10
ذات يوم افتضح أمر "سعيد" ابن عمي، ولم يدع "أبي" الموضوع أن يمرّ بسلام عليه، من دون معاقبة. خاصة بعد أن اشتكاهُ "ماجد ميخائيل" أمامي، وقال بصوت عال..
- "إن كنت تقبل له ذلك فعلى الدنيا السلام"
إذ كان مهووساً بسرقة ملابس النساء الداخلية من على حبال الغسيل.. لقد أمسك به "ماجد ميخائيل" أثناء تسلله داخل سياج بيتهم، وأشبعه ضرباً إلى درجة أن الورم بان حول عينيه، ولم يتدخل أحد بذلك الشأن ولم يلمه لائم.. وكذلك نال علقة أخرى عندما علم "أبي" بعمل ابن أخيه المشين، وربطه بسلسلة الكلب إلى الشجرة، ولم يطلق سراحه.. بقى بكاء "سعيد" يصل إلى آخر المحلة، ولم ينفع مع "أبي" أي رجاء من أي كان. حتى جدتي لم تستطع لأن "أبي" كان يصر على معاقبته بهذه الطريقة القاسية إذ جعله معلقا من قدمهِ إلى الشجرة ورأسهُ متدلٍ إلى تحت.. بقيّ "سعيد" لساعات في حال يرثى لها، ولم يجرؤ أحد على إطلاق سراحه من قبضة "أبي"..
كان "سعيد" يكبرني بأكثر من ست سنوات، وكان يرسب في كلّ مرحلة دراسية، رجلٌ بالغُبشاربين كثّينِ.. وظل يشهق كالحمار يترجى عمّه بالعفو عنه، حتى بعد دم أختلط بالدمع..
وأقرّ لهُ أين يخبئ مسروقاته، وطلب من شقيقه "فؤاد" إنزال الكيس الذي كانت فيه تلك الحاجيات، مكان خفي فوق "بيتونة" بيتهم.. بعد ذلك بقليل، جاء فؤاد بكيس، وعاود ضربهليجعله يتعهد التوبة.
- حتى "تِبان"[45] ابنة خالتك يا عديم الشرف!
وما جعل زوجة عمي تأتي لتحرر ابنها، وتشتم "ابي" أمامنا جميعاً، فاضطر إلى ضربها ليسكت صوتها المجلجل،حيث لم يأت معها "عمي" الذي غضب من شقيقه غضباً شديدا، (لم يستوجب كل تلك القسوة)، كأنها بادرة جعلت علاقته بشقيقه تنقطع الى الأبد، ولم أعهدهما يوم جلسا معا في مكان واحد، مثلما كان عملهم مع ابيهم في السينما يجمعهم، دائماً عمومتي متنافرون، ولم يصادف الحظ أيّاً منهم أن يلتقي بشقيقه، كبقية خلق الله إلا ما ندر.تلك الفجوة ذاتها بينهم أبناء عمومتي وآبائهم. بالرغم من أن جدي كان وحيد أهله.
***** ***** *****
كان "عزيز شلومو" ولداً نابغة زميلنا في دراسة مرحلة المتوسطة، يقول:
- "بأنهم سوف يرحلون بعد أن يحصل على شهادة المتوسطة في الصيف القادم"..
هذا ما سمعته منه شخصياً، وكأنه كان يحدث نفسه.. لم أصدق ما سمعته ومن النادر أن تتحرك شفتاه..
كان الولد نظيفاً جداً، وأنيقاً.. لكنه كان منطوياً، ولا يتكلم مع أحد بسهولة، يخاف أن يرفع صوته، ولا يبقى في غرفة الدرس أثناء الاستراحة، ولا يترك الممرّ إلا بعد أن يسمع الجرس، فيدخل مع الداخلين إلى غرفة الدرس.
كنت أراه خائفاً، ويخفي رعبه منا جميعاً، لم أحاول الاقتراب منه، بقدر ما كنت أحاول متابعتهُ عن كثب فربما يحتاجني، فأتصدى لكل من يحاول مضايقته.. كنت أظن بأن زملاءنا هم السبب في وضعه النفسي هذا، فهم يحاولون النيل من ولد ضعيف بينهم. لم أفهم ما معنى أنه من دين غير ديننا، وهذا ما جعله حبيس خوفه من زملائه. يرفض الخروج من حصة درس التربية الإسلامية، كي لا ينفرد وحيداً في ساحة المدرسة. يبقى يشارك كبقية التلاميذ في الحفظ والتلاوة والشرح.. من "القرآن الكريم" و"الأحاديث النبوية".. كان يحفظ جميع الآيات التي درسناها، وكان مدرس المادة يغضّ النظر عن بقائهِ في غرفة الدرس، حسب توصية المدير الذي كان صديق أبيه..
- "يعرف عن دينكم أكثر مما تعرفون.. أيها الكسالى"..
- (أتحمّل كل شيء إلا البقاء وحيداً خارج غرفة الدرس)..
في بكلوريا الابتدائي جاءت نتيجتهُ 100%، المتفوق على مدارس العراق، كذلك سيكرر النتيجة في بكلوريا المتوسطة أيضاً. إذ كان يتمتع بموهبة الحفظ والفهم السريع، وكان مستعداً أن يعيد كتابة صفحة كاملة من أي كتاب بعد أن يقرأها لمرة واحدة. كنت معجباً به، وأتمنى أن يتحدث إلي في يوم من الأيام، ولكنه بقي منزوياً لا يسمع منه صوت إلا إذا وجه إليه أحد مدرسينا السؤال، فيتكلم ببطء وبصوت ينمّ عن ثقته العالية بنفسه. وكنت أحس بأن أغلب الزملاء، يغارون منه، ويتشاورون عليه، وأحياناً يرمون عليه بقايا قطع الطباشير الزائدة.
ذات يوم كان في إجازة، طلب المدرس من أحد زملائي أن يتحول إلى أمام في المقعد الذي يجلس عليه "عزيز"، فرفض ولما طلب منه المدرس توضيحاً بعدم طاعته، أجابه، بأنه مكان " يهودي نجس"، ولم يعلق المدرس على ذلك الموضوع كأنه موضوعٌ لا يقبل الجدل، فقمتُ من تلقاء نفسي بعد أن استأذنته، وجلست في مكانه، لم يعلّق المدرس بشيءٍ حتى انتهاء الدرس، وجاءت الاستراحة، قال لي أحدهم يجب أن تغتسل جيدا قبل أن تتناول طعامك، فأنت جلست في مكان "اليهودي"، وضحكت ساخرا منه وبصوتٍ عال، وتركني لا يعرف كيف يردّ على سخريتي منه.. بعد أن نظرت إلى أظفار أصابعه الطويلة المتسخة، والى القذى الذي في عينيه، والى وجههِ الذي لم يطلّه الماء منذ أسابيع..
***** ***** *****
صديقي "الراديو" كان يسمعني برنامج "نافذة على التاريخ" الذي كان يبتدئ بموسيقى هائلة لم أعرف بأنها لـ"موزارت" إلا بعد حين... من إذاعة دولة "الكويت". اصغي جيداً الى مقدمة البرنامج الموسيقية حيث تنقلني عبر بحر من الأمواج المتهاديّة.تجعلني ذلك العائمٌ فوق موج من الكتب العظيمة. كنت في زورق صغير أحاول الثبات بينتراقص الأمواج. مفاتيح كتب فيها روائح بخور من كنائس منيفة مرتسمة على الابعاد، طقوسٌ ترهِبُ،تعصفُ بالأوصال، برنامج يحوي رفوف كتب مليئة بالمعارف، موسوعات لمختلف الموضوعات والتخصصات.. قصص تاريخية من متون لم تطلها عيني، ولم تلمسها أناملي، وتعرفني بشخصيات كلما أثارتني تلك الفتوحات في أعماق السطور الدفينة.. أبطال ثائرون يحملون مشاعل لتنير دروبهم إلى حريةيفتقدونها. ذلك الهدوء سيأتيبعاصفة من رغبتي،وأجدني تأهبت في اليوم التالي في المكتبة العامة للبحث عماتبقي منها، في ألواح ورقائق سرية مطمورة.
كذلك وجدتني اسبح في بحيرات برنامج "من الذاكرة"[46] كانت مقدمته مقطوعة "شهرزاد"، والذي كان يخوض في قصص عباقرة الغناء العربي وملحنيه.. يتابع بجهد مبدع، مفارقات اللحن الجيد، ويكشف طبائع العبقرية الفنية الإنسانية، وكيفية تلاقح الثقافة الشرقية بالثقافة الفنية الغربية. أصغي بخشوع إلى تلك الأنغام المختارة، والموضوعات الأنيقة البالغة التأثير، فأجدها مخزونة بين طيّات الذاكرة الطرية، وستبقى فيها ابدَ الدهر.. في يوم الجمعة.. تأتي الأغاني التي أبحث عنها تباعاً..اما بقية الأيام يكون النهار لأتابع بهبعض الموجات القصيرة التي تبثها الدول البعيدة. وفي الليل كنت أسمع المقام العراقي وبعض الأغاني الكلاسيكية العربية، وأتوقف كثيراً عند الأوبرا التي تبثها الإذاعات الناطقة بغير العربية، ودون أن أفهمها، وصرت أكتب اسم الإذاعة في قائمة فيها رقم التردد، والموجة، والساعة.. على ورق سميك وأحشرهُ في حافظة الجهاز الجلدية، وكنت أرى "أمي" غالباً ما تقرؤها، وأحياناً كانت تسمع معي بعض الأغاني العربية التي تروقها.
كانت تقرأ في بقية دفاتري، إلا إنها لم تكتشف طريقتي السرية بواسطة الآلة الكاتبة، وتركت ملزمة الأوراق، ظاهرة للعيان.. مع كتبي الدراسية، وكنت مطمئناً عليها من أي فضول.. ذات مرة كتبت في ورقة، وتركتها ظاهرة للعيان (صديقي ماركوني "25 أبريل 1874– 20 يوليو 1937"، لقد أسهمتمبدعا في اكتشاف الموجات كهرومغناطيسية التي أوصلت اختراع الراديو، وسبق لك ان جعلت من الإبراق اللاسلكي، يتبادل بها الاحباب اشواقهم.. اعلم أنك ولدت في "إيطاليا" من أسرة غنية، واعلم كم طوّرت اختراعاتك، وذهب بها إلى "إنكلترا"، وسجلتها هناك وأنشأت شركات عملاقة بفضل عقلك النير، أرسلت، واستقبلت بنجاح الإشارات الإشعاعية على مختلف المسافات. أرسل عام 1901م إشارات عبر الأطلسي، فكان يوما عظيماً في تاريخ الاتصالات اللاسلكية ويؤسف أنك توفيتفي روما ولم احظ بمقابلة منك). وجدتها امي تقرأ فيها وتضحك كثيرا. قلت لها: عجبت من أن إذاعة "اورشليم القدس" تفتتح برامجها بآيٍ من الذكرِ الحكيمِ![47] ..
***** ***** *****
أول مرة كنت قد شاهدتُ فيها "اليزابيث"[48] كانت بصحبة جارتنا "كرستين"، اثناء تجوالهما في حديقتهم. حيث كان شباك غرفتي يطل مباشرة على مساحة ورد عطرها لا يهدأ.. نهارا كان او ليلاً.
ثم شاهدتها في المرة ثانية كانت بعد أشهر عدّة، ومن خلال الشباك في الحديقة، سعيدة بزواجها، وكانت تواصل العزف بمهارة على آلة الكمان مع "كرستين"، بَدت متألقة جداً، عيناها مضيئتان وضحكاتها تتداخل بالنغمات، كأنها الرقصة المكملة لتلك المقطوعات الرائعة.لم يكن أحد مثلي مهتمّا بصورة شلال ضوء ينثُّ سحره.
في المرة الثالثةِ شاهدتها تحمل ابنها وتجولُ بين غرف المستشفى بحثاً عن طبيب ينقذهمن تسمّمٍ حاد، وجدتُ لها صديق والدي الذي يعرف اين مكان استراحة الأطباء.
وفي المرة الرابعة رأيتها تلبس الأسود، وبيدها منديل تكفّ به دمعها، وبضعة نسوة مُتحلقات حولها، وهي تتلقى العزاء في زوجها الذي أعدمته الحكومة، بسبب التمسك بانتمائه السياسي. كنتُ اتهرّب من مواجهتها، رغم أني أودّ رؤيتها كل لحظة، ولم أستطع حتى أن ألمّ بتفاصيل قصتها، وأخبارها الدقيقة، يكفي ان يطرق أحد اسمها حتى تحتقنُ أوداجيّ، ويثقل لساني واوصالي، كنتُ اعْرِضُ عن هيبتها عندي. اما في المرة الخامسة جاءتني "كرستين" تخبرني عن موعد عرض مشاركتها في التلفزيون مع الفرقة السمفونية الوطنية،وجعلتني أرى صوراً فيها "اليزابيث" تظهر في لقطات عدّة معها، ومتألقة كعادتها. أما في المرة السادسة فقد كانت بصحبة ابنها لتسلمه الى بيت جده، وكانت تبيّت نيّة لزواج جديد. كان ذلك آخر ما سمعته عنها.في ذلك العام تخرجت "كرستين" طبيبة أسنان، ثم تزوجت من زميل لها، وابتعدت عن جيرتنا ساكنة "الموصل" مع أهل زوجها. ولم تعد تعاودني تلك المشاهدات.
