إنّ فنَّ كتابة القصة القصيرة ليس من السهولة بمكان، ففعل القص/ الحكاية جبلت عليه الطبيعة البشرية، فالكل يمتلك القدرة على فعل الحكي وبصيغ مختلفة، ولكن الحديث عن فنّ كتابة القصة إبداعيّا بوصفها جنسا أدبيّاً يتمايز عن سائر الأجناس الأدبيّة بخائص فنية تضمن له انتسابه إلى عالم الأدب، فإنّ أدبيّة القصة تستلزم شروطا فنيّة يحتكم إليها النقد الأدبي. فالكتابة الفنية للقصة القصيرة تستدعي نمطيّة أسلوبها الذاتي الذي يضمن لها وجودها وحياتها كجنس أدبي. ولعل القصة القصيرة من الفنون الأدبية التي تستهوي النفس البشرية ويشترك في تلقّيها الجنس البشري كله على تعدد أنماط تفكيره ومستوياته الثقافية والعقائدية، والأيديولوجية فالقصة يمكن أن يقبل عليها أي قارئ أيّاً كان مستواه الثقافي، لأنّ لغتها بسيطة في الغالب متدفقة ومنسابة في نسق مقبول إلى حدٍّ كبير، وليس حالها هو حال القصيدة الحديثة، برغم ما أصاب القصة من تغيير وما لحقها من تطور مع التوسع في استخدام التقنيات المعقّدة أحيانا، والغامضة أحياناً أخرى." فمع تطور الفن القصصي وإيغاله في الرمزية والأكوان الاستعارية المنفتحة على عالم التخييل، إلا أنها مازالت تحتفظ برونقها الحكائي الذي يستهوي النفس البشرية.
يذهب بعض الفلاسفة والمفكرين إلى القول بأنّ في أعماق كل إنسان ذرة من الشِّعر، وليس من شكٍّ أن ظواهر إنسانية وتاريخية قد لا يحصيها حصر تعضد هذا الرأي وتدعمه [...] وإذا كانت أعماق النفس البشرية تنطوي على ذرة من الشعر على الأقل، فإنّ التكوين النفسي لبني البشر جُبل في الأغلب أن يكون الإنسان توّاقاً لأنْ يقُص أو أنْ يستمع للقص وهو دائما يشعر بحاجته الشديدة إلى ذلك بصورة غريزية تفوق أحياناً حاجته إلى تلبية غرائزه الطبيعية الفطرية كالطعام والشراب والجنس." ولذا اتخذت الكتب السماوية (القصة) وسيلة ضمن خطابها العام للإنسان فاحتشدت الكتب السماوية المقدسة القرآن، التوراة، الإنجيل بالقصص، بل وارتكزت عليه في إرساء الدعائم العقائدية التي تريد غرسها في الجوهر النفسي للإنسان، وقد اشتركت الكتب السماوية في سرديتها لبعض القصص كبداية الخلق التي زخر بها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، واحتشد بها الكتاب المقدس بعهديه: القديم، والجديد، كما في " سفر التكوين"، إذن يخاطب الله الخلق بما جَبَلَهُم عليه فطرةً وخلقاً، ويقول أحد المفسرين القدامى: " أنّ القرآن الكريم ارتكز على ثلاثة محاور: العقيدة، العبادات، القصص" وإن فتّشتَ في القرآن الكريم لن تجد إلا هذه المحاور، والذي يخص هذه الدراسة، أن القصص ركيزة محورية في الخطاب القرآني، وهذا يدل على أهمية الفن القصصي، والذي تتوزع أبعاده على بعدين: الأول البعد النفسي، والثاني، البعد الإبداعي، قال تعالى: " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" فلم يختر القرآن الكريم للناس آلية خطاب غير القصة يخاطبهم بها بغية الهدى والإرشاد، وهذا يجعلنا نعتقد تمام الاعتقاد أنّ الفنَّ القصصي له بعد روحاني؛ لأنه يخاطب الذات التي جُبِلَتْ روحها على الشغف بالحكاية والحكي، كما نعتقد أنّ فنَّ القصة يؤطر للتاريخ ويرسي الدعائم والقيم، " فالقصة هي لغة التخاطب المناسبة التي تتسق وروح الإنسان، والله خلق الإنسان ويعلم ملكاته ومواهبه وإمكاناته وفضله على جميع الخلق بما منحه من معارف ومواهب، ورد الفعل (قصَّ) في القرآن الكريم نحو عشرين مرة بمعنى أخبر وروى، قال تعالى: " فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" وقال سبحانه: " تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ" فالقصة، إذن تلامس الجوهر الإنساني، ولذا اعتنت الكتب المقدسة بها بغية التأثير على النفس بوسائل خطابية تمنح الإنسان طريقة التلقي التي تتلاءم مع فطرته البشرية، إذن فن القصة إبداعا وقراءة شيء منوط بجوهر التكوين الإنساني. لقد حذّر القرآن الكريم من الشّعر نظرا لاستغراقه الكلي في عالمي الشعور والتخييل وتوغّله في عالم الجمال الذي يتماهى مع سديمية العماء الكوني، ولكن القصة – حتى وإن توغلت في عوالم الرمز – فهي تستند إلى حقائق واقعية، وشخصيات تمثل هذا الواقع في أبعاده المختلفة، ولذا يكون الواقع دائما هو نقطة التقاء المؤلف بالقارئ حتى وإن توغلت القصة في عوالم التخييل، " فالقصة تتميز بالمعقولية النسبيّة، أي تحقق موضوعها في الواقع أو إمكان تحققه، أو يكفي تصور تحققه." ارتكزت القصة القصيرة بشتى مستوياتها في القديم على فعل الحكي المباشر للواقع مع الاحتفاظ بنمطية الأسلوب الحكائي، وتلك التقنيات الكتابية التي تضمن للقصة على مسرح الأدب، واشتبكت القصة بما هو ديني وأسطوري وتاريخي واجتماعي وثقافي، " ولسنا بحاجة إلى الإشارة أنّ كلمة "قصة" بالإنجليزية story ترتبط ارتباطا اشتقاقيا واضحاً بكلمة تاريخ " History" في اللغة ذاتها، ومثل ذلك في اليونانية." وبناء على هذا الاشتباك كانت القصة قبل عصر (الحداثة) تميل إلى المباشرة والواقعية، ولكن اتخذت القصة كغيرها من الأجناس الأدبية مسارا مختلفا وحاولت الانسلاخ من القيود والأشراط لتتواءم مع عصر الحداثة، والقصة بوصفها فنا أدبيا تمتلك القدرة على التشكل وفق متطلبات عصرها، " مع ظهور القصة الفنيّة الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اجتهد الأدباء في محاولة صياغة تعريف محدد لها بدءا من الكاتب الأمريكي (إدجار آلان بو)، ولا نستطيع أن نزعم أن تعريفاتهم التي توصلوا إليها بفيض خبراتهم وتجاربهم ودراساتهم الجادة والمخلصة لهذا الفن الجديد قد باءت بالفشل أو تنكّبت طريق الصواب، ولكن القصة كانت بين يدي المبدعين كانت دائما زلقة ومتلونة تتأبّى على التحديد وترتدي أثوابا جديدة مع كل إبداعٍ ملهمٍ فليست القصة عند " بو " هي نفسها عند " جوجول " رغم المعاصرة، ولا هي عند " موباسان " كما هي عند معاصره " تشيكوف " وهي من غير شكٍّ تختلف عن القصة التي صاغها " هنري جميس " وقد أتى " هيمنجواي " لينقلها نقلة مفارقة محققة ثورة في عالم القص. ولكنها تأخذ ملمحا خاصا عند " آلان روب جرييه " و " ناتالي ساروت " ولا تلبث أن تطلع علينا في سمتٍ جديد عند كل من " بورخيس " و " ماركيز " . " في العالم العربي كان من العسير أن يصدق إلى آخر المدى تعريف للقصة القصيرة التي أبدعها أعلام المدرسة الحديثة أمثال " طاهر لاشين" و " عيسى شحاته " و " محمد تيمور" و " حسين فوزي " و " يحيى حقي " على قصص أبدعها في الأربعينيات " محمود تيمو " و " نجيب محفوظ " و " محمود البدوي " ، وهو بالقطع لا يتواءم تماما مع قصص كتبها " يوسف إدريس " و " الخميسي " و " الشاروني " وغيرهم ممن كانوا تمهيدا لمدرسة جديدة ومتألقة اصطلح على تسميتها جيل (الستينيات)، التي استطاعت بكتابها الموهوبين في معظم أنحاء الوطن العربي الكبير أن تكتب قصصا أكثر تميّزا وجدة، بل لقد أوشك أن يصبح متعذرا اليوم محاولة إعادة العملاق إلى القمقم بوضع تعريف محددا له، والمرء يشهد تجارب القصة القصيرة العربية المعاصرة تواصل طريقها في حماس شديد نحو الحداصة والتجديد." ولعل هذا الاختلاف حول تعريف القصة يرجع إلى سبب مباشر وهو اختلاف الأنماط الكتابية والفنية للقصة القصيرة، فانحرفت عن مباشرتها للواقع واعتصمت برؤية الذات للوجود، واستدخلت عالمي التخييل والجمال في نمطية أسلوبيتها الكتابية والفنية، وهذا تطور طبيعي يرجع لعلاقة ذات المؤلف بالعصر الذي يعيشه والظروف التي يعانيها، فالفن دائما وأبدا مرآة تنعكس عليها ملابسات الوقت والزمن اللذين تتشكل التجربة الذاتية من خلالها، فالمؤلف واقع تحت تأثير يجبره على الخروج من نمطية الكتابة التي لا تتسق وروح عصره الذي يعيش.
فالتجربة أساس أي عمل فني – لا سيما الأدبي منه – وهذه التجربة هي التي تمنح العمل الأدبي خصوصيته الذاتية، ولعل آخر يقول: إنّ ذاتية الأديب وتجربته ورؤيته للعالم لا تتجلى إلا في البناء السردي للرواية، بوسم السرد فضاءً تتجلى فيه الرؤية الذاتية، فأقول: إن القصة القصيرة خاصة الحداثي منها – ترتكز على فضاءات السرد ولكنه السرد المكثف لأبعد درجة ممكنة، والذي يختزل بداخلة الرؤية الذاتية للكاتب، ولكنها في الحقيقة رؤية جزيئة لا تتسع العالم كله – كما الرواية - " فإنّ كاتب القصّة القصيرة يجلس في غرفة ويطل على شيء ما من ثقب الباب أو من خصاص النافذة." ولذا " فالرؤية إذن في القصة القصيرة ليست غير نقطة ضوء تطلُّ في لحظة بسبب موقف قد يبدو للبعض عاديّاً." وبناء على ما سبق نستطيع أن نفرق بين (الرؤية) في القصة و الرؤية في الرواية، إذ الأخيرة رؤية كلية تحيط وفق اقتدار الذات على الإحاطة بالعالم، بينما القصة تركّز الضوء على جزئية تنتمي لهذا الكل، وهذا ما نلمحه جيدا في قصة الكاتب/ سوزان كمال " السماء لا تمطر نيرانا" إذ القضية الفلسطينية هي محور ارتكاز القصة وموضوعها، والقضية الفلسطينية كلٌّ رئوي، ولكن الكاتبة/ سوزان كمال تركّز الضوء على أحد جزئيات هذه الكليّة، وتجسّد هذه الجزئية في مشهد قصصي يرسل ضوءه لزواية معينة، ثم تتشرب ذات الكاتبة هذا المشهد فيرتسم مرة أخرى في عوالمها الإبداعية فتعيد صياغة هذا المشهد في عالم جمالي تخييلي، تنحرف به القصة عن العالم الواقعي، وتستجلب شخصيات من عالم البرزخ، وتنوجد هذه الشخصيات بقوة الفعل الإبداعي إلى منزل الكاتبة سوزان كمال كما سيتضح لا حقا.
تبتدئ سوزان كمال قصتها القصيرة بمقدمة تشبه السرد ولكن جمالية المقدمة ينضوي على عدم مساسها بجوهر القصة، فالمقدمات السردية التي تستظهر أحداث القصة منذ البداية، أطلق عليها المقدمة الرصاصة التي تقتل القصة حال ولادتها فتقول الكاتبة: " مساء ثقيل مثل كل مساءاتنا منذ ذلك النهار الفارق. أجلس أمام شاشة التلفزيون. أشاهد حطام البيوت، صراخ الأطفال، وأسمع البكاء. صامت بيتي بعد أن توقفنا عن النقاش بشأن من وما، ليس لأننا اعتدنا مشاهد الموت الدامية، لكن لأن العجز على مدار شهرين عن فعل يوقف الوجع قد هدّنا فتوحّدنا بالألم صامتين. القصة الجيدة كما قال تشيكوف " إن القصة الجيّدة بلا مقدمات. أما " بو " فقد عوّل على بداية القصة بوصفها هي التي تحدد نجاحها أو فشلها." واستنادا على الرأي الأخير، فإنّ سوزان وفقت لدرجة بعيدة في حبكة مقدمتها السردية، فإن كانت هذه المقدمة تصور لنا الموضوع بوصفة حالة نفسيّة أرهقت العالم كله، وبيت سوزان جزء من هذا العالم، وكأنّ ما يحدث في بيت سوزان صورة مصغّرة لما يحدث في العالم، فالمقدمة تومض عن موضوعها ولكنها لا تشف عن درامية القصة ومضمونيتها، إذ نزلت المقدمة بمنزلة شريط الأخبار الذي يستعرض حال العالم من حولنا، تواصل سوزان سرد مقدمتها لتكون نهاية المقدمة تعليل على الحدث وانفتاح على بداية الحبكة القصصية فتقول: " لم تتمكن أثواب الوطن أو شارات النصر أو نيل الشهادة من تجميل الموت. الموت قبيح، قاس وعنيف، وحده يستطيع أن يمد أصابعه الطويلة وينزع من روحك البهجة، ثم يخرج لك لسانه وهو يراك يائسا ضعيفا وحزينا." هنا يتجلى العجز في أقسى صوره، ليكون هذا العجز مبررا لتدخل الكاتبة/ سوزان كمال في عالم أحلام اليقظة لتجدد متنفّسا لهذا الواقع الأليم، تتقوقع الذات على نفسها يضيق بها العالم الواقعي، تحاول الجنوح بعيدا عبر العالم التخييلي والذي من مساربه (أـحلام اليقظة) كما يقول (فرويد) إذ بداية حلم اليقظة لــ سوزان هو بداية الحبكة الرئوية للقصة، " فالاتكاء على الحلم والكابوس وما يتصل بهما من غوص في أعماق اللاشعور واستثمار معطيات علم النفس التحليلي خاصة نظرة ( فرويد) للحلم." فهنا هروب من الواقع إلى الممكن المتخيل للذات.
