترك ظهر ظلّه على الأرض،مؤكد انه "يهودا")..
[43]* كان يطقون على مركز المحافظة اسم المتصرفية.. ويديرها المتصرف اي المحافظ.
[44]* ذكرت الدكتورة "نوال السعداوي" عن حالة مماثلة في احد كتبها...
قالت العمة "نهلة":
"يومَ أطلقوا سراح شقيقي "نديم" من الحجز، الذي دام تسعة أشهر، بسبب انتمائه للحزب الشيوعي".
صَحبْتُ ابنه "صفاء" إلى بيته الذي لا يبعد عن بيتنا سوى عبور الضفة الأخرى من نهر "خريسان"، حيث هللّ بقدومنا الكلب "دوبر" بنباحه المعهود، فنهره "بهاء" شقيق "صفاء" من النافذة، اخرسه.
كانت سعادتنا غامرة، بخروجه هذه المرة من الحجز، فهي لم تكن المرة الأولى، ولكنها الثالثة، أو الرابعة التي يحتجزونه للتحقيق معه.. لكنها كانت المرة الوحيدة التي بانت آثار التعذيب واضحة على جسده، وجدته نائماً، وتركت "صفاء" يجادل أمه في رسوبه في مرحلة الأول متوسط، وكأنها تحملني أسباب عدم نجاحه، لأن أباه ترك مسؤولية متابعته ما دام يعيش بيننا.
بقينا ثلاث عمّات مع جدّة نعيش وحيدات في بيت والدنا، اتخذنا "صفاء" رجل البيت المدلل بيننا يشاركنا العيش، لم يطلب منا شيئاً إلا وفرناه له. استطعتُ أن أعيل الجميع من مهنة الخياطة لنساء المحلة، وكسبهن زبونات دائمات منذ أكثر من عشرين عاماً، وخاصة بعد ترك شقيقي "نديم" مهنة الصيد وتحوله إلى التعليم، وبعدها صار مُهتمًّا،ومُتهمًّا بالسياسةِ. ضاقتْ علينا الدنيا، وما بقيت لنا سوى ماكينة الخياطة نعتاشَ عليها، كما ساعدني معرفة شقيقتي "نجلة" بالتضميد وزَرِق الإبر للنساءِ بدلا من الذهاب الى المستشفى.. صار بيتنا أشبهً بنقطة تلتقي فيها أغلب نسوة المحلة، وصارت أخبار المحلة كلها بيننا تتبادلها النسوة عند التقائهن ببعض، نعرف كل ما حصل هناك أو هنا، اسرارٌتأتي من أغلب البيوت، تستبقُالمصادر الأخرى..
وصلتُ الخمسين من عمري، ولم يأتِ إليّ أيّ نصيب بالزواج، وصار همي منصبّاً على تربية ابن شقيقي، فكنت أحرص عليه، وأتابعه أينما يذهب، ويلعب، ومع من يلعب.. حتى ضاق بي ذرعاً كلما تابعته في مكان لعبه.. عندما أفقد أثره، صار أولاد المحلة كلهم يرشدوني أين يكون ملعب هذا الولد الشقيّ..
عندما أفتتح "أورزدي باك "(38) في بعقوبة اشتريت له آلة "جيتار"، وصار بعدها أكثر ألفة للبيت، ولا يخرج إلا مجبراً، وصار يتمرّن على العزف عليها في أغلب أوقاته.. حتى الأولاد صاروا يتجمّعون حول ابننا في بيتنا. كنتُ أحسّ بسعادة غامرة كلما وجدته قريبا مني، وتحت بصري.
لم يستطع الصبر أن يبقى حتى يستيقظ أبوه من النوم، وبلمحة خرج عائداً إلى بيتنا.. هربًا من مَلامَةِ أمهِ التي تحجب عنه سعادته.
ذكرت عنه إحدى جاراتنا:
- "بأنه معجب بابنة جارنا ويلاحقها كل يوم أحد إلى الكنيسة"، ووصفت ابننا بالمؤدب، الخجول. الذي لم يكلّمها أصلا، ولكنه يحاول أن يشاغِلها بعينيه وليس أكثر. حبّ من طرف واحد.. (ياه كبر أولادنا يعني اننا كبرنا). تقصيّتُ عنها وقالوا لي بأنها ستعود إلى أحد الأديرة في "الموصل" وتصبح راهبة.. قلت مع نفسي: "لم يعرف الاختيار الصحيح".. بقيت تقول بحسرة: (على الأقل نربي أولاده بدلاً من تربية القطط.).