***** ****** ******
قال سعيد ابن عمي:"لم يكن "ماجد ميخا" نبيهاً لتلك الدرجة حتى يضبطني داخل سور بيتهم، ما لم يكن هناك واشّ نبههُ أني سوف أعبر من أجل تبان "كريستين" الجميلة.. لكنت حظيتُ به كما حظيتُ بغيره، وانتهى الموضوع بسلام".اخترت الظهيرة، بعد أن خدعني الهدوء، ولم أعرف أنه فخسوف يوقعني بين قبضتي الملاكم المحترف. فما إن نزلت من السور الى الحديقة، ولمست "التبان" تلقيت على وجهي لكماته السريعة، والقوية. حتى فقدت الوعي. لم أجد نفسي الا مسحولا، وبين قبضة اشد منها. كنت اتوقع "عليعطابة صبي السينما"، هو من وشي بي وصار يشمت بي، حيث سمع ما دار بيني وبين "جودي الحلاق.. (بقيت ُ أكتب على الآلة دون توقف).. قبل أن يتوفى "عبداي الحلاق" كان "جودي" يعمل عنده صبياً، ويتمرن بمهنة الحلاقة، وعندما اكتشف زبائن المحل شذوذه في غيابه، فأخبروه بحقيقة "جودي"، وطرده دون أن يفضح أمره. وبدأ من الصفر، فتح محلاً في مكان منزوّ من المحلة، يحْلِق للشبان بثمن زهيد، وكان يلتقي عنده أغلب العاطلين عن العمل. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون رقابة).. كان يعرف جيدا كيف يخفي رغبته، ويقتنص ضحيته. يتأكد جيداً من زبونه الجديد، قبل أن يتحسس له "عضوه". إذ صار خبيراً بهكذا أمر، وأي خطأ منه يؤدي به إلى الفضيحة، مثلما حدث له قبل سنوات في محل "عبداي" رحمه الله. بقي حذراً ليستطيع أن يتواصل مع مهنته التي تأتي له بالمال، ويشبع رغباته.. صار "جودي" يعرف جيداً بالزبائن الذين يراجعونه بغرض الحلاقة أو بغرض آخر، واتخذ غرفة سرية من ذلك البيت الذي استأجر منه المحل، فعزلها عن البيت، وفتحها من جهة المحل. ثم أخفى بابها بقطعة خشبية متحركة، لا تكاد تبين للناظر، فأصبحت غرفة مُعتمة للمجون، لا يستخدم فيها إلا الضوء الأحمر. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون رقابة).. لقد تمرس "جودي" جيداً بغرائزه، بعد أن ابتعد عن هواية جمع الحمام، وتشابكاتها غير المجدية. صار صاحب محل حلاقة معروف، وكثر زبائنه من الشباب استطاع أن يحوز على احترام الجميع، وكان كريما، سخيّاً مع المحتاجين، والشباب الذين أهلهم من اصحاب الدخل المحدود، أوالذين يأتون إليه، وأهلهم قد قننوا عليهم المصاريف أو الذين أصلا بلا مصروف. فقد خفض أثناء الأعياد، والمناسبات أجرته إلى النصف، مما زاد زبائنه، وصار من أشهر حلاقي الولاية.. (إضافة: كان يساوم في بيع وشراء تلك الملابس المسروقة من حبال الغسيل حسب أسماء الفتيات ورصيدهن من الجمال)
تَمَتَعَ الحلاق بلسان حلو، وصوت يتطبع بالليونة، وليس فيه أية خشونة، رجولية. كان يعتني جداً بشعر رأس الزبون، استطاع أن يماشالطرازات التي تظهرها المجلات الحديثة المختصة بأخبار الفنانين، فكان محله الصغير لا يسع؛ إلا لزبون واحد يجلسه أمام المرآة، على كرسي خاص بالحلاقة، ومكان في الخلف يجلس عليه ثلاثة زبائن، أما الباقون، فيتركهم يذهبون ليقضوا أعمالهم، ثم يعودون إليه بعد أن حجز كل منهم دوره.. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون رقابة).. كان هذا ظاهر "جودي" أما باطنه فهو يخفي كائناً، ودوداً، ناعماً. يحب ارتداء ملابس النساء الداخلية. وقع في شباكه بعض الشباب المكبوت جنسياً، والذين بحاجة إلى المال وقد أشار عليهم سرقة الألبسة الداخلية، رغبة "جودي" بأن يرتدي إحدى تلك، ويضطجع بها مع "أحد الضائعين" في سرير ماجن يحوطه اللون الأحمر، ويجزل للفاعل العطاء. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون الخوف من رقيب).. وفي كل ليلة، يسمي "نفسه" باسم صاحبةَ القطعة المسروقة..
***** ***** *****
- لماذا تلبسين الشال على الرأس أثناء الصلاة؟
قالت بأن الصلاة تعني الوقوف بين يدي الله، والمؤمنة تغطي شعرها مخافة من الله، فقلت "ولماذا ترفعينه عن راسك بعد الانتهاء من الصلاة. لم تجبني، "وهل تعتقدين بان الله سيذهب عنك بعد إكمالك الصلاة"..
ثم هربت منها، خوفاً من ردة فعلها، ولكني كنت أريدُ الإجابة عن كل سؤال يحضر الى الذهن، حاجتي الى الإجابة تكبر، "كيف يطلب الخالق من امرأة أن تغطي شعرها وهو من أعطاها الشعر؟إن كان شعرها عورة، فهل عورة المخلوق تثير الخالق العظيم. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة، دون مراعاة لمقص الرقيب).. ذلك جعلني أفكر بماهية الشارح أن كان ذكرا أو أنثى. كيف تدوم قوانينه البشرية المنحازة إلى الذكورة، والقاصية للأنوثة. (حتما سوف اخترع شخصية أستطيع مناكفتها في موضوعات حساسة، عقلانية كي أناقشها، فالتاريخ تستفزه المناكفة، كونها تستمر الحفر فيه عميقاً حتى تبين حقائقه)..
***** ***** *****
صار عندي هوس اسمه مواصلة العزف على تلك الآلة الساحرة، فكنت كلّما أستمع إلى مقطوعة أتخيل تنقلات أنامل يدي الشمال على أوتارها، وأين تزحف على تقسيمات عنقها الذي يشد إليه الأوتار. صرت أحرك يدي الفارغة في الهواء متخيلاً كيفية اللعب على الأوتار المفترضة، كما الحالم. يشتدّ ولعي كلما استمعت إلى مقطوعة في الراديو، أترجمها في ذهني إلى نغمات الجيتار، فصار النغم يجري في عروقي، ويزاحم ذهني. وكنت أثناء استذكاري لدروسي لا أطفي الراديو، أجعله معي، يصدح بما تسمعنا إياه الإذاعة. أذهب عميقاً في همّ جديد اسمه الشغف بالموسيقى..
أوصلني "صفاء" إلى أوتار الجيتار، صار حلمي أن أحصل على واحدة، ولم أستطع.
لم يكن ليتركها لحظة، اذ كنت لا أستطيعحفظ موقع النغمة على الآلة، تبقى في ذهني ثم انقلها عبر الخيال كانهابين أصابعي. صارت فجوة مارقة، تحدّ من تلك النغمات الممسوكة بالأنامل، كنت أريد أن أمسك بها كما يمسك بها -هو- يعطيها حلاوة لا تُمل، تُغرق، تُسربل في الحلم، تطوف في الأثير. تثير نشوة كبرى. وتقطع الأنفاس، فتعطي أنفاسها العبقة بسرّ لا يدرك. كان عزفه يوصلني إلى جوهر اسمه، رفض. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون رقابة).. عصر تحولات في منظومات الفكر والمعرفة.. عصر انتماءات، وولاءات يتصارع عليها الكثيرون، فالقوي يريد أن يحقق وجوده على أرض أي ضعيف آخر.. تتطاير من الأفواه كالمطر مفردات القومية، والأممية، والوحدة، والعالمية، الامبريالية والشوفينية، الطبقة العاملة، والاشتراكية والقومية.. المادية والروحية، الديالكتيك، الماركسية، العلنية، السرية، الوحدة، الحرية، الاشتراكية، يا عمال العالم اتحدوا..
في حوض المتوسط بين أبناء الأمة العربية الواحدة تختلط الشعارات، وتنفلت الرغبات، وأندفع منتمياً الى الموسيقى التي تبلّ العروق.
أغلب الناس من حولي صارت تسعى إلى الانتماء لحزب معين، وكنا نصرّ على معرفة شعاراتهم، وطبيعة المنتمين اليها.. (حزب القوميين العرب. نبيهم "جمال عبد الناصر". حزب الشيوعيين. نبيهم "لينين". حزب البعث العربي الاشتراكي. نبيهم "ميشال عفلق").. أسمع من الساخرين (إن أمطرت في موسكو فإن الشيوعي- هنا- سوف يستخدم مظلته، حتى لو كان يوم صحو) ...
***** ***** *****
كشفتُ العريّ الاول منذ أن تهشّم برواز صورة "آدم وحواء"،عريُ الحكاية الأخرى التي غطت الصورة بصورة. أبوان يحملان طفلاً عمره لا يتجاوز العام، ومعهم "يهودا". صورة ملتقطة قرب تماثيل ملائكة عارية تتوسطساحة ما في إحدى شوارع مدينة لم أشاهدها حتى في الأفلاملأ49[.
وبعدها أيضاً لم تهدأ المناوشات الكلامية بين "أمي" و"عمتي"، وكانت "جدتي" تتذمر مما يحدث بين ابنتها، وكنَّتَها.. تلهيني في غرفتها، لا تريد رؤية ذلك الانكماش على قسمات وجهي، كنت أشعر بذنب ما حصل بسببي، تبدآن باسمي، وتنتهيان به كذلك، ولم يكن بوسع "أبي" أن ينصر زوجته على أخته او اخته على زوجته ومن المستحيل التوفيق بينهما، وكنتُ بين الجميع لا أدري أين تحل بي القدم.عندما تبدأ حفلة البكاء التي تذيب القلوب، وتفتك بالسامعين، حيث يضفيَّ التوتر عبرة خانقة لا يستطيع الفرد منا التنفس، حتى فعزم "أبي"، و"أمي" أن يشتريا البيت الذي يقابل بيت "العمة أمينة"، ويجاور من الخلف بيت "ميخائيل".
قررت "أمي" أن تستعين بشقيقها الوحيد، الذي استدانت منه نصف ثمنه، وكان مشترطاً عليها تسجيل ذلك النصف باسمه في دائرة العقاري لحين إيفاء الدين، وقبل والدي بذلك. بعدها مباشرة انتقلنا إلى البيت الجديد.. كان للبيت خمسُ غرف قديمة مبنية بالطابوق الأحمر، وسقوفها من جذوع الأشجار، وتتوسط باحته الواسعة شجرة توت أحمر مثمرة، غرفتان مهدمتان... قالت لي "أمي":- اختر أية غرفة من غرف البيت وضع فيها آلتك الكاتبة، وسوف أشتري لك منضدة وكرسياً. فاخترت الغرفة القريبة من الباب، والتي كان فيها شباك يطلّ على الشارع، وفيها فتحة عالية يبدل منها الهواء..
***** ***** ***** *****
- "إذا شاخ السبع عبثت بذيلهِ الثعالب "!! [50]
كأنما المدينة تحدثت نيابة عنه، لأنه لم يُغيّر خَندقه بزمّ شفتيه عن أيّ كلام، إذ نأى بنفسه عن كشف الحقائق، فقد كان العارف الملمّ بدقائق تلك الحوادث المثيرة للجدل. انزوى في صمت حزن قاهر.
ليته يسرد بعض أسرار سيرتها من بعد أن احتكم على مفاصل حياتها، منذ أن ولِدتْ بين يديه ونشأت تحت عينيه؛ إذ رأى مفاتنها المجبولة بسحر القداح. نزلت على شاطئه الأخضر بعنفوانها البهي. بقي شاهدها، العارف بالتفاصيل الدقيقة التي شكلت نشأتها، منذ أن وهبها ماءه، وعَلَمَ انسانها كيف يجبل اول لبنة، وتُصف بأساس اول بيت له سقف على احدى ضفافه، صمته يشوقني لتفاصيل الاحداث الجلية، أو الغامضة منذ الأزل.
لكنه بكل عنفوان تمترس في حكمته البليغة، وراء سعة الصمت العظيم، سعة أجهلها؛ لأجل استنطاق الحجر، والمعرفة. يدرك أن صمته نعمة أكثر بلاغة من طبيعة طموح البشر الذي بات متبصراً في أعماق إنسانية الإنسان، وبعد أن بَطُلَتْ المفاهيم القديمة، ودخلت طور إعادة النظر منذ أول لبنات التشكل المعرفي، بعد أن شوشت عليه الأوهام أكثر من الحقائق، ومزقته، وأزاحته عن جدية سبر أغوار هذا الإرث العظيم. بودي أن أسأل الضفة هذه عن أختها، وأن أروي فضولي بمعرفة بعض مما جرى..
دون أن يكشف سرّها، بقيّاللسان مترفعاً عن النطق، لأن نطقه عواصف وزلازل، وأشياء أخرى بعدد المصائب التي دفنها التراب، والنسيان، والعجب العجاب. نهرٌ المدينة الذي احتضنتهُ الاسرار حتى سار بصمت بين مفاصلها..نهر؛ بقيَ يأخذ ضحاياه بمباغتةٍ سريعة، على حين غرّة، وكأنه يقتنص السذَّج حتى ويبلعهم بصمت، ولا يترك فرصة لطلب النجدة، ولن يجدوا للغريق أية جثة طائفة قد تظهر في مكان ما.. لأنها تُحْتَجَزْ في الأعماق، تحت تلك الجذور القوية لتلك الأشجار، ينحت حوافه بقوته الجارفة. نعتوه بـ"الخَرَسْ"، إذ غالباً ما يفيض، بغفلة عنهم، ويغرق كل سراديب البيوت التي حوله، والقريبة منه. يغدر بصمت؛ مرة سمعتُ عمي "جاسم" يقول: - "اسمه "خْرَيْسانْ" وليست له أية صلة بمدينة "خُراسان البعيدة".. لا من بعيد ولا من قريب، وليس منبعه منها، ولا مصبّه فيها". جاءت تسميته من "الخَرَسْ: أي عدم النطق"، و"خْرَيْسانْ" من صفةُ "الأخْرَسْ"، لأنه كان عميقاَ جداً، ولا يمكن السباحة فيه بيسر، ما لم يكن ماهراً، ويعرف جيداً دهاليزه. ففي أعماقه تشابكات متينة، من جذور الأشجار الكبيرة المزروعة حوله. فكانت تحته تمتد شبكة عريضة ومتينة من الجذور. أغلب أبناء مدينتا بفضل الأنهر العديدة، كانوا من السباحين الماهرين، يعرفون أسرار، وخفايا تلك التشابكات المتواشجة في الأعماق. بعضهم كانوا يدخلون غوصاً تحتها، وينتشلون الجثث الضائعة والعالقة. على الرغم من ان النهر كان يبدو مسالماً حيث يغري الضيوف والغرباء على حدّ سواء بالسباحة فيه، يخيل لمن لا يعرفه؛ نهر هادئ، غير عميق. كما يبدو للوهلة الأولى، ومن السهولة الوقوف في وسطه وقدميك تلامسان الأرض، لكن ذلك لن يحدث مع مجرّب وأغلب ضحاياه مارس النهر عليهم خداع البصر، وحيث لا يكشف الحقيقية عن عمقه مثل بقية النهران، سرعان تنزلق الأرجل لتدخل بين فخاخ جذور متينة، متاهة الجذور المتشابكة، حيث لا يتملّص منهاوالصعود نحو سطح الماء للتنفس. إذ تبعد الضفة عن الأخرى أكثر من خمسة وعشرين مترا، وفي أقل تقدير عشرين متراً، فالأماكن التي ينعرج النهر وينطوي مشكلاً انحرافات تشبه الخطوط البيانية.[51] في السابق امتدّت حول النهر الذي ابتدع أشباه جزر، محميّات طبيعية ذات مساحات صغيرة، كل جَزْرَه حوّت أربعُ أو ثلاث بيوت على ضفتي النهر، وكأنما قد لم يأت من مكان بعيد، ولكنه قد خرج النهر من بين البيوت متهادياً تظلله مئات من الأشجار المعمرة.