تبتدئ لحظة الحلم بالفعل (استسلم) وهذا يدل على مدى انتهاك أحداث الواقع للنفس البشرية، والتي لم تجد بدّا إلا الاستسلام إلى النوم لعله يكون الخلاص المؤقت من الألم، أما ذات الكاتبة انشطرت ألما بين الواقع والصمت، وربما كان وقع الأمر عليها أشد ضراوة فلم تستسلم للنوم، ولكنها انسربت عبر الهاجس النفسي إلى حلم اليقظة، فتقول: " استسلم الجميع للنوم، وأنا جالسة على أريكتي، أسند ذقني المبلل إلى ركبتي. أطالع الصور وشريط الأخبار النازف موتا، ثم يأتون، نعم هم؛ يظهرون سريعا ويختفون أسرع. أفرك جبهتي، أحاول التحقق من وجودهم أتفرّس ملامحهم. أطفال، كلهم أطفال، . ينهضون من أكفانهم البيضاء، يفكون الأربطة بغضب، يسألونني عن أسمائهم وبقية أعضائهم وعظامهم التي تكسّرت. لا أجيب، أضع يدي على فمي كاتمة صرخاتي، أريد أن أقسم لهم أني لا أعرف بأي ذنب قتلوا."
يتوزع حلم سوزان إلى عدة مشاهد، فالمشهد الأول ظهور أشباح/ أرواح الأطفال الذين نُكّل بهم في بيت سوزان، لها وحدها يظهر هؤلاء، وكأنّ هروبها من الواقع جعلها تقبع معهم على مقربة من عالم البرزخ الذي يقطنون، ولذا فهي مؤهلة نفسية للرؤيا، فـ سوزان هاربة بالكلية من الواقع على أفق الحلم. يقابل مفردة (استسلم) مفردة (الغضب) والأطفال ينزعون عنهم أكفانهم، وكأن ثورة هؤلاء الأطفال ممتدة معهم من هنا إلى هناك، ومازالوا يسألون لماذا وكيف، أرادت سوزان الهروب من ألم واقعها المأساوي، فأعيد تصوير الواقع عن طريق حلم اليقظة بصورة أشد ألما، إذ هي لم تسطع الخلاص من رؤية الواقع الدموي، لأنها لازمها في حلمها الذي ظنت أنه هروب محقق. ولم يستدع الحلم الأطفال وحدهم ولكنه استدعى ملابسات المكان وطرائق الذكريات الذهنية المؤلمة فتقول سوزان: "يقفون على كومة من كتب مدرسية تمزقت صفحاتها وتناثرت بفوضى، ينظرون بحيرة إلى دراجات ملطخة بالدماء، ودُمى. يتلمسون أدراجاً حملت أسرار أيامهم المدرسية. يسألونني هل نستحق أن يُفعل بنا هذا، ولماذا سكَّتم؟ يكررون السؤال وأنا لا أستطيع الإجابة، لا أنطق. ثم يختفون من جديد ويظهرون." أمد لهم يدي قبيل الاختفاء بلحظات قليلة هذه المرة ، أريد أن أهدهدهم، أعتذر، فلا تصلهم يدي ولا صوتي ويختفون.أهرول إلى مطبخي، أملأ الأطباق بالطعام، أضعها على الأرض، أضع في كل طبق ملعقة. أفتح ثلاجتي، أُخرج كل ما بها من ثمرات الطماطم، أوزعها في أركان الصالة. أصطنع النوم ليلتقطوا حبات البندورة، وانتظر، لا يأتون."
يتحول المشهد اللاحق إلى مشهد تكتمل به الرؤية الملائكية لــ سوزان، التي التبست بالحلم والتبس بها، وصار حلمها حقيقة ذاتية، بدأت سوزان بالفعل تتحرك داخل حلمها، وكأنّ الحلم أصبح مساحة يشغل حيزا جغرافيا من مساحة البيت تتحرك على تلك المساحة المتوهمة سوزان .. تفتح باب الثلاجة تضع الطماطم والطعام على الأطباق، تحاول كتم أنفاسها كي يلتقط الأطفال طعامهم بهدوء. إن المخيلة الإبداعية للكاتبة تعكس الواقع بصورته الصارخة،ن فكم تكرر أمامنا هذا المشهد الذي يخبر العالم كله أن الأطفال ماتوا جوعى، ومن هنا بدأت سوزان تعوّض هذا الجوع بما تعده من طعام في أطباق بيتها للأطفال لعل روحهم تسكن فقد ماتت جائعة " فالنص لاينبع من فراغ فله سياقاته الاجتماعية والثقافية والنفسية الداخلة في تكوينه وعلاقته بالواقع هي علاقة امتصاص وتمثل وانتخاب عبر اللغة" والقصة القصيرة بؤرتها المركزية هي التجربة الإنسانية، إذ القصة الحديثة تجربة إنسانية يعبر عنها أدبيا بأسلوب النثر: سردا وحوارا." ومن خلال الواقع والتجربة تتصرف ذات المؤلف داخل النص القصصي. عجز سوزان في الواقع المعيش أن ترد أو تدافع عن هؤلاء الأطفال تحول إلى صور حركية في مشهد الحلم، تحاول سوزان أن تعوض عجزها الواقعي بما تفعله في الحلم تجاه هؤلاء الأطفال.