***** ***** *****
ذاتَ يومٍ من أيام شهر رمضان سألتُ "أمي" بافتراض بريء؛ لو ذهب "سوبرمان " إلى كوكب "المريخ"، أو إلى كوكب "زحل"، وبقيّ مشغولاً هناك دون أن يعود إلى الأرض، وحلّ عليه شهر رمضان.. على أي قمر يعتمد صومه.. فقالت: - "ربما يستخدم ساعته"..
فقلت لها "لا أظنها تتوافق ساعته مع ساعة أهل الأرض التي تعتمد توقيتات خطوط الطول". احتارت بافتراضاتي البريئة، وأرادت أن تجد جواباً شافياً يغطي قناعتها، فلم تجده، فضلت ان تنزل قدرها من على النار، بينما بقيت انا أحدث نفسي: "عليّ أن أكون أرضياً بأسئلتي حتى أجد أجوبة أرضية"..
***** ***** *****
كلما نظرت إليه، تذكرتُ خيبتي التي صار عمرها خمس عشرة سنة. بِكْرِها يصغُرَ "صفاء" ابن أخي بعامٍ واحد.. لو كان قد وافق "نديم" تزويجي من "ابراهيم دندي".. لكان "محمد" ابنهُ مني.
... كنت أرى "إبراهيم" رجلا وسيماً، أنيقاً، لم يتطلّع إلى شبابيك بيوت المحلّة، يمرًّ بصحبةِ أحد أشقائه، أو مع صديقه الحميم "يهوده"، بـ"سِدارة" كبقية الأفندية، ويحرص على ان يظهر جديده بنطلوناً من القماش الانكليزي الخالص، وقميصاً غالباً ما يكون لونه ابيض.
لم يوافق شقيقي على زواجي منه بحجّة أن تتزوج قبلي أختي "نهلة" الأكبر مني بخمسة أعوام، وفي قرارة نفسه يخفي سببا آخر لم يكشفه، (من المستحيل أن يناسبه واحدٌ من بيت "دندي"، لأنهم من عائلة تنحدر من أصل يهودي، "مُسلِمانيّة " قد أخفى عني، وعن الآخرين الاسباب الحقيقية الموجبة لرفضه. كانت مبرراته الظاهرة واهيّة.. سكت حتى عندما حاججتْهُ عمتي "رجيّة":
- "أمنا تنحدر من الأصل نفسه"؟!.
لكنه بقيَ مصراً على عدمِ الموافقة، وأسبابهُ الحقيقية التي كانت مخفيّة وراء أسباب بلا تبرير. لم يكتف بسكوته حتى جابه الرجل حتى بنفسه بالرفض. وفي اليوم التالي تزوّج "ابراهيم دندي" من ابنة خالهِ "طليلة"[39].. في غضون أيام، ونفس الأسبوع، تمّ زواجه وسط حفل شاركهُ فيه كلّ أهلِ المحلة حتى "ميخائيل" رقص في عرسه.
وترك لي الرجل دون تعمّد جرحاً لم يندمل في داخلي، يكبر مع الأيام، وخصوصاً بعد أن أنجبت له زوجته ولداً أسمته "مُحمَّد"، صرت أعدّ السنين التي يكبر بها ابن "ابراهيم دندي"، مقارب لعمر "صفاء"، يذكرني بخيبتي.
ولم يتقدم لي أحد بعدها، وكلما يذكر اسمه أمامي، يخفق قلبي لذكره، لأنه أول رجل استطاع أن يفتح قلبي، وبقيت أحب سماع أخباره، أولاً بأول. ودائما أمني النفس به. كنت أراه رجلاً أنيقا بالرغم من السلبيات التي كان يؤاخذه عليها شقيقي "نديم".. إذ كان يقول عنه بأنه "مطيرجي" هو وبقية عائلته..