وبقيت من حوله تلك البيوت القديمة وصل عمر البعض منها أكثر من مئتي عام. تعود ملكيتها إلى عوائل سكنتها بالتوارث، باتت متروكة بعد أن آلت للسقوط بيوت صغيرة متراصة جنب بعضها البعض، تبدو وكأن النهر يحوّطها من كل جانب! بيوت قديمة قد هجرها أهلها خاصة بعد أن تعرض أصحابها الى اعتداءات مباشرة من قبل قرويين هجموا عليها من القرى والضواحي المحيطة بمدينة "بعقوبة"، بات خيار ناسها الرحيل الى أجل مسمى، بعضهم لم يرتض البيع بثمن بخس، "لا يساوي ثمن عربة وحصانها" كما كان يقول "نعيم فلفل" "ما دامت تلك الأملاك مسجلة في دائرة "الطابو" فهي ملك صرف لأصحابها، ورثتهم، فمنهم مَن رحل ومنهم مَن بقي يعتقد بأن رحيله حرام، وعليه أن يبقى في بيته حتى المنية. والرجل كان تاجراًوصاحب ورشة كبيرة تتوسط "خان اللوالوه"، يُصنّع فيها مسلتزماتالعربات التي تنقل الركاب وتربط المدينة بضواحيها وقراها، عربات قوية تجرّ بالحصان، (جرى التآمر عليهم من قبل منافسيهم في السوق"، أو من كان يعمل أجيرا تحت أيدهم وغدر بمن تعلم منه المهنة). او ضحية ترويع غيره حتى يشتري منه بيته بـ"تراب الفلوس".. بينهم من اعتصم في أملاك تعود لغيره متعهدا المحافظة حتى عودته، وبعد إسقاط الجنسية. استملكت تلك المعامل والورش بوثائق مزورة لمن استطاع ان يبتلعها وكما جرت بعض الأعراف.
سمعت "أبي" يروي حكاية "ليلو" الصبي الذي كان يعمل في ورشة "نعيم فلفل"، تسلل ليلاً الى بيت صاحب نعمته، الذي كان يعيش وحده في بيته المطل على نهر "خريسان"، كان للبيت حديقة محاذية للنهر، عبر النهر سباحة، ومنها تسلل إليه، ثم خنقه بواسطة حزام من بين الأحزمة التي كانت تنتجها الورشة، وسلم نفسه، ثم حكم عليه بالسجن، وتبين فيما بعد أن الخال "علي دخان" هو الذي كان المُحرّض على تلك الجريمة، والتي استنكرها أهل المدينة. بقيت القصة سرّاً حتى خروجه من السجن، وبعد قضاء مدة الحق العام، واختلافه مادياً مع خاله. فضح تفاصيل الاتفاق بينهما.. بعدها استحوذ الخال على ما تبقي من أموال فلفل التي كانت جميعها مخبأة في جرار مدفونة تحت الورشة، بعد ذلك ترك الورشة يعمل في تجارة التبغ بعد أن اشترى دكاناً صغيرة، توسعت تجارتها مع الوقت وبات من بين أكبر تجار المدينة.
وعندما تقرر أن يكون له مسار مستقيم جديد بديلا عن المسار المُتعرّج، لإعادة تنظيم المدينة وجعلها جديدة، ثم استقدموا شركة مقاولات هندية تقدر على احداث التغير الكبير.. لتحقيق مسار مستقيم وجديد، وعلقت الرقعة في بداية المدينة وأخرى مشابهة في نهايتها: - "مشروع إعادة ترسيم مسار نهرخريسان"، وراحت تختصر التعرجات العديدة، ليتسنى استحداث شوارع جديدة محاذية للنهر، قال احد العاملين، بعد أن قيست المسافة السابقة لمسيرة النهر- وجدوها تفوق مسافة استقامته، بأكثر من ثمان مرات. بعض البيوت تبدو وكأنها بنيت في وسط النهر ويحوطها الماء من ثلاث جهات. نهر عميق جداً، وفي كل موسم سباحة يأخذ من الأولاد عدداً لا يقل عن العشرة من كل عام.
في السابق كانت تلك البيوتات الصغيرة متراصفة حوله، تطلّ عليه، بأبوابها أو بشبابيكها، ومن المستحيل أن تمر عربة قربه، دون أن تتعرض للخطر. لأنها تكون قد اقتربت كثيراً من حافة النهر، ومن الصعب أن يتابع مساره بمدّ البصر، بعد أن حوطته من الجانبين الأشجار العملاقة، وظللته بفيئها الدائم. المتنوعة الأحجام، من أشجار "السدر" العالية، و"اليوكالبتوس" المتينة، وأنواع أخرى مُعمرة مثل "التوت" بألوانه، والزيتون بأنواعه، واشجار ثمرة السدر بأنواعها. تينٌ بأنواعه كذلك إضافة إلى الكثير من الحمضيات وخاصة "النارنج" بأنواعه، وبعضه كان مركباً على "برتقال"، و"ليمون" بنوعيه الحامض أو الحلو، والكثير من الأشجار المزهرة كالرمان، والزعرور، والمشمش. بعضها أشجار معمرة وعملاقة قد يفوق قطرها المتر وأكثر. متراصة حول خصره يشطر المدينة الى محلتين كبيرتين هما الـ"سراي" في الضفة الغربية منه، والـ"تكية" في الضفة الشرقية.
تَطَلَّبَ أولاً أن يشقوا للنهر مجرى بشكل مؤقت، وتم تحويل المجرى الجديد الى مستقيم، وبجانبه على مسافة أمتارعدة، شقوا للنهر مساره الجديد، وعبد باطنه بالخرسانة والحديد. بعدها قاموا بدفن التعرجات التي كانت في مسار النهر. ومن بعد أن كانت ضفافه القديمة من الطابوق والاجر العثماني، تغيرت الى خرسانة. ويوم أطلقوا الماء في مساره الجديد، سمع صوت هدير الماء، وكأنه قد قال كلمته بأنه لم يعد ذلك الاخرس.
إذ راحيهدر سريعا، ومتخذا شكله الجديد من قنطرة "خليل باشا" وحتى "مقبرة اليهود". ربما تلكأ العمل فيه لأكثر من سنتين بسبب عوامل عدّة، أهمها أنهم لم يعتمدوا على ذوي الخبرة.. حتى عهدوا بمدير جديد للمشروع سلمت الى المهندس المقيم "جوزيف راجي"، الهندي الجنسية من مدينة "كلكتا". والذي ما أن باشر العمل دون توقف بهمّة كبيرة فاستطاع بخبرته تحويل المجرى في ظرف أشهر، بعد أن استعصى على سابقيه. اذ شطر الأمكنة الملتوية بخطّ افتراضي مستقيم.
***** ***** ***** *****
بدأت الجرافات في جرف بقايا تلك البيوت، التي تقع في محلة "التكية".. سرعان ما انكسرت تحت أحد تلك البيوت ثمانية من الجرار الفخارية الكبيرة المدفونة، أو المخبأة في أحد السراديب، إذ كانت أغلب البيوت مجهزة بسراديب باردة، ومنظمة لها فتحات تهوية كبيرة، تطلُعلى الأزقة، بعضها تستخدم لخزن (المونة)[52]، وبعضها الآخر لنوم القيلولة أيام الصيف القائظ. كانت تلك الجرار مليئة بالليرات العثمانية التي كان أغلبها ذهبية، حيث لم يعبأ العمال الهنود، مثلما حدث مع الأولاد من مرج كبير يومها، اذ جمعوا ما ظهر على سطح الارض، وتلألأ تحت أشعة الشمس، وأنقضوا على المحتويات المتناثرة، من الجِرار التي تهشَّمَت تحت اسنان الجرافات، حيث لم يبق منها شيئاً، يُسلم للحكومة، من بعد أن اعتبر مالاً عاماً. حتى جاءت الشرطة لتنقذ الموضوع وجدت بأن المال قد نفد، وقد ضاع، ولم يعرفوا أين ذهبوا به. إلا إن "زيكو" الصابئ الذي كان يعمل صائغاً في إحدى محال الذهب، هو الذي اشترى اغلب الليرات من الاولاد، ودفع عن كل واحدة "عشرة فلوس"، وكان مبلغا مغريا يومها يعادل "زنبيلاً مليئاً بالخضروات والفاكهة والخبز".
وبعد وشاية الأولاد ببعضهم الى الشرطة، تمكنت من القبض على أبرزهم، واعترف أنهم باعوا كل ما جمعوا من تلك الليرات الى "زيكو"، والذي بدوره سَلّمَ للحكومة نصف ما اشترى.
***** ***** ***** *****
ما حدث في محلة "السراي".. يوم تجمهر الناس ضد قرار البلدية تضامناً ضد هدم ضريح الامام "أبو سيف"، والذي لم يترك أحداً من أبناء تلك المنطقة إلا وحقق له مراده بمشيئة الله.
كان الرجل فارساً يجيد استعمال السيف بمهارة، وقد شهد له بانه قد دافع به عن المدينة، وأهلها. وقاوم كل الذين أرادوا انتهاكها بسيفه الشهير، ويقال بأنه حسب وصيته طلب إن مات أن يدفن سيفه بجانبه، وكانت له هيبة عظيمة بين الناس حتى بعد مماته، وتبرع أحد التجار ببناء قبة فوق قبره دلت على منزلته الدينية الرفيعة، وأنه كان وسيطاً يحقق للناس مرادهم بمشيئة الله، وقد صارت الناس تلتقي تحت قبته..
يعود نسبه الى أحد أعيان المدينة اليهود. عشق امرأة من منطقة الـ"منجرة" من أصول مسيحية، أرادها تبرأ من دينها، وكذلك هو ايضاً تبرأ من دينه، واعتنقا معاً الإسلام، ليضمنا سلامتهما من طائفتيهما، واجتهد كلاهما في قراءة تعاليم الإسلام، وتفقَّها كثيراً في العبادات. صارا من كثرة تدينهما، يلمّان بأحوال وجوانب المسائل الشرعية، حتى صارا يجيبان على أسئلة الناس في تطبيق الشريعة. وكان للجامع بيت مجاور قد سكنا فيه، حيث لم يغادرا المكان. بيت توسط المدينة، وقد أحاطه النهر من ثلاث جهات.
يوم أن جاءت الجرافات لتحفر للنهر مساره الجديد، تطلب أن ينقل رفات "الإمام" الى مقبرة الشريف الرضي "ع". فأشاعت المدينة بأن "الإمام" لم يقبل بأن ينتقل الى مكان آخر، وفسروا تأخير المشروع، كل تلك المدة الطويلة.. بسبب وجود القبر المبارك. فكلما تقدمت جرافه كانت تتعطل بمشيئة الله، وتتوقف عن عملها، "يخرّ عنها زيتها" وسرعان ما تتحول الى خردة. كما شاعت حولها قصص مثيرة التفاصيل مفادها "أن الملائكة كانت تحرقها ليلاً"، لأنها تعارض مشيئة الله، لأن الله عزّ وجل قد اختار له المكان الذي يدفن فيه، ولا يمكن لأية قوة على الأرض أن تعارض مشيئته.
وعندما تعهدت الشركة الهندية أن تكمل المشروع، ووفق ما أرادت "وزارة التخطيط العمراني" في المدينة، عهدوا بالأمر الى أحد العمال الهنود المسلمين واسمه "رجاء الدين"، صعد الى جرافته دون خوف، بعد أن صلى ركعتين أمام الجميع، وانطلق يجرف المكان بحركة واحدة، دون أي تأخير، وكرف المحتوىوسار الى مقبرة الشريف دون توقف، حيث وضع ما حمله، في قبر جديد اعدّ لذلك الشأن.
يوم ذاك حضرت جمهرة كبيرة من أهل بعقوبة الذين تجمّعوا حول المكان، ليروا ما سيحل بالهندي، وجرافته. لكن أي شيء من ذلك القبيل لم يحدث. بعضهم بقيّ خائفاً لساعات، وبعض لم يستطع حتى ان يراقب المشهد من بعيد، اما البعض الآخر بقي يدقق عن كثب.
والعجيب في الأمر، لم يجدوا أي جثمان للرجل أو للسيف الذي في القبر، بعض الناس توقعت بأنها ستجد "الإمام" باقياً على حاله بدمه الذي لم ييبس أبداً، وكأنما قُتل قبل أيام، فهكذا طبيعة الرجال المؤمنين.
لكن بعضهم أشاع على الملأ؛ أن "البطل" طار الى السماء، ولم ينس سيفه، فأخذه معه...
***** ***** ***** *****
لم ينكر أحد ما حدث ل"عماد"، في نهار تلك الجمعة، عندما سرق له "نهاد نونو"زجاجة العنبة الهندية الحارة من صندوق جرافة "رجاء الدين" سائق الجرافة، وجدها مخفية في صندوق خلفي للجرافة، ذاتها التي استطاعت تحويل قبر الأمام. حيث معظم الهنود يحفظون مأكولاتهم هناك. تمكن "نهاد نونو" من فتح القفل، وسرقتها، ثم مبادلتها مع "حسنين" بزوجين من الحمام الزاجل[53] ، فقد كان الرجل يتمنى الحصول عليها وان كانت بثمن غال، ثم وفى بوعده ولم يتأخر لأجل أن يراهن عليها أنه يستطيع أكلها دفعة واحدة، ولن يهمه فلفلها الحاد.
واتفق مع "ابن خالصة"؛ إن استطاع أكلها لوحدها، أمامه. يسدد عنه دينه القديم أمام الجميع كاملاً، ويعتق نفسه من الإحراج الذي يلمّ به، كلما طالبه به مدينه.. كان "أبن خالصة" قد جرب العنبة تلك. ويعرف ماذا سيحدث له لو أنه فعلها، فكان قد تراهن عليه سراً.. مع أربعة آخرين من أصحابه بمبلغ يفوق المبلغ الذي سوف يدفعه. حيث بعضهم كان متعمداً لذلك الرهان حتى يحلّ المكروه بالرجل، والبعض الآخر كان يراهن حتى يستمتع ببقية القصة..
فغالبا ما كان "عماد" يتحدى الموجودين في المقهى، ويسكتهم بزعيق كريه.. بقي أغلبهم يتمنى فشله، وخسارته في رهانه البليد.
وما حلّت تلك الظهيرة، حتى أخرج العبوة من الكيس أمام جميع الحاضرين في المقهى، وتعهد الرجل أمام جميع الرجال، بأنه سوف يحقق وعده، ويدفع عنه دينه كاملاً. بشرط أن يتذوق منها بأصبعه، ويتأكد من أنها العنبة المتفق عليها. وراح "عماد" يتحدى بها كل أبناء محلة "التوراة".. الذي بقي يتخيل لوحده بأن الجميع يعرفون بطولته ولم ينكروا عليه قدرته على تحمل الشطّة الحادة الموجودة في العنبة الهندية الأصلية. وما أن رفع راح يعبّها الى جوفه دون توقف. ابتلعها كاملة، بعدها مسح فمه بكمّ قميصه كالأبطال. ولم تمض لحظات على ذلك حتى انتفخت اذناه، وتدليا كأذنيّ الفيل، وجحظت عيناه، وتحول لونه الى الأحمر الفاقع. وانتشر الانتفاخ الى كل جسده، كاد أن يموت منفجرا كبالون سعته لم تحتمل النفخ. ومهما حاول النهوض، سقط مغشياً لا حراك فيه.. فنقلوه الى العم "نجاوي"، وهو مساعد طبيب.. له خبرة واسعة، وما ان علم بالقصة استنتج "ضغط دم"، كاد أن يودي بحياته، ثم جرحه بمشرط حاد في رجله وخاصرته، وجعله ينزف، حتى ارتاح، وأوصى ذوييه أن يتدبروا له قدح من عصير ليمون حامض. بذلك استطاع إنقاذه من ذلك التهور. بقي "عماد" يبرر ما حدث له (أن الإمام "ابو سيف" قد وضع سخطه كله في قنينة العنبة التي أكلها بدلا عن الهندي "رجاء الدين)..