تنفتح النافذة في بيت سوزان بطاقة نورانية سماوية، يهبط الملاك السماوي على سحابته، تتوسط السحابة بيت سوزان، يهبط هذا الملاك فتقول سوزان : "أنتظر.. ينفتح شيش شرفتي طائعًا.وأنا أنظر دهشة لسحابة تدخل بيتي يجلس عليها طفل أبيض ينظر لبندوراتي المنثورة، ويبتسم بحزن. يتوقف بسحابته في منتصف الصالة. يلتف حوله الأطفال الذين كانوا هنا. يشير لهم ساكتًا أن يصطفوا، فيقفون في صفوف قصيرة منتظمة، وأنا أفتح عيني بحذر فتحة صغيرة جدًا تمكنني بالكاد أن أراهم." يتنفس الصبي بعمق، فتكتسب ملامحه الطفولية صلابة رجولة مفاجئة. يترك سحابته، يقف أمام الصفوف، يمسح الأرقام التي على الوجوه، ويكتب مكان كل رقم اسمًا بطول الجسد. أتابعه بشغف، وانا أعد عشرات الأسماء على الجسد الواحد؛ احمد بن علي بن حسين بن عمر بن صلاح ابن ابن ابن ابن." على أفق انتظار القلق تنتظر سوزان ( المُخَلّص) هذا الملاك الذي أنقذ الموقف، ليتحول حلم اليقظة السوزاني إلى مشهد نوراني ملائكي تكون فيه التعزية والسلوى لها وللأطفال على حد سواء،، يبدأ الملاك السماوي في تضميد الجراح.. يكمل كل نقص في هياكل الأطفال بمكملات سماوية نورانية، يخطط على الأجساد بطاقة هوية للتعريف يتصل الأطفال بأجدادهم الذين سبقوهم في رحلة النضال عن طريق الأسماء المكتوبة بالطول لتعم سائر الجسد، وكأن هذا الطفل الفسطيني الذي ظل هو وأجداده يبحثون عن الهوية تحقق حلمهم بالموت إذ اتصل كل جسد باسمه أي هويته وحقيقته الإنسانية. تخرج القصة عن نطاق الطبيعي الواقعي المألوف لتترسخ في عالم الخيال المنفلت المتعالي على الواقع بقيوده وأشراطه، وهذا النمط من الكتابة القصصية يعتبر كتابة حداثية من الدرجة الأولى، كتابة تنم عن تجربة ذاتية تتموسق مع أفق يتأبّى على الواقع، كنوع من الفرار أو الخلاص عن طريق تحرير الجسد والروح من مظلومية الواقع، وكأن هذه الطريقة الإبداعية هي صليب الخلاص الذي تتحرر عليه روح سوزان كمال، وهنا يختلف تعريف القصة التي تباشر الواقع بنمط كتابي معين، ولكنها لا تنفك عن واقعها ومباشرته، " فالقصة القصيرة مخلوق زئبقي يروغ بين يدي المبدع في صراع مرير حتى يتمكن منه فإذا تطابقت لغته مع فكرته أمكن القاص أن يجسده في عبارات مقتضبة هي الحد الأعلى في عملية الطرح." والقص الخيالي الذي تعمدته سوزان لا ينفصل عن الواقع مع أن القصة كلية مستغرقة في عالم التخييل الذاتي، ولكن هذا التخييل لا يعني انفصال الذات عن واقعها، لأن الواقع هو لحمة النص القصصي " إن القصص الخيالي FICTION في تعريفه فهو الجنس الأدبي الذي يشمل القصص التي تكتب نثرا وتصوّر مواقف وأحداث من صميم خيال مؤلفها، ولكنها تنسج على خيوط واقعها إذن " نشأت القصة القصيرة، إذن، للتعبير عن حاجة ملحة تتمثل في التعبير عن لحظات الحياة العابرة المنزوية، وتستبطن القصة القصيرة هذه اللحظات العابرة لتستخرج منها المعاني الباطنية التي تغفو داخلها."
تنفصل سوزان عن الواقع بالكلية، حتى أنها تمازجت واندغمت مع العالم الروحاني، ووصلت إلى حد الخوف من استيقاظ أحد، حتى لا يرتبك هذا المشهد النوراني، فتقول : "عمل طويل وشاق وأنا اكتم أنفاسي وأتمنى ألا يستيقظ أحد، فيضطرهم إلى الاختفاء من جديد. تنتهي مهمة الأسماء، ثم يبدأ الرجل الصغير في تضميد الجراح، ورتق التمزقات، وجبر الأرواح والأحلام. يبتسم الصبية، يصنعون دوائراً، يتراقصون في صخب. دائرة تمور يمينًا والأخرى يسارًا والبنات يتناوبن الرقص في منتصف كل دائرة، بينما يعلو الصوت، صوتًا قويًا خاليًا من أي انكسار مرددًا: وعهد الله ما نرحل وعهد الله ما نرحل، وعهد الله ... وانا أنتفض من روعة المشهد الملائكي المقدس هنا في بيتي. يتلألؤن بهجة ثم يخفت الصوت رويداً رويدا حتى يتوقف. يجلس الأطفال في صفوف، يمدون أيديهم شاهرين أصابع السبابة جميعًا، ويهمهمون. يحكون وأسمع وأبتسم لطفولتهم وبرائتهم." "كل شيء الآن هاديء هدوء ليلة مقمرة بعد مطر عاصف، إلا من صوت كطنين نحل يعلو، ليتحول إلى نشيج متقطع لطفلة من بينهم تشكو: حصدونا حصدًا، حصدونا ...، حصدو ... . يمد لها الصبي يده ويتطلع إلى السماء راجياً، فتبدأ الزهور في التساقط؛ زهور ملونة، مختلفة الأحجام والأشكال، تملأ بيتي. نرفع رؤسنا ونمد أيدينا، نستقبل الزهرات بفرح . أغمض عيني وقد صارت صالتي باقة ورد كبيرة. يدنو الصبي الرجل من الطفلة الباكية، يربت على كتفيها الصغيرتين يملأ كفيها بالورد ويتمتم: اطمئني، السماء لا تمطر نيرانًا. في الصباح وأنا أستعد للذهاب إلى عملي كنت أمر بين الزهور بحذر خشية أن تلمسها قدماي."
الواضح أنّ هذا المشهد الملائكي هو بؤرة ارتكاز القصة، ولذا وسم عنوان الدراسة بـ " ملائكيّة الرؤيةِ وفنيّةُ التشكيلِ – قراءةٌ نقديّةٌ في أعمالِ الكاتبةِ سوزان كمال" السّمَاءُ لا تُمْطِرُ نِيرَاناً – نموذجا -. ولم تنفصل الكاتبة عن حلمها حتى مع انتهاء قصتها، والمفاجأة تكمن أن سوزان وهو ذاهبة لعملها تحسس أرضية صالة المنزل كي لا تدهس تلك الزهور الملائكية، إذ انتهاء القصة لا يعني انفصال سوزان عن حلمها في عائشة فيها لعل هذه الملائكية تعوض عجزنا في الواقع الذي تلتقطه العين وتحيله إلى الذات الإبداعية حيث يتخمّر، يتصفّى، يتقطّر، ويتخصّب في هذه الذات، فيصير ذاتا أخرى من عمل الخيال والتخييل والابتكار، فإنه انعكاس مركب أحال الواقع العادي إلى واقع فني." .. تعتبر الكاتبة المبدعة سوزان كمال- بعد مطالعتي لهذا العمل- من الكاتبات اللائي يمتلكن وبجدارة قلما يتمايز بأسلوبية خاصة وتجربة إنسانية متعمقة وروح قادرة على الوثوب بأقصى طاقة إلى عالم التخييل القصصي، أما عن اللغة التي كتبت بها سوزان تدل دلالة قاطعة أنها تعرف سر تقنيات الكتابة القصصية، بل تجاوزت سوزان هذا كله ورسمت لنفسها كيانا خاصا وقلما متساميا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
- فؤاد قنديل: فن كتابة القصة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، يونيو 2002.