كان "إبراهيم" الوحيد بين عائلته "دندي" يرتدي لباس الأفندية، ولكنه كان لا يضع على رأسه "سدارة" الا في بعض المناسبات الرسمية، وكانت له هيّبة بين رجال المحلة، وحظوّة كبيرة بين عائلة "ناجي"، اعتمدوا عليه بكل ثقة في إدارة أملاكهم، وخاصة إدارة السينما التي كان إيرادها الأسبوعي يفوقُ المئات من الدنانير. كان مشهورا بعزّة النفس، ويذكرون عندما جاء "حسقيال" الى بيتهم جاء متنكراً، وأراد منه أن يقبل تسجيل البيت باسمه "ملك طابو "[40] رفض ذلك، وبقيَ يؤدي لهم الإيجار حاله حال صديقه "مناتي" شريكه في مكان العمل..
أيامها كان الحبّ بين اثنين، لا يتجاوز الرؤية من خلال الشباك، أو ملاقاة عابرة في سوق، أو طريق. ولا تتجاوز بينّنا الإشارة، أو إلقاء التحيّة، ولم أكن أذكر باني قد رأيتهُ ذات يوم، قبل أن يرسل لي شقيقته "صبيحة". أخبرتني:
- "اخترناكِ.. ماذا تقولين"؟
تغيّر لوني، واضطربت أوصالي، وافقتُ مبدئيا. ورحت أحلم ببيت، وزوج، وعائلة.. لكن شقيقيّ "نديم" أوقف ذلك الحلم برفضه القاطع. كانت تلك الفرصة الوحيدة التي جاءتني للزواج، ولم يتقدم ليّ بعدها أي خاطب.
بقيتُ أراه فارس أحلامي، وبقية كوابيسي.. ولم أشعر بالغيّظ من "طليلة"، فلم تذنب المرأة معي، وأنا من أضاعت فرصتها.. كانت تصغرني بعدّة سنوات. أوقفها عن إكمال دراستها المتوسطة، تزوجها في عرسٍ مهيبٍ.
كما بقيتُ أواجه الحياة بين النسوة، أساعدهنَّ في كلّ ما يتعلق بأمور التطبيب.. حتى علمت بأن الأخوين "يهوده"، "حسقيال" تكفلا في إرسال "إبراهيم" إلى "ايطاليا"، لقضاء شهر العسل. كتمتُ حالة الغيظ الذي لمَّت بيّ. بقيتُ في خصام مع شقيقي، لا أتكلم معه أية كلمة طوال فترة عسلهما، وامتدّت إلى أكثر من أحدَ عشرَ شهراً.. حَبَلتْ زوجته هناك، وولَدَتْ هناك، وعادَتْ تحمل ابنها، وعمره شهر واحد، أو أكثر. تعايشتُ مع الوحدة، وشراييني يضرمُ بها الجفاف يوماً بعد يوم.
***** ***** *****
بمرور الوقت؛ لم يَعُدْ يُثيرني لغز "مَكابيوس" كما كان في السابق، بدأ اهتمامي به يقلّ تدريجياً خصوصاً بعد أن اختفى عني دفتر المعلومات، الذي كنت أجمع فيه كلّ مُستَجَد عن ابن "يهودا"، وكلُّ تشابك مثير للجدل، (كأني أنّى توجهتُ، ألتقي عند بوابة مغلقة اسمها "إبراهيم دندي).
فما عدتُ قادراً على تحدي إرادته، ورغبته، بدوت أول الأمر أتظاهر بعدمِ أهميّة ذلك الأمر، ولكن بقيّ الموضوع يشغلني، وكأني المحقق العظيم، الذي أظنُّه. فقدت جميع أدلتي المادية الملموسة، وعليّ أن أبحث من جديد عن أدلة أخرى، لكنها شبه مستحيلة. كذلك أخذ الموضوع يلقي ضلاله المُعتِمة على "أمي"..
صارت تتوجس مني أي سؤال أسألهُ إياها. وتحولت أجوبتها لي، وكأنها – أيضاً - بوابة مستحيل لا يمكنني عبورها بأيّ سؤال، بريء آخر. بات اللغز يُشكل لي متاعب، كنت في غنى عنها. وليست مسألة أرغب في حلّها، فأبرهن بأني استطعت حلّ قصة لغز حقيقي، في حياتي الحقيقية، كما تحلّ الغاز القصص التي قرأتها، وعشتُ معها بكلّ جوارحي.