***** ***** ***** *****
وعلى حافة النهر، بالقرب من جامع "الشاهبندر" كان هناك أيضاً، ضريح آخر لم يقل شهرة عن غيره، ولكنه كان لامرأة فاضلة؛ عرفت بـ"الستة مومنيّة"، ويلفظونها برقم الستة، ولا يسمونها بـ"الست"، اذ تناقل الاسم أهل المدينة كأي أسم قديم، ولا يمكن تغيره، ويقال بأنه لأحدى المتصوفات المباركات، حيث لا يمكن تغير الأسماء خاصة الصالحين، والصالحات. ولم يكن للضريح قبة، سوى غرفة صغيرة، لها باب مشبكة بالحديد، ومقفولة بقفل كبير، وكلما كسر الاولاد العابثين القفل، يجدون في اليوم التالي قفلاً أكبر من سابقه. غرفة مبنية بالحجر. شباك ربطت عليه أشرطة من قماش أخضر، لم يعرف أحد في المدينة تاريخاً مكتوباً للسيدة الجليلة "الستة مومنيّة"، ولكن الناس تناقلت عنها الأخبار شفويا حيث بقي ضريحها يتمتع باحترام كامل، فأغلب النسوة التي تعكر حظهن في الزواج، ربطن شريطاً أخضرا كبقية الأشرطة، ليجدن في اليوم أن عقدتهن قد حُلَّت، وبعد حين قريب يأتيها النصيب. قالت إحدى النسوة لأمي، بأنها رأت تلك السيدة الفاضلة في الحلم، امرأةٌ بيضاء، طويلةٌ، كانت ترتدي ثوب عرسها الأبيض، وأوصتها إن جاء نصيبها، فعليها أن تترك لها بدلتها البيضاء في الغرفة التابعة لها بعد انتهاء العرس وانها سوف تهديه الى أولِ عروس فقيرة لا تقدر على مصاريف خياطة فستان العرس، وعليها هي الأخرى ارجاعه الى نفس المكان بعد انتهاء كل عرس، وشيئاً فشيئاً صار ذلك الفستان من أهم الفساتين، وصار يدور بين البيوت، بأنه فستان الفساتين، فستانُ البركة والمحبّة.. الذي تهديهُ "الستة مومنية" يجلب السعد لكل عروس.
مضت إحدى العجائز تحكي القصة التي سمعتها عن جدتها، بأن رجلاً مؤمناً امتحنه الله في ابنته البكر، فصادفها رجل من دين آخر، وتزوجته بعد أن هربت معه الى مدينة بعيدة، وطلب في صلاته من الله أن يهبه أولاداً مؤمنين، فوهبه خمسة أولاد، بدلا عنها، وكلهم ساروا على نهج أبيهم في محبة الله، ولكن الله سبحانه قد أعاد عليه الدرس، إذ رزقه بعدهم بابنة سادسة عظيمة الجمال، ولم يشأ الرجل إلا أن يسميها "الستة مومنية"، لتكمل الإيمان بالله وتكملهم، وقد خاف عليها كثيراً من عيون الرجال الآخرين، لأنها كانت فاتنة الجمال، وعندما علم بأنها قد نضجت الى سن الزواج، اذ تعلق فؤادها بشاب، أراد أن يتزوجها، لكنه لم يكن على دين ابيها، ولم يستطع الاب تغير عهد ابنته بكل السبل، وانها بقيت تلهج باسم حبيبها كالممسوسة. حتى قام بتكبيلها وحبسها في تلك الغرفة الحجرية، البعيدة والمعزولة وجعل من إخوانها الخمسة يتناوبون على حراستها، ولم يجعلوها تشاهد أحداً، بقيت سجينة، حتى ماتت ملدوغة على سجادة صلاتها، ودفنت في نفس الغرفة. (هامش مكتوب بقلم على الورقة التي حفرتها آلة الكاتبة) وجدتُ من يقول لي بأن العمّة "سناء" كانت تحفظ الكثير من اشعار تلك المرأة المباركة، وكانت تنسخ من الشعر الكثير في كراس أنيق، ودائماً تقرأعلى مسامعنا أبياتاً منه.. كلما جاءت فرصة مناسبة. حيث يحضر معها في جميع مجالس النساء، بذاكرة جيدة.
***** ***** ***** *****
حكاية عن المغدورة "حبيبة" روتها لي جارتهما "أم عبد"، التي كانت تسكن دربونة أخرى مجاورة الى "دربونة التوراة"، "الدربونة" تلك لم يكن فيها سوى بنايتين كبيرتين، وبجانبهما بيت صغير. البناية الأولى الصغيرة لم تكن الا مغسلا لغسيل الموتى، مكون من غرفتين متداخلتين، ليس لهما شبيابيك، وانما لكل غرفة كوة عالية يتداور من خلالهما الهواء، وبالقرب من الغرفتين حوض ماء كبير، قربه بئر، وحبل وعدة جرادل قديمة مصنوعة من الخيزران القوي المطلي بالقار الأسود، وثمة حبل مجدول مدلى الى عمق البئر. يغترفُ الغاسل الماء، وينقله الى داخل الغرفة الأولى، يحضره الى ذوي الميت من أولاد، فالرجل يغسله رجل، والمرأة تغسلها أمرأه. الرجل يحضر معه ابنه البكر او من يليه، وكذلك المرأة تحضر معها ابنتها الكبرى او من يليها. ويقوم ذلك الشخص بإحضار الماء الى الغاسل، من الغرفة الأولى الى الثانية التي عليها دكّة عالية تصل الى مستوى حزام الغاسل، وهي أطول بقليل من طول الإنساني الاعتيادي، ويمدّ فوقها الجثة، ويساعد الشخص الحاضر من ذوي الميت بتقليبه كلما يحتاج الغاسل الى ذلك، من اليمين الى اليسار، ويقوم الغاسل بدلك الميت مبتدئا بجهة اليمين، ومن ثم قلبه الى جهة الشمال. وثمة جمل من التوراة يجب ان يكون الغاسل حافظا لها حتى يرددها على اسماع الجثة، ويكرر بصوته الجمل ذاتها كل من جاز له دخول تلك الغرفة..
اما البنايتان الكبيرتان[ي[54] ، كانتا متصلتين ببعضيهما من الداخل عبر ممر من الداخل. الأول له بابٌ عريضٌ، والثاني له باب اعتيادي. البيت الأول مكوّن من باحة أرضية واسعة خالية من الغرف، ترتفع من وسطها أعمدة حديدية، موزعة بشكل هندسي منظم تسند سقفا الذي حمل مجموعة من الغرف في الأعلى ليست لها واجهات على الباحة، أبوابها من الخلف حيث لا تشرف اية غرفة من الغرف على الباحة الرئيسة التي تجري فيها مراسيم العبادة. تلك الغرف عادة ما تكون مليئة بالأغراض الخاصة باستخدامات الكهنوتية.
بناية البيتُ الثاني الكبير من الخارج صغير من الداخل يحتوي مسكن خاص بمن يرعى المعبد، وتكوّن من غرفتين واسعتين، الأولى خاصة بالحبر وضيوفه، والثانية معزولة في الطابق الأعلى لها درج جانبي تخصُّ خادم المعبد مع عائلته ان كانت لديه عائلة.
وعندما هاجر اليهود بقيَّت "حبيبة" تعيشُ منفردة في تلك الغرفة، وفي المعبد كله. وتحرص يوميا على نظافة كلّ غرفة من غرف المعبد، وكانت تحرص أيضا ً ان تعلق بعض الفاكهة على باب المعبد الكبير (كل موسم بموسمه خصوصا الرمان او البرتقال أو التفاح). التزام دينيٌّ يبعث على البهجة للأطفال، ويطعمُ الجائعين من عابري السبيل.. حتى جاء اليوم الذي قُتِلَتْ فيه على أيدِي ثلاثة من أبناء المحلة. أحدّهم ربيبَها الذي كانت تُراعيه مذُ كان طفلاً مشرداً، آوتهُ بحرصٍ ومحبّة، ولكنه كان لها من بين الناكرين.
واصلت القول "أم عبد" عن يقينٍ: إن "حبيبة" لم تغادر بيتها مع المغادرين، مهما زاد الخوف لم تخف من أحد.. تحب الصغار والكبار، مثلما يحبونها وتحب عملها كثيراً. تخيطُوتهبُ لجاراتها أغلب ما يحتاجونه من ملبس، بلا مقابل. (ما حدث للعجوز الطيبة حبيبة خياطة المنجرة وحارسة التوراة مخجل ومخزٍ، كونها لم تكن تبخل على ربيبها "فرفر" بشيء، وإنما بقيت تعامله كابنها، من بعد أن حرضوه عليها ظنا أن صندوقها مليء بالنقود، وطعنها بسكين الغدر)..
كأنما النهر يتكلم لي ويحدثني عن حكايات اخرى، ويجلي عن نفسه، ونهر أخرس بقي يستمع لحكايات من يجلس على ضفافه، ولا يبوح.. يصغي بحياد، عما جرفتهُ المصائب، والأهوال العظام.
***** ***** ***** *****
أما "خليل طرب" الملقب بـ"خليلو" شاع اكاذيبه بين الناس بأنه تعلم أصول الغناء الهندي علي يد استاذه المهندس "جوزيف راجي" حيث صادف سكنهما في نفس الفندق الذي اختاره المهندس "جوزيف"، لقربه من موقع العمل، وأثناء رسمه مخططات تعديل مسار النهر، كان يغني بصوته الجميل وكان "خليلو" خير الحافظين. ولم تنطل الكذبة على أغلب الذين يعرفونه، ويعرفون طبيعة الرجل الذي لم يكن يلتقي به أكثر من دقائق في باب الفندق، عندما يصادفه في الصباح الباكر ذاهباً الى موقع عمله، ومن النادر أن يتكرر ذلك اللقاء في المساء، اذ يعود الى الفندق بعد الواحدة ليلاً.
عمت شهرة "خليلو" في أرجاء المدينة، لكونه يغني على دربكة يومياً في عربة بحصان تجول الشوارع، ويجلس بجانب حوذيها ليعلن عن الفيلم الجديد الذي ستعرضه السينما، تؤجرهما إدارة سينما "ديالى" يوما بيوم.
***** ***** ***** *****
تم إكساء ضفاف النهر بحلّة جديدة، وقد خسر عمقه وصار مجراه أعلى من مستوى البيوت القديمة؛ هذا ما قال عمي "جاسم" الذي كان أحد الغطاسين الذين يتعمدون عليهم في إيجاد جثث الغرقى الضائعة، كان يعرف جيدا ان تستقر معظمها، كل شيء تغير في النهر، وبات نهرا آخر..
كما تبدل اسمه الى نهر "سارية"، نسبة الى أحد القادة العرب في الماضي السالف. وصار له على جانبيه، حديقة أزهار غير حديقته السابقة. وتعبد على جانبيه شارعين للذهاب، وآخر للإياب.
وامتدت فوقه أكثر من خمس قناطر للمشاة، ثلاث منها لعبور السيارات. ثم ثبتوا في أوله مضخة كبيرة، لتدفع الماء من ثماني رشاشات ماء، مثبت قرب مصباح ملون. وتقابلها على الضفة الأخرى ثماني مثلها، مسلط ضوءها على الماء حتى تبدو أثناء الليل كأقواس كرنفال
***** ***** ***** *****
همس لي مره يوم كنت أجلس تحت فيء أشجاره العالية، ورجلاي متدليتان الى مائه البارد، ودفقاته المتتابعة بنغم "شتراوس" تسري بعنفوان؛ هل تعلم ان هذا النهر: "إنه كان واحداً من بين أهم أبطال المدينة البارزين، شارك في ثورة العشرين، ونقل العديد من أنواع الأسلحة التي استخدمت في دعم الثوار، ثورة العشرين لم تندلع في مكان واحد من هنا الى هناك". نقل لهم العتاد الكثير بالقُفَفْ الصغيرة، التي كانت تطفو مع مسرى الماء متوجهاً بها صوب ناحية "بُهرز"، ومن ثم عبر الى "نهر ديالى" كانت تلك العوامات الصغيرة الدائرية التي يستخدمها الصيادون، هي التي لا يلتفت إليها أحد، ولا تعلق بمكان أو يوقفها غصن، وكانت أمينة لا يتسرب إليها الماء، لأن باطنها وأسفلها كانا مطليين بالقار، وتبقى تندفع طافية، بكل حمولتها، وكانت تصل الى أماكنها المحددة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[45]* تبان: قطعة ملابس من الغيارات الداخلية
[46]برنامج اسبوعي كانت تقدمه إذاعة صوت الجماهير ظهيرة كل يوم جمعة.
[48]* ثمة طريقة جيدة لأستقبل بها الإذاعات عبر الموجات والقصيرة. فعملتُ هوائياً مددته بسلك من الجهاز إلى سطح الدار، وجربت سلكاً آخرَ أرضياً ربطته بأنبوب ماء الإسالة..
[48] * المفترض ان اتحدث عن دور "كليوباترا" الملكة التي اظهرها التاريخ كل مرة بحكاية لا تشبه الأخرى. وفي كل مرة في زمان لا يشبه الزمن الآخر وان لا أهتم بالممثلة التي لعبت دورها في الفيلم.
[49] * المعلومات المسموعة من اهلي ليست متطابقة مع المعلومات المسموعة من جيرتي واقربائي. لم افهم جيدا محتوى الصورة حيث أنى لم اتنبه الى الملاحظة المكتوبة خلف ظهرها، تاريخها، لأكشف الحقيقة. رغم أنى اكاد احفظ محتواها كصورة وكأنها امامي على الرغم حتى وان اخفيت عني قسراً، ولو كانت معي حتما سوف تدلني الى بعض مرادي.
[50]* كما ذكر عمي جاسم بان أصل المثل هو "إذا كبر السبع بالت عليه الثعالب"..
[51]* ذكر لي العم جاسم ان للنهر قبل تعديل مساره من القنطرة التي انشأها خليل باشا وحتى ناحية بهرز حوالي 32 انحناءة. مساره كمسار افعى تموج في زحفها.
[52]* الطعام المخزون من الصيف الى الشتاء او العكس
[53]* يعتبر جمع الحمام الزاجل من بين أهم هوايات التسلية.
[54]* الوصف خاص ببناية "توراة" مدينة بعقوبة الكائن في المنجرة..