2 - هاشم ميرغني: بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة، المكتبة الوطنية، السودان، ط1، 2008.
3- حسن غريب أحمد: التقنيات الفنية والجمالية المتطورة في القصة القصيرة
4- معجم المصطلحات العربية.
5 - حنّا مينة: القصة والدلالة الفكرية، كتاب الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، الرياض، 1420هـ.
6- محمد يوسف نجم: فن القصة، دار بيروت، لبنان، ط1، 1955.[/B]
يذهب بعض الفلاسفة والمفكرين إلى القول بأنّ في أعماق كل إنسان ذرة من الشِّعر، وليس من شكٍّ أن ظواهر إنسانية وتاريخية قد لا يحصيها حصر تعضد هذا الرأي وتدعمه [...] وإذا كانت أعماق النفس البشرية تنطوي على ذرة من الشعر على الأقل، فإنّ التكوين النفسي لبني البشر جُبل في الأغلب أن يكون الإنسان توّاقاً لأنْ يقُص أو أنْ يستمع للقص وهو دائما يشعر بحاجته الشديدة إلى ذلك بصورة غريزية تفوق أحياناً حاجته إلى تلبية غرائزه الطبيعية الفطرية كالطعام والشراب والجنس." ولذا اتخذت الكتب السماوية (القصة) وسيلة ضمن خطابها العام للإنسان فاحتشدت الكتب السماوية المقدسة القرآن، التوراة، الإنجيل بالقصص، بل وارتكزت عليه في إرساء الدعائم العقائدية التي تريد غرسها في الجوهر النفسي للإنسان، وقد اشتركت الكتب السماوية في سرديتها لبعض القصص كبداية الخلق التي زخر بها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، واحتشد بها الكتاب المقدس بعهديه: القديم، والجديد، كما في " سفر التكوين"، إذن يخاطب الله الخلق بما جَبَلَهُم عليه فطرةً وخلقاً، ويقول أحد المفسرين القدامى: " أنّ القرآن الكريم ارتكز على ثلاثة محاور: العقيدة، العبادات، القصص" وإن فتّشتَ في القرآن الكريم لن تجد إلا هذه المحاور، والذي يخص هذه الدراسة، أن القصص ركيزة محورية في الخطاب القرآني، وهذا يدل على أهمية الفن القصصي، والذي تتوزع أبعاده على بعدين: الأول البعد النفسي، والثاني، البعد الإبداعي، قال تعالى: " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" فلم يختر القرآن الكريم للناس آلية خطاب غير القصة يخاطبهم بها بغية الهدى والإرشاد، وهذا يجعلنا نعتقد تمام الاعتقاد أنّ الفنَّ القصصي له بعد روحاني؛ لأنه يخاطب الذات التي جُبِلَتْ روحها على الشغف بالحكاية والحكي، كما نعتقد أنّ فنَّ القصة يؤطر للتاريخ ويرسي الدعائم والقيم، " فالقصة هي لغة التخاطب المناسبة التي تتسق وروح الإنسان، والله خلق الإنسان ويعلم ملكاته ومواهبه وإمكاناته وفضله على جميع الخلق بما منحه من معارف ومواهب، ورد الفعل (قصَّ) في القرآن الكريم نحو عشرين مرة بمعنى أخبر وروى، قال تعالى: " فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" وقال سبحانه: " تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ" فالقصة، إذن تلامس الجوهر الإنساني، ولذا اعتنت الكتب المقدسة بها بغية التأثير على النفس بوسائل خطابية تمنح الإنسان طريقة التلقي التي تتلاءم مع فطرته البشرية، إذن فن القصة إبداعا وقراءة شيء منوط بجوهر التكوين الإنساني. لقد حذّر القرآن الكريم من الشّعر نظرا لاستغراقه الكلي في عالمي الشعور والتخييل وتوغّله في عالم الجمال الذي يتماهى مع سديمية العماء الكوني، ولكن القصة – حتى وإن توغلت في عوالم الرمز – فهي تستند إلى حقائق واقعية، وشخصيات تمثل هذا الواقع في أبعاده المختلفة، ولذا يكون الواقع دائما هو نقطة التقاء المؤلف بالقارئ حتى وإن توغلت القصة في عوالم التخييل، " فالقصة تتميز بالمعقولية النسبيّة، أي تحقق موضوعها في الواقع أو إمكان تحققه، أو يكفي تصور تحققه." ارتكزت القصة القصيرة بشتى مستوياتها في القديم على فعل الحكي المباشر للواقع مع الاحتفاظ بنمطية الأسلوب الحكائي، وتلك التقنيات الكتابية التي تضمن للقصة على مسرح الأدب، واشتبكت القصة بما هو ديني وأسطوري وتاريخي واجتماعي وثقافي، " ولسنا بحاجة إلى الإشارة أنّ كلمة "قصة" بالإنجليزية story ترتبط ارتباطا اشتقاقيا واضحاً بكلمة تاريخ " History" في اللغة ذاتها، ومثل ذلك في اليونانية." وبناء على هذا الاشتباك كانت القصة قبل عصر (الحداثة) تميل إلى المباشرة والواقعية، ولكن اتخذت القصة كغيرها من الأجناس الأدبية مسارا مختلفا وحاولت الانسلاخ من القيود والأشراط لتتواءم مع عصر الحداثة، والقصة بوصفها فنا أدبيا تمتلك القدرة على التشكل وفق متطلبات عصرها، " مع ظهور القصة الفنيّة الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اجتهد الأدباء في محاولة صياغة تعريف محدد لها بدءا من الكاتب الأمريكي (إدجار آلان بو)، ولا نستطيع أن نزعم أن تعريفاتهم التي توصلوا إليها بفيض خبراتهم وتجاربهم ودراساتهم الجادة والمخلصة لهذا الفن الجديد قد باءت بالفشل أو تنكّبت طريق الصواب، ولكن القصة كانت بين يدي المبدعين كانت دائما زلقة ومتلونة تتأبّى على التحديد وترتدي أثوابا جديدة مع كل إبداعٍ ملهمٍ فليست القصة عند " بو " هي نفسها عند " جوجول " رغم المعاصرة، ولا هي عند " موباسان " كما هي عند معاصره " تشيكوف " وهي من غير شكٍّ تختلف عن القصة التي صاغها " هنري جميس " وقد أتى " هيمنجواي " لينقلها نقلة مفارقة محققة ثورة في عالم القص. ولكنها تأخذ ملمحا خاصا عند " آلان روب جرييه " و " ناتالي ساروت " ولا تلبث أن تطلع علينا في سمتٍ جديد عند كل من " بورخيس " و " ماركيز " . " في العالم العربي كان من العسير أن يصدق إلى آخر المدى تعريف للقصة القصيرة التي أبدعها أعلام المدرسة الحديثة أمثال " طاهر لاشين" و " عيسى شحاته " و " محمد تيمور" و " حسين فوزي " و " يحيى حقي " على قصص أبدعها في الأربعينيات " محمود تيمو " و " نجيب محفوظ " و " محمود البدوي " ، وهو بالقطع لا يتواءم تماما مع قصص كتبها " يوسف إدريس " و " الخميسي " و " الشاروني " وغيرهم ممن كانوا تمهيدا لمدرسة جديدة ومتألقة اصطلح على تسميتها جيل (الستينيات)، التي استطاعت بكتابها الموهوبين في معظم أنحاء الوطن العربي الكبير أن تكتب قصصا أكثر تميّزا وجدة، بل لقد أوشك أن يصبح متعذرا اليوم محاولة إعادة العملاق إلى القمقم بوضع تعريف محددا له، والمرء يشهد تجارب القصة القصيرة العربية المعاصرة تواصل طريقها في حماس شديد نحو الحداصة والتجديد." ولعل هذا الاختلاف حول تعريف القصة يرجع إلى سبب مباشر وهو اختلاف الأنماط الكتابية والفنية للقصة القصيرة، فانحرفت عن مباشرتها للواقع واعتصمت برؤية الذات للوجود، واستدخلت عالمي التخييل والجمال في نمطية أسلوبيتها الكتابية والفنية، وهذا تطور طبيعي يرجع لعلاقة ذات المؤلف بالعصر الذي يعيشه والظروف التي يعانيها، فالفن دائما وأبدا مرآة تنعكس عليها ملابسات الوقت والزمن اللذين تتشكل التجربة الذاتية من خلالها، فالمؤلف واقع تحت تأثير يجبره على الخروج من نمطية الكتابة التي لا تتسق وروح عصره الذي يعيش.