تيقنتُ أن اختفاء الدفتر كان بفعلِ فاعلٍ عارفٍ بمحتوى سطوره، وصرت قلقاً من أن يكشفَ ذلك، فآثرت البحث عنه جيدا والصمت دون السؤال عنه، متظاهراً بنسيانه، أو عدم أهميته؛ كأنه لم يشكل ليّ همّاً..
يومها شككتُ ان "فؤاد" أخفاهُ عني مؤقتاً، وعلى يقينٍ مؤكدٍ، بأنه ينوي أن يساومني على مسالة ما، حاجة، أو خدمة، أو أمر آخر أجهله. وسيعلن عنه في أقرب فرصة، ولا أظنه بقدر من الذكاء والصبر. لن يتحمل يومسيمضي. وحتما سوف يأتي إلى كاشفا عما يحتوىفي جعبة، او نيّته. ولكني بعد ذلك الانتظار تيقنت بأنه لا يعلم عن مصير الدفتر، الذي لم يعد له إي أثر.. بالرغم من أني كنت أخفيه عن الأنظار، وكنت أخاف من أن يقع في يد "أمي" فهي الوحيدة التي تجيد القراءة، والكتابة بين محيطي كله، ومن الممكن أن تخبر "أبي" بمحتواه، وتكون كارثة.. بالرغم من أنه عدلَ عن ضربي منذ أن دخلت المتوسطة، ولكن بقيّ مكتفياً بتوبيخي الشديد.
ذلك التقصي بذلك الدفتر بمرور الوقت لم يعد مهماً. ولأني بدأت أصل إلى طريق مسدود، لشحّة التفاصيل في أي مستجد يخص ابن "يهوده"، ربما تصير عواقب أي سؤال صريح مكلفة، وبدأت اتعايش مع الموضوع الذي يشغلني حيث لمْ يكن سوى نزوّة عبث وبالتأكيد لن يعني لي ان اعرفه او لا اعرف، وحتما سوف تلحق بي اخباره قبل أن ألحق بها. خصوصاً بعد أن دخلت إلى قائمة اهتماماتي الموسيقى، والتمرّن على لعبة "الشطرنج".. بعد أن وجدت "صفاء" قد أُولع بهما معي، بتنا نتحدى بعضنا. كنت اقارعه في براعة لعبة الشطرنج، وكان يبارعني في مهارة العزف على الغيتار. توافقنا لم يكن متكاملاً، حيث لم يكن "صفاء" محبّاً للكتب، فلم يشاركني مشوارها، واستعارة الكتب من المكتبة العامة، بالرغم من أني حاولت أن أستعير كتباً في تاريخ الموسيقى، وفشلت في تحبيبه للكتب، اذ كان قليل الصبر مع كل شيء، لا يطيق القراءة، إلا أنه كان يميل إلى آلته، يعزف عليها معظم فترة جلوسي معه. كنت أقرأ، وألخّص له أثناء تمرينه مما قرأته من أغلب الكتب المُبسَّطة الخاصّة بالموسيقى، وجدني المّ له ُ بتفاصيل كانت تثيره، كان يجيد الإصغاء، ويتفاخر بما يسمعه مني ويحكي بها الى بقية اصدقائنا كما لو أنه هو الذي قد استخرجها من متون الكتب، ويرغي بها الى كل الذين يَصحبون أمهاتهم المترددات على عماته الثلاث كزبونات وصديقات.
بقيّ يعيش في بيت "عماته الثلاث" اللاتي كنَّ يوفرن له كل متطلباته، فالأولى اشترت له آلة الجيتار، والثانية تُغدُق عليه مصروفاً يوميا يفوق مصروفي مرتين، وعمته الثالثة جاءت له بعلبة شطرنج مُجَسَّمَة، أجمل من علبتي التي اشترتها لي "أمي".
صرنا نحظى بفرصة اللعب بالشطرنج مع الآخرين، وصرنا نشرح طريقة اللعب الى كل من يريد تعلّمها.. كنت اتفاخر بالفوز على جميع اللاعبين بلا استثناء، كنت أجدها لعبة ألغاز مثيرة، لم يستطع أحد أن يتفوّق عليّ بها، فاللعبة تحتاج دوماً إلى لاعبين ماهرين حتى يتقدم المرء في أدائها. مرة سمعت العمُّ يهودا يقول: - (هذه اللعبة غيرت مجرى تاريخ العالم).. كما رحت مُستنجدا بالمكتبة العامة حول المعرفة بتاريخ الشطرنج، تعلمت كيفية قراءة، وتسجيل الدسوت الشطرنجية[41].