ذات يوم افتضح أمر "سعيد" ابن عمي، ولم يدع "أبي" الموضوع أن يمرّ بسلام عليه، من دون معاقبة. خاصة بعد أن اشتكاهُ "ماجد ميخائيل" أمامي، وقال بصوت عال..
- "إن كنت تقبل له ذلك فعلى الدنيا السلام"
إذ كان مهووساً بسرقة ملابس النساء الداخلية من على حبال الغسيل.. لقد أمسك به "ماجد ميخائيل" أثناء تسلله داخل سياج بيتهم، وأشبعه ضرباً إلى درجة أن الورم بان حول عينيه، ولم يتدخل أحد بذلك الشأن ولم يلمه لائم.. وكذلك نال علقة أخرى عندما علم "أبي" بعمل ابن أخيه المشين، وربطه بسلسلة الكلب إلى الشجرة، ولم يطلق سراحه.. بقى بكاء "سعيد" يصل إلى آخر المحلة، ولم ينفع مع "أبي" أي رجاء من أي كان. حتى جدتي لم تستطع لأن "أبي" كان يصر على معاقبته بهذه الطريقة القاسية إذ جعله معلقا من قدمهِ إلى الشجرة ورأسهُ متدلٍ إلى تحت.. بقيّ "سعيد" لساعات في حال يرثى لها، ولم يجرؤ أحد على إطلاق سراحه من قبضة "أبي"..
كان "سعيد" يكبرني بأكثر من ست سنوات، وكان يرسب في كلّ مرحلة دراسية، رجلٌ بالغُبشاربين كثّينِ.. وظل يشهق كالحمار يترجى عمّه بالعفو عنه، حتى بعد دم أختلط بالدمع..
وأقرّ لهُ أين يخبئ مسروقاته، وطلب من شقيقه "فؤاد" إنزال الكيس الذي كانت فيه تلك الحاجيات، مكان خفي فوق "بيتونة" بيتهم.. بعد ذلك بقليل، جاء فؤاد بكيس، وعاود ضربهليجعله يتعهد التوبة.
- حتى "تِبان"[45] ابنة خالتك يا عديم الشرف!
وما جعل زوجة عمي تأتي لتحرر ابنها، وتشتم "ابي" أمامنا جميعاً، فاضطر إلى ضربها ليسكت صوتها المجلجل،حيث لم يأت معها "عمي" الذي غضب من شقيقه غضباً شديدا، (لم يستوجب كل تلك القسوة)، كأنها بادرة جعلت علاقته بشقيقه تنقطع الى الأبد، ولم أعهدهما يوم جلسا معا في مكان واحد، مثلما كان عملهم مع ابيهم في السينما يجمعهم، دائماً عمومتي متنافرون، ولم يصادف الحظ أيّاً منهم أن يلتقي بشقيقه، كبقية خلق الله إلا ما ندر.تلك الفجوة ذاتها بينهم أبناء عمومتي وآبائهم. بالرغم من أن جدي كان وحيد أهله.
***** ***** *****
كان "عزيز شلومو" ولداً نابغة زميلنا في دراسة مرحلة المتوسطة، يقول:
- "بأنهم سوف يرحلون بعد أن يحصل على شهادة المتوسطة في الصيف القادم"..
هذا ما سمعته منه شخصياً، وكأنه كان يحدث نفسه.. لم أصدق ما سمعته ومن النادر أن تتحرك شفتاه..
كان الولد نظيفاً جداً، وأنيقاً.. لكنه كان منطوياً، ولا يتكلم مع أحد بسهولة، يخاف أن يرفع صوته، ولا يبقى في غرفة الدرس أثناء الاستراحة، ولا يترك الممرّ إلا بعد أن يسمع الجرس، فيدخل مع الداخلين إلى غرفة الدرس.
كنت أراه خائفاً، ويخفي رعبه منا جميعاً، لم أحاول الاقتراب منه، بقدر ما كنت أحاول متابعتهُ عن كثب فربما يحتاجني، فأتصدى لكل من يحاول مضايقته.. كنت أظن بأن زملاءنا هم السبب في وضعه النفسي هذا، فهم يحاولون النيل من ولد ضعيف بينهم. لم أفهم ما معنى أنه من دين غير ديننا، وهذا ما جعله حبيس خوفه من زملائه. يرفض الخروج من حصة درس التربية الإسلامية، كي لا ينفرد وحيداً في ساحة المدرسة. يبقى يشارك كبقية التلاميذ في الحفظ والتلاوة والشرح.. من "القرآن الكريم" و"الأحاديث النبوية".. كان يحفظ جميع الآيات التي درسناها، وكان مدرس المادة يغضّ النظر عن بقائهِ في غرفة الدرس، حسب توصية المدير الذي كان صديق أبيه..
- "يعرف عن دينكم أكثر مما تعرفون.. أيها الكسالى"..
- (أتحمّل كل شيء إلا البقاء وحيداً خارج غرفة الدرس)..
في بكلوريا الابتدائي جاءت نتيجتهُ 100%، المتفوق على مدارس العراق، كذلك سيكرر النتيجة في بكلوريا المتوسطة أيضاً. إذ كان يتمتع بموهبة الحفظ والفهم السريع، وكان مستعداً أن يعيد كتابة صفحة كاملة من أي كتاب بعد أن يقرأها لمرة واحدة. كنت معجباً به، وأتمنى أن يتحدث إلي في يوم من الأيام، ولكنه بقي منزوياً لا يسمع منه صوت إلا إذا وجه إليه أحد مدرسينا السؤال، فيتكلم ببطء وبصوت ينمّ عن ثقته العالية بنفسه. وكنت أحس بأن أغلب الزملاء، يغارون منه، ويتشاورون عليه، وأحياناً يرمون عليه بقايا قطع الطباشير الزائدة.
ذات يوم كان في إجازة، طلب المدرس من أحد زملائي أن يتحول إلى أمام في المقعد الذي يجلس عليه "عزيز"، فرفض ولما طلب منه المدرس توضيحاً بعدم طاعته، أجابه، بأنه مكان " يهودي نجس"، ولم يعلق المدرس على ذلك الموضوع كأنه موضوعٌ لا يقبل الجدل، فقمتُ من تلقاء نفسي بعد أن استأذنته، وجلست في مكانه، لم يعلّق المدرس بشيءٍ حتى انتهاء الدرس، وجاءت الاستراحة، قال لي أحدهم يجب أن تغتسل جيدا قبل أن تتناول طعامك، فأنت جلست في مكان "اليهودي"، وضحكت ساخرا منه وبصوتٍ عال، وتركني لا يعرف كيف يردّ على سخريتي منه.. بعد أن نظرت إلى أظفار أصابعه الطويلة المتسخة، والى القذى الذي في عينيه، والى وجههِ الذي لم يطلّه الماء منذ أسابيع..
***** ***** *****
صديقي "الراديو" كان يسمعني برنامج "نافذة على التاريخ" الذي كان يبتدئ بموسيقى هائلة لم أعرف بأنها لـ"موزارت" إلا بعد حين... من إذاعة دولة "الكويت". اصغي جيداً الى مقدمة البرنامج الموسيقية حيث تنقلني عبر بحر من الأمواج المتهاديّة.تجعلني ذلك العائمٌ فوق موج من الكتب العظيمة. كنت في زورق صغير أحاول الثبات بينتراقص الأمواج. مفاتيح كتب فيها روائح بخور من كنائس منيفة مرتسمة على الابعاد، طقوسٌ ترهِبُ،تعصفُ بالأوصال، برنامج يحوي رفوف كتب مليئة بالمعارف، موسوعات لمختلف الموضوعات والتخصصات.. قصص تاريخية من متون لم تطلها عيني، ولم تلمسها أناملي، وتعرفني بشخصيات كلما أثارتني تلك الفتوحات في أعماق السطور الدفينة.. أبطال ثائرون يحملون مشاعل لتنير دروبهم إلى حريةيفتقدونها. ذلك الهدوء سيأتيبعاصفة من رغبتي،وأجدني تأهبت في اليوم التالي في المكتبة العامة للبحث عماتبقي منها، في ألواح ورقائق سرية مطمورة.
كذلك وجدتني اسبح في بحيرات برنامج "من الذاكرة"[46] كانت مقدمته مقطوعة "شهرزاد"، والذي كان يخوض في قصص عباقرة الغناء العربي وملحنيه.. يتابع بجهد مبدع، مفارقات اللحن الجيد، ويكشف طبائع العبقرية الفنية الإنسانية، وكيفية تلاقح الثقافة الشرقية بالثقافة الفنية الغربية. أصغي بخشوع إلى تلك الأنغام المختارة، والموضوعات الأنيقة البالغة التأثير، فأجدها مخزونة بين طيّات الذاكرة الطرية، وستبقى فيها ابدَ الدهر.. في يوم الجمعة.. تأتي الأغاني التي أبحث عنها تباعاً..اما بقية الأيام يكون النهار لأتابع بهبعض الموجات القصيرة التي تبثها الدول البعيدة. وفي الليل كنت أسمع المقام العراقي وبعض الأغاني الكلاسيكية العربية، وأتوقف كثيراً عند الأوبرا التي تبثها الإذاعات الناطقة بغير العربية، ودون أن أفهمها، وصرت أكتب اسم الإذاعة في قائمة فيها رقم التردد، والموجة، والساعة.. على ورق سميك وأحشرهُ في حافظة الجهاز الجلدية، وكنت أرى "أمي" غالباً ما تقرؤها، وأحياناً كانت تسمع معي بعض الأغاني العربية التي تروقها.
كانت تقرأ في بقية دفاتري، إلا إنها لم تكتشف طريقتي السرية بواسطة الآلة الكاتبة، وتركت ملزمة الأوراق، ظاهرة للعيان.. مع كتبي الدراسية، وكنت مطمئناً عليها من أي فضول.. ذات مرة كتبت في ورقة، وتركتها ظاهرة للعيان (صديقي ماركوني "25 أبريل 1874– 20 يوليو 1937"، لقد أسهمتمبدعا في اكتشاف الموجات كهرومغناطيسية التي أوصلت اختراع الراديو، وسبق لك ان جعلت من الإبراق اللاسلكي، يتبادل بها الاحباب اشواقهم.. اعلم أنك ولدت في "إيطاليا" من أسرة غنية، واعلم كم طوّرت اختراعاتك، وذهب بها إلى "إنكلترا"، وسجلتها هناك وأنشأت شركات عملاقة بفضل عقلك النير، أرسلت، واستقبلت بنجاح الإشارات الإشعاعية على مختلف المسافات. أرسل عام 1901م إشارات عبر الأطلسي، فكان يوما عظيماً في تاريخ الاتصالات اللاسلكية ويؤسف أنك توفيتفي روما ولم احظ بمقابلة منك). وجدتها امي تقرأ فيها وتضحك كثيرا. قلت لها: عجبت من أن إذاعة "اورشليم القدس" تفتتح برامجها بآيٍ من الذكرِ الحكيمِ![47] ..
***** ***** *****
أول مرة كنت قد شاهدتُ فيها "اليزابيث"[48] كانت بصحبة جارتنا "كرستين"، اثناء تجوالهما في حديقتهم. حيث كان شباك غرفتي يطل مباشرة على مساحة ورد عطرها لا يهدأ.. نهارا كان او ليلاً.
ثم شاهدتها في المرة ثانية كانت بعد أشهر عدّة، ومن خلال الشباك في الحديقة، سعيدة بزواجها، وكانت تواصل العزف بمهارة على آلة الكمان مع "كرستين"، بَدت متألقة جداً، عيناها مضيئتان وضحكاتها تتداخل بالنغمات، كأنها الرقصة المكملة لتلك المقطوعات الرائعة.لم يكن أحد مثلي مهتمّا بصورة شلال ضوء ينثُّ سحره.
في المرة الثالثةِ شاهدتها تحمل ابنها وتجولُ بين غرف المستشفى بحثاً عن طبيب ينقذهمن تسمّمٍ حاد، وجدتُ لها صديق والدي الذي يعرف اين مكان استراحة الأطباء.
وفي المرة الرابعة رأيتها تلبس الأسود، وبيدها منديل تكفّ به دمعها، وبضعة نسوة مُتحلقات حولها، وهي تتلقى العزاء في زوجها الذي أعدمته الحكومة، بسبب التمسك بانتمائه السياسي. كنتُ اتهرّب من مواجهتها، رغم أني أودّ رؤيتها كل لحظة، ولم أستطع حتى أن ألمّ بتفاصيل قصتها، وأخبارها الدقيقة، يكفي ان يطرق أحد اسمها حتى تحتقنُ أوداجيّ، ويثقل لساني واوصالي، كنتُ اعْرِضُ عن هيبتها عندي. اما في المرة الخامسة جاءتني "كرستين" تخبرني عن موعد عرض مشاركتها في التلفزيون مع الفرقة السمفونية الوطنية،وجعلتني أرى صوراً فيها "اليزابيث" تظهر في لقطات عدّة معها، ومتألقة كعادتها. أما في المرة السادسة فقد كانت بصحبة ابنها لتسلمه الى بيت جده، وكانت تبيّت نيّة لزواج جديد. كان ذلك آخر ما سمعته عنها.في ذلك العام تخرجت "كرستين" طبيبة أسنان، ثم تزوجت من زميل لها، وابتعدت عن جيرتنا ساكنة "الموصل" مع أهل زوجها. ولم تعد تعاودني تلك المشاهدات.