فالتجربة أساس أي عمل فني – لا سيما الأدبي منه – وهذه التجربة هي التي تمنح العمل الأدبي خصوصيته الذاتية، ولعل آخر يقول: إنّ ذاتية الأديب وتجربته ورؤيته للعالم لا تتجلى إلا في البناء السردي للرواية، بوسم السرد فضاءً تتجلى فيه الرؤية الذاتية، فأقول: إن القصة القصيرة خاصة الحداثي منها – ترتكز على فضاءات السرد ولكنه السرد المكثف لأبعد درجة ممكنة، والذي يختزل بداخلة الرؤية الذاتية للكاتب، ولكنها في الحقيقة رؤية جزيئة لا تتسع العالم كله – كما الرواية - " فإنّ كاتب القصّة القصيرة يجلس في غرفة ويطل على شيء ما من ثقب الباب أو من خصاص النافذة." ولذا " فالرؤية إذن في القصة القصيرة ليست غير نقطة ضوء تطلُّ في لحظة بسبب موقف قد يبدو للبعض عاديّاً." وبناء على ما سبق نستطيع أن نفرق بين (الرؤية) في القصة و الرؤية في الرواية، إذ الأخيرة رؤية كلية تحيط وفق اقتدار الذات على الإحاطة بالعالم، بينما القصة تركّز الضوء على جزئية تنتمي لهذا الكل، وهذا ما نلمحه جيدا في قصة الكاتب/ سوزان كمال " السماء لا تمطر نيرانا" إذ القضية الفلسطينية هي محور ارتكاز القصة وموضوعها، والقضية الفلسطينية كلٌّ رئوي، ولكن الكاتبة/ سوزان كمال تركّز الضوء على أحد جزئيات هذه الكليّة، وتجسّد هذه الجزئية في مشهد قصصي يرسل ضوءه لزواية معينة، ثم تتشرب ذات الكاتبة هذا المشهد فيرتسم مرة أخرى في عوالمها الإبداعية فتعيد صياغة هذا المشهد في عالم جمالي تخييلي، تنحرف به القصة عن العالم الواقعي، وتستجلب شخصيات من عالم البرزخ، وتنوجد هذه الشخصيات بقوة الفعل الإبداعي إلى منزل الكاتبة سوزان كمال كما سيتضح لا حقا.
تبتدئ سوزان كمال قصتها القصيرة بمقدمة تشبه السرد ولكن جمالية المقدمة ينضوي على عدم مساسها بجوهر القصة، فالمقدمات السردية التي تستظهر أحداث القصة منذ البداية، أطلق عليها المقدمة الرصاصة التي تقتل القصة حال ولادتها فتقول الكاتبة: " مساء ثقيل مثل كل مساءاتنا منذ ذلك النهار الفارق. أجلس أمام شاشة التلفزيون. أشاهد حطام البيوت، صراخ الأطفال، وأسمع البكاء. صامت بيتي بعد أن توقفنا عن النقاش بشأن من وما، ليس لأننا اعتدنا مشاهد الموت الدامية، لكن لأن العجز على مدار شهرين عن فعل يوقف الوجع قد هدّنا فتوحّدنا بالألم صامتين. القصة الجيدة كما قال تشيكوف " إن القصة الجيّدة بلا مقدمات. أما " بو " فقد عوّل على بداية القصة بوصفها هي التي تحدد نجاحها أو فشلها." واستنادا على الرأي الأخير، فإنّ سوزان وفقت لدرجة بعيدة في حبكة مقدمتها السردية، فإن كانت هذه المقدمة تصور لنا الموضوع بوصفة حالة نفسيّة أرهقت العالم كله، وبيت سوزان جزء من هذا العالم، وكأنّ ما يحدث في بيت سوزان صورة مصغّرة لما يحدث في العالم، فالمقدمة تومض عن موضوعها ولكنها لا تشف عن درامية القصة ومضمونيتها، إذ نزلت المقدمة بمنزلة شريط الأخبار الذي يستعرض حال العالم من حولنا، تواصل سوزان سرد مقدمتها لتكون نهاية المقدمة تعليل على الحدث وانفتاح على بداية الحبكة القصصية فتقول: " لم تتمكن أثواب الوطن أو شارات النصر أو نيل الشهادة من تجميل الموت. الموت قبيح، قاس وعنيف، وحده يستطيع أن يمد أصابعه الطويلة وينزع من روحك البهجة، ثم يخرج لك لسانه وهو يراك يائسا ضعيفا وحزينا." هنا يتجلى العجز في أقسى صوره، ليكون هذا العجز مبررا لتدخل الكاتبة/ سوزان كمال في عالم أحلام اليقظة لتجدد متنفّسا لهذا الواقع الأليم، تتقوقع الذات على نفسها يضيق بها العالم الواقعي، تحاول الجنوح بعيدا عبر العالم التخييلي والذي من مساربه (أـحلام اليقظة) كما يقول (فرويد) إذ بداية حلم اليقظة لــ سوزان هو بداية الحبكة الرئوية للقصة، " فالاتكاء على الحلم والكابوس وما يتصل بهما من غوص في أعماق اللاشعور واستثمار معطيات علم النفس التحليلي خاصة نظرة ( فرويد) للحلم." فهنا هروب من الواقع إلى الممكن المتخيل للذات.