رحت أفترش رقعة الشطرنج، كمن يلعب لوحده، وأتعلم الافتتاحيات الشهيرة، وأسماءها، واستطعت أن أميّز في قوتها، وضعفها ورحت احفظها وافهمها جيدا بغرض تطبيقها أثناء لعبي مع الآخرين.
وكان صفاء يحتضن آلته ولا يفارقها، وكان يلبي لي ما أطلب منه أن يعيد أغلب المعزوفات الشهيرة التي كان يحفظها من أغاني "عبد الحليم حافظ"، وأحياناً أوجهه بحنجرتي إلى تصحيح ما يحفظ، وبقيّ مؤمناً بأني أجيد الحفظ الموسيقي أكثر منه، واتفاخر أمامه (أني أجعله يعيد العزف حتى يتقنه).. بالشكل الذي يطابق مع كنا نسمعه سويا عبر المذياع، والأشرطة المسجلة، على الرغم من أنه لا يدعني ألمس جيتاره، وليس لدي آلة حتى أستطيع العزف عليها كل الوقت الكاف، الموسيقى تحتاج الى مرانٍّ كثير حتى يجيد المرء منا العزف، والى تمرين مستمر لأصابع اليد لذلك بقيت لا أجيد العزف كما هو يجيده..
أما "فؤاد" لم يقرب من صفاء منذ ذلك اليوم، بقيّ في هَوَس تربية طيور الحمام الداجنة، وابتعد مساره، عن مساريّنا، ولم تعد بيننا أية هواية مشتركة، لم يستهويني الحمام الزاجل، ولم ألمّ بتفاصيلها. ولم تتوافق مع اهتماماتنا، فشل أكثر من مرة في مرحلة السادس الابتدائي. كما فشل "صفاء" في مرحلة الأول والثاني من الدراسة المتوسطة، وكان ذلك بداية الفرقة اذ عبرت الى مرحلة الثالث متوسط، وكان عليًّ الاستعداد لعبور "البكلوريا" وما بعدها. ولم يتخل عني جهاز المذياع البسيط الذي بقيّ يجول بي إذاعات العالم، ولا يتوقف لي إلا حيث ما أجد موسيقاي..
***** ***** *****
كنّ يعشقن تربية القطط. وتعيش في بيتهم أكثر من ثماني قطط.. وعندما أسألهنّ عن القطة السيامية "سنونة"، كأنما المفتاح الذي افتح به سيرة بيت "يهوده". حيث يُسهِبنَ بحسرّة عن صداقات الجيرة، وبراءة الأيام: (عليَّتدويّن المَخفي غير المعلن من التاريخ الذي تحكمهُ الآلة الأيدلوجية)..
***** ***** *****
تعودتُ أضع أوراقاً بيضاء في الآلة الكاتبة، وأبدأ بالرقنِّ عليها، فلا تظهر الكلمات التي أكتبها بها، لأنها بدون شريط طباعي. يدقّهُ نابضٌ بقوة فيحفر صورته على الورقة، دون أن يظهر بلون له على الورقة، فأتمكن من قراءتها بتضليل الورقة بقلم الرصاص حتى تبين الكلمات المحفورة بقوة الضربة كأنها مطبوعة على الورق. بهذه الطريقة عاودتُ تدوين أغلب ملاحظاتي الجديدة عن اللغز "مكابيوس" الذي بات يمثل لي تحدياً، وعناداً، ونزوة تؤرقني، كونُ الموضوع حُظِرَ عليّ من قبل أهلي. دون ان أستطع إيجاد حلٍّ له... خصوصاً بعد ان لاحظت نتفاً من غلاف الدفتر، الذي ضاع مني عالقة في قعر سلة المهملات. فتيقنت بأن الدفتر لم يضع مني، ولكن احداً من بين الذين حولي قد أتلفَه، متعمّداً، ولم يكشف لي ذلك.