***** ****** ******
قال سعيد ابن عمي:"لم يكن "ماجد ميخا" نبيهاً لتلك الدرجة حتى يضبطني داخل سور بيتهم، ما لم يكن هناك واشّ نبههُ أني سوف أعبر من أجل تبان "كريستين" الجميلة.. لكنت حظيتُ به كما حظيتُ بغيره، وانتهى الموضوع بسلام".اخترت الظهيرة، بعد أن خدعني الهدوء، ولم أعرف أنه فخسوف يوقعني بين قبضتي الملاكم المحترف. فما إن نزلت من السور الى الحديقة، ولمست "التبان" تلقيت على وجهي لكماته السريعة، والقوية. حتى فقدت الوعي. لم أجد نفسي الا مسحولا، وبين قبضة اشد منها. كنت اتوقع "عليعطابة صبي السينما"، هو من وشي بي وصار يشمت بي، حيث سمع ما دار بيني وبين "جودي الحلاق.. (بقيت ُ أكتب على الآلة دون توقف).. قبل أن يتوفى "عبداي الحلاق" كان "جودي" يعمل عنده صبياً، ويتمرن بمهنة الحلاقة، وعندما اكتشف زبائن المحل شذوذه في غيابه، فأخبروه بحقيقة "جودي"، وطرده دون أن يفضح أمره. وبدأ من الصفر، فتح محلاً في مكان منزوّ من المحلة، يحْلِق للشبان بثمن زهيد، وكان يلتقي عنده أغلب العاطلين عن العمل. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون رقابة).. كان يعرف جيدا كيف يخفي رغبته، ويقتنص ضحيته. يتأكد جيداً من زبونه الجديد، قبل أن يتحسس له "عضوه". إذ صار خبيراً بهكذا أمر، وأي خطأ منه يؤدي به إلى الفضيحة، مثلما حدث له قبل سنوات في محل "عبداي" رحمه الله. بقي حذراً ليستطيع أن يتواصل مع مهنته التي تأتي له بالمال، ويشبع رغباته.. صار "جودي" يعرف جيداً بالزبائن الذين يراجعونه بغرض الحلاقة أو بغرض آخر، واتخذ غرفة سرية من ذلك البيت الذي استأجر منه المحل، فعزلها عن البيت، وفتحها من جهة المحل. ثم أخفى بابها بقطعة خشبية متحركة، لا تكاد تبين للناظر، فأصبحت غرفة مُعتمة للمجون، لا يستخدم فيها إلا الضوء الأحمر. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون رقابة).. لقد تمرس "جودي" جيداً بغرائزه، بعد أن ابتعد عن هواية جمع الحمام، وتشابكاتها غير المجدية. صار صاحب محل حلاقة معروف، وكثر زبائنه من الشباب استطاع أن يحوز على احترام الجميع، وكان كريما، سخيّاً مع المحتاجين، والشباب الذين أهلهم من اصحاب الدخل المحدود، أوالذين يأتون إليه، وأهلهم قد قننوا عليهم المصاريف أو الذين أصلا بلا مصروف. فقد خفض أثناء الأعياد، والمناسبات أجرته إلى النصف، مما زاد زبائنه، وصار من أشهر حلاقي الولاية.. (إضافة: كان يساوم في بيع وشراء تلك الملابس المسروقة من حبال الغسيل حسب أسماء الفتيات ورصيدهن من الجمال)
تَمَتَعَ الحلاق بلسان حلو، وصوت يتطبع بالليونة، وليس فيه أية خشونة، رجولية. كان يعتني جداً بشعر رأس الزبون، استطاع أن يماشالطرازات التي تظهرها المجلات الحديثة المختصة بأخبار الفنانين، فكان محله الصغير لا يسع؛ إلا لزبون واحد يجلسه أمام المرآة، على كرسي خاص بالحلاقة، ومكان في الخلف يجلس عليه ثلاثة زبائن، أما الباقون، فيتركهم يذهبون ليقضوا أعمالهم، ثم يعودون إليه بعد أن حجز كل منهم دوره.. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون رقابة).. كان هذا ظاهر "جودي" أما باطنه فهو يخفي كائناً، ودوداً، ناعماً. يحب ارتداء ملابس النساء الداخلية. وقع في شباكه بعض الشباب المكبوت جنسياً، والذين بحاجة إلى المال وقد أشار عليهم سرقة الألبسة الداخلية، رغبة "جودي" بأن يرتدي إحدى تلك، ويضطجع بها مع "أحد الضائعين" في سرير ماجن يحوطه اللون الأحمر، ويجزل للفاعل العطاء. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون الخوف من رقيب).. وفي كل ليلة، يسمي "نفسه" باسم صاحبةَ القطعة المسروقة..
***** ***** *****
- لماذا تلبسين الشال على الرأس أثناء الصلاة؟
قالت بأن الصلاة تعني الوقوف بين يدي الله، والمؤمنة تغطي شعرها مخافة من الله، فقلت "ولماذا ترفعينه عن راسك بعد الانتهاء من الصلاة. لم تجبني، "وهل تعتقدين بان الله سيذهب عنك بعد إكمالك الصلاة"..
ثم هربت منها، خوفاً من ردة فعلها، ولكني كنت أريدُ الإجابة عن كل سؤال يحضر الى الذهن، حاجتي الى الإجابة تكبر، "كيف يطلب الخالق من امرأة أن تغطي شعرها وهو من أعطاها الشعر؟إن كان شعرها عورة، فهل عورة المخلوق تثير الخالق العظيم. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة، دون مراعاة لمقص الرقيب).. ذلك جعلني أفكر بماهية الشارح أن كان ذكرا أو أنثى. كيف تدوم قوانينه البشرية المنحازة إلى الذكورة، والقاصية للأنوثة. (حتما سوف اخترع شخصية أستطيع مناكفتها في موضوعات حساسة، عقلانية كي أناقشها، فالتاريخ تستفزه المناكفة، كونها تستمر الحفر فيه عميقاً حتى تبين حقائقه)..
***** ***** *****
صار عندي هوس اسمه مواصلة العزف على تلك الآلة الساحرة، فكنت كلّما أستمع إلى مقطوعة أتخيل تنقلات أنامل يدي الشمال على أوتارها، وأين تزحف على تقسيمات عنقها الذي يشد إليه الأوتار. صرت أحرك يدي الفارغة في الهواء متخيلاً كيفية اللعب على الأوتار المفترضة، كما الحالم. يشتدّ ولعي كلما استمعت إلى مقطوعة في الراديو، أترجمها في ذهني إلى نغمات الجيتار، فصار النغم يجري في عروقي، ويزاحم ذهني. وكنت أثناء استذكاري لدروسي لا أطفي الراديو، أجعله معي، يصدح بما تسمعنا إياه الإذاعة. أذهب عميقاً في همّ جديد اسمه الشغف بالموسيقى..
أوصلني "صفاء" إلى أوتار الجيتار، صار حلمي أن أحصل على واحدة، ولم أستطع.
لم يكن ليتركها لحظة، اذ كنت لا أستطيعحفظ موقع النغمة على الآلة، تبقى في ذهني ثم انقلها عبر الخيال كانهابين أصابعي. صارت فجوة مارقة، تحدّ من تلك النغمات الممسوكة بالأنامل، كنت أريد أن أمسك بها كما يمسك بها -هو- يعطيها حلاوة لا تُمل، تُغرق، تُسربل في الحلم، تطوف في الأثير. تثير نشوة كبرى. وتقطع الأنفاس، فتعطي أنفاسها العبقة بسرّ لا يدرك. كان عزفه يوصلني إلى جوهر اسمه، رفض. (أُلقِمُ الورقة تلو الورقة وأكتب على الآلة الكاتبة دون رقابة).. عصر تحولات في منظومات الفكر والمعرفة.. عصر انتماءات، وولاءات يتصارع عليها الكثيرون، فالقوي يريد أن يحقق وجوده على أرض أي ضعيف آخر.. تتطاير من الأفواه كالمطر مفردات القومية، والأممية، والوحدة، والعالمية، الامبريالية والشوفينية، الطبقة العاملة، والاشتراكية والقومية.. المادية والروحية، الديالكتيك، الماركسية، العلنية، السرية، الوحدة، الحرية، الاشتراكية، يا عمال العالم اتحدوا..
في حوض المتوسط بين أبناء الأمة العربية الواحدة تختلط الشعارات، وتنفلت الرغبات، وأندفع منتمياً الى الموسيقى التي تبلّ العروق.
أغلب الناس من حولي صارت تسعى إلى الانتماء لحزب معين، وكنا نصرّ على معرفة شعاراتهم، وطبيعة المنتمين اليها.. (حزب القوميين العرب. نبيهم "جمال عبد الناصر". حزب الشيوعيين. نبيهم "لينين". حزب البعث العربي الاشتراكي. نبيهم "ميشال عفلق").. أسمع من الساخرين (إن أمطرت في موسكو فإن الشيوعي- هنا- سوف يستخدم مظلته، حتى لو كان يوم صحو) ...
***** ***** *****
كشفتُ العريّ الاول منذ أن تهشّم برواز صورة "آدم وحواء"،عريُ الحكاية الأخرى التي غطت الصورة بصورة. أبوان يحملان طفلاً عمره لا يتجاوز العام، ومعهم "يهودا". صورة ملتقطة قرب تماثيل ملائكة عارية تتوسطساحة ما في إحدى شوارع مدينة لم أشاهدها حتى في الأفلاملأ49[.
وبعدها أيضاً لم تهدأ المناوشات الكلامية بين "أمي" و"عمتي"، وكانت "جدتي" تتذمر مما يحدث بين ابنتها، وكنَّتَها.. تلهيني في غرفتها، لا تريد رؤية ذلك الانكماش على قسمات وجهي، كنت أشعر بذنب ما حصل بسببي، تبدآن باسمي، وتنتهيان به كذلك، ولم يكن بوسع "أبي" أن ينصر زوجته على أخته او اخته على زوجته ومن المستحيل التوفيق بينهما، وكنتُ بين الجميع لا أدري أين تحل بي القدم.عندما تبدأ حفلة البكاء التي تذيب القلوب، وتفتك بالسامعين، حيث يضفيَّ التوتر عبرة خانقة لا يستطيع الفرد منا التنفس، حتى فعزم "أبي"، و"أمي" أن يشتريا البيت الذي يقابل بيت "العمة أمينة"، ويجاور من الخلف بيت "ميخائيل".
قررت "أمي" أن تستعين بشقيقها الوحيد، الذي استدانت منه نصف ثمنه، وكان مشترطاً عليها تسجيل ذلك النصف باسمه في دائرة العقاري لحين إيفاء الدين، وقبل والدي بذلك. بعدها مباشرة انتقلنا إلى البيت الجديد.. كان للبيت خمسُ غرف قديمة مبنية بالطابوق الأحمر، وسقوفها من جذوع الأشجار، وتتوسط باحته الواسعة شجرة توت أحمر مثمرة، غرفتان مهدمتان... قالت لي "أمي":- اختر أية غرفة من غرف البيت وضع فيها آلتك الكاتبة، وسوف أشتري لك منضدة وكرسياً. فاخترت الغرفة القريبة من الباب، والتي كان فيها شباك يطلّ على الشارع، وفيها فتحة عالية يبدل منها الهواء..
***** ***** ***** *****
- "إذا شاخ السبع عبثت بذيلهِ الثعالب "!! [50]
كأنما المدينة تحدثت نيابة عنه، لأنه لم يُغيّر خَندقه بزمّ شفتيه عن أيّ كلام، إذ نأى بنفسه عن كشف الحقائق، فقد كان العارف الملمّ بدقائق تلك الحوادث المثيرة للجدل. انزوى في صمت حزن قاهر.
ليته يسرد بعض أسرار سيرتها من بعد أن احتكم على مفاصل حياتها، منذ أن ولِدتْ بين يديه ونشأت تحت عينيه؛ إذ رأى مفاتنها المجبولة بسحر القداح. نزلت على شاطئه الأخضر بعنفوانها البهي. بقي شاهدها، العارف بالتفاصيل الدقيقة التي شكلت نشأتها، منذ أن وهبها ماءه، وعَلَمَ انسانها كيف يجبل اول لبنة، وتُصف بأساس اول بيت له سقف على احدى ضفافه، صمته يشوقني لتفاصيل الاحداث الجلية، أو الغامضة منذ الأزل.
لكنه بكل عنفوان تمترس في حكمته البليغة، وراء سعة الصمت العظيم، سعة أجهلها؛ لأجل استنطاق الحجر، والمعرفة. يدرك أن صمته نعمة أكثر بلاغة من طبيعة طموح البشر الذي بات متبصراً في أعماق إنسانية الإنسان، وبعد أن بَطُلَتْ المفاهيم القديمة، ودخلت طور إعادة النظر منذ أول لبنات التشكل المعرفي، بعد أن شوشت عليه الأوهام أكثر من الحقائق، ومزقته، وأزاحته عن جدية سبر أغوار هذا الإرث العظيم. بودي أن أسأل الضفة هذه عن أختها، وأن أروي فضولي بمعرفة بعض مما جرى..
دون أن يكشف سرّها، بقيّاللسان مترفعاً عن النطق، لأن نطقه عواصف وزلازل، وأشياء أخرى بعدد المصائب التي دفنها التراب، والنسيان، والعجب العجاب. نهرٌ المدينة الذي احتضنتهُ الاسرار حتى سار بصمت بين مفاصلها..نهر؛ بقيَ يأخذ ضحاياه بمباغتةٍ سريعة، على حين غرّة، وكأنه يقتنص السذَّج حتى ويبلعهم بصمت، ولا يترك فرصة لطلب النجدة، ولن يجدوا للغريق أية جثة طائفة قد تظهر في مكان ما.. لأنها تُحْتَجَزْ في الأعماق، تحت تلك الجذور القوية لتلك الأشجار، ينحت حوافه بقوته الجارفة. نعتوه بـ"الخَرَسْ"، إذ غالباً ما يفيض، بغفلة عنهم، ويغرق كل سراديب البيوت التي حوله، والقريبة منه. يغدر بصمت؛ مرة سمعتُ عمي "جاسم" يقول: - "اسمه "خْرَيْسانْ" وليست له أية صلة بمدينة "خُراسان البعيدة".. لا من بعيد ولا من قريب، وليس منبعه منها، ولا مصبّه فيها". جاءت تسميته من "الخَرَسْ: أي عدم النطق"، و"خْرَيْسانْ" من صفةُ "الأخْرَسْ"، لأنه كان عميقاَ جداً، ولا يمكن السباحة فيه بيسر، ما لم يكن ماهراً، ويعرف جيداً دهاليزه. ففي أعماقه تشابكات متينة، من جذور الأشجار الكبيرة المزروعة حوله. فكانت تحته تمتد شبكة عريضة ومتينة من الجذور. أغلب أبناء مدينتا بفضل الأنهر العديدة، كانوا من السباحين الماهرين، يعرفون أسرار، وخفايا تلك التشابكات المتواشجة في الأعماق. بعضهم كانوا يدخلون غوصاً تحتها، وينتشلون الجثث الضائعة والعالقة. على الرغم من ان النهر كان يبدو مسالماً حيث يغري الضيوف والغرباء على حدّ سواء بالسباحة فيه، يخيل لمن لا يعرفه؛ نهر هادئ، غير عميق. كما يبدو للوهلة الأولى، ومن السهولة الوقوف في وسطه وقدميك تلامسان الأرض، لكن ذلك لن يحدث مع مجرّب وأغلب ضحاياه مارس النهر عليهم خداع البصر، وحيث لا يكشف الحقيقية عن عمقه مثل بقية النهران، سرعان تنزلق الأرجل لتدخل بين فخاخ جذور متينة، متاهة الجذور المتشابكة، حيث لا يتملّص منهاوالصعود نحو سطح الماء للتنفس. إذ تبعد الضفة عن الأخرى أكثر من خمسة وعشرين مترا، وفي أقل تقدير عشرين متراً، فالأماكن التي ينعرج النهر وينطوي مشكلاً انحرافات تشبه الخطوط البيانية.[51] في السابق امتدّت حول النهر الذي ابتدع أشباه جزر، محميّات طبيعية ذات مساحات صغيرة، كل جَزْرَه حوّت أربعُ أو ثلاث بيوت على ضفتي النهر، وكأنما قد لم يأت من مكان بعيد، ولكنه قد خرج النهر من بين البيوت متهادياً تظلله مئات من الأشجار المعمرة.