تبتدئ لحظة الحلم بالفعل (استسلم) وهذا يدل على مدى انتهاك أحداث الواقع للنفس البشرية، والتي لم تجد بدّا إلا الاستسلام إلى النوم لعله يكون الخلاص المؤقت من الألم، أما ذات الكاتبة انشطرت ألما بين الواقع والصمت، وربما كان وقع الأمر عليها أشد ضراوة فلم تستسلم للنوم، ولكنها انسربت عبر الهاجس النفسي إلى حلم اليقظة، فتقول: " استسلم الجميع للنوم، وأنا جالسة على أريكتي، أسند ذقني المبلل إلى ركبتي. أطالع الصور وشريط الأخبار النازف موتا، ثم يأتون، نعم هم؛ يظهرون سريعا ويختفون أسرع. أفرك جبهتي، أحاول التحقق من وجودهم أتفرّس ملامحهم. أطفال، كلهم أطفال، . ينهضون من أكفانهم البيضاء، يفكون الأربطة بغضب، يسألونني عن أسمائهم وبقية أعضائهم وعظامهم التي تكسّرت. لا أجيب، أضع يدي على فمي كاتمة صرخاتي، أريد أن أقسم لهم أني لا أعرف بأي ذنب قتلوا."
يتوزع حلم سوزان إلى عدة مشاهد، فالمشهد الأول ظهور أشباح/ أرواح الأطفال الذين نُكّل بهم في بيت سوزان، لها وحدها يظهر هؤلاء، وكأنّ هروبها من الواقع جعلها تقبع معهم على مقربة من عالم البرزخ الذي يقطنون، ولذا فهي مؤهلة نفسية للرؤيا، فـ سوزان هاربة بالكلية من الواقع على أفق الحلم. يقابل مفردة (استسلم) مفردة (الغضب) والأطفال ينزعون عنهم أكفانهم، وكأن ثورة هؤلاء الأطفال ممتدة معهم من هنا إلى هناك، ومازالوا يسألون لماذا وكيف، أرادت سوزان الهروب من ألم واقعها المأساوي، فأعيد تصوير الواقع عن طريق حلم اليقظة بصورة أشد ألما، إذ هي لم تسطع الخلاص من رؤية الواقع الدموي، لأنها لازمها في حلمها الذي ظنت أنه هروب محقق. ولم يستدع الحلم الأطفال وحدهم ولكنه استدعى ملابسات المكان وطرائق الذكريات الذهنية المؤلمة فتقول سوزان: "يقفون على كومة من كتب مدرسية تمزقت صفحاتها وتناثرت بفوضى، ينظرون بحيرة إلى دراجات ملطخة بالدماء، ودُمى. يتلمسون أدراجاً حملت أسرار أيامهم المدرسية. يسألونني هل نستحق أن يُفعل بنا هذا، ولماذا سكَّتم؟ يكررون السؤال وأنا لا أستطيع الإجابة، لا أنطق. ثم يختفون من جديد ويظهرون." أمد لهم يدي قبيل الاختفاء بلحظات قليلة هذه المرة ، أريد أن أهدهدهم، أعتذر، فلا تصلهم يدي ولا صوتي ويختفون.أهرول إلى مطبخي، أملأ الأطباق بالطعام، أضعها على الأرض، أضع في كل طبق ملعقة. أفتح ثلاجتي، أُخرج كل ما بها من ثمرات الطماطم، أوزعها في أركان الصالة. أصطنع النوم ليلتقطوا حبات البندورة، وانتظر، لا يأتون."
يتحول المشهد اللاحق إلى مشهد تكتمل به الرؤية الملائكية لــ سوزان، التي التبست بالحلم والتبس بها، وصار حلمها حقيقة ذاتية، بدأت سوزان بالفعل تتحرك داخل حلمها، وكأنّ الحلم أصبح مساحة يشغل حيزا جغرافيا من مساحة البيت تتحرك على تلك المساحة المتوهمة سوزان .. تفتح باب الثلاجة تضع الطماطم والطعام على الأطباق، تحاول كتم أنفاسها كي يلتقط الأطفال طعامهم بهدوء. إن المخيلة الإبداعية للكاتبة تعكس الواقع بصورته الصارخة،ن فكم تكرر أمامنا هذا المشهد الذي يخبر العالم كله أن الأطفال ماتوا جوعى، ومن هنا بدأت سوزان تعوّض هذا الجوع بما تعده من طعام في أطباق بيتها للأطفال لعل روحهم تسكن فقد ماتت جائعة " فالنص لاينبع من فراغ فله سياقاته الاجتماعية والثقافية والنفسية الداخلة في تكوينه وعلاقته بالواقع هي علاقة امتصاص وتمثل وانتخاب عبر اللغة" والقصة القصيرة بؤرتها المركزية هي التجربة الإنسانية، إذ القصة الحديثة تجربة إنسانية يعبر عنها أدبيا بأسلوب النثر: سردا وحوارا." ومن خلال الواقع والتجربة تتصرف ذات المؤلف داخل النص القصصي. عجز سوزان في الواقع المعيش أن ترد أو تدافع عن هؤلاء الأطفال تحول إلى صور حركية في مشهد الحلم، تحاول سوزان أن تعوض عجزها الواقعي بما تفعله في الحلم تجاه هؤلاء الأطفال.