تُلِفَ ذلك الدفتر إلى الأبد، وكان عليّ أَلّا أضيّع ملاحظاتي مرة أخرى، تكتمت على طريقة الكتابة المخفية، ولا أريد أن أكشف طريقة طباعتي السريّة. وما كتبته بها، لن يستطع حتى الشيطان الاطلاع عليه، بقيت الحروف مخفيةً لا يقرؤها أحد غيري.. كتابي السريّ، الذي لا يشبهه أي كتاب على الاطلاق، الكتاب المستحيل والذي سوف أقرأهُ وحدي، وان بقيّ القدر تحديهكي لا يكتمل..
***** ***** *****
كانت عمتي "صبيحة" تندبُ حظّها، برغم توترها، ولكنها كعادتها تعبّر عن ذلك بكلمات قاسية، تدمدم مع نفسها، وكأنها تحكي مع قدور بيتها وأوانيها. مع الحيطان والكلب. تكلم نفسها بصوت مسموع مما يؤدي انعكاسها على مشاكل يومية بينها وبين "جدتي"، وكذلك مع "أمي".
في ذلك اليوم التي كسرت فيه برواز الصورة، لم يتنبّه أحد أني شاهدت صورة مخفيّة تحت الصورة، وتظاهرتُ بعدم الملاحظة وأني لم أُعِرْ الأمر أهمية، بحضور "أمي"، لأني على يقين أن عمتي بكل أحوالها سوف تطلب مني مساعدتها في إصلاح ذلك الإطار، وإعادته إلى حاله الأول. فأعددت نفسي لتلك المغامرة الجديدة والدخول في تفاصيل المستجدّ الذي يسهل عليّ حل اللغز... لأول مرة عرفت ان "أبي" و"أمي" سبق لهما المكوث مؤقتا في دولة اجنبية اسمها "إيطاليا" وكان معهما العم "حسقيال"، كشفت لي ذلك.. تلك الصورةُ، كدليل قاطعُ أخفيَّ بعمدٍ تحت صورة "آدم وحواء". ولم يعلم أحد من ان ذلك اشعرني بالفخر، تمنيتُ أن يحدثني أحد عن مدينة أخرى بعيدة، لم اعرف عنها شيئاً خاصة الأمكنة التي كنت أسمع عنها بأنها إحدى العواصم الكبيرة، درسنا عنها في درس الجغرافية. لولا الصورة، فأنا لم أصدق ان أحداً من عائلتي قد عاش هناك، لو كنت قد سمعتها من صديق لقلتُ له "أغبطك يا صديقي الحالم، هات حدّثني عن المزيد".. أردتُ أن أستعير من عمتي تلك الصورة وأريها اصدقائي، بدواعي التباهي، وأعيدها بعد ذلك.. إلا أن تلك المرة الأولى التي شاهدتها، ومن حسن الحظ أنى تمَعَنتُ بها جيدا، ولكنها كانت المرة الأخيرة، وبعدها اختفت تلك الصورة إلى الأبد[42].
عندما ساءت علاقة "أمي" بـ"عمتي" أكثر، استثمرتُ تلك القطيعَةَ، بالحصول على الكثيرمن الأجوبة.
***** ***** *****
أغلبُ الجيران كانوا مولعين بتربية الحمام الزاجل، وجمعه بأنواعه بعضهم من يتسلى به ويضعه في قفص، والبعض الآخر كان يتاجر به، حيث بمكاثرة الأنواع النادرة، والتي لها تصرفات خاصة لا تشبه أخرى من صنوف الحمام. البعض منها يعود الى عشه الأول، ولو بعد عشرة أعوام، وهو الذي كان يستخدم في نقل الرسائل المضمونة بين الأمكنة البعيدة، وغالباً تلك لا تحتاج الى وضعها في قفص، بل يصنعون له سلّة خاصة لها فتحة دخول واحدة، ثم يثبتونها في أماكن ظليلة عادة ما تكون قرب الشبابيك، لها وعاء ماء، ولها وعاء حبوب قريب، ثم يأتون بذكر وانثى من تلك الفصيلة ويغلقون عليهما فتحة السلة لمدة يوم كامل، بغرض تزاوجهما، وبعد ذلك، ينزعون عنه ريش جناح الانثى (فقط) كي لا تستطيع الطيران بعيدا، وتأخذ معها الذكر الذي تزاوجت معه حتى موطن عشّها الأول (غريزة الذكر يتبع انثاه). بعد ذلك يوفرون للطير الاعشاب المناسبة التي يفضلّها حتى يظفر منها العش الجديد داخل تلك السلة الآمنة، حتى تبيض الأنثى ويفقس. من طبائع هذا النوع من الطيور بعد التزاوّج يقوم الذكر بنقل الماء والطعام الكاف لأنثاه اذ يخزنه لها في حوصلته، ويلقمها إياه بمنقاره بينما هي لا تخرج من العش حتى تبيض، وبعد أن تبيض يبدأ ريشها المنزوع بالنموِّ السريع حتى تساعد الذكر في جلب المزيد من الطعام لصغارهما. والغريب انهم عندما يبلغون اشدهم، يطردون ابويهما من العش القديم، وتكون السلة موطنا لتزاوج جديد.
وعندما يسافر صاحب الدار في رحلة ما الى مكان بعيد، يصطحب معه الطير، وعند وصوله يطلقه ليعود الى سلته التي حوت عشه، وتعود أصحابه ان يشكلوا رسائلهم بإحدى رجليه.
- كنت أظنها هواية لا تحتاج إلى أي مهارة، سوى أن يُحبس الحمام في قفص لمدة من الزمن حتى تتعود عليه، ويكوّن في القفص اعشاش، وبعد أن تتزاوج تعزل الذكور عن الإناث، ويطلق الحمام حتى يدور في الفضاء حول عشه..
- (تعلم الصفير العالي، وذلك بعمل غرفة هوائية ما بين الفمّ وأصابع اليد، والنفخ فيها بقوة، فيخرج الصوت عالياً، وكلما تحرك أحد الأصوات ليصدر نغمة، ذلك الصفير يميّز كل هاوٍحمام عن الآخر، وغالباً ما تكون لكل واحد نغمة تميّزه عن الآخر، وأحيانا تتشكل بالصفير تواصل حوار بين اثنين.
ثمة هواة يستخدمون الصفير لإخافة الطيور كي تبتعد عاليا موسعة من قطر دائرتها في الفضاء، غالبا ما يطير الحمام في سرب واحد، ويدور حول فضاء عشه، والحمام الذي يتخلف عن السرب، وينظمّ إلى سرب آخر، حمام ليس عليه الاعتماد وغالبا ما تكون الحمامة التائهة غنيمة لصاحب السرب الثاني الذي التحقت اليه)..
كل ذلك انعكس على العلاقات الشخصية، اذ تكون الغنيمة الطائرة سببا في تغيّر تلك العلاقات من حال إلى حال،وحسب مشيئة أحوال الحمام..
***** ***** *****
تعودت معظم نسوة المحلة في اغلب ليالي الصيف قضاء السهرة على سطح بيت العمّات الثلاث، لان ذلك البيت الوحيد الذي كان يشرف على شاشة عرض السينما، واغلب الجيرة، يجتمعن منذ المغرب استعدادا لمشاهدة مجانية للفيلم المعروض، وذلك لا يكلفهن سوى بعض التودد لاحداهنّ. موقع البيت بجانب صالة السينما الصيفية، وبينهما شارع ضيق، من زاوية تبين الشاشة البيضاء المستخدمة للعرض، بسبب ارتفاعها، وتكون المشاهدة واضحة لكن الصوت أحيانا لا يصل بسبب مكبرات الصوت التي كانت بمستوى المتفرجين، وموجهة الى داخل الصالة، قريبة من الأرض، خلف الشاشة. وأحيان أخرى تكون الصالة مكتظّة بالجمهور، فلا يصلهم الصوت الا غمغمة غير مفهومة. النسوة تراقب حركة الصورة، ومعظمهن يبدين الفهم.. حضور وحوار وتلخيص أو تلفيق كلام، بحجّة انهم سمعنَ ما قاله الأبطال. المهمُ حضورهن الى سهرة جميلة تلمّ طيبة الأمهات وحلاوة اللقاء ببعض، من بعد مشاوير أعمال بيتية متعددة، محطة استراحة يفرغنَّ فيها نكدُ العيش وظنكُ الأيام. ثم يعودن الى بيوتهن القريبة بعد انتهاء العرض في العاشرة ليلا..
- (نيالهن كأنما السينما على سطح بيتهم).. غير متناسيات ان ذلك يكلف العمات تحضيرات اولها ترطيب المكان بالماء عصراً، وتحضير قارورة ماء باردة، وتحمل سماع المزيد من الثرثرة حول من جاء ومن رحل.
***** ***** *****
كانت "أمي" غالبًا ما تنسى ويأخذها الزهو، فتحكي لبعض صديقاتها اللائي يحضرن لزيارتها، وتستجيب لنشاط ذاكرتها حول ما شاهدت اثناء سفرتها الى ايطاليا، كأنما تؤكد لي انها كانت تختلق قصة في غير محلها..
****** ****** *******
قالت طُليْلَّة: بقيت رغبة كامنة في الأعماق أن أنجب كبقيّة النسوة. حتى أنجبت "خليل"، حتى عاهدت الله ونفسي أن أعاملهما معاملة واحدة.
****** ****** *******
قالت "أمي": عادت مواصلة لي "صديقةُ عمري "جنان"، بعد غياب عادت بأشواقها إليّ، ملهوفة تودّ الحكي، فحكت لي همساً كل ما جرى لها في فترة غيابي عنها، وأنها تطلقت، بعد يوم واحد من زواج فاشل، لتعيشفي بيت أهلها، الذي لم يبتعد عن بيتنا. ذلك الحدث جعل "ابراهيم"، ويطلب مني عدم مواصلة علاقتي بهذه المرأة، وقطع الصلة بها.. (أعادها زوجها الى أهلها، بعد أناكتشف انها لم تكن بِكراً)، نقل لي ما قاله زوجها. (امرأة حتى والدها يكذبولم يتصرّف بالأمر). وبقي "إبراهيم" يحكي لي عن سيرة عائلتها.. (من بيت الأستاذ "رحيمو المسلماني".. كان مدير الاعدادية الوحيدة في مركز "المتصرفية"[43]، أستمع جيداً الى كلام الزوج، ثم استمع الى كلام ابنته الوحيدة، وكانت "القابلة مارغريت"، هي الفاصل الأهم بهذا الموضوع، لأنها صاحبة الخبرة الواسعة في تلك الأمور النسائية الدقيقة، تبيّنت الموضع، واستعادت لـ"جنان" حياتها. بقيّ الزوج في غيّهِ متظاهراً بعدم التصديق، على عكس أبيها فكان الأب الحنون، وطردَ ذلك الرجل من حياتها، وتمّ الطلاق.
أما "ماركريت" المخلصة الطيبة، أكدتْبانها كانت أمام عيب خلقي، وحسب. امرأة طاهرةٌ، غشاء بكارتها (مطاط)[44] لا يتمزّق، ألا بعملية جراحية، لم ينزل دمها، ونصحتهم بمراجعة الطبيبة "وجيهة"، المتخصصة بالجراحة والأمراض النسائية. وبعد الفحص الثاني تطوّعت "الطبيبة" بتسليمهم تقرير له حسم ذلك الشأن، الحساس، ودليل البراءة.. يحميها ويبعد عنها كل ظن.أهل المحلة استنكروا بشدّة بكل ما ادعاه "الطليق" فاعتبروه نذلاً لا يفرق بين الحرة وغيرها..
***** ***** *****
اعتبر "ابي" أصرار "أمي" على تعاطفها مع صديقتها "جنان"، معصيّة، (لا دخان من غير نار) تهمّهُ السمعة ومقاطعة صديقتها لأنها مدانة، يجب أن تتفهّم، (خوفاً عليها تلك السليمة تجربُ) ويشدد بالأمروهو يلفظ حرف الباء الأخير..
[38]* الأسواق المركزية وبمثابة "ماركت" كبير بأسعار مدعومة تابع للدولة.
[39]* مُسلمانية: الذين اظهروا اسلامهم تقيّة وتمارس طقوس دينها السابق في السر.
[40]* ملك طابو: نقل ملكية صرف بواسطة عقد رسمي
[41]* الدسوت مفردها دست ومعناها جولة شطرنجية..
[42] * (لأول مرة رأيت فيها "أبي" مبتسماً ويضع يده على خصرِ "أمي"، وبجانبهما يقف "حسقيال" ملوِّح بالسلام. صار حدسي أن من صورّهما شخصٌ رابعٌترك ظهر ظلّه على الأرض،مؤكد انه "يهودا")..
[43]* كان يطقون على مركز المحافظة اسم المتصرفية.. ويديرها المتصرف اي المحافظ.
[44]* ذكرت الدكتورة "نوال السعداوي" عن حالة مماثلة في احد كتبها...