وبقيت من حوله تلك البيوت القديمة وصل عمر البعض منها أكثر من مئتي عام. تعود ملكيتها إلى عوائل سكنتها بالتوارث، باتت متروكة بعد أن آلت للسقوط بيوت صغيرة متراصة جنب بعضها البعض، تبدو وكأن النهر يحوّطها من كل جانب! بيوت قديمة قد هجرها أهلها خاصة بعد أن تعرض أصحابها الى اعتداءات مباشرة من قبل قرويين هجموا عليها من القرى والضواحي المحيطة بمدينة "بعقوبة"، بات خيار ناسها الرحيل الى أجل مسمى، بعضهم لم يرتض البيع بثمن بخس، "لا يساوي ثمن عربة وحصانها" كما كان يقول "نعيم فلفل" "ما دامت تلك الأملاك مسجلة في دائرة "الطابو" فهي ملك صرف لأصحابها، ورثتهم، فمنهم مَن رحل ومنهم مَن بقي يعتقد بأن رحيله حرام، وعليه أن يبقى في بيته حتى المنية. والرجل كان تاجراًوصاحب ورشة كبيرة تتوسط "خان اللوالوه"، يُصنّع فيها مسلتزماتالعربات التي تنقل الركاب وتربط المدينة بضواحيها وقراها، عربات قوية تجرّ بالحصان، (جرى التآمر عليهم من قبل منافسيهم في السوق"، أو من كان يعمل أجيرا تحت أيدهم وغدر بمن تعلم منه المهنة). او ضحية ترويع غيره حتى يشتري منه بيته بـ"تراب الفلوس".. بينهم من اعتصم في أملاك تعود لغيره متعهدا المحافظة حتى عودته، وبعد إسقاط الجنسية. استملكت تلك المعامل والورش بوثائق مزورة لمن استطاع ان يبتلعها وكما جرت بعض الأعراف.
سمعت "أبي" يروي حكاية "ليلو" الصبي الذي كان يعمل في ورشة "نعيم فلفل"، تسلل ليلاً الى بيت صاحب نعمته، الذي كان يعيش وحده في بيته المطل على نهر "خريسان"، كان للبيت حديقة محاذية للنهر، عبر النهر سباحة، ومنها تسلل إليه، ثم خنقه بواسطة حزام من بين الأحزمة التي كانت تنتجها الورشة، وسلم نفسه، ثم حكم عليه بالسجن، وتبين فيما بعد أن الخال "علي دخان" هو الذي كان المُحرّض على تلك الجريمة، والتي استنكرها أهل المدينة. بقيت القصة سرّاً حتى خروجه من السجن، وبعد قضاء مدة الحق العام، واختلافه مادياً مع خاله. فضح تفاصيل الاتفاق بينهما.. بعدها استحوذ الخال على ما تبقي من أموال فلفل التي كانت جميعها مخبأة في جرار مدفونة تحت الورشة، بعد ذلك ترك الورشة يعمل في تجارة التبغ بعد أن اشترى دكاناً صغيرة، توسعت تجارتها مع الوقت وبات من بين أكبر تجار المدينة.
وعندما تقرر أن يكون له مسار مستقيم جديد بديلا عن المسار المُتعرّج، لإعادة تنظيم المدينة وجعلها جديدة، ثم استقدموا شركة مقاولات هندية تقدر على احداث التغير الكبير.. لتحقيق مسار مستقيم وجديد، وعلقت الرقعة في بداية المدينة وأخرى مشابهة في نهايتها: - "مشروع إعادة ترسيم مسار نهرخريسان"، وراحت تختصر التعرجات العديدة، ليتسنى استحداث شوارع جديدة محاذية للنهر، قال احد العاملين، بعد أن قيست المسافة السابقة لمسيرة النهر- وجدوها تفوق مسافة استقامته، بأكثر من ثمان مرات. بعض البيوت تبدو وكأنها بنيت في وسط النهر ويحوطها الماء من ثلاث جهات. نهر عميق جداً، وفي كل موسم سباحة يأخذ من الأولاد عدداً لا يقل عن العشرة من كل عام.
في السابق كانت تلك البيوتات الصغيرة متراصفة حوله، تطلّ عليه، بأبوابها أو بشبابيكها، ومن المستحيل أن تمر عربة قربه، دون أن تتعرض للخطر. لأنها تكون قد اقتربت كثيراً من حافة النهر، ومن الصعب أن يتابع مساره بمدّ البصر، بعد أن حوطته من الجانبين الأشجار العملاقة، وظللته بفيئها الدائم. المتنوعة الأحجام، من أشجار "السدر" العالية، و"اليوكالبتوس" المتينة، وأنواع أخرى مُعمرة مثل "التوت" بألوانه، والزيتون بأنواعه، واشجار ثمرة السدر بأنواعها. تينٌ بأنواعه كذلك إضافة إلى الكثير من الحمضيات وخاصة "النارنج" بأنواعه، وبعضه كان مركباً على "برتقال"، و"ليمون" بنوعيه الحامض أو الحلو، والكثير من الأشجار المزهرة كالرمان، والزعرور، والمشمش. بعضها أشجار معمرة وعملاقة قد يفوق قطرها المتر وأكثر. متراصة حول خصره يشطر المدينة الى محلتين كبيرتين هما الـ"سراي" في الضفة الغربية منه، والـ"تكية" في الضفة الشرقية.
تَطَلَّبَ أولاً أن يشقوا للنهر مجرى بشكل مؤقت، وتم تحويل المجرى الجديد الى مستقيم، وبجانبه على مسافة أمتارعدة، شقوا للنهر مساره الجديد، وعبد باطنه بالخرسانة والحديد. بعدها قاموا بدفن التعرجات التي كانت في مسار النهر. ومن بعد أن كانت ضفافه القديمة من الطابوق والاجر العثماني، تغيرت الى خرسانة. ويوم أطلقوا الماء في مساره الجديد، سمع صوت هدير الماء، وكأنه قد قال كلمته بأنه لم يعد ذلك الاخرس.
إذ راحيهدر سريعا، ومتخذا شكله الجديد من قنطرة "خليل باشا" وحتى "مقبرة اليهود". ربما تلكأ العمل فيه لأكثر من سنتين بسبب عوامل عدّة، أهمها أنهم لم يعتمدوا على ذوي الخبرة.. حتى عهدوا بمدير جديد للمشروع سلمت الى المهندس المقيم "جوزيف راجي"، الهندي الجنسية من مدينة "كلكتا". والذي ما أن باشر العمل دون توقف بهمّة كبيرة فاستطاع بخبرته تحويل المجرى في ظرف أشهر، بعد أن استعصى على سابقيه. اذ شطر الأمكنة الملتوية بخطّ افتراضي مستقيم.
***** ***** ***** *****
بدأت الجرافات في جرف بقايا تلك البيوت، التي تقع في محلة "التكية".. سرعان ما انكسرت تحت أحد تلك البيوت ثمانية من الجرار الفخارية الكبيرة المدفونة، أو المخبأة في أحد السراديب، إذ كانت أغلب البيوت مجهزة بسراديب باردة، ومنظمة لها فتحات تهوية كبيرة، تطلُعلى الأزقة، بعضها تستخدم لخزن (المونة)[52]، وبعضها الآخر لنوم القيلولة أيام الصيف القائظ. كانت تلك الجرار مليئة بالليرات العثمانية التي كان أغلبها ذهبية، حيث لم يعبأ العمال الهنود، مثلما حدث مع الأولاد من مرج كبير يومها، اذ جمعوا ما ظهر على سطح الارض، وتلألأ تحت أشعة الشمس، وأنقضوا على المحتويات المتناثرة، من الجِرار التي تهشَّمَت تحت اسنان الجرافات، حيث لم يبق منها شيئاً، يُسلم للحكومة، من بعد أن اعتبر مالاً عاماً. حتى جاءت الشرطة لتنقذ الموضوع وجدت بأن المال قد نفد، وقد ضاع، ولم يعرفوا أين ذهبوا به. إلا إن "زيكو" الصابئ الذي كان يعمل صائغاً في إحدى محال الذهب، هو الذي اشترى اغلب الليرات من الاولاد، ودفع عن كل واحدة "عشرة فلوس"، وكان مبلغا مغريا يومها يعادل "زنبيلاً مليئاً بالخضروات والفاكهة والخبز".
وبعد وشاية الأولاد ببعضهم الى الشرطة، تمكنت من القبض على أبرزهم، واعترف أنهم باعوا كل ما جمعوا من تلك الليرات الى "زيكو"، والذي بدوره سَلّمَ للحكومة نصف ما اشترى.
***** ***** ***** *****
ما حدث في محلة "السراي".. يوم تجمهر الناس ضد قرار البلدية تضامناً ضد هدم ضريح الامام "أبو سيف"، والذي لم يترك أحداً من أبناء تلك المنطقة إلا وحقق له مراده بمشيئة الله.
كان الرجل فارساً يجيد استعمال السيف بمهارة، وقد شهد له بانه قد دافع به عن المدينة، وأهلها. وقاوم كل الذين أرادوا انتهاكها بسيفه الشهير، ويقال بأنه حسب وصيته طلب إن مات أن يدفن سيفه بجانبه، وكانت له هيبة عظيمة بين الناس حتى بعد مماته، وتبرع أحد التجار ببناء قبة فوق قبره دلت على منزلته الدينية الرفيعة، وأنه كان وسيطاً يحقق للناس مرادهم بمشيئة الله، وقد صارت الناس تلتقي تحت قبته..
يعود نسبه الى أحد أعيان المدينة اليهود. عشق امرأة من منطقة الـ"منجرة" من أصول مسيحية، أرادها تبرأ من دينها، وكذلك هو ايضاً تبرأ من دينه، واعتنقا معاً الإسلام، ليضمنا سلامتهما من طائفتيهما، واجتهد كلاهما في قراءة تعاليم الإسلام، وتفقَّها كثيراً في العبادات. صارا من كثرة تدينهما، يلمّان بأحوال وجوانب المسائل الشرعية، حتى صارا يجيبان على أسئلة الناس في تطبيق الشريعة. وكان للجامع بيت مجاور قد سكنا فيه، حيث لم يغادرا المكان. بيت توسط المدينة، وقد أحاطه النهر من ثلاث جهات.
يوم أن جاءت الجرافات لتحفر للنهر مساره الجديد، تطلب أن ينقل رفات "الإمام" الى مقبرة الشريف الرضي "ع". فأشاعت المدينة بأن "الإمام" لم يقبل بأن ينتقل الى مكان آخر، وفسروا تأخير المشروع، كل تلك المدة الطويلة.. بسبب وجود القبر المبارك. فكلما تقدمت جرافه كانت تتعطل بمشيئة الله، وتتوقف عن عملها، "يخرّ عنها زيتها" وسرعان ما تتحول الى خردة. كما شاعت حولها قصص مثيرة التفاصيل مفادها "أن الملائكة كانت تحرقها ليلاً"، لأنها تعارض مشيئة الله، لأن الله عزّ وجل قد اختار له المكان الذي يدفن فيه، ولا يمكن لأية قوة على الأرض أن تعارض مشيئته.
وعندما تعهدت الشركة الهندية أن تكمل المشروع، ووفق ما أرادت "وزارة التخطيط العمراني" في المدينة، عهدوا بالأمر الى أحد العمال الهنود المسلمين واسمه "رجاء الدين"، صعد الى جرافته دون خوف، بعد أن صلى ركعتين أمام الجميع، وانطلق يجرف المكان بحركة واحدة، دون أي تأخير، وكرف المحتوىوسار الى مقبرة الشريف دون توقف، حيث وضع ما حمله، في قبر جديد اعدّ لذلك الشأن.
يوم ذاك حضرت جمهرة كبيرة من أهل بعقوبة الذين تجمّعوا حول المكان، ليروا ما سيحل بالهندي، وجرافته. لكن أي شيء من ذلك القبيل لم يحدث. بعضهم بقيّ خائفاً لساعات، وبعض لم يستطع حتى ان يراقب المشهد من بعيد، اما البعض الآخر بقي يدقق عن كثب.
والعجيب في الأمر، لم يجدوا أي جثمان للرجل أو للسيف الذي في القبر، بعض الناس توقعت بأنها ستجد "الإمام" باقياً على حاله بدمه الذي لم ييبس أبداً، وكأنما قُتل قبل أيام، فهكذا طبيعة الرجال المؤمنين.
لكن بعضهم أشاع على الملأ؛ أن "البطل" طار الى السماء، ولم ينس سيفه، فأخذه معه...
***** ***** ***** *****
لم ينكر أحد ما حدث ل"عماد"، في نهار تلك الجمعة، عندما سرق له "نهاد نونو"زجاجة العنبة الهندية الحارة من صندوق جرافة "رجاء الدين" سائق الجرافة، وجدها مخفية في صندوق خلفي للجرافة، ذاتها التي استطاعت تحويل قبر الأمام. حيث معظم الهنود يحفظون مأكولاتهم هناك. تمكن "نهاد نونو" من فتح القفل، وسرقتها، ثم مبادلتها مع "حسنين" بزوجين من الحمام الزاجل[53] ، فقد كان الرجل يتمنى الحصول عليها وان كانت بثمن غال، ثم وفى بوعده ولم يتأخر لأجل أن يراهن عليها أنه يستطيع أكلها دفعة واحدة، ولن يهمه فلفلها الحاد.
واتفق مع "ابن خالصة"؛ إن استطاع أكلها لوحدها، أمامه. يسدد عنه دينه القديم أمام الجميع كاملاً، ويعتق نفسه من الإحراج الذي يلمّ به، كلما طالبه به مدينه.. كان "أبن خالصة" قد جرب العنبة تلك. ويعرف ماذا سيحدث له لو أنه فعلها، فكان قد تراهن عليه سراً.. مع أربعة آخرين من أصحابه بمبلغ يفوق المبلغ الذي سوف يدفعه. حيث بعضهم كان متعمداً لذلك الرهان حتى يحلّ المكروه بالرجل، والبعض الآخر كان يراهن حتى يستمتع ببقية القصة..
فغالبا ما كان "عماد" يتحدى الموجودين في المقهى، ويسكتهم بزعيق كريه.. بقي أغلبهم يتمنى فشله، وخسارته في رهانه البليد.
وما حلّت تلك الظهيرة، حتى أخرج العبوة من الكيس أمام جميع الحاضرين في المقهى، وتعهد الرجل أمام جميع الرجال، بأنه سوف يحقق وعده، ويدفع عنه دينه كاملاً. بشرط أن يتذوق منها بأصبعه، ويتأكد من أنها العنبة المتفق عليها. وراح "عماد" يتحدى بها كل أبناء محلة "التوراة".. الذي بقي يتخيل لوحده بأن الجميع يعرفون بطولته ولم ينكروا عليه قدرته على تحمل الشطّة الحادة الموجودة في العنبة الهندية الأصلية. وما أن رفع راح يعبّها الى جوفه دون توقف. ابتلعها كاملة، بعدها مسح فمه بكمّ قميصه كالأبطال. ولم تمض لحظات على ذلك حتى انتفخت اذناه، وتدليا كأذنيّ الفيل، وجحظت عيناه، وتحول لونه الى الأحمر الفاقع. وانتشر الانتفاخ الى كل جسده، كاد أن يموت منفجرا كبالون سعته لم تحتمل النفخ. ومهما حاول النهوض، سقط مغشياً لا حراك فيه.. فنقلوه الى العم "نجاوي"، وهو مساعد طبيب.. له خبرة واسعة، وما ان علم بالقصة استنتج "ضغط دم"، كاد أن يودي بحياته، ثم جرحه بمشرط حاد في رجله وخاصرته، وجعله ينزف، حتى ارتاح، وأوصى ذوييه أن يتدبروا له قدح من عصير ليمون حامض. بذلك استطاع إنقاذه من ذلك التهور. بقي "عماد" يبرر ما حدث له (أن الإمام "ابو سيف" قد وضع سخطه كله في قنينة العنبة التي أكلها بدلا عن الهندي "رجاء الدين)..
***** ***** ***** *****
وعلى حافة النهر، بالقرب من جامع "الشاهبندر" كان هناك أيضاً، ضريح آخر لم يقل شهرة عن غيره، ولكنه كان لامرأة فاضلة؛ عرفت بـ"الستة مومنيّة"، ويلفظونها برقم الستة، ولا يسمونها بـ"الست"، اذ تناقل الاسم أهل المدينة كأي أسم قديم، ولا يمكن تغيره، ويقال بأنه لأحدى المتصوفات المباركات، حيث لا يمكن تغير الأسماء خاصة الصالحين، والصالحات. ولم يكن للضريح قبة، سوى غرفة صغيرة، لها باب مشبكة بالحديد، ومقفولة بقفل كبير، وكلما كسر الاولاد العابثين القفل، يجدون في اليوم التالي قفلاً أكبر من سابقه. غرفة مبنية بالحجر. شباك ربطت عليه أشرطة من قماش أخضر، لم يعرف أحد في المدينة تاريخاً مكتوباً للسيدة الجليلة "الستة مومنيّة"، ولكن الناس تناقلت عنها الأخبار شفويا حيث بقي ضريحها يتمتع باحترام كامل، فأغلب النسوة التي تعكر حظهن في الزواج، ربطن شريطاً أخضرا كبقية الأشرطة، ليجدن في اليوم أن عقدتهن قد حُلَّت، وبعد حين قريب يأتيها النصيب. قالت إحدى النسوة لأمي، بأنها رأت تلك السيدة الفاضلة في الحلم، امرأةٌ بيضاء، طويلةٌ، كانت ترتدي ثوب عرسها الأبيض، وأوصتها إن جاء نصيبها، فعليها أن تترك لها بدلتها البيضاء في الغرفة التابعة لها بعد انتهاء العرس وانها سوف تهديه الى أولِ عروس فقيرة لا تقدر على مصاريف خياطة فستان العرس، وعليها هي الأخرى ارجاعه الى نفس المكان بعد انتهاء كل عرس، وشيئاً فشيئاً صار ذلك الفستان من أهم الفساتين، وصار يدور بين البيوت، بأنه فستان الفساتين، فستانُ البركة والمحبّة.. الذي تهديهُ "الستة مومنية" يجلب السعد لكل عروس.
مضت إحدى العجائز تحكي القصة التي سمعتها عن جدتها، بأن رجلاً مؤمناً امتحنه الله في ابنته البكر، فصادفها رجل من دين آخر، وتزوجته بعد أن هربت معه الى مدينة بعيدة، وطلب في صلاته من الله أن يهبه أولاداً مؤمنين، فوهبه خمسة أولاد، بدلا عنها، وكلهم ساروا على نهج أبيهم في محبة الله، ولكن الله سبحانه قد أعاد عليه الدرس، إذ رزقه بعدهم بابنة سادسة عظيمة الجمال، ولم يشأ الرجل إلا أن يسميها "الستة مومنية"، لتكمل الإيمان بالله وتكملهم، وقد خاف عليها كثيراً من عيون الرجال الآخرين، لأنها كانت فاتنة الجمال، وعندما علم بأنها قد نضجت الى سن الزواج، اذ تعلق فؤادها بشاب، أراد أن يتزوجها، لكنه لم يكن على دين ابيها، ولم يستطع الاب تغير عهد ابنته بكل السبل، وانها بقيت تلهج باسم حبيبها كالممسوسة. حتى قام بتكبيلها وحبسها في تلك الغرفة الحجرية، البعيدة والمعزولة وجعل من إخوانها الخمسة يتناوبون على حراستها، ولم يجعلوها تشاهد أحداً، بقيت سجينة، حتى ماتت ملدوغة على سجادة صلاتها، ودفنت في نفس الغرفة. (هامش مكتوب بقلم على الورقة التي حفرتها آلة الكاتبة) وجدتُ من يقول لي بأن العمّة "سناء" كانت تحفظ الكثير من اشعار تلك المرأة المباركة، وكانت تنسخ من الشعر الكثير في كراس أنيق، ودائماً تقرأعلى مسامعنا أبياتاً منه.. كلما جاءت فرصة مناسبة. حيث يحضر معها في جميع مجالس النساء، بذاكرة جيدة.
***** ***** ***** *****
حكاية عن المغدورة "حبيبة" روتها لي جارتهما "أم عبد"، التي كانت تسكن دربونة أخرى مجاورة الى "دربونة التوراة"، "الدربونة" تلك لم يكن فيها سوى بنايتين كبيرتين، وبجانبهما بيت صغير. البناية الأولى الصغيرة لم تكن الا مغسلا لغسيل الموتى، مكون من غرفتين متداخلتين، ليس لهما شبيابيك، وانما لكل غرفة كوة عالية يتداور من خلالهما الهواء، وبالقرب من الغرفتين حوض ماء كبير، قربه بئر، وحبل وعدة جرادل قديمة مصنوعة من الخيزران القوي المطلي بالقار الأسود، وثمة حبل مجدول مدلى الى عمق البئر. يغترفُ الغاسل الماء، وينقله الى داخل الغرفة الأولى، يحضره الى ذوي الميت من أولاد، فالرجل يغسله رجل، والمرأة تغسلها أمرأه. الرجل يحضر معه ابنه البكر او من يليه، وكذلك المرأة تحضر معها ابنتها الكبرى او من يليها. ويقوم ذلك الشخص بإحضار الماء الى الغاسل، من الغرفة الأولى الى الثانية التي عليها دكّة عالية تصل الى مستوى حزام الغاسل، وهي أطول بقليل من طول الإنساني الاعتيادي، ويمدّ فوقها الجثة، ويساعد الشخص الحاضر من ذوي الميت بتقليبه كلما يحتاج الغاسل الى ذلك، من اليمين الى اليسار، ويقوم الغاسل بدلك الميت مبتدئا بجهة اليمين، ومن ثم قلبه الى جهة الشمال. وثمة جمل من التوراة يجب ان يكون الغاسل حافظا لها حتى يرددها على اسماع الجثة، ويكرر بصوته الجمل ذاتها كل من جاز له دخول تلك الغرفة..
اما البنايتان الكبيرتان[ي[54] ، كانتا متصلتين ببعضيهما من الداخل عبر ممر من الداخل. الأول له بابٌ عريضٌ، والثاني له باب اعتيادي. البيت الأول مكوّن من باحة أرضية واسعة خالية من الغرف، ترتفع من وسطها أعمدة حديدية، موزعة بشكل هندسي منظم تسند سقفا الذي حمل مجموعة من الغرف في الأعلى ليست لها واجهات على الباحة، أبوابها من الخلف حيث لا تشرف اية غرفة من الغرف على الباحة الرئيسة التي تجري فيها مراسيم العبادة. تلك الغرف عادة ما تكون مليئة بالأغراض الخاصة باستخدامات الكهنوتية.
بناية البيتُ الثاني الكبير من الخارج صغير من الداخل يحتوي مسكن خاص بمن يرعى المعبد، وتكوّن من غرفتين واسعتين، الأولى خاصة بالحبر وضيوفه، والثانية معزولة في الطابق الأعلى لها درج جانبي تخصُّ خادم المعبد مع عائلته ان كانت لديه عائلة.
وعندما هاجر اليهود بقيَّت "حبيبة" تعيشُ منفردة في تلك الغرفة، وفي المعبد كله. وتحرص يوميا على نظافة كلّ غرفة من غرف المعبد، وكانت تحرص أيضا ً ان تعلق بعض الفاكهة على باب المعبد الكبير (كل موسم بموسمه خصوصا الرمان او البرتقال أو التفاح). التزام دينيٌّ يبعث على البهجة للأطفال، ويطعمُ الجائعين من عابري السبيل.. حتى جاء اليوم الذي قُتِلَتْ فيه على أيدِي ثلاثة من أبناء المحلة. أحدّهم ربيبَها الذي كانت تُراعيه مذُ كان طفلاً مشرداً، آوتهُ بحرصٍ ومحبّة، ولكنه كان لها من بين الناكرين.
واصلت القول "أم عبد" عن يقينٍ: إن "حبيبة" لم تغادر بيتها مع المغادرين، مهما زاد الخوف لم تخف من أحد.. تحب الصغار والكبار، مثلما يحبونها وتحب عملها كثيراً. تخيطُوتهبُ لجاراتها أغلب ما يحتاجونه من ملبس، بلا مقابل. (ما حدث للعجوز الطيبة حبيبة خياطة المنجرة وحارسة التوراة مخجل ومخزٍ، كونها لم تكن تبخل على ربيبها "فرفر" بشيء، وإنما بقيت تعامله كابنها، من بعد أن حرضوه عليها ظنا أن صندوقها مليء بالنقود، وطعنها بسكين الغدر)..
كأنما النهر يتكلم لي ويحدثني عن حكايات اخرى، ويجلي عن نفسه، ونهر أخرس بقي يستمع لحكايات من يجلس على ضفافه، ولا يبوح.. يصغي بحياد، عما جرفتهُ المصائب، والأهوال العظام.
***** ***** ***** *****
أما "خليل طرب" الملقب بـ"خليلو" شاع اكاذيبه بين الناس بأنه تعلم أصول الغناء الهندي علي يد استاذه المهندس "جوزيف راجي" حيث صادف سكنهما في نفس الفندق الذي اختاره المهندس "جوزيف"، لقربه من موقع العمل، وأثناء رسمه مخططات تعديل مسار النهر، كان يغني بصوته الجميل وكان "خليلو" خير الحافظين. ولم تنطل الكذبة على أغلب الذين يعرفونه، ويعرفون طبيعة الرجل الذي لم يكن يلتقي به أكثر من دقائق في باب الفندق، عندما يصادفه في الصباح الباكر ذاهباً الى موقع عمله، ومن النادر أن يتكرر ذلك اللقاء في المساء، اذ يعود الى الفندق بعد الواحدة ليلاً.
عمت شهرة "خليلو" في أرجاء المدينة، لكونه يغني على دربكة يومياً في عربة بحصان تجول الشوارع، ويجلس بجانب حوذيها ليعلن عن الفيلم الجديد الذي ستعرضه السينما، تؤجرهما إدارة سينما "ديالى" يوما بيوم.
***** ***** ***** *****
تم إكساء ضفاف النهر بحلّة جديدة، وقد خسر عمقه وصار مجراه أعلى من مستوى البيوت القديمة؛ هذا ما قال عمي "جاسم" الذي كان أحد الغطاسين الذين يتعمدون عليهم في إيجاد جثث الغرقى الضائعة، كان يعرف جيدا ان تستقر معظمها، كل شيء تغير في النهر، وبات نهرا آخر..
كما تبدل اسمه الى نهر "سارية"، نسبة الى أحد القادة العرب في الماضي السالف. وصار له على جانبيه، حديقة أزهار غير حديقته السابقة. وتعبد على جانبيه شارعين للذهاب، وآخر للإياب.
وامتدت فوقه أكثر من خمس قناطر للمشاة، ثلاث منها لعبور السيارات. ثم ثبتوا في أوله مضخة كبيرة، لتدفع الماء من ثماني رشاشات ماء، مثبت قرب مصباح ملون. وتقابلها على الضفة الأخرى ثماني مثلها، مسلط ضوءها على الماء حتى تبدو أثناء الليل كأقواس كرنفال
***** ***** ***** *****
همس لي مره يوم كنت أجلس تحت فيء أشجاره العالية، ورجلاي متدليتان الى مائه البارد، ودفقاته المتتابعة بنغم "شتراوس" تسري بعنفوان؛ هل تعلم ان هذا النهر: "إنه كان واحداً من بين أهم أبطال المدينة البارزين، شارك في ثورة العشرين، ونقل العديد من أنواع الأسلحة التي استخدمت في دعم الثوار، ثورة العشرين لم تندلع في مكان واحد من هنا الى هناك". نقل لهم العتاد الكثير بالقُفَفْ الصغيرة، التي كانت تطفو مع مسرى الماء متوجهاً بها صوب ناحية "بُهرز"، ومن ثم عبر الى "نهر ديالى" كانت تلك العوامات الصغيرة الدائرية التي يستخدمها الصيادون، هي التي لا يلتفت إليها أحد، ولا تعلق بمكان أو يوقفها غصن، وكانت أمينة لا يتسرب إليها الماء، لأن باطنها وأسفلها كانا مطليين بالقار، وتبقى تندفع طافية، بكل حمولتها، وكانت تصل الى أماكنها المحددة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[45]* تبان: قطعة ملابس من الغيارات الداخلية
[46]برنامج اسبوعي كانت تقدمه إذاعة صوت الجماهير ظهيرة كل يوم جمعة.
[48]* ثمة طريقة جيدة لأستقبل بها الإذاعات عبر الموجات والقصيرة. فعملتُ هوائياً مددته بسلك من الجهاز إلى سطح الدار، وجربت سلكاً آخرَ أرضياً ربطته بأنبوب ماء الإسالة..
[48] * المفترض ان اتحدث عن دور "كليوباترا" الملكة التي اظهرها التاريخ كل مرة بحكاية لا تشبه الأخرى. وفي كل مرة في زمان لا يشبه الزمن الآخر وان لا أهتم بالممثلة التي لعبت دورها في الفيلم.
[49] * المعلومات المسموعة من اهلي ليست متطابقة مع المعلومات المسموعة من جيرتي واقربائي. لم افهم جيدا محتوى الصورة حيث أنى لم اتنبه الى الملاحظة المكتوبة خلف ظهرها، تاريخها، لأكشف الحقيقة. رغم أنى اكاد احفظ محتواها كصورة وكأنها امامي على الرغم حتى وان اخفيت عني قسراً، ولو كانت معي حتما سوف تدلني الى بعض مرادي.
[50]* كما ذكر عمي جاسم بان أصل المثل هو "إذا كبر السبع بالت عليه الثعالب"..
[51]* ذكر لي العم جاسم ان للنهر قبل تعديل مساره من القنطرة التي انشأها خليل باشا وحتى ناحية بهرز حوالي 32 انحناءة. مساره كمسار افعى تموج في زحفها.
[52]* الطعام المخزون من الصيف الى الشتاء او العكس
[53]* يعتبر جمع الحمام الزاجل من بين أهم هوايات التسلية.
[54]* الوصف خاص ببناية "توراة" مدينة بعقوبة الكائن في المنجرة..