تنفتح النافذة في بيت سوزان بطاقة نورانية سماوية، يهبط الملاك السماوي على سحابته، تتوسط السحابة بيت سوزان، يهبط هذا الملاك فتقول سوزان : "أنتظر.. ينفتح شيش شرفتي طائعًا.وأنا أنظر دهشة لسحابة تدخل بيتي يجلس عليها طفل أبيض ينظر لبندوراتي المنثورة، ويبتسم بحزن. يتوقف بسحابته في منتصف الصالة. يلتف حوله الأطفال الذين كانوا هنا. يشير لهم ساكتًا أن يصطفوا، فيقفون في صفوف قصيرة منتظمة، وأنا أفتح عيني بحذر فتحة صغيرة جدًا تمكنني بالكاد أن أراهم." يتنفس الصبي بعمق، فتكتسب ملامحه الطفولية صلابة رجولة مفاجئة. يترك سحابته، يقف أمام الصفوف، يمسح الأرقام التي على الوجوه، ويكتب مكان كل رقم اسمًا بطول الجسد. أتابعه بشغف، وانا أعد عشرات الأسماء على الجسد الواحد؛ احمد بن علي بن حسين بن عمر بن صلاح ابن ابن ابن ابن." على أفق انتظار القلق تنتظر سوزان ( المُخَلّص) هذا الملاك الذي أنقذ الموقف، ليتحول حلم اليقظة السوزاني إلى مشهد نوراني ملائكي تكون فيه التعزية والسلوى لها وللأطفال على حد سواء،، يبدأ الملاك السماوي في تضميد الجراح.. يكمل كل نقص في هياكل الأطفال بمكملات سماوية نورانية، يخطط على الأجساد بطاقة هوية للتعريف يتصل الأطفال بأجدادهم الذين سبقوهم في رحلة النضال عن طريق الأسماء المكتوبة بالطول لتعم سائر الجسد، وكأن هذا الطفل الفسطيني الذي ظل هو وأجداده يبحثون عن الهوية تحقق حلمهم بالموت إذ اتصل كل جسد باسمه أي هويته وحقيقته الإنسانية. تخرج القصة عن نطاق الطبيعي الواقعي المألوف لتترسخ في عالم الخيال المنفلت المتعالي على الواقع بقيوده وأشراطه، وهذا النمط من الكتابة القصصية يعتبر كتابة حداثية من الدرجة الأولى، كتابة تنم عن تجربة ذاتية تتموسق مع أفق يتأبّى على الواقع، كنوع من الفرار أو الخلاص عن طريق تحرير الجسد والروح من مظلومية الواقع، وكأن هذه الطريقة الإبداعية هي صليب الخلاص الذي تتحرر عليه روح سوزان كمال، وهنا يختلف تعريف القصة التي تباشر الواقع بنمط كتابي معين، ولكنها لا تنفك عن واقعها ومباشرته، " فالقصة القصيرة مخلوق زئبقي يروغ بين يدي المبدع في صراع مرير حتى يتمكن منه فإذا تطابقت لغته مع فكرته أمكن القاص أن يجسده في عبارات مقتضبة هي الحد الأعلى في عملية الطرح." والقص الخيالي الذي تعمدته سوزان لا ينفصل عن الواقع مع أن القصة كلية مستغرقة في عالم التخييل الذاتي، ولكن هذا التخييل لا يعني انفصال الذات عن واقعها، لأن الواقع هو لحمة النص القصصي " إن القصص الخيالي FICTION في تعريفه فهو الجنس الأدبي الذي يشمل القصص التي تكتب نثرا وتصوّر مواقف وأحداث من صميم خيال مؤلفها، ولكنها تنسج على خيوط واقعها إذن " نشأت القصة القصيرة، إذن، للتعبير عن حاجة ملحة تتمثل في التعبير عن لحظات الحياة العابرة المنزوية، وتستبطن القصة القصيرة هذه اللحظات العابرة لتستخرج منها المعاني الباطنية التي تغفو داخلها."
تنفصل سوزان عن الواقع بالكلية، حتى أنها تمازجت واندغمت مع العالم الروحاني، ووصلت إلى حد الخوف من استيقاظ أحد، حتى لا يرتبك هذا المشهد النوراني، فتقول : "عمل طويل وشاق وأنا اكتم أنفاسي وأتمنى ألا يستيقظ أحد، فيضطرهم إلى الاختفاء من جديد. تنتهي مهمة الأسماء، ثم يبدأ الرجل الصغير في تضميد الجراح، ورتق التمزقات، وجبر الأرواح والأحلام. يبتسم الصبية، يصنعون دوائراً، يتراقصون في صخب. دائرة تمور يمينًا والأخرى يسارًا والبنات يتناوبن الرقص في منتصف كل دائرة، بينما يعلو الصوت، صوتًا قويًا خاليًا من أي انكسار مرددًا: وعهد الله ما نرحل وعهد الله ما نرحل، وعهد الله ... وانا أنتفض من روعة المشهد الملائكي المقدس هنا في بيتي. يتلألؤن بهجة ثم يخفت الصوت رويداً رويدا حتى يتوقف. يجلس الأطفال في صفوف، يمدون أيديهم شاهرين أصابع السبابة جميعًا، ويهمهمون. يحكون وأسمع وأبتسم لطفولتهم وبرائتهم." "كل شيء الآن هاديء هدوء ليلة مقمرة بعد مطر عاصف، إلا من صوت كطنين نحل يعلو، ليتحول إلى نشيج متقطع لطفلة من بينهم تشكو: حصدونا حصدًا، حصدونا ...، حصدو ... . يمد لها الصبي يده ويتطلع إلى السماء راجياً، فتبدأ الزهور في التساقط؛ زهور ملونة، مختلفة الأحجام والأشكال، تملأ بيتي. نرفع رؤسنا ونمد أيدينا، نستقبل الزهرات بفرح . أغمض عيني وقد صارت صالتي باقة ورد كبيرة. يدنو الصبي الرجل من الطفلة الباكية، يربت على كتفيها الصغيرتين يملأ كفيها بالورد ويتمتم: اطمئني، السماء لا تمطر نيرانًا. في الصباح وأنا أستعد للذهاب إلى عملي كنت أمر بين الزهور بحذر خشية أن تلمسها قدماي."
الواضح أنّ هذا المشهد الملائكي هو بؤرة ارتكاز القصة، ولذا وسم عنوان الدراسة بـ " ملائكيّة الرؤيةِ وفنيّةُ التشكيلِ – قراءةٌ نقديّةٌ في أعمالِ الكاتبةِ سوزان كمال" السّمَاءُ لا تُمْطِرُ نِيرَاناً – نموذجا -. ولم تنفصل الكاتبة عن حلمها حتى مع انتهاء قصتها، والمفاجأة تكمن أن سوزان وهو ذاهبة لعملها تحسس أرضية صالة المنزل كي لا تدهس تلك الزهور الملائكية، إذ انتهاء القصة لا يعني انفصال سوزان عن حلمها في عائشة فيها لعل هذه الملائكية تعوض عجزنا في الواقع الذي تلتقطه العين وتحيله إلى الذات الإبداعية حيث يتخمّر، يتصفّى، يتقطّر، ويتخصّب في هذه الذات، فيصير ذاتا أخرى من عمل الخيال والتخييل والابتكار، فإنه انعكاس مركب أحال الواقع العادي إلى واقع فني." .. تعتبر الكاتبة المبدعة سوزان كمال- بعد مطالعتي لهذا العمل- من الكاتبات اللائي يمتلكن وبجدارة قلما يتمايز بأسلوبية خاصة وتجربة إنسانية متعمقة وروح قادرة على الوثوب بأقصى طاقة إلى عالم التخييل القصصي، أما عن اللغة التي كتبت بها سوزان تدل دلالة قاطعة أنها تعرف سر تقنيات الكتابة القصصية، بل تجاوزت سوزان هذا كله ورسمت لنفسها كيانا خاصا وقلما متساميا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
- فؤاد قنديل: فن كتابة القصة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، يونيو 2002.
2 - هاشم ميرغني: بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة، المكتبة الوطنية، السودان، ط1، 2008.
3- حسن غريب أحمد: التقنيات الفنية والجمالية المتطورة في القصة القصيرة
4- معجم المصطلحات العربية.
5 - حنّا مينة: القصة والدلالة الفكرية، كتاب الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، الرياض، 1420هـ.
6- محمد يوسف نجم: فن القصة، دار بيروت، لبنان، ط1، 1955.[/